|
من ديكتاتورية البروليتاريا إلى ديكتاتورية الإسلاموية المقنَّعة
زياد عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 963 - 2004 / 9 / 21 - 09:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليس خروج اليسار من أزمته ما سيعيد لليسار العربي دروه، بل السعي لديمومة تجدده واستجابته لكل المتغيرات من خلال النقد الحقيقي الذي لا يكتفي بتحليل الأجوبة بل يتعدها إلى الأسئلة نفسها، متناولاً وإن متأخراً (وربما كثيراً)، المقالة المنشورة في ملحق النهار/العدد 624-22 شباط 2004 "هل من دور لليسار العربي؟" وسؤالها وإجابتها المفترضة، إضافة لما أسست عليه استنطاقها دوراً لليسار.
يبدأ السيد حسين شاويش مقالته بتعريف فضفاض لليسار يشمل كل من نطق بشهادة لا أقلية غنية إلا بنقمة من أغلبية فقيرة وجدت ضالتها ويممت وجهها ووجهتها إلى اليسار، "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من فضول أموال الأغنياء فرددتها إلى الفقراء" ، ليصل السيد حسين شاويش بعد فيض من العبارات والتوصيفات المتدافعة إلى نموذجه من هذا اليسار ألا وهو الشيوعيون العرب بالتحديد دون غيرهم، كما لو أنه وجد ضالته بعد أن أخفق في أن يهبنا تعريفاً لهذا اليسار الذي ينتوي استنطاق دور له. والسؤال الذي يطرح نفسه أمام عنوان المقالة – السؤال: من هم هؤلاء الشيوعيون العرب الذين سيهبهم كاتب المقالة دوراً؟ هل يمكن إدراج الشيوعيين العرب في فصيل أو اتجاه أو نموذج واحد أوحد؟ ثم إن كان كاتب المقالة قد اختار الشيوعيين للاضطلاع بالدور الذي سيهبهم إياه على اعتبارهم النموذج Prototype الذي تُصنَع منه أو تُطوَّر على أساسه نماذج أخرى، أما كان حرياً به أن يحدد لنا هذا النموذج، بدل التعميمات التي لا تتوانى في الوقت نفسه عن الاستعانة بالتخصيص متى كانت الفرصة سانحة لتدعيم إطلاقيته، والقفز من فكرة إلى أخرى في محايثة للموضوع، لتتحول إلى مقولات قد لا تقول شيئاً في بعض الأحيان ، وتساؤلات إن أجاب عليها كاتب المقالة فإنها ستثير عدداً لا يحصى من إشارات التعجب والاستفهام.
استنطاق الخطاب الشيوعي تمتلك المقالة الثقة العمياء بقدرتها الخارقة على استنطاق الخطاب اللفظي للشيوعيين (العرب) واستنباط الخطاب اللامنطوق، والإدعاء مثلاً بأن مطالب الشيوعين (على امتداد العالم العربي) كانت تختصر بمطلبين لا ثالث لهما هما: السلام والخبز. والسؤال هنا: متى كان هذا المطلب مطلباً للشيوعيين؟ أين هي تلك الدماء التي أريقت في الكثير من بقاع الوطن العربي (ظفار، العراق، اليمن، السودان . . . إلخ)؟ هذا إن كانت إطلاقية السيد حسين شاويش من هذا العالم والعربي منه. كيف يمكن للتوصيف على عجل أن يختصر حراكاً اجتماعياً بأكمله دون الاستناد إلى أي شاهد أو مثال بسيط يساعدنا نحن القراء المساكين على استيعاب تلك الكثافة التاريخية الخاطفة والمشوشة، التي لا تتوانى عن حشر فئة عاشت وسجنت وماتت ولم يتجاوز تحصيلها النضالي "الكتب الحمراء، هذا على الأقل ما يقال، أما الواقع الفعلي (فقد كان أكثرهم يكتفي بمنشورات الحزب) وبلبس لباساً أوربياً، ولا يذهب إلى المساجد أو إلى الكنائس، كما أن ابنته وزوجته لا تتحجبان بملبسهما، ولا تحتجبان عن الرجال في حياتهما الاجتماعية، بل إنه يشجعهما على أن تزوالا العمل خارج المنزل . . وإذا طلبت منه أن يصف طريقة حياته قال لك إنه "تقدمي" ووصف المتدينين بأنهم "رجعيون"، أو أنه يقول أن المجتمع "متخلف". وهذه التعابير، "تقدم" و "تخلف" و"رجعية" لا علاقة لها بتصنيفات ماركس ذاتها الذي كان يفضل نظاماً آخر للمعايير يعتمد على الموقع الطبقي". يالها من إضاءة لمأزق اليسار! ياللعمق المتناغم مع إدعاء المقالة استنطاقها دوراً لليسار! فالمسألة في غاية البساطة، ليس على الماركسيين سوى التوقف عن أساليب العيش هذه، وعن تلك الأحكام المسبقة وستحل كافة مآزق اليسار البنيوية والتنظيمية والنظرية والعملية، وفي هذا (دون أية مبالغة) ما حاول نقده السيد حسين شاويش تمهيداً للدور الوحيد الأوحد الذي سيهبه لليسار العربي، الدور الذي لم يبقَ إلاه.
دور اليسار الإصلاحي ليس لي أي اعتراض على نقد اليسار أو الشيوعيين في منطقتنا، فنحن في أمس الحاجة لهذا النقد، لا بل إننا بحاجة لإعادة تكوين هذا اليسار على رأي سمير أمين، لكن اعتراضي على منهج المقالة اللامنهجي، والذي لن يكون بحال من الأحوال نقداً، فالتناقضات فاضحة، ومقاربة الموضوع مندرجة في خانة الرفض لمجرد الرفض، والتنكيل المنفلت من أدنى درجات العلمية، وانغماس كامل بالجزئيات، وتطويع تلك الجزئيات في خدمة كل ما لا يستنطق دوراً لليسار العربي، وتوريطه بمغالطات مثل "الأصالة والمعاصرة" حفلت بما حفلت به من جدل ونقاش في أوساط اليسار سواءً كتضليلٍ ابتدعته البرجوازية الكولونيالية أو غيرها من القراءات، ليقفز السيد حسين شاويش ويحصر أخطاء الشيوعيون بخطأين لا ثلاث لهما: "إهمال التعرض للمسألة الدينية"، واعتقادهم كخطأ ثانٍ أن "مناورة الإهمال" هذه ستنجح في تضليل المواطن عن فهم موقفهم الحقيقي من الدين. على اعتبار الاسلام "كالايدلوجيا عموماً، ظاهرة تاريخية، لكن فقط كشيء لذاته، أي كوجود متعين، كشيء ملموس نراه هنا وهناك، أما كشيء في ذاته أي كوجه مطلق فهو شيء غير التاريخ موجود دائماً، شديد المرونة في تغيير أشكاله لكنه عصي عن الزوال." الدين تاريخي ولا تاريخي في آنٍ معاً، أيدلوجياً وسرمدياً ، مؤكداً على افتقارنا إلى أي مرجعية تاريخية تسبق الاسلام. وبناءً عليه فإن على اليساريين العرب التخلص من عقدة الإسلام والاقرار بدور هذا الاسلام على اعتباره على الأقل مناهضاً للهيمنة الأجنبية والتعامل معه كأيدلوجيا دون تجاهل سرمديته. وبعد كل ما تقدم يصل السيد حسين شاويش إلى هذه الخلاصة: "نقول ان ثمة فرصة لليسار العربي ليؤدي وظيفة سياسية لا يستطيع غيره القيام بها لأسباب موضوعية خالصة. هذه الوظيفة ليست مخترعة تماما. لقد كانت كامنة دائما خلف برامجه وسياساته الى هذا الحد او ذاك، كما انها كانت في لاوعي مناضليه لدى ممارسة حياتهم الاجتماعية والسياسية. انها وظيفة التحديث الجذري المستند الى التغيير البنيوي على الطريقة اليسارية، اي التغيير الذي تقوم به الطبقات الدنيا والوسطى من خلال مؤسساتها وتنظيماتها المستقلة والديموقراطية ."
دبكتاتورية الإسلاموية المقنعة لن تكون هذه الخلاصة خلاصة منطقية بناء على ما سبقها لثلاثة أسباب. أولاً، إذا كانت الفرصة متاحة أمام اليسار كما استعرضه لنا حسين شاويش فإنه أي اليسار الذي نقضه شاويش (الشيوعيون) لن يكونوا بحال من الأحوال أهلاً لانتهاز تلك الفرصة. ثانياً: لا أعتقد (ولا أحد يعتقد) أن تخلص هؤلاء الشيوعيون المساكين كما يصفهم السيد حسين من عقدة الاسلام سيؤهلهم للعب دورهم التحديثي، هذا إن كان من عقدة بالأساس، أو أن الدعوة لقراءاة الواقع العربي انطلاقاً من بدايات التغلغل الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر قد يعتبر عقدة من الاسلام، أو أن اعتبار الاسلام والدين عموماً ظاهرة اجتماعية تاريخية وتناوله من هذه الزواية قد يعتبر إهمالاً! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أي إسلام يتحدث عنه السيد حسين شاويش حتى يقوم اليسار بمصالحته؟ هل هو إسلام بن لادن أم إسلام الأزهر أم جماعة الأخوان المسلمين أم أنه اسلام عمرو خالد . . . إلخ؟ هل هو إسلام المملكة العربية السعودية أم إيران أم أندونيسيا؟ لمً يعامل الإسلام على أنه كتلة متناغمة ومنسجمة؟ أليس في هذا تبني للإدعاء الأمريكي ودعوة لليسار الذي من المفترض أن يضطلع بمهمة التحديث البنيوي الجذري لأن يستجيب لهذا الوهم؟ ثم كيف يمكن أنسنة الإسلام إن كان الآن مخزناً ايدلوجياً للأحزاب اليمينية التي تجييره لوظيفة التحرر الوطني دون حاجة لها لليسار؟ إن الطابع الإسلامي للتحرر لن يتغير بمجرد التحييد السياسي، فتلازم الاسلام وتسيسيه في تصاعد، وكل العوامل الداخلية منها والخارجية تساعد على إزدياد توثيق العلاقة بين الإسلامي والسياسي، وإن كان الأمر متعلقاً بالبعد الحضاري والثقافي للإسلام في العالم العربي فإن لا أحداً ينفي ذلك إن لم يكن بالقوة، ووليد فتاوى يطلقها كل من عمَّر مسجداً على سطح بيته. فالمشكلة ليست بالإسلام كدين بل بالظروف الاقتصادية والإجتماعية والسياسية التي تعطي للإسلام السياسي كل هذه المساحة، وبعد كل ما ألحقته الحكومات العربية بهذا اليسار من جهة وما ألحقه بنفسه من جراء علاقته معها من جهة أخرى، إضافة لدعم بعض هذه الحكومات للإسلام الأصولي (ابتداءً من السادات وقصته مع جماعة الأخوان وصولاً إلى السعودية والأمثلة كثيرة)، ثالثاًً: ليس الدور أو العثور على دور لليسار هو الذي يعيده إلى الساحة، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى إعادة تكوين نفسه بناءً على النقد الذاتي (يمكن التماس خيوط هذا النقد في المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني 1992) ، وإعادة الثقة مع الطبقات الشعبية دون ارتهان ذلك بتقنيع الخطاب اليساري، والاستفادة من المتغيرات والمعطيات التي بدأت تتضارب ومصالح الإسلام السياسي.
إن النقد الذي قدمته مقالة السيد حسين شاويش للشيوعيين العرب، لم تكن إلا تبسيطاً للمأزق وإعادة لما تم اجتيازه منذ سنوات ليست بالقليلة (الحتمية وديكتاتورية البروليتاريا . . .) وحتى الحديث عن البنى الفوقية والتحتية ، والذي أجد في دور اليسار الذي استنطقته المقالة صدى لشيء مثل الحتمية بمعنى القصور في قراءة الواقع، واختزال الأزمة وإدارتها وفقاً لإملاءات الإسلام السياسي ، واستبدال ديكتاتورية البروليتاريا بديكتاتورية الإسلاموية المقنعة، وتفصيل الدور المنوط باليسار على مقاسات فضفاضة.
#زياد_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكمأة التي صارت مدينة
-
رأسمالية الأطراف
المزيد.....
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|