انتهت دورة الكنيست الصيفية الاخيرة. ومن زاوية نظر برلمانية محضة تعتبر هذه واحدة من اسوأ الدورات البرلمانية بكل المقاييس. قادتها حكومة متورطة حتى قمة رأسها بسياسات القوة ضد شعب مصمم على التحرر من الاحتلال، ولكنها حكومة تستند الى اكثرية برلمانية غير مسبوقة تزكيها باغلبية فورية لاي اقتراح يخطر ببالها. وعندما يخطر ببال هذه الحكومة ان تسن قانونا يعفيها من مسؤوليتها القانونية تجاه الضحايا في المناطق المحتلة، حتى عند وقوع »خطأ« تعترف به او نأسف عليه، فإنها تجد اغلبية برلمانية اكثر حماسا منها لاعفائها من المسؤولية القانونية بقانون يسن لهذا الغرض.
لم يتوقف اليمين الاسرائيلي خلال هذه الدورة عن التشكيك ب»شرعية« وجودنا فيها. ولانني اعتبر منطلقاتي الفكرية والسياسية ديموقراطية ومتنورة، ولا ارى تناقضا بين الديموقراطية وقوميتي العربية، فقد استفزني بشكل خاص الادعاء ان تحريضهم علينا وسلسلة القوانين التي سنت ضدنا تندرج تحت عنوان »ديموقراطية تدافع عن نفسها«. فقسم اساسي من المحرضين الذين حولوا المواطنين العرب في الداخل الى موضع تحريضهم المفضل، مثل كورس منظم في مسرحية يونانية، ليس لديه اي التزام حقيقي حتى نحوالديموقراطية اليهودية ذاتها. والديموقراطية بنظره ليست الا شكل وشخصية النظام وليست جوهره، كما ان قسما آخر يلتزم فعلا بايديولوجية دولة الشريعة اليهودية، وقسماً ثالثاً يعتقد ان اسرائيل بحاجة الى نظام اكثر سلطوية.
قلما اسيء استخدام عبارة »الديموقراطية تدافع عن نفسها« كما اسيء استخدامه في هذه الحالة. وفيما عدا تبرير الهجوم اليومي الذي يصل حد التحريض للقتل بشكل يكاد يكون روتينيا بتهمة »الانحياز« لشعبنا الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وبالتالي خيانة الدولة في اثناء الصراع مع اعدائها، فيما عدا ذلك يتهمنا المحرضون باننا ندعو الى »دولة لجميع مواطنيها« اي انهم يتهموننا باللبرالية، او للدقة باستخدام الخطاب الديموقراطي اللبرالي لهدم الدولة اليهودية، او للحفر تحت اسسها بمعول الديموقراطية.
وبغض النظر عن سخافة الادعاء ان الخطاب الفكري والسياسي يهدم او لا يهدم دولا، فان الادعاء بان الكلام يحمل طاقة تدميرية هائلة بحد ذاته هو ادعاء منتشر في الدول الديكتاتورية لتبرير تقييد حرية التعبير. يضاف الى ذلك ان الديموقراطية التي تدافع عن ذاتها، لا تدافع عنها عادة ضد الخطاب الديموقراطي، بغض النظر عن نوايا حامليه المحتملة او المفترضة. وعلى اية حال واذا حيدنا للحظة عن نظرية المؤامرة التي بموجبها نحمل الافكار الديموقراطية كخدعة للتضليل، فان احتمال ان يكون حامل الخطاب الديموقراطي ديموقراطيا اكبر من احتمال ان يكون معارضو هذا الخطاب ديموقراطيين. هل يعرف الاسرائيليون ان هنالك مزاجاً سياسياً واسع الانتشار في العالم العربي يعبر عن قناعة راسخة ان الديموقراطية اليهودية هي لعبة ومؤامرة، تماما كما يعتقد الاسرائيليون اننا في الداخل نستخدم الديموقراطية كمؤامرة.
عندما تتم مطالبتنا بادانة الكفاح المسلح في هذا البرلمان او يتم اتهامنا باننا ندعو اليه، فاننا فوق انتمائنا الى شعب واقع تحت الاحتلال يناضل لتحرير جزء من وطنه وندين لقضيته قضية التحرر من الاحتلال والوصول الى سلام عادل بالولاء، كما يجب ان يفعل اي ديموقراطي حتى لو لم يكن فلسطينيا،فإننا نصاب بالحيرة فعلا. ومن حقنا ان نصاب بالحيرة فنحن فئة صغيرة جدا في هذا البرلمان لم تمسك سلاحا في يدها ولا حتى بندقية صيد، وعلاقتها مع السلاح علاقة اغتراب، لان تصاريح حمل السلاح في اسرائيل تمنح فقط للعملاء او المجرمين المتعاملين بالمخدرات ومع »الشاباك« بنفس الدرجة، وباعتراف الشاباك تلتقي هذه الهوايات عند نفس الاشخاص في اكثر من حالة.
اما عن الكفاح المسلح ذاته فان خيار المشاركة في الانتخابات البرلمانية ضمن حدود المواطنة المعطاة هو ليس خيار الكفاح المسلح. نحن نحاول ان نوسع حدود هذه المواطنة، ولكننا بالتأكيد لم نقتل او نجرح احدا، وهذا ما لا استطيع ان اجزم فيه بالتأكيد عندما يتعلق الامر باي عضو برلمان من الاحزاب الصهيونية اجهل سيرته. علاقتنا مع العنف عموما كانت من زاوية نظر الضحية. وما زالت هنالك امكانية يومية ان نتعرض للعنف في زاوية اي شارع، وفي اي حافلة ركاب، وعند اي حاجز في الدولة اليهودية، لا لسبب الا لكوننا عرباً في دولة معبأة تعبئة عنصرية.
لم يلاحظ احد من المسؤولين الاسرائيليين ان العرب في هذه البلاد بحكم القومية، وبحكم المواطنة المنقوصة، لم يحرموا من الوطن فحسب، بل حتى من التنزه فيه كغرباء او كسواح في عطلة الصيف؟ ولا تفسير آخر لكثرة السياحة الى شرم الشيخ في مصر بحثا عن الشواطىء في هذه الايام. وشرم الشيخ مشتى وليس مصيفاً، ولكن شواطئه تعج بالمواطنين العرب من الداخل الباحثين عن شواطئ ووجوه ودودة، لانهم حرموا من شواطئ بلادهم التي يتعرض فيها حتى اطفالهم للملاحقة والضرب والاهانة، كما كان حال السود في جنوب افريقيا مع الفارق ان عنف الاغلبية ضد الاقلية، وتقاعس القانون يغني عن قانون الفصل العنصري. وقد يتحمل الانسان العنصرية اثناء ذهابه الى العمل، فلا بد من الذهاب الى العمل. ولكن لا احد يريد ان »تتبهدل« عائلته بسبب الرغبة بالترفيه عن النفس في العطلة. والعكس صحيح، فعنصرية الاسرائيليين تزداد في الأماكن العامة الخاصة بالترفيه لانهم لا يريدون رؤية عرب عندما يريدون الترويح عن انفسهم، او ان منظر العرب مرتاحين يستفزهم، او يستفزهم شعور العرب بالانتماء للشواطئ ولمناظر بلادهم الاخرى. على اية حال يزداد العنف العنصري ضد العرب في هذه الاماكن، وعلى ابوابها في هذه المواسم.
عم يتحدث هؤلاء اذا عندما يتهمون العرب في الداخل او بعض ممثليهم السياسيين بالدعوة الى العنف؟ لا ادري. انهم بالتأكيد يسعون لتجنيد وتعبئة الجمهور اليهودي باسهل الاساليب التي اخضعها اليمين للفحص في اماكن عديدة اخرى من العالم: توجيه الحقد نحو العدو الداخلي باعتباره الاخطر. ان توجيه الحقد نحو »العدو الداخلي« ضد »الطعنة في الظهر« كما سمى اليمين الالماني بعد الحرب العالمية الاولى اعداء الحرب الداخليين هو وصفة مفحوصة لاستقطاب المجتمع خاصة البسطاء نحو اليمين لانهم الاكثر تعرضا للتعميمات الفجة ونظريات المؤامرة. وفي حالتنا ذهب التفكير التآمري منحى عبثيا عندما افترض ان العرب يتكاثرون كنوع من الحرب الديموغرافية، وان المواطن العربي عندما يتزوج من فتاة من ابناء شعبه من غزة او الاردن انما يقوم معها عمليا بتطبيق »حق العودة الزاحف«، وبناء على هذه الافتراضات العلمية تجمد معالجة كافة طلبات لم الشمل التي تقدم بها عرب. يتحدث المستشرقون كثيرا عن العقلية المؤامراتية في التفسير عند العرب، ولا شك ان خطاب المؤامرة الذي يفسر كل ظاهرة اجتماعية وسياسية، بقصة، حكاية، مؤامرة تتألف من عناصر شر وخير، هو خطاب منتشر في الثقافة السياسية العربية. ولكن من زار البرلمان الاسرائيلي في السنتين الاخيرتين، في اي يوم يختاره من ايام انعقاده، لا بد ان تتعرض اذنه الى سماع نتف وشذرات من نظرية مؤامرة يشارك فيها العرب في الداخل »مع اعداء الدولة« المتربصين بها، وذلك اما لانهم يريدون حصتهم من الضرائب المدفوعة على شكل خدمات،واما لانهم يضطرون للبناء بدون ترخيص لان التخطيط في هذه الدولة يتم اساسا لاغراض الاستيطان، واما لانهم لا يسلمون بوجود نوعين من المواطنة، واما لانهم يتمسكون بهويتهم الوطنية الفلسطينية والقومية العربية، واما لانهم يعبرون عن تضامنهم مع شعبهم الواقع تحت الاحتلال.
في الدولة اليهودية هنالك من يرى ان ديموقراطية الدولة ويهوديتها في حالة توتر دائم، اذ تسمح الديموقراطية »للأعداء من الداخل« باستغلالها ضد يهودية الدولة، ولذلك هنالك دعوة دائمة لتقليص الديموقراطية والحريات المتاحة فيها للعمل السياسي. وتعتبر هذه الدعوة تيارا مركزيا وسطيا. ولكن هنالك ايضا من يعتقد ان الديموقراطية لا تعني المساواة في الحقوق بالضرورة ،الا اذا حكمتها القيم الديموقراطية، وان من يدعو الى هيمنة القيم الديموقراطية على حكم الاغلبية يعتبر في اسرائيل راديكاليا ومتطرفا، وعلى »الديموقراطية« ان تدافع عن ذاتها ضد القيم الديموقراطية. الديموقراطيون في اسرائيل هم المتطرفون في هذه الايام، اما دعاة الترانسفير فيعتبرون تيارا وسطيا.