|
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 10 /الأيمان في الغربة وطن * / جزء 2
غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3209 - 2010 / 12 / 8 - 11:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 10
الأيمان في الغربة وطن * جزء 2
تعقيب لابد منه
أثار الجزء الأول من هذه التأملات والمنشور في الحوار بتأريخ 2010-12-05 وفي اليوم التالي في موقع الناس والينابيع بعض الأسئلة لدى بعض الأصدقاء مما أفرحني كثيراً . من بين تلك الأسئلة وربما أهمها ما هو الهدف أو الغاية من هذه التأملات والى أين أريد الوصول . أن أثارة أسئلة كان وسيبقى من بين أهم غاياتي الأولى ليس حباً بها ذاتها بل لأنني أتصورها تفتح على الأقل باباً واحداً للتأمل وبالتالي خطوة جديدة في جادة البحث عن الحقيقة بأمانة ودون خوف وهذه غايتي الثانية . لكن ليس من بين غاياتي أطلاقاً النيل من أيمان المؤمنيين ودفعهم لترك أو تغيير عقيدتهم فأنا لا أملك ذلك على أية حال فلكل أنسان الحق في الأيمان بما يشاء وأن بدا غير عقلاني لغيره ، غير أن حرية الأعتقاد تنتهي عند حدود الآخر .
الجزء الأول من هذه التأملات كان مدخلاً " نظرياً " وأقتبس منه الفقرة التالية لتكون مدخلاً للجزء الثاني :
تكامل وأندماج من مع من يقولون أن بعض الظن أثم وأنا هنا أقبل هذه الخطيئة بوعي لأنني من الذين يظنون أن أندماج المسلمين المتدينين في المجتمع السويدي غير ممكن أذا أحتكمنا للقرآن الذي هو مصدر قيمهم و" مسطرة " أعمالهم وأذا ما تم هذا الأندماج فأنه في الغالب مؤقت وتكتيكي . والسبب جلي تماماً ، أنه ببساطة شديدة التناقض الحاد بين هذه القيم والمعتقادات وملحقاتها الثقافية والتراثية وهذا المجتمع الجديد. ومن يعتقد بأمكانية " المساومة " وتحقيق نوع ما من الأندماج فما عليه سوى وضع القرآن جانباً وأنا سأتفق معه تماماً. - - وللأسف الشديد فأن البعض منًا يقع في منزلق السلبية دون قصد غالباً لكن ليس بعيداً عن تأثيرات ماضي الزمان وتجاربه المريرة و خيبات الأمل التي لا تنتهي وأخاديدها العميقة في الذاكرة . وبما أن هؤلاء المهاجرين المؤمنيين ليس لهم خياراً آخراً سوى العيش في هذه البلاد فأن الحل لهذه الأشكالية يجب أن يتم عبر تكامل المجتمع معهم وليس بالطبع عبر التخلي عن أحكام القرآن والسنة النبوية كما هو مفهوم .
أن حجتي في هذا الزعم هو النص الألهي المقدس في القرآن والتشريعات المنبثقة عنه وتأريخ الدعوة ومُثلها وتطبيقاتها قديماً وحديثاً . ولكن قبل كل شئ هو ممارسة وفكر المهاجرين المسلمين** أنفسهم . ومن له عينين لا يستطيع الأنكار. وقبل التسرع في أطلاق الأحكام يميناً وشمالاً أوكد على أنني لا أنفي الأجتهادات والحلول الفردية والأستثناءات التي نلقاها متألقة أحياناً و حائرة أحياناً أخرى ، ومنها لدى أولئك من له معزة خاصة بيننا . لعل من الجدير أيضاً تذُكّر أجمل تجارب الصوفيين لما فيها من طيبة وأنسانية تصل أحياناً حد التراجيديا . ومن جهة أخرى فأن هناك جمهور واسع ليس له مقاصد محددة بل يتجنب التصادم مع العادات والتراث تحت وطأة كذب التأريخ ودون وعي حقيقي لهذا الخيار على الأعم فتراه يعوم مع العوام لكن ليس من غير أوهام . لكن يا أخواني هؤلاء ليس موضوعي هنا ! --------------------
تكامل أو أندماج بين الحلم والواقع لن أحاول أقحام نفسي في محاولة تعريف التكامل أو الأندماج integration فهناك دائما من يرى أن هذا التعريف غير كافٍ ، ولن أحاول أيضاً تقديم مقترحات أو حلول لهذه المشكلة التي أعيت الدولة السويدية صاحبة أقل خبرة بين بلدان الأتحاد في هذا الميدان رغم أنها تستقبل أكبر عددا من الاجئيين والمهاجرين بين كل بلدان الغرب . وهنا أيضا الأجتهادات ما شاء الله .
وبدلاً عن ذلك سأحاول أن أتأمل معاني الأندماج وتأويلاته والتكامل بأبعاده الثقافية كلوحة الغورنيكا لبيكاسو أو ربما جدارية المغفور له جواد سليم ، كسيرورة وصيرورة في تغير بأستمرار ، حيث تسعى ثقافة الأقلية المهاجرة عبر الحوار لا القرار أن تصبح غصناً في شجرة بأنبهار و دون أكبار ، وحيث المسار حماية وأرواء هذه الشجرة وهي غاية المشوار . هذا هو حلم المنظور الثقافي . بين الحلم والواقع مسافات تبدأ بخطوة وأن كانت تأمل . من الطبيعي أن هناك تصورات عديدة لمفهوم التكامل (الأكثر دقة والمفضل عندي) أو الأندماج (الأكثر شيوعاً والمفضل عند غالبية المهاجرين وممثليهم ) ليس بين المهاجرين ومنظماتهم فحسب بل والسويديين ومؤسساتهم خاصة تلك التي تعني بشؤون المهاجرين . وأكاد أجزم أن في جميعها شيئاً من الحقيقة . أن مفهوم الأندماج أو التكامل بحد ذاته يثير الكثير من الألتباس بل وكثيرا ما يسقط البعض منّا بأخلاص و بعفوية وعلى الأرجح دون قصد موروثنا الفكري وثقافتنا عليه و هذه شائعة الى حد ملحوظ في وسط المهاجرين عموماً وأن بدرجات متفاوتة ، بغض النظر عن ألأنتماء الثقافي ، الأثني ، السياسي ، علماني ، ديني ...الخ.
وعموما يتمحور هذا الألتباس في ما يمكن أن أسميه القطبين:
فمن جهة وفي مناقشاتي الكثيرة مع أصدقائي كثيراً ما أشعر بهذا الألتباس مصحوباً بنوع من الدهشة والحيرة . ففي مكان العمل عندما لا يظهر الزملاء السوييدين أية أهتمام في الحديث فبسبب عدم رغبتهم في الأندماج ، وقطعا ليس بسبب أختلاف الأهتمامات . وفي السكن عندما لا يظهر الجيران السويديين رغبة كافية في التعرف والأستضافة (كما هو متعارف عندنا بين الجيران) فهذا دليل على ضعف رغبتهم الأندماج مع الآخرين وليس أختلاف في العادات والطبائع والثقافة ، أو لماذا لا تقوم الدولة بتشغيل المهاجرين أو تراها متآمرة مع سوق العمل ضدهم ، أو لماذا لا يحصل المهاجرون على مواقع مهمة في المؤسسات والشركات والحبل على الجرار*** . هذا هو القطب الأول ، الطيب.
ومن جهة أخرى تتردد تساؤلات وبشكل خاص في أوساط المهاجرين المسلمين ، هي أقرب للمطالب وغالباً ما تكون مصحوبة بالغضب والمرارة بل أحياناً بالكراهية ، لماذا لا يسمح لنا المجتمع بأن نقوم بأفعال محددة ، لماذا مثلاً لا توجد في المدارس السويدية صفوف خاصة للبنات وأخرى للأولاد ، أو لماذا يُثار كل هذا الضجيج حول النقاب والحجاب بينما يسرح ويمرح الِمثْليين بكل مودة وأحترام في كل مكان بما فيها الكنائس و البرلمان بل وتقام لهم الاحتفالات حيث يتسابق بحماس قادة الدولة والسياسيون للمشاركة فيها في كل مكان وزمان . هذا هو القطب الثاني ، المراوغ . السويديون يتحدثون كثيراً عن الطقس والبيئة وبروس سبرنغستين وسمك القد في بحر الشمال مقارنة بمشاكلنا الكثيرة والكبيرة وهمومنا السياسية والفكرية والدينية وهي لا تحصى . وبغض النظر عن مقاصد ونوايا القطبين فأن كل ما نريده يا أخواني في الواقع وببساطة شديدة (وأن لم نقله حرفياً بالضبط بل نعنيه حتماً ) هو لماذا لا يتكامل المجتمع السويدي معنا !! أشكالية وشجون وحسن ظنون
أذا أستخدمنا أصول المنطق فأن الثقافة والتعاليم الأسلامية عموما وللمؤمنيين منهم خصوصا ، مما لا يحتاج الى برهان ، هي مختلفة تماما عن ثقافة المجتمع السويدي وعاداته وتقاليده بل ومتناقضة معه في أمور كثيرة وبالتالي ومن هذه الفرضية تبدو أمكانية تكامله أو أندماجه مع المجتمع السويدي غير ممكنة ومن ثم تبدو أيضا الأجراءات التي تسعى نحو هذا الهدف كالمهمة المستحيلة . أن السبب ليس بطبيعة الحال في المجتمع السويدي بل في الأعتقاد الراسخ بقيم وثقافة أخرى تصوره وكأنه هو المشكلة ، فهذه الثقافة لا تجد حقاً خارج ما تؤمن به وما عداه باطل. المشكلة أذن بعبارة أخرى في بساطة هذه الحقيقة وثصادمها مع حجم وقدسية الأيمان . أن هذا يجعلها صعبة الفهم والتصديق ضمن هذه التقييدات المقدسة الأمر الذي دفع الكثيرين للنظر بعيداً عن " الحق " بحثاً عن مخارج وحلول لأشكاليات الواقع . فمن غير المعقول حسب هؤلاء أن " الحق " هو المُشكل . أنه تناسق منطقي شكلي لكنه غير عقلاني . وفي المنطق ذاته وأذا كان المسلمون لا يملكون خياراً آخراً غير العيش في هذا المجتمع فلا يوجد أمامهم سوى حل واحد لا يتقاطع مع الأيمان المطلق وهو تكامل المجتمع معهم وليس العكس كما تسعى سياسة وأجراءات التكامل .
لكن هذا ليس منطق أقلية لا تملك أي نفوذ أقتصادي أو سياسي أو حتى أجتماعي . أذن كيف يُقنِع المهاجرون المسلمون أنفسهم وسط كل هذه التناقضات ؟
أن حيرة السلطات السويدية و مؤسساتها وتخبطها في الأجراءات وغلبة التجريبية في عملها من جهة وأزدياد حدة المشكلات الأجتماعية التي تعاني منها مجموعات المهاجرين عموماً وبشكل خاص المسلمين منهم من جهة أخرى أضافة للتأثيرات الدولية ومصالحها وعمليات الأرهاب بما فيها الفكرية وتهديداتها والخوف من وصولها الى السويد " البلاد المعروفة تأريخياً بحذرها وحياديتها " أقول كل ذلك وغيره قد وفر أرضية للمزيد من الأرتباك من قبل الدولة Islamophobiaومؤسساتها المعنية بينما أستشعرت الأقلية المسلمة ومنظماتها هذا الخوف الذي سيصبح منقذهامن أجل كسب المزيد من تكامل المجتمع معهم .
أن الكثير من الغيورين ومن المهتمين يرون أن أحد أبرز الأشكاليات في موضوع تكامل المهاجرين المسلمين في المجتمع السويدي يكمن في سذاجة المؤسسات والقادة السياسين في تعاملها مع هذه الأشكالية وسهولة خداعهم من قبل هذه الجماعات ومنظماتهم ولأنهم يصدقون كل ما يُقال لهم . أذن المشكلة وفق هذا المنطق عند السويديين وفي طيبتهم و صدقهم وحسن ظنونهم ! هل يعقل هذا الكلام ؟
وأذا كنت أتفق من أن هناك مشكلة لدى السويديين فأنها ليست بالتأكيد طيبتهم وحسن ظنونهم لكن جهلهم بأزدواجية الخطاب الديني من جهة ونقص معرفي في الجانب " الأيماني " للمسلمين المتدينين الأمر الذي يؤدي الى تصادم أجراءات التكامل الرسمية مع هذه الأخيرة وبالتالي يدفع بأتجاه المزيد من الحيرة والأضطراب وفي نهاية المطاف الى قلب معادلة التكامل الرسمية لصالح المزيد من تكامل المجتمع مع ثقافة وعادات المهاجرين المسلمين . وهذا الأخير يؤدي الى المزيد من التباعد بين المجتمع من جهة وهذه التجمعات التي تتماسك و تزهو أكثر مما يمنح مبررات أضافية لقوى اليمين المتطرف للتوسع وتأجيج الأضطراب الأجتماعي من جهو أخرى . أن خوف السويديين الشديد من أتهامهم بالعنصرية ( وهو خوف أوروبي عموما ً ) يدفعهم للتردد في أنتقاد بعض المظاهر السلبية لدى المهاجرين . لكن عدم الأفصاح هذا ، مستعيناً بنظرية التحليل النفسي لفرويد ، سيقود الكثيرين " دون وعي تماماً " الى صناديق قوى اليمين العنصري المتطرف الذي يبسط الوقائع لهم لدرجة الأبتذال .
مأزق أزدواجة الخطاب أن المنظمات والدول والأشخاص تتبادل الِخبر والعِبر في كل الميادين ، في الخير والشر ، و في الخطاب . فلكل من هؤلاء على الأقل خطابان ، الأول للأستهلاك الخارجي ، منمق ، دبلوماسي ، غير صريح وغامض والثاني للأستخدام المحلي الداخلي غير مزوق ، صريح وبسيط وعلى الأرجح يتناقض مع الأول ويدعو لغير ما يدعو اليه. أنا (أعوذ منها) من بين أشد المعارضين والمنتقدين لنظرية المؤامرة وأراها ، ومثلي كثيرين ، من نتاجات الحرب الباردة (وأسباب أخرى ليست موضوعنا ) ، لكن من يظن أن الأمور هنا تسير بعفوية أنما هو في وهم الحالم ، وهذه ، أن شئتم من نتاجات ما بعد الحرب الباردة . فمثلما كنا نحن الشباب الثوري في منتصف القرن الماضي غارقين في الأحلام الثورية وفي أوحال الحرب الباردة دون أن نشك لحظة واحدة في صحة معتقداتنا كذا الحال هنا حيث الكثيرون يسرحون ويمرحون في أوهام ما ملكت الأيمان . والمواجهة تتم فيما أدعوه " خطابين " : 1. خطاب علني ورسمي للسويديين ، والصحافة والرأي المحلي والأوربي حيث يدعو هذا الخطاب للتسامح والرحمة والسلام وعلى أهمية التكامل وأحترام عادات وثقافة المجتمع السويدي الذي قدم لنا كل العون والأمان وحرية الأديان . وطبعاً لا ينسى أن يؤكد على تقدير المرأة وأحترامها ويرفض كل أشكال العنف والأرهاب . في السياسة يسمى هذا الخطاب تكتيك ومكيافيلي يسميه وسيلة . يعني بصريح العبارة خطاب مراوغ (ذر الرماد في العيون ).
2. خطاب داخلي ضيق النطاق ، للمخلصين ، في البيت والمقهى ، في الجامع والحسينية ، وفي المدارس الخاصة بما فيها مدارس القرآن . خطاب حقيقي و صادق مع العقيدة والأيمان وحيث حور العين والمخلدون من الولدان . المجتمع السويدي هنا مجتمع مُنحل ، كافر لا يمكن الأندماج معه و " علينا أقامة بديلنا فيه " . خطاب يزهو في أن الله كرّم المرأة بضربها كما أقسم الشيخ سعد عرفات على الهواء في قناة الرحمة أو كما زعم الشيخ الشعراوي في خطبه الشهيرة من أن الله كرم العبد في الأسلام . خطاب مخضب بالحض على الجهاد . ففي كل مساجد المعمورة تُختم صلاة الجمعة عادة بالدعاء بأن ينصر الله المسلمين على أعدائهم ، ومن لا يعرف أو يشك من هم أعداء المسلمين فما عليه سوى أن يعود للقرآن . بل أن الخطاب الأول يُذكر بتأريخ القرآن ذاته ، قارن الآيات المكية والمدنية عموماً ، وخير مثال هو الآية الشهيرة في سورة النجم " أفرأيتم الللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى... " عندما أراد النبي محمد محاباة أهل مكة من الكفار فمدح آلهتهم بأن أكمل هذه الآية ب " تلك الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لترجى .." ، مما أضطر الوحي من أجل تبرئة النبي نسخ هذه الآية وألقاء التهمة على الشيطان " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " سورة الحج ، راجع تفاسير القرآن للطبري ، الزمخشري ، السيوطي ، الواقدي وغيرهم رغم أن المفسرين اللاحقين حاولوا التنصل منها.
ضمن هذا الأطار لا يمكن أغفال دروس و تأريخ الدعوة ذاتها حيث يرى أصحاب هذا الخطاب هذا التأريخ بمثابة تراثاً مقدساً ينبغي المحافظة عليه والأقتداء به لا سيما ذلك الذي أرتبط بتجربة النبي والصحابة . في هذا الخصوص تمثل تجربة صاحب الدعوة في بداية الهجرة مع يهود يثرب أهمية أستثنائية ليس في لغة القرآن فحسب بل وأيضا في السلوك والممارسة والقيمة التأريخية . هذه التجربة التي أبتدأها النبي بمشاركة يهود يثرب بعضا من تقاليدهم ثم كتابة العهود معهم وفي آخر المطاف أنتهت بطرد بعضهم وذبح الباقين منهم . أن الكثير من فكر هذه التجربة تجد صداها ، في الزمن الحاضر، في فكر وفهم وممارسة العديد من المهاجرين المسلمين المؤمنين وهم في بلاد " الكفر " . أن يكون عمر هذه التجربة اكثر من 1400 سنة لا يقلل من أهميتها عند أصحاب هذا المنطق بل أن الأنكسارات والهزائم والتخلف الحضاري والثقافي والأجتماعي الذي يُميز البلدان الأسلامية المعاصرة ليست سوى دلائل أضافية لعدم تمسكنا بهذه التجربة . الأنتقال بين الخطابين لا يحتاج الى نباهة أو فطنة وأنما يتم بعفوية تقترب من موهبة الأيمان رغم أنه لا يمكن في أحيان ملامسة هذا الفصل بل يتداخل الخطابان مرات ومرات فيماط اللثام عن حقيقة وأوهام ، لتعصف التناقضات على السطح وعلى طريقة هرج ومرج العربان في سوق الغلمان ... هذا التداخل غير مفتعل بل هو حتمي بسبب أزدواجية الخطاب . سألني مرة صاحبي العلماني : لماذا في نقاشاتك كثيراً ما تثير موضوعات المرأة وما ملكت الأيمان وسورة التوبة وأحكام العقوبات ولا تثير غيرها. وعندما أجبته ببساطة ولما لا ، أليس القرآن كله كلام الله عز وجل ، ويصلح لكل زمان ومكان ! يهز كتفيه كمن لا حول له و لا قوة ولسان حاله يشهد بعذاباته من شدة التناقضات .
هل أصبح القرآن كعب أخيل بعد أن كان سيفه ؟
كتب كونفوشيوس مرة : لا يهم أن تكون خطواتك بطيئة ما دمت لا تتوقف !
هكذا يمكن ملاحظة كيف يحقق المسلمون المهاجرون أنجازات وتقدم في المجتمع السويدي نحو هدف واضح المعالم ، وهو دفع هذا المجتمع للتقارب معهم في ظل وحماية الديمقراطية وحرية وأحترام الأنسان وحقوقه ، حقاً عبر الصعوبات اللامتناهية ووسط الأمواج العاتية ، نعم و ببطئ ، لكن بحزم وتصميم . أن فوز حزب " السويديين الديمقراطيين" اليميني والعنصري المتطرف والمعادي للأجانب ، والمسلمين منهم خاصة ، أنما هو لطمة في وجه سياسة التكامل والأندماج الرسمية التي أثبتت عجزها في الكثير من مفاصل هذه العملية رغم الجهود والموارد الكبيرة المخصصة لها . غير أن الوجه الآخر في هذا الفشل هم من قصدهم التكامل وبصورة خاصة المهاجرين المسلمين ، وحيث لا يمكنني القطع من أن مسؤوليتهم في هذا الفشل عفوية .
عندما نشرت أفتون بلادت أكبر صحيفة في السويد مقالة رئيس حزب السويديين الديمقراطيين المتطرف جيمي أوكسون في 2009-10-19 أختارت عنواناً للمقالة " المسلمين هم أكبر تهديد خارجي لنا " ، وبذلك عكست كل محتوى سياسة هذا الحزب العنصري وليس فحوى المقالة فحسب. لقد أثارت غضبي والكثيرين مثلي هذه المقالة ليس لأنني مسلم أو أريد الدفاع عن الأسلام والمسلمين بل لأنها تضمنت كلمات حق وأُريد بها باطل . وهكذا صرّح أيضاً خيرت فيلدرز رئيس حزب من أجل الحرية الهولندي العنصري المتطرف والمعادي الشديد للأجانب وخاصة المسلمين قبيل تقديمه للمحاكمة بتهمة العنصرية ضد المسلمين مهدداً من أنه سيدخل المحكمة حاملاً بيده القرآن دليلاً على صحة أدعاءاته . هكذا أصبح القرآن كعب أخيل بعد أن كان سيفه !!
أن المشكلة جلية تماماً ، لا يمكن مجابهة هذا اليمين المتطرف بالجدال والنقاش عندما تكون حججه هي ذاتها أركان الأيمان عند الطرف المقابل وأن كانت أستنتاجته وأحكامه عنصرية . أنك لن تجد مهما بحثت ولو لمرة واحدة دعوات للنقاش أو الحوار من قبل ممثلي الجالية المسلمة لتلك القوى للجدال والسجال وأن حصلت بعض اللقاءات بالمصادفة عبر برامج سياسية وأجتماعية مثلاً فأن النقاش غالباً ما يتجه قسراً نحو موضوعات عمومية مثل حقوق الأنسان وحرية الأديان والمعتقدات والمساواة في المواطنة ....الخ . هكذا مثلاً فشلت رئيسة أتحاد النساء الأشتراكية الديمقراطية نالين بكول المسلمة من أصول تركية أمام رئيس حزب السويديين الديمقراطيين المتطرف في برنامج " جدال " التلفزيوني بتأريخ 2010-09-16. أن ممثلي الجالية المسلمة ومنظماتها بل وعموم المسلمين يستشعرون هذا المأزق لذلك تراهم قد تفننوا في صياغة الخطاب العلني وتوجيه الأنظار بعيداً عن نقطة ضعفهم التي يفترض أنها مصدر قوتهم . أن مواجهة الرأي العام السويدي في مناظرة فكرية حول حقوق الأنسان عموماً والمرأة خصوصا سيعتبر أنتحاراً بالتأكيد ، هذا من جانب.
ومن الجانب الآخر ، أذا كانت خيبات سياسة الدولة السويدية في ميدان التكامل قد مهدت التربة أمام هذه القوى المتطرفة للصعود (الى جانب عوامل أخرى ربما أقل أهمية ) فأن ممارسة وسلوك المهاجرين عموماً كانت الرافعة الأضافية التي مكنت القوى اليمينية المتطرفة من تعبئة التذمر وخيبة الأمل لخلق أوهام لدى العوام السويديين من أن كل شرور المجتمع أنما يحمل وزرها المهاجرون الأجانب بل أن المسلمين منهم يُهدد هوية المجتمع السويدي وهويته المسيحية لصالح " أسلمته " . أن الأعتراف بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى لمواجهة خطر اليمين المتطرف والأنكارلا يفيد أحد بل يزيد الطين بلة .
رب ضارة نافعة
هكذا يقول المثل ، وهكذا يمكن أن يكون الحال في موضوع وصول حزب الديمقراطيين السويديين العنصري للبرلمان ، فقد يكون هذا عاملاً أضافياً (غير محسوب هدية من السماء) للمزيد من الضغط النفسي والأجتماعي على الدولة ومؤسساتها العاملة في ميدان التكامل لصالح المزيد من التساهلات أمام مطالب الأقلية المسلمة لتمييز وضعها في المجتمع وأعتبارها " مستثناة " من بعض أجراءات التكامل بل ومنحها خصوية لأن يتكامل المجتمع مع ظروفها . أن الأمثلة كثيرة سواء في المدارس أو أماكن العمل والسكن والعدد الذي لا يُحصى من الجمعيات والأتحادات الأسلامية وطبعاً غير الجوامع و المدارس الأسلامية ...ألخ . لكن أهمها من حيث المظهر هو الحجاب الذي أصبح كما يبدو أكثر رمزية مما هو في بلداننا بل وأكتسب هالة قدسية تقوم الدنيا ولا تقعد عند أبسط محاولة لنقده ، بل أن التعرض له قد يقود للمحكمة ، وأصبح الساحة التي يتنازل عندها المتبارزون كما أشرت في مقال سابق . أن التمادي وصل الى حد أختبار المجتمع بالمطالبة الهادئة مثلا بالسماح في تطبيق أحكام الشريعة الأسلامية لدى المنظمات والتجمعات المسلمة كما كتب محمود الديبة رئيس المجلس الأسلامي في السويد في رسالته عشية أنخابات 2006 الى الأحزاب الممثلة في البرلمان تتضمن مثل هذه المطالب ****
هذا الخطاب من بين الكثير من الممارسات تلقفته قوى اليمين المتطرف كأنه منحة من السماء لتوظفه في حملاتها العنصرية ضد المهاجرين عموماً والمسلمين خصوصاً . وأذا كان تقدم حزب اليمين المتطرف يُعبر في بعض جوانبه عن ملامح تنامي مظاهر عدم الأرتياح في المجتمع السويدي من هذا التطور فأن بنية المجتمع الأنسانية والديمقراطية هي من يكفل هذا التنامي . في 01-12-2010 أصدر نائب الدولة لشؤون التمييز حكماً ضد أحدى المدارس لأنها منعت الطالبة عالية خليفة من الدخول الى الدرس وهي ترتدي النقاب . لقد أستغرق النائب العام عامين تقريباً من البحث في هذه الشكوى ولم يجد ثغرة واحدة في القانون السويدي تدعم المدرسة في موقفها . الآن وبعد هذا الحكم ترددت في أروقة البرلمان بعض الأصوات بما فيها من بين الأشتراكيين مطالبة بتغييرات في القانون ، بينما تعلن عضوة البرلمان السويدي عن حزب الوسط السيدة عبير السهيلي المسلمة والعراقية الأصل من أنها لا " تحب " النقاب لكنها ستناضل من أجل حق المرأة في أرتداؤه (عدم التعليق على هذا القول أبلغ من التعليق عليه ) !! والسؤال مسك الختام : هل هناك بين المهاجرين المسلمين من له مصلحة في أفشال الأندماج في المجتمع السويدي ؟ أذا كان الجواب بالنفي فلا داعي للتأمل ، أما أذا كان الجواب بالأيجاب ففي هذه الحالة نحن بحاجة الى المزيد من التأمل !
د. غالب محسن
------------------------------------------------------------------------------------------------------------
تحوير لمقولة أبن رشد " الجهل في الوطن غربة و المعرفة في الغربة وطن " .* ** في كل مرة ترد في المقال " المهاجرين المسلمين " فأنا أعني المتدينيين منهم تحديداً. *** التمييز في سوق العمل حقيقة موثقة ولا يمكن أنكارها لكنه ليس مؤامرة من الدولة وربما لي عودة خاصة له . **** لقراءة الرسالة بالكامل : http://sverigesradio.se/Diverse/AppData/Isidor/files/83/2113.pdf
#غالب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 9 / الأيمان في الغربة وطن
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 8 تبسيط السياسة دون أبتذا
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 7 // الرمز الديني بين مطر
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 6 // جزء 2 (2)
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 6
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 5 / السياسة بين التأمل وا
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 4
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 3
-
الموقف من التأريخ هو المحك / تأملات 2
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|