جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3208 - 2010 / 12 / 7 - 21:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا أحد في الغرب معفي من ملاحقة القانون, وتهمة الاغتصاب التي باتت تلاحق السيد أسانج هي تهمة كبيرة. بالنسبة لمجتمعاتنا تكون أفضل الحلول هي التراضي, وأفضل التراضي هو الذي يتم بتزويج المُغْتصَبة للمُغتصِب لكي لا تبقى هناك طريقة للتشهير بالمرأة.
لكن عائلات قد تحل المشكلة على طريقتها الخاصة حينما تلجأ إلى قتل الضحية ذاتها للتخلص من عارها, ولا مانع بعدها من أن تفرض على المغتصب دية قيمتها التبرع بإخته لأحد أخوة الضحية فتحل المشكلة عن طريق (كسر الخشوم), حتى إذا ما تمت عملية الكسر فسترسل الضحية الجديدة ملطخة بالدم من مكانين.
ثمة قيم متناقضة تماما بين الغرب وبين الكثير من المجتمعات الشرقية, وفي المقدمة منها مجتمعاتنا الإسلامية والعربية. ليست مهمتي هنا أن أحدد من هو الذي يقف في الجانب السليم, كما أن هذه المهمة لن تضغط علي لكي أنحاز إلى أحدهما, فما أريده هو وصف الصورة وتحديد رد الفعل أكثر من أي شيء آخر, فثمة ثقافات متراكمة, ولكن متناقضة, هي التي تميز الاختلاف على صعيد التداعيات, ومثال على ذلك أن المرأة في الغرب غالبا ما تقلق إذا تجاوزت ابنتها عمر الثمانية عشر ولم تحصل على (دَيْتْ), أي موعد مع شاب لغرض الذهاب إلى المرقص, وإلى ما قد يليه كجزء من حزمة السهرة. أما في مجتمعاتنا فإن المرأة تقلق إذا ما نظر شاب لابنتها بإعجاب قد ينبأ بأن القادم أعظم, ومن الطبيعي أن تتأسس على هذا الموقف مجموعة من ردود الفعل المتناقضة بموازاة تناقض الثقافتين. لكن علينا بدء أن نفهم إن الإمرأتين تتشاركان نفس درجة الخوف على سمعة ابنتيهما وعلى مستقبلهما ولكن بتفسيرين مختلفين تماما, الأولى تظن أن ابنتها ليست جميلة بالمستوى الذي يجلب الرجال فلا بد أن هناك ثمة نقص في هيئتها أو شخصيتها, وأن من اللازم معالجة ذلك النقص أو إصلاحه لكي لاتتشوه سمعة ابنتها بما يجعلها تعاني مستقبلا من مجموعة لا بأس بها من العقد النفسية التي تحتاج إلى تداخل طبي واجتماعي. أما الثانية فقد تظن أن جمال إبنتها هو مصدر الداء فعليها بالتالي أن تعالجه بكل ما يخفيه عن الأنظار حفاظا على سمعة إبنتها من التشويه.
على الجانبين: كلا السلوكين هما صح لأنهما ينطلقان بدء من ثقافتين متناقضتين, وإذا ما كان هناك اعتراض فيجب أن يكون موجها للثقافة التي تؤسس لتباين السلوك وليس موجها للسلوك ذاته.
على مستوى التعامل فإن أشد الأخطاء هو ذلك الذي يحصل حينما نقف في جانب, لنحكم على الخطأ في الجانب الآخر, بنفس ثقافة الجانب الذي نقف عليه.
وستكون آثار الخطأ كبيرة فيما لو كان صاحبه مسئولا في الدولة وليس مواطنا عاديا فيها, أي حينما تترتب على أحكامه الخاطئة أضرارا لشعبه ودولته.
في قضية أسانح الثانية, أي تلك التي أطلق فيها مئات الآلوف من الوثائق التي أدانت قوات الاحتلال الأمريكية في العراق, ونالت أيضا من كثير من رموز الحكم في العراق, كانت ردود الفعل العراقية متباينة. لا يهمني الكثير منها هنا, لكني أقف مع أحدهما لأنه يتناغم مع معنى هذه المقالة ومغزاها.. ذلك الموقف هو تصريح كان أدلى به السيد عبدالقادرالعبيدي وزير الدفاع العراقي في معرض دفاعه عن حكومته وتأكيده على ولائه لرئيسه, حيث قال أن أسانح هذا ليس أكثر من شاذ جنسي.
من الأكيد أن السيد العبيدي لا يقصد هنا بمعنى الشاذ ما تداوله الإعلام بعد ذلك حول اتهام السويديين للسيد اسانج كونه متهما بحادثتي اغتصاب, بل قصد بكل تأكيد أن الرجل شاذ بمعنى (المثلية الجنسية), وهي حالة لا يمكن للثقافة الإسلامية أن تتسامح بها, بل وتعتبرها جريمة يعاقب عليها القانون والمجتمع, وقد تؤدي إلى قتل المثيل الجنسي بعد التمثيل به حيا, كما جرى أخيرا في العراق على يد محاكم التفتيش الإسلاموية. وقد يلام السيد العبيدي على شيء واحد هو محاولته التجهيلية ولا أقول التضليلية, إذ يفترض فيه أن لا يقف في جانب ليحكم على حالة شخص في الجانب الآخر ومن خلال ثقافة مجتمعه هو, لا ثقافة المجتمع الآخر.
فحيث يقف السيد أسانج هناك ثقافة مختلفة وقيم متباينة وأعراف متناقضة, والحالة تشابه ثقافة تلكما المرأتين اللتين تقفان على رصيف مختلف, فعلى الجانب الآخر تجاوزت ثقافة المجتمع اعتقادات مجتمع وزيرنا, هناك سيناتورات وحكام وحتى قساوسة ورؤساء كنائس أعلنوا عن مُثْليَتِهِم, وهم فخورون, وغير هيابين بالمرة.
في نفس فترة التصريح الذي أدلى به الوزير العراقي, كانت إحدى القنوات الأمريكية المشهورة تتحدث عن موضوع (المثلية) في الجيش الأمريكي وحيث كان الوضع يقترب من تشريع قانون يمنح المثليين حق الانتماء للجيش. وكانت القناة استضافت جندية أمريكية كانت طردت من الخدمة من واحدة من أشهر الأكاديميات العسكرية في العالم وليس في أمريكا وحدها, وكان سبب الطرد أنها تقدمت إلى الإدارة, بكامل شحمها ولحمها لكي تعترف بأنها مثلية الميول الجنسية, وقد تم بالتالي صرفها من الخدمة بموجب التعليمات العسكرية, وحينما سألت هذه الفتاة من قبل رؤسائها لماذا لم تخفي حقيقة ميولها الجنسية في حين أن قانون ( لا تسأل لا تخبر) يعطيها الحق في ذلك قالت إنها تعتبر الكذب أشد ضررا بالمجتمع والأمة من الإفصاح عن حقيقة ميولها الجنسية التي هي من صلب اهتماماتها وحقوقها الشخصية والتي لن تضر المجتمع بأي حال من الأحوال.
وفي النهاية تمت إعادة تلك المرأة إلى الكلية, أما قانون المنع الذي كان تم إخراجه تحت عبارة (لا تخبر, لا تسأل) فقد بات الجيش على أبواب إلغائه, بما يلغي فرصة أن يكون هناك قانون يشجع على الكذب في مجتمع يعتبر أن كل الأخلاق الحميدة تبدأ بعد الصدق لا قبله. ومن الطبيعي أن يكون الفرق كبيرا بين هذا المجتمع وبين غيره من المجتمعات التي لا تشترط أن تبدأ الأخلاق الحميدة من الصدق.
علي أن أعيد هنا التأكيد على أن موضوعي ليس هدفه مناقشة أي من الثقافتين هي الخطأ وأي منهما هي الصواب, وإنما التأكيد على أن هناك اختلافا كبيرا بين الثقافتين بما يسمح بوجود سلوكين متناقضين, قد يكون كلاهما صحيحا على رصيفه.
وحتى إذا ما كان السيد العبيدي قد أراد بتصريحه ذاك أن يخاطب العقلية العراقية البسيطة فإنه كان تجاوز على الحقيقة التي تقول: أن كون السيد أسانح مثليا لا يسقط شهادته حتى في المحاكم العراقية, التي لا تشترط أيا منها أن تجري فحص خلفية الرجل أو مقدمة المرأة قبل إقرار حقهما بالشهادة. وأكاد أحسب هفوة الوزير هي من باب إن كنت تعلم فتلك مصيبة وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم.
يبقى أن هناك ضرورة للعودة إلى مقدمة الحديث للخروج بعدها بشيء مشترك.. الآن بات السيد أسانح مطاردا بتهمة الاغتصاب, وهذه التهمة لا يعالجها المجتمع الغربي كما تعالجها مجتمعاتنا التي تعتبر الاغتصاب خطأ رجوليا لا يرتقي إلى مستوى الجريمة, وهو خطأ يمكن حله بالتغاضي والتراضي.
وحيث أن مجتمعاتنا لا تعاقب المُغتصِب الذي قام بالجريمة وإنما المُغْتصَب الذي وقعت عليه الجريمة, لذلك لو أن أسانح كان عراقيا لما بات عليه أن يخشى من أي شيء.
وعراقيا أيضا فإن ليس من الحق الانتقاص من مصداقية الوثائق إلا إذا كان أسانج مُغتَصَبا وليس مُغْتِصِبا.
ويبقى من المهم التساؤل, فيما لو كانت تهمة الاغتصاب التي يطارد السيد أسانح بسببها صحيحة مائة بالمائة: هل تلغي تلك التهمة صدقية الوثائق لدى الجمهور عامة..؟ حقا لا أعتقد بذلك, لآن الرأي العام الأمريكي والأوروبي بشكل عام قادر على التمييز بين قضية وأخرى. وحتى في الحالة التي ستصح فيها تهمة الاغتصاب فإنا أعتقد أن تأثير الفضائح التي أثارتها الوثائق سوف يزداد والفضيحة نفسها ستتضاعف حينما تضاف إليها فضيحة أخرى تؤكد على أن النظام العالمي التي تقوده أمريكا قد أضاع رشده وتصرف بردود أفعال غير موزونة وأقرب إلى أن تسودها ثقافة العشيرة.
ورغم الفارق على صعيد التهمة التي وجهت للسيد سانح.. كمُغْتصِب سويديا ومُغْتصَب عراقيا,
فإن كلا الوزيرين, الأمريكي والعراقي كانا سوية مخطأين في التعبير عن الحال والموقف.
بهذا صار بإمكاننا أن نتساوى.. على الأقل بارتكاب الخطأ.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟