|
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 9 / الأيمان في الغربة وطن /
غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3206 - 2010 / 12 / 5 - 22:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأيمان في الغربة وطن // جزء 1
كنت قد وعدت في تأملات 7 الكتابة عن موضوعة المهاجرين في السويد ليس فقط بسبب صعود حزب جديد للبرلمان السويدي معادي بشكل صريح للأجانب عموما وبشكل خاص المسلمين منهم ولكن أيضا لأسباب أخرى ليس أقلها " أحتقان " الأوضاع الأجتماعية وتأزم هذه المشكلة وأهم فروعها مما أصطلح على تسميته التكامل أو الأندماج مع المجتمع . والكتابة في هذا الموضوع كالسير في أرض رخوة ، محفوف بالكثير من المخاطر لعل من بينها ، الأنزلاقات من جهة و التكرار الممل من جهة أخرى . من بين الكتابات في هذا الموضوع مقالة الصديق خالد صبيح والمنشورة في الحوار المتمدن ، حيث حاول التركيز بصورة خاصة على مجموعة المهاجرين العراقيين .
و كما قال المتنبي الشعر جادة قد يقع فيها الحافر على الحافر فأنني اشاطرالصديق بعضاً من تجربته وأنطباعاته عموماً وأيضاً غيره ممن أدلو بدلوهم وسأحاول المساهمة في هذه التأملات بألقاء الضوء على مجموعة أكثر حساسية وتعقيداً وربما لا تخلو من المجازفات ( كما الأخطار كما قال لي أحد الأصدقاء) وهو أنني سأختار المهاجرين المسلمين والمتدينيين منهم ** تحديداً بسبب من شدة تميزها ، كما أظن ليس فقط في تعرضها لمختلف أشكال المضايقات وحضورها المستمر والقوي في الأعلام والرأي العام والمحلي بل وقبل كل شئ في ولائها المطلق لعقيدتها الدينية وتمسكها " بالعروة الوثقى " وبأسها بالرغم من كل هذا التنوع الكبير في الأنتماء الأثني والطبقي والقومي ، هذا التنوع الذي يطفو أحياناً كأنه تناحرات وسرعان مايخبو ليحل مكانه التوحيد .
تكامل وأندماج من مع من يقولون أن بعض الظن أثم وأنا هنا أقبل هذه الخطيئة بوعي لأنني من الذين يظنون أن أندماج المسلمين المتدينين في المجتمع السويدي غير ممكن أذا أحتكمنا للقرآن الذي هو مصدر قيمهم و" مسطرة " أعمالهم وأذا ما تم هذا الأندماج فأنه في الغالب مؤقت وتكتيكي . والسبب جلي تماماً ، أنه ببساطة شديدة التناقض الحاد بين هذه القيم والمعتقادات وملحقاتها الثقافية والتراثية وهذا المجتمع الجديد. ومن يعتقد بأمكانية " المساومة " وتحقيق نوع ما من الأندماج فما عليه سوى وضع القرآن جانباً وأنا سأتفق معه تماماً.
أن وضوح هذه الحقيقة حد الأبهار قد أعمى الأبصار في كل الأمصار . أن هناك وعياً ظاهراً كالأقمار في أوساط هذه الجالية لهذه الحقيقة لكنه يُحاط بصمتٍ وأسرار، من خلف الأسوار ، وعيون كغيبة المهدي في أنتظار . أن أشكال تجلي هذا الوعي كالأحجار ، متعددة ليس أقلها الموقف السلبي " الباطني " ، كالأشعار ، تجاه مجتمع وقيم وثقافة وأخلاق الكفار ، وتسفيه القضايا الأيجابية فيه ، أن وجدت أساساً من وجهة نظر الأخيار .
وللأسف الشديد فأن البعض منًا يقع في منزلق السلبية دون قصد غالباً لكن ليس بعيداً عن تأثيرات ماضي الزمان وتجاربه المريرة و خيبات الأمل التي لا تنتهي وأخاديدها العميقة في الذاكرة . وبما أن هؤلاء المهاجرين المؤمنيين ليس لهم خياراً آخراً سوى العيش في هذه البلاد فأن الحل لهذه الأشكالية يجب أن يتم عبر تكامل المجتمع معهم وليس بالطبع عبر التخلي عن أحكام القرآن والسنة النبوية كما هو مفهوم .
أن حجتي في هذا الزعم هو النص الألهي المقدس في القرآن والتشريعات المنبثقة عنه وتأريخ الدعوة ومُثلها وتطبيقاتها قديماً وحديثاً . ولكن قبل كل شئ هو ممارسة وفكر المهاجرين المسلمين أنفسهم . ومن له عينين لا يستطيع الأنكار. وقبل التسرع في أطلاق الأحكام يميناً وشمالاً أوكد على أنني لا أنفي الأجتهادات والحلول الفردية والأستثناءات التي نلقاها متألقة أحياناً و حائرة أحياناً أخرى ، ومنها لدى أولئك من له معزة خاصة بيننا . لعل من الجدير أيضاً تذُكّر أجمل تجارب الصوفيين لما فيها من طيبة وأنسانية تصل أحياناً حد التراجيديا . ومن جهة أخرى هناك جمهور واسع ليس له مقاصد محددة بل يتجنب التصادم مع العادات والتراث تحت وطأة كذب التأريخ ودون وعي حقيقي لهذا الخيار على الأعم فتراه يعوم مع العوام لكن ليس من غير أوهام . لكن يا أخواني هؤلاء ليس موضوعي هنا !
سأورد بعض الأستشهادات من مصادرها لتكون مدخلاً و حجة لدعم مزاعمي مستبقاً كل من تخطر له فكرة أن هذه التأملات ما هي الا أسقاطات أو تصب في ذات البوتقة لقوى اليمين العنصري المتطرف ....الخ . أن هذا سخف بالطبع ما لم يكن المبدأ هو الحجة بالحجة وأدراك أختلاف المقاصد وهذا الأخير لا يفوت ألا العقل الصغير والفقير في آن .
وأود التنويه الى أن هذا المدخل ليس الغرض منه تقييم ما جاء به الوحي من القرآن (رغم أن الفكرة تراودني من حين الى حين لكن ليس كما راودت أمرأة العزيز يوسفاً بل كما راودته الأحلام ) أو دراسة تحليلية لتأويلاته وأحكامه وتطبيقاته وأنما لدعم فكرتي من أن الأيمان بما جاء به الوحي لا يسند فكرة الأندماج وأنما يناقضها .
الحق في الأيمان / تقديم
مجموعة المهاجرين المتدينيين " تمتهن " العقيدية الأسلامية وليس فقط تؤمن بها ، بمعنى تسعى بها و لها والهجرة هي كلمة التوحيد . فالأيمان والجهاد هنا مضاعف بسبب الهجرة ، فالمؤمن هنا محاط بالمنكر من كل حدب صوب وفي كل جادة ومنعطف . لذا تسمو و تتألق معاني الأيمان وتسطع ، فالدين الأسلامي هو دين الحق و " إن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، وإن السيئة فيه تُغفر ، وأن الحسنة في غيره لا تُقبل ..." علي بن أبي طالب / من كتاب بهج الصياغة في شرح نهج البلاغة للشيخ محمد تقي التستري..
ليس هناك حق خارج العقيدة الأسلامية أوالتشريع المنبثق عنها وهي لا ترى في الآخر سوى الظلال . يورد علي بن ابراهيم القمي ( من الشيعة ) صورة الأيمان في تفسير القرآن ما يلي : "حدثني محمد بن يحيى البغدادي رفع الحديث إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لانسبن الإِسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ولا ينسبها أحد بعدي الإِسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، فالتصديق هو الإِقرار، والإِقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل والمؤمن من أخذ دينه عن ربه إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله وأن الكافر يعرف كفره بإنكاره ، يا أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، وإن السيئة فيه تغفر، وأن الحسنة في غيره لا تقبل. " تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ) مصنف و مدقق . أن كان هذا حقاً هو قول الأمام فأنه أكثر التعابير بلاغة في الأستبيان والأستدلال لبلوغ معرفة الحق وأنكار الآخر . والأمام ليس وحده بهذا الوضوح واليقين . أليكم بعض الدلائل .
أن أول آية في القرآن بعد سورة الفاتحة لا تدع مجالاً للشك " ذلك الكتاب لا ريب فيه " 2/البقرة " . لا يوجد أبلغ وأوضح دلالة من هذه الآية بل أن أختيارها كأول آية في القرآن من قبل مدونيه وجامعيه لا يمكن أن يكون مجرد مصادفة ( بعد كل ذلك الجدال والخلاف أبان جمع القرآن وتدوينه ) بل يفصح عن مقاصد الرسالة . وشيوخ الدعوة الأوائل الذين لم يكن لهم شاغل سوى التعبد وتفسير القرآن وشرح السنة لاحقاً هم أكثر من فَهِم وأستوعب الرسالة حقاً ، لم يشكّوا قيد أنملة أو يحتاروا في تفاسير هذه الآية ( بالرغم من أنهم أحتاروا وأختلفوا في تفسير " ألم" ألف لام ميم ) . جاء في تفسير هذه الآية : "ومعنى قولـه لا ريب فيه أي أنه بيان وهدى وحق ومعجز فمن ها هنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه " / الطبرسي .
والزمخشري لا يدخر في شرح هذه الآية : " بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدي ، وشدّاً من أعضاده . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر لاتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " // كشاف الزمخشري .
ثم تأتي السورة الثانية في القرآن (آل عمران) بعدها لتبدد أي شكوك محتملة حينها أو بعدها " أن الدين عند الله الأسلام ..." و لتتبعها لاحقا بآية تأكيد وتأييد " ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " /19 و 85 آل عمران .
ويشرح أبن كثير في تفسير القرآن : وقوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ } إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهواتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته ، فليس بمتقبل ، كما قال تعالى:{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }.
أما الطبري فيشرح هكذا " حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلام } والإسلام : شهادة أن لا إلٰه إلا الله ، والإقرار بـما جاء به من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودل علـيه أولـياءه ، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به .... "
فهل بعد ذلك من عذر لمن لم يفهم الرسالة ؟
أكتفي بهذا القدرمن الأستشهاد لأن معظم التفاسيرالتي راجعتها بخصوص هذه الآيات ( أمهات التفاسير ، أهل السنة ، أهل الشيعة ) متشابهة الى حد كبير وهذا كما أرى يضع القول الشائع والمنسوب الى علي بن أبي طالب من أن القرآن حمّال أوجه في موضع تأمل أضافي . ولكن عليّ الأعتراف بأن هذا القول بليغ جداً بل وأجازف بالقول أن بدونه لما تمكن القرآن من الأستمرار طول هذه السنين .
ثلاثية النص والتفسير والتأويل
في البدء كان النص حيا ً ثم توفى ، فقام التفسير بعده ثم توفى ، ثم تبعه التأويل فقام ولم يزل يترنح !
أن الحاجة للتفسير لم تظهر ألا بعد أنقطاع الوحي وأن خير من فهم الدعوة ورسالتها ودستورها القرآن هم الصحابة الأولون ومن تبعهم من الفقهاء والمفسرين ليس لأنهم ملكوا لغة القرآن فحسب بل روحه ومقاصده وهو الأهم بل وزادوا عليه أحساناً . أن قليلاً من التأمل يمكن أن يساعد في فهم حقيقة بسيطة قالها أبن رشد منذ اكثر من ثمانية قرون وهي أن ألله أكثر حكمة من ان يخاطب عباده بلغة لا يفهموها تماماً كما تسائل أدونيس في موسيقى الحوت الأزرق " كيف يمكن ان يكون الأنسان مسؤولاً أمام نصّ لا يفهمه ولا يعرفه والله وحده أستأثر بعلمه ".
أن تدرج الوحي في تحدي الكفار في موضوعة بلاغة القرآن لذو دلالة . ففي البدأ تحداهم بأن يأتوا ولو بسورة واحدة ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ // البقرة ، يونس ) ثم بعد ذلك رفع التحدي الى عشر سور (أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ // هود ) ثم رفعه أخيراً الى أقصاه فتحداهم بأن يأتوا بمثله كله (لئن أجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله // الأسراء ) . ليس من الصعب ملاحظة أن هذه علامة واضحة الدلالة على أن الأتيان بسور شبيهة بسور القرآن لم يكن أمراً عسيراً على قومٍ فهموا لغة القرأن وعرفوا مقاصده بل أن قصصه وحكاياته كانت معروفة لديهم قبل الدعوة . فقد وردت مثلاً كلمتي أساطير الأولين 9 مرات في 9 سورمختلفة ( الأنعام ، الفرقان ، النحل ....الخ ) وفي سورة الأنفال أعتراف صريح " وأذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا أن هذا الأ أساطير الألولين ...." مما لا يدع مجالاً للشك في أنهم تمكنوا من تقليد آيات القرآن لكن لم يصلنا الأ القليل منها ، راجع على سبيل المثال تأريخ الرسل والملوك للطبري / الجزء الثاني. أما التأويل*** فكانت الحاجة اليه قبل أنقطاع الوحي للضرورة وللتعديل وأحياناً لتجاوز مشكلة أثارتها آيات سابقات يسميها القرآن متشابهات " { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ...ِ آل عمران 7}
لذلك أنا أميل الى أن من يُسمون بالسلفيين هم أقرب الى روح الدين الأسلامي كما جاء به صاحبه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من غيرهم ليس في تمسكهم بألفاظ القرآن (حسب القاعدة الشرعية العبرة بعموم اللفظ لا بسببه ) وأنما أيضاً في تمسكهم بتفاسير الأولين .
وهنا أرجو عدم الخلط مع أولئك المفكرين المسلمين (قديماً ) والمعاصرين ، على قلتهم ، الذين يضعون أجزاءاً من القرآن (وأحيانا كله ) موضع التساؤول ، بمعنى عدم صلاحيتها لوقتنا الحاضر أو الدعوة الى وضعها في صناديق الذاكرة وفوق رفوف التأريخ . وهذا ليس هو التأويل المعروف الذي أنشأ له فلسفته الخاصة . الأول هو الأخطر من وجهة نظر الأيمان وهو ما يعيه القوامون على شؤون الدين لأنه يفتح باباً لن يُغلق بعدها مما يهدد مصير القرآن والدين برمته . أما الثاني فهو على أية حال محاولة فكرية أنسانية لأدراك معاني الحياة والوجود .
أما المعاصرون ممن يدعي العلمانية في الأسلام عبر التأويل فليس هم في الواقع ، كما أرى ، سوى تعبير عن أدراك صعوبة التمسك بالكثير من نصوص القرآن التي تتنافر بشدة مع واقع التطور بل أصبحت مستحيلة في القرن الحادي والعشرين في بلد الأيمان الغارق والسعيد في تخلفه فكيف حالها في بلد الهجرة ممن يخطط لرحلة المريخ . لكن رغم أنها مجرد محاولات في النقد الغير مباشر لكنها تبقى محاولات أيجابية وشجاعة على أية حال في ظل الأرهاب الفكري وسيف التكفيرالذي لا يسلم منه حتى البرئ من كل تأويل . أقول قولي هذا وحجتي فيه القرآن نفسه وتحديدا الآيات الأخيرة التي جاء بها الوحي ( قبل وفاة النبي محمد ) في سورة التوبة التي لم تنسخ العديد من الآيات خاصة آيات التسامح والعفو والمغفرة فقط (حسب الكثير من المفسرين ) بل أزعم أنها نسخت القرآن كله ودعت المؤمنين للجهاد بالسيف مما لا يدع مجالا للشك . حتى أن العديد من المفسرين أسموا الآية 5 من سورة التوبة بآية السيف { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } راجع أبن كثير ، الثعالبي ، الخازن ، الطبرسي ، الطوسي وغيرهم كثير . أن العديد من المفسرين أشاروا أيضا في شرحهم لهذه الآية للحديث المعروف لصاحب الدعوة الذي جاء في الصحيحين عن ابن عمر : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " .
وآيات التوبة لا تستثني حتى أهل الكتاب من الذين فتحوا أبوابهم لنا وأستقبلونا في ديارهم بعد أن أغلقها أصحابنا في وجوهنا وطردونا و طاردونا . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: قال سفيان بن عيينة: قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف في المشركين من العرب، قال الله تعالى: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } هكذا رواه مختصراً، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ } أبن كثير .
وجاء في تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن للطوسي : واستدل بهذه الاية ( 5 من سورة التوبة) على ان تارك الصلاة متعمداً يجب قتله، لأن الله تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرطين: احدهما - ان يتوبوا من الشرك. والثاني - ان يقيموا الصلاة، فاذا لم يقيموا الصلاة وجب قتلهم.
والدعوة للجهاد تتردد في معظم السور المدنية خصوصا الأنفال ، آل عمران ، البقرة ، الحج ، الحجرات ....الخ لكن تصل ذروتها في ختام الدعوة في سورة التوبة { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } وهذه الآية تتكرر حرفياً في سورة التحريم/9. وهؤلاء المجاهدين هم من فضلهم ربهم على غيرهم { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } التوبة .
لكن لوأعدت السؤال : هل هناك مسلمين علمانيين لهمست بنعم . هذه المجموعة رغم قلتها العددية فهي أكثر أهمية وأزعم أنها الشعلة التي تبقي وهج الدعوة حياً في ظل التطور الشامل في مختلف مجالات و ميادين العلم و الفكر والمجتمع . لكن هذه المجموعة ليست موضوعنا هنا وقد ترد أحياناً عرضاً أما للمقارنة أو كمثال أيجابي للتكامل . التكامل والأندماج في تأريخ الدعوة
والسؤال الآخر الحاسم هو: هل يمكن الحديث عن المهاجرين ككتلة واحدة ؟ الجواب سيكون قطعا النفي . ولكن أذا تسلحت بشئ من الجرأة والمعرفة ووضعت الحذر جانباً لبرهة من الزمن لتمكنت حينئذ من أعادة صياغة السؤال : وماذا عن المهاجرين المسلمين ؟ الأ يوحدهم الأيمان والغربة ؟ ألم يكن المؤمنون الأوائل غرباءاً في المهجر و الأيمان وحّدهم في الغربة فملكوا الدنيا كلها وليس بلد الهجرة فقط !!
عندما فرغ المسلمون من أتمام سيطرتهم العسكرية والعقائدية على كامل شبه جزيرة العرب توجهت أنظارهم صوب الشعوب المجاورة ، تلك التي سبقتها كثيرا في المشوار الحضاري . فبأستثناء اليمن التي تركت لنا بعضا من الشواهد الحضارية فأن هذه الشعوب مقارنة ببدو الصحراء قد ألقت بضيائها فوق أرجاء المعمورة وأغنت البشرية بأنجازاتها وفي مقدمتها على الأطلاق الكتابة. فمن الميديين والعيلاميين والأخمينيين في شرق وشمال شرق الجزيرة (أيران) ، والسومريين والبابليين والآشوريين في بلاد ما بين النهرين ، الى الكنعانيين والآموريين والفينيقيين في الشام وصولا للفراعنة طبعا في مصر. بل أن حضارة مابين النهرين هي من ألهمت في صنع تأريخ الأديان في العالم أذا شئنا أعتبار التوراة هي البداية . ومازالت حضارات هذه البدان تُلهم الكثيرين وهي موضوعا دائما للبحث والتحليل.
يالها من حضارات !!
بعبارة أخرى كانت هناك فرصة تأريخية للقوى الجديدة للأستفادة القصوى من هذا الأرث الحضاري الضخم لبناء ما هو أعظم بكثير أذا ما تمكنت القوى الغازية ، المستوطنة أولاً والجماعات المهاجرة لاحقاً ، من توحيدها في ما نطلق عليه اليوم الأندماج والتكامل . غير أن أصحاب الدعوة الجديدة كانت لهم نوايا أخرى . فقد جاؤوا لهذه الحضارات بخياريين أحلاهما مرّ كما يُقال . ففي يد كانوا يحملون سيفاً وفي الأخرى كانوا يحملون مصحفا . كانت رسالتهم واضحة لا تقبل اللبس . أنها تُذَكِّر بالرسالة التي بعث بها صاحب الدعوة الى بنو قريظة .
طبعا أختارت هذه الشعوب المغلوبة على أمرها الحياة (هكذا ظنوا ) وأختاروا التسليم أولاً ثم أجبروا على الأسلام والدخول في الدين الجديد أفواجا أفواجا ممن لم يتمكن من دفع الجزية بالطبع أولا ، وشيئا فشيئا تبعهم الباقون ممن سقط في يدهم و أخذت ملامح المجتمع الأسلامي الجديد بالتشكل تدريجياً و بأختفاء بقايا الثقافة القديمة . في بضعة عقود تم بناء مجتمع جديد على أنقاض مجتمعات بنيت بآلاف السنين .هكذا بعملية قيصرية تم الهدم والبناء ، بنواحٍ خافتِ غالباً وعويلِ أحياناً.ا
وحدة الأيمان والغربة
على الأرجح تتمايل أسباب الهجرة بين كفتي السياسة والأقتصاد ، فأما هرباً من الملاحقة وأما هربا من الجوع . والمعنى الصريح أن لا أحداً يرغب بترك بلاده الأسلامية لو أنعمت هذه على شعوبها بالحرية واللقمة الحلال . غير أن واقع الحال يغني عن السؤال !
يُقال أن للجنة مائة درجة أعلاها الفردوس حيث يقيم الأنبياء والأولياء . أما الذي في أدناها فيملك عشرة أضعاف أغنى ملوك الأرض أو يُقال من له من الجنة مسيرة خمسمائة عام ، ويُزوج خمسمائة حوراء ، وأربعة آلاف بكر ، وثمانية آلاف بيت.... الخ (أرجوكم لا أحد يسألني : الحواري والبكر فهمناها لكن ماذا سيشتري أهل الجنة بكل هذا المال ) . وفي حديث رواه اليخاري في صحيحه (2637) عن أبي هريرة أن النبي محمد قال " أن في الجنة مائة درجة أعدها للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " وهذا ما تشير أليه الآية 20 من سورة التوبة { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } .
يعني للأيمان درجات والمسلمون درجات حسب أيمانهم . بعبارة أخرى أن درجة الأيمان هي التي تقرر مكانك في الفردوس أم ستقنع بالمال والحلال و بخمسائة حوراء و أربعة آلاف بكر لا غير .
على هذا ، بقدر ما يتعلق الأمر بهذه التأملات ، يمكن تصنيف المسلمين والمهاجرين منهم حسب أيمانهم الى مجموعتين كبيرتين ( يمكن تجزئتها الى مائة جزء حسب الحديث أعلاه لكن هذا ليس هدفنا هنا ) ، المسلمون الذين يطلقون علي أنفسهم العلمانيين ، والمسلمون المؤمنون بالدين كما جاء به نبي الأسلام قبل 1400 سنة و لنسمهم السلفييين تسهيلاً للأمر . الأولى تعاني من المصاعب مرتين أكثر مقارنة بأختها الثانية والسبب هو في محاولاتها المستمرة عبر ما يسمى التأويل تخفيف حدة التناقضات التي يواجهها الدين الأسلامي أمام التطور الهائل في مختلف المجالات العلمية والأجتماعية والفكرية بحيث أصبحت التعاليم والتشريعات الدينية ليست عسيرة في التطبيق فحسب بل وحتى في المفهوم المجرد وحصنها الأرأس القرآن . أن قضايا نصت عليها سور و آيات من قبيل ما ملكت الأيمان والرق وقضايا المرأة وأهل الكتاب وأحكام الزواج والعقوبات والحد ...الخ وصلت في تناقضاتها الى الحد الذي لا ينفع معها أي تأويل لأنها " آيات محكمات هن أم الكتاب ...آل عمران 7 ". هذا بحد ذاته سيكون دائماً عاملاً ضاغطاً في خلفية كل سلوك المسلمين المهاجرين في أوربا عموما بغض النظر عن أنتمائهم الطبقي والأثني والثقافي . بمعنى آخر أن هذه التناقضات تدفع للتطرف بالأتجاهين المتضادين ، في السياسة بين اليمين واليسار وفي الدين بين الألحاد والأرهاب ومابينهما هو جمهور العوام.
أما أذا سألت لماذا يهاجر المسلمون من بلاد الأسلام الى بلاد الكفر فلا تجد جواباً مقنعاً . جمهور العوام يردد أن بلادهم ليست أسلامية حقاً وأن الله أمر بالهجرة ونبيهم خير مثال وهم على خطاه بحزم سائرون . ربما كان في ذهنية هؤلاء قول محمد عبده عن الغرب ( رأيت الأسلام ولم أرى المسلمين ). والبعض الآخر ممن يتحلى بالتحدي والأيمان القوي فيريد أن يتقوى لنشر راية الأسلام في عقر دار أهل الكفر و هناك ثالث وربما رابع أكثر صدقاً يقول أنه يبحث عن حياة أفضل في الدنيا أما الآخرة فلا ندري ما هي .
يتبع جزء 2
د. غالب محسن
------------------------------------------------------------------------------------------------------------
تحوير لمقولة أبن رشد " الجهل في الوطن غربة و المعرفة في الغربة وطن " .* ** في كل مرة ترد في المقال " المهاجرين المسلمين " فأنا أعني المتدينيين منهم تحديداً. *** التأويل أكثر المفاهيم التي أختلف الفقهاء و " علماء " المسلمين بشأنها . وأذا كان هذا المفهوم قد أزدهر وعلا نجمه منذ أنقطاع الوحي ووفاة صاحب الدعوة فأنا لا أرى فيه ، في نهاية المطاف ، غير محاولات لأنقاذ النص من الأندثار .
#غالب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 8 تبسيط السياسة دون أبتذا
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 7 // الرمز الديني بين مطر
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 6 // جزء 2 (2)
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 6
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 5 / السياسة بين التأمل وا
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 4
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 3
-
الموقف من التأريخ هو المحك / تأملات 2
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|