ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 962 - 2004 / 9 / 20 - 05:09
المحور:
الادب والفن
في مجموعتها الشعرية الأولى ( على غفلة من يديك ) الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر – دمشق 2001 , ودون أن تستطيع الفكاك من أسر الملامح التي كرّسها النص الشعري السوري في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي , فقد تمكنت ( هنادي زرقه ) بإحساسها الأنثوي الحادّ والمرهف من تقديم نصّها الذي يأخذ بالقارىء إلى مساحة من التواطؤ , قصدتها التجربة واستجدت حدودها . وفي تلك المساحة يكتشف القارىء كم أنّه شريك في الخراب وكم أنّه شيطان أخرس .غير أن الذي يؤخذ على هذا النص هو قيامه بأدوات ليست جديدة , حيث بقي أسير الإنجاز , المستفيد بدوره من تجارب أجنبية وعربية مختلفة , بل واتكائه عليها , الإنجاز الذي قدّمته مجموعة من الشعراء معتمدة الاستخدام المغاير للغة , ومحوّلة أيّاها إلى أداة للحفر والتلوين بعيداً عن اعتبارها كمال دلالي , بل وضعت الدّال والمدلول في مكانهما الطبيعي بعيداً عن قدسية الارتباط الذي نسب إلى اللغة , حتى في الكثير من التجارب التي نسبت إلى الحداثة الشعرية . وهكذا اكتسبت اللغة حريّة التحول والتبدل , كما حريّة الارتباط أو عدمها في الآن الشعوري أو لحظة التجربة .
ليست التجربة الشعرية السورية , هي الوحيدة فحسب , من يظلّل تجربة هنادي زرقه , حيث أن ملامح لتجارب أكثر تجذّراً في التجربة الشعرية العربية تفسد بحضورها تمكّن الشاعرة من إظهار ملمحها الخاص الذي يجعل من التجربة الشعرية محاولة للاكتشاف الذات في لحظة تأرجحها بين الوجود والعدم .
إن مظاهر الأسر التي أشرنا إليها تعود بشكل أساسي إلى ما هو تقني , أي ما يستعير طرائق الآخرين في الاستخدام الصادم للمفردة , والتركيب المدهش للصورة . ومثاله ما يحيل إلى تقنيّة الشاعر( شوقي أبي شقرا ) في نحت تراكيبه ( حيرتي تجلس تفّاحة .... ) وهذا التركيب يأتي عند هنادي على الشكل التالي : ( كأنّك لم تنتبه لحيرتي | تعدو خلفك كساقية – ص7 ) أو ما يحيل إلى ( صالح دياب ) فيما يخصّ أمور التقشير ( فيما أنت تلملم قشور ضحكتك عن السرير – ص7 ) أو ( وقشّرت عنها رائحة النوم – ص 36 ) أو ( قشّرت لقهوته الصباح – ص46 ) حيث استخدم صالح دياب فعل التقشير في صيغة مبالغة جاءت على قدر كبير من الشفافية إذ قال :
( أقشّر الهواء لأنفك الصغير ) وبعضهم قال بتقشير الندم وأحياناً الخيبة ... الخ , ويستمر التذكير بتجارب صالح دياب حيث يرد التعبير التالي لدى هنادي : ( وقع صوتي في البئر | لم يؤلف دوائر – ص 42 ) . ويأتي تأليف الدوائر عند صالح دياب كالتالي : الساقط | في بركة الحيرة | لا يؤلف دوائر ) أو ( حيث رجل | يذوب في مياه الوحشة | ولا يؤلف دوائر ... )
.
إن التشابه السابق , وكما ذكرنا , ليس في الحالة أو في مفردات التجربة , انّه في أدوات الإنتاج , الأمر الذي يعكس قدراً كبيراً من الهشاشة والارتباك مصدره الغربلة والجنوح نحو التدوين , اللذان يفسدان , وبشكل مؤسف , بدائية الهاجس كما يؤطران مساحة حريّته في الانبثاق .
من جهة أخرى , لم تستطع هنادي , رغم الرهافة والشحنة العاطفيّة المهيمنة , أن تنجو بنصوصها من الوقوع في الأسر ثانية , أسر الأنثوية الوظيفية التي تكرّست في الفن والأدب العربيين , وأقصد بالضبط تعيّن الأنوثة بدلالة الذكورة بعيداً عن الانشغال بتموضع الذات ككيان , أي كفرد مستقل تربطه بالموجودات شبكة لا متناهية من العلاقات .
هي الانشغالات التي تمحورت حولها التجربة وجسّدها النص . غير أن هذه الانشغالات الواعية والمركّزة تطرح سؤالاً مهمّاً يخصّ الشعر باعتباره وليد المنطقة المعتمة أو غير المستقرّة من طبقات الوعي . ذلك أن الشعر هو وعي خاص بالدرجة الأولى , بل هو وعي شديد الخصوصيّة مقارنة بالوعي العام . وغير سوي إذا كان للطب النفسي من حكم . وحينما لا يوجد الوعي الخاص , الوعي الذي يرتكز بصورة أساسيّة على الخبرة الشخصيّة في تصوّر الذات ومكابدة تبعات هذا التصوّر في العلاقة مع الكون وموجوداته , لا يوجد شعر , وإن وجد ما يذكّر به , فإنّما بلاغة مدهشة .
الخيبة والتصدّع والمرارة هي المشاعر التي تستوطن النصوص وتجعل من الكتاب بأكمله رسالة هجاء لرجل غير مكترث بأنثى تحبّه بل تعبده . إنها صنيعته وعاشقته , والمفجوعة على الدوام بحبّه , وهي تريد أن تكون شيئاً بدونه , غير أنّ هذا الكون لا يتأكّد إلا بقبوله ورضاه :
( على غفلة من عينيك | أعيد تهجئة جسدي | حرفاً حرفاً . | . على غفلة منّي | يسكن جسدي بين يديك .- ص6 )
ويغدو الاستلاب التأليهي , بتتالي النصوص , واحداً من الخصائص التي تراكمها التجربة , وعليه تتأسس القهرية والوحشة والمرارة :
( باسمك ..| تبدأ تلاوة نهارها ...... وباسمك فقط / كان القمر يتابع دورته . ص 11 )
إن هاجس الفقد ملمح مؤثر وأساسي في هذه المجموعة , بدءاً بفقد الأب مروراً بفقد الطفولة المشتهاة وانتهاءً بالعيش الدائم على الفقد . وأجد أن ( غبار الكلام ) نصّ يختصر الكتاب والتجربة معاً , باعتبارهما تجسيد لعيش الخسارة وانتظار ما لن يأتي . إن هذا النص الذي يربط فعل الكتابة بفعل الغياب يقدّم , في مساحة الإرتباط الهشة والواهية , لكن المؤكّدة والمهدّدة بالزوال جرّاء تأكدها , يقدّم ما يفضح الفرق بين التجربة كتصوّر وكناتج لاحتكاك الذات مع الآخر :
( حين تمضي / سأكتب عن قمر أو قنديل / منع قلمي من التّرهل / سأكتب عن رجل ..../ عن مدينة بيضاء .../ سأكتب عن قدميك الخضراوين ..../ سأكتب عن فرح الأطفال ..../ إلى أن تمضي .../ سأكتب وأكتب ../ عن هسهسات النوافذ .../ ويدك تمسح عن جبيني غبار الكلام .... ص 31 – 32 )
الكتابة في هذا النص فعل مدبّر , والغاية من التدبير والتخطيط هي محاولة إحداث الدهشة والإثارة , حيث أحدثت الشاعرة ما لم يحدث , وحوّلت المفترض إلى موجود حقيقي . غير أن الشعر حينما يصبح فعلاًً مدبّراً , يحتل فيه السرد مكان الصدارة , فإن الكثير من جمالياته تغرق في وحول القصديّة . ويغدو السرد فضحاً لفراغ الداخل , وإشارة دالّة على التكويم وليس الإضافة .
ربّما نجح النص السابق في افتراض الفقد كذريعة للكتابة , لكنني لا أظنّه قد نجح في جعل الذرائعيّة مدخلاً للإحساس وعيش التجربة . وبقاء التجربة في طور التصوّر والافتراض يجعل من الكتابة تكريساً للمثال وإبعاداً لها عن المكابدة في الكون شكلاً من أشكال التحول بمقتضى البحث الموازي , والمختلط أحياناً , لإختبار ما لم يختبر .
والأمر السابق لا يخصّ نصّ ( هنادي زرقة ) فحسب , بل ينسحب إلى هذه الدرجة أو تلك , على أغلب النصوص المنتجة حديثاً , فاضحاً طغيان المغامرة اللغوية التي تلتبس على القارىء مع الجديد من الحساسية , ذلك أنها في العمق لا تزيد عن كونها إعادة إنتاج لما بات ممجوجاً في هيئات وأشكال أخرى .
ومن البحث الانتقامي عن الأب , مصدر الحماية ومبعث الطمأنينة , إلى إعادة إنتاج موته , تقدّم ( هنادي ) علاقة إشكالية بالرجل . وأقول إشكالية لأنها , إضافة إلى ما سبق وذكرناه عن التعرّف السلبي , تعكس افتتاناً بالقهر وسعياً إليه . إنها تحيي الأب رمزياً بإعادة البحث عنه ( في كلّ أيلول ) كي تجدّد قدرتها على الحياة :
( أبحث عن أبي / أتكيء على التراب / أبكي .../ ويجري الشتاء في قلبي . ص17 )
إنها تفتش عمّا لا يمكن العثور عليه , الذكر الذي تحلّ فيه روح الأب دون الوصول إلى درجة المحرّم :
( في كلّ عام ../ يحدث أن أفتّش / عن ياسمينة في الثلج / ولأنّني لا أجد أبي / أرسم على الجدار عصا طويلة / أعلّق عليها شارة الحداد / وكما في كلّ أيلول / أطلق الرصاص على الجدار / وأغرق في بكاء عميق / أستيقظ وقدماي غارقتان في بركة الدم . ص17 – 18 )
لا أظن أن مداليل الياسمين والثلج خافية على أحد , الأمر الذي يسهّل علينا الوصول الفهم الذي يمكن استخلاصه من النص السابق لمعنى الأبوّة أولاً والذكورة ثانياً , حيث يتقابل المعنيان على أرضيّة التّضاد الإلغائي , بتجسيد الأبوّة للنقاء والطهر , فيما الذكورة تجسيد للخيانة والخذلان والهيمنة واللامبالاة :
( عارية في وجه الريح / وأبي ! / معلّق على ذهولي / لعشرين عاماً / اعدّ خطواتي السوداء / تهرول نحو الحافّة / وروحي تتأرجح / فزّاعة على خريف / يبعث القشعريرة واليتم . ص26 ) .
إن المقطع السابق يقدّم , إضافة إلى أشياء كثيرة , ذاتاً تستقي وجودها من اجترار الفقد كإجراء احترازي منه , وروحاً يفتتها اليتم بغياب السند .
والطبيعي أن تتأرجح مثل هذه الذات , التي تستمد وجودها من اعتراف الآخر بها وقبوله لها , بين مرارة اليتم وظلم الأحبّة :
( أولئك الذين صفّقوا لي طويلاً../ تعبوا من التلويح , وهم ينتظرون كي أغادر . ص29 ) .
أن يشعر المرء أنّه متروك أو سقط متاع ثمّ يمضي باحثاً عمّن تركه ومتمسكاً بمن أسقطه , فهذا لا يشير إلى خلل في الشعرية , على العكس تماماً , فقد يكون امتلاك الأدوات مقنعاً إلى هذا الحد أو ذاك , إنّما يشير إلى وهم في التجربة , وفجاجة في امتلاك الذات لوعيها وحضورها :
( الذين أورثوني رائحة الضجيج / ... / الذين تأبطوا ذراعي وذهبوا إلى النهر /.../ سرقوا لون خمري / وعبأوا سلالهم فرحاً / باعوا خدر المياه / وأشعلوا فوانيس الضجر في حجرتي / أولئك وغيرهم / كسروا مرايا حديقتي / لم يكترثوا لأزهاري المبللة . ص 40 – 41 ) . لو أن التحديد استمر في هذا المقطع لقبلنا به نشيد خذلان وخيبة موجعين , ولتعاطفنا بكلّ صدق مع حالة القهر التي تعيشها الشاعرة , أي ببساطة , لكنّا تأثرنا بالعدوى واقتربنا من جحيم الترك . غير أن ما تشير إليه جملة ( أولئك وغيرهم ) تعطي انطباعاً بأن الذات الداخلة في تجربة الترك تواجه مؤامرة جماعيّة , الأمر الذي يفقد التجربة خصوصيتها , وبعد الموضوع عن عملية التلقي الشعري إلى مساحات أخرى أرب ما تكون إلى علم النفس السريري .
أخيراً , لابدّ من القول بأن هذه القراءة لم تشر , بالمقاطع والجمل , إلى اللحظات التي استطاعت فيها الشاعرة أن توحّد بين الإحساس واللغة , وأن تمتعنا بخلق مختلف ومدهش . لقد كان عدم الفصل بين الحالة الشعرية واللقطة الشعرية هو الهدف من ذلك . لأن النقد برأيي ليس تقويماً ووضعاً للنص في الميزان إنما هو إعادة إنتاج أرى فيها العمليّّة الوحيدة التي تحترم النصّ , أي نصّ وتؤكد أهميته .
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟