هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 3197 - 2010 / 11 / 26 - 16:58
المحور:
حقوق الانسان
من المقدمة, الجزء الأول من مقالنا, يمكن استنتاج أن ولادة الإنسان, المطالب بحقوقه وحرياته الأساسية, والمناضل لفرضها, في المنطقة العربية, لن تكون ولادة سهلة ولن تكون قريبة وفي الأفق المنظور, ولن يكون المخاض دون عناء شاق وطويل جدا. فالظروف التي تضافرت على إنسانا الحالي دخلت بعمق في جوانب أساسية من تكوينه منذ ولادته ــ وسيُدخلها هو في تكوين الأجيال القادمة ــ ابتداء بالتربية الأسرية. والتربية المدرسية الموجهة. والتربية الدينية التي كثيرا ما تتخذ صفات التشدد وتفتقد لمبدأ التسامح وقبول الآخر, وتتجه لثقافة التكفير. والعادات والتقاليد. والواقع الاجتماعي بجوانبه الاقتصادية والثقافية (انتشار غير مسبوق للفساد بأنواعه, وللفقر, والجهل, والأمية , والمرض ..), وتسلط الأنظمة السياسية الاستبدادية التي تقوى وتتأصل في ظل هذه الظروف المواتية جدا ــ التي هي نفسها في جزئها الأعظم من إفرازاتها. مناخ وظروف تنُتج الاستبداد, وتمهد الأرض لقيام أنظمته ولاستمرارها. أنظمة تعمل بدورها على إعادة إنتاج الاستبداد وتوسيع وتعميق وتسريع دورته. فالعلاقة هنا جدلية.
وعليه تبدو تلك الأنظمة وكأنها نتيجة طبيعة للسائد, وعندها يتم التسليم بمقولة: كما تكونون يولى عليكم. ويستقر هذا, في الذهن الجمعي, على انه القدر المحتوم, فلا يدعو احد الله لرده وإنما التلطف فيه. وتُحل الأنظمة الاستبدادية نفسها محل الدولة, وتجعل هذه الأخيرة في خدمة مصالحها.
ليس اكتشافا غير مسبوق القول بان الدولة لم تخلق الإنسان, فهو سابق على وجودها, ولم ولن تخلق حقوقه كانسان, فهذه الحقوق أصيلة في طبيعته وتكوينه, غير قابلة للانفصال عنه, وغير قابلة للتصرف بها أو التنازل عنها. وليس للدولة التنكر لها أو انتهاكها أو مخالفتها أو تقييدها, بغير الحالات الاستثنائية التي ينص عليها الدستور, ويحددها صراحة القانون. قيامها بذلك يجعل وجودها نفسه مخالف للهدف الأساسي الذي نشأت من أجله. فتقع عندها أعمالها باطلة وغير مشروعة تستوجب الملاحقة القضائية.
تمثل السلطة السياسية الدولة في الداخل والخارج. لا وجود قانوني لدولة دون سلطة سياسية. النظام السياسي القائم في الدولة هو الذي يعطيها صفتها, فهي ملكية, مطلقة أو دستورية, (هذا إضافة إلى الاستحداث العربي, والإضافات على تصنيفات القانون الدستوري وفقهه للدول: مشيخات , إمارات, سلطنات, جماهيريات, وخلافة يُبشّر على أنها قادمة), أو جمهورية. ــ وللجمهوريات في منطقتنا أنواع تلتقي في كونها شمولية مستبدة, والاستبداد واحد وان تنوعت أشكاله وتسمياته: دكتاتورية, فاشية... ـ .
في دولة القانون والديمقراطية يقوم فصل حقيقي للسلطات: تشريعية وتنفيذية, وقضائية. ويقوم النظام السياسي بها على الاقتراع العام الحر السري, وفقا لأحكام الدستور والقوانين المرعية. فالدستور والقوانين هي التي تجعل من السلطة السياسية مجرد وظيفة, تحدد طرق الوصول إليها, وتداولها, ومهامها, وطرق ممارستها. وذلك تحت الرقابة القضائية, بحيث لا يبقى مجال للتعسف والارتجال وتجاوز السلطات والصلاحيات. (وان حصل فبأدنى الحدود وليس دون ملاحقة قضائية). وليس هذا أيضا اكتشاف غير مسبوق, إنما تذكير لمن ينافح عن دول أخرى شمولية بقوله: ما الفارق, فهذا أيضا حال دولنا وأنظمتنا, ولكن على طريقتنا.
الدولة الشمولية, بأنواعها, حتى ولو أقامت مؤسسات عن طريق الانتخاب وعمدت إلى تقليد وإتباع الآليات المعروفة في الدول الديمقراطية: دستور, فصل للسلطات, أحزاب سياسية... تبقى في حقيقتها مستبدة . لا تغير الشكليات من هذه الصفة في شيء. فهي لا تمثل إرادة المواطنين, ولا يمكنها أن تكون معبرة عن تطلعاتهم وآمالهم. عندها لا يمكن للسلطة السياسية ادعاء المشروعية الحقيقية ولا تُكسبها إياها الأقدمية, كما لا يمكنها, بحكم طبيعتها, إلا أن تتجاوز الصلاحيات التي تحددها دساتيرها الصورية وقوانينها الانتقائية التي تخدم مصالحها الخاصة, وان صب ــ بعد ذلك ــ بعضها في المصلحة العامة فلا يكون إلا بالتبعية.
مثل هذه السلطة لا تعتبر أن من مهامها الأساسية خدمة الإنسان ورفاهيته, والحفاظ على حقوقه وحمايتها فهذا لا يدخل ضمن اهتماماتها.. فـ "إنسانها" مجرد أداة, في كُلّ مُسيّر, لخدمتها وتحقيق رفاهية مسؤوليها, وتمجيدها (وكانّ لسان حالها يقول إنّا خلقناكم لتعبدون). لا تقبل الجدل في مسألة حقها المطلق بالتصرف بالإنسان, وكأنه ملكية خاصة, سواء أكان هذا الجدل مصدره الداخل أم الخارج. معتبرة ذلك حق من حقوقها في السيادة المعترف بها للدول.
بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد سيادة الدولة مبدأ مقدسا ومطلقا في ظل التنظيم الدولي, وقيام التجمعات والاتحادات الإقليمية الاقتصادية والسياسية. فأخذت القوى العظمى الجديدة تتحدث عن سيادة نسبية, صاغها فقهاء القانون الدولي, حتى لا تقف عثرة في وجه "التعاون" الاقتصادي, والانفتاح و"التنمية". وتداخل المصالح و"تكاملها".
كرد على ذلك حرصت الدول الصغيرة, في بداية استقلالها, على التمسك بمبدأ السيادة المطلقة في العلاقات الدولية لتمنع, أو تحد ــ بشعارات براقة ما لبث أن تخلت عن الكثير منها, إن لم يكن كلها ــ من تدخل الدول الكبرى في شؤونها الداخلية. ولكن الواقع اليومي بين ويبين أن هذه الدول لا تحتج بسيادتها إلا في المناسبات الدعائية وللاستهلاك المحلي, وإلا في حالة ما تعتبره مساس بالمصالح الخاصة للسلطة وليس الدولة, وبشكل خاص عندما يتم تذكيرها, من الخارج, بقمع الإنسان وانتهاك حقوقه, واستعمال التعذيب, والإخفاء القسري, والتصفيات الجسدية, ضده كفرد أو مجموعات, وان هناك قوانين دولية ومعاهدات واتفاقات موقع عليها حتى من قبل الدول هذه, عندها تثور الغيرة على السيادة.
مثل هذه الغيرة الكاذبة على سيادة في حقيقتها منقوصة ومعيبة أصلا, تحتج بها كل مرة ترتكب فيها جرائم بحق مواطنيها, وبحرمانهم الدائم من حقوقهم وحرياتهم الأساسية, التي بات يتمتع بها الإنسان في أماكن شاسعة من العالم, وان لم يكن بشكل كاف, فعلى الأقل هناك اعتراف بها, وخوف من المساءلة حين انتهاكها.
وبما أن من المستحيل إحصاء انتهاكات الدول الشمولية لحقوق الإنسان, الحقوق السياسية هنا, يكفي أن نسوق انتهاك حقه ــ "ببجاحة" وصلف ــ في التعبير الصادق عن إرادته في اختيار حكامه وممثليه ونظامه السياسي , كمثال حي, مثال هو موضوع الساعة, لمجرد التوضيح لا التحليل:
حين تريد السلطة الحاكمة ــ وهي تريد دائما ــ تزوير حق مواطنيها في انتخاب المؤسسات أو المسؤولين, أو رأس هذه السلطة, تفرض عليهم أنظمة انتخابية, في ظل قوانين الطوارئ, تهدف في مضمونها وشكلها, لإبقاء النظام السياسي على ما هو عليه ــ مع بعض "الرتوش" هنا وهناك تقتضيها اللعبة السياسية ــ تعمل على انتزاع الأصوات بالترغيب والترهيب والتزوير بأساليبه البدائية أو المتطورة المستحدثة ــ إضافة إلى الشروط المتعلقة بالترشيح والمرشحين ــ, ورفض وجود أية رقابة حيادية قضائية داخلية, أو لجان مراقبة دولية, مكونة من جنسيات متعددة, لضمان النزاهة والمشروعية.
فيما يتعلق بالداخل لا يهمها تقديم أية ذريعة. أما ذريعتها للخارج فهي مسألة السيادة.
تدب الغيرة فجأة على السيادة الوطنية, السيادة الشكلية, فتعلن أنها لا تقبل التدخل فيها أو مساسها, هنا فقط, في الرقابة الحيادية على الانتخابات. السيادة هنا لمواجهة النزاهة. أما سيادتها في اتخاذ القرار, والارتهان كليا للخارج, إلى درجة التبعية المكشوفة, والمساومة على حقوق الدولة في وحدة ترابها ووحدة شعوبها مقابل استمرارية سلطتها, فهذا لا يعيب تلك السيادة ولا يمسها في شيء, ولا ينتقص منها. خاصة إذا ما تم الإخراج بالصيغ "القانونية" معاهدات, واتفاقيات "تعاون مشترك" أو "دفاع مشترك", تهبّ بموجبها الدول أو الدويلات الموقعة عليها لنجدة الدول والقوى العظمى إن هددها خطر نووي والعكس بالعكس!!!. ويجري تبادل المصالح, مصالح القوى العظمى عظيمة بعظم دولها ومطالبها كبيرة بكبرها, مصالح الدول أو الدويلات المتعاقدة صغير بصغرها وبصغر ووضاعة أهدافها: عدم التعرض بسوء لاستمرارية السلطة. السكوت, عرفيا, على كل انتهاكات حقوق الإنسان مهما كانت بشاعتها. اعتباره هذه الانتهاكات مسائل داخلية لا تخص إلا تلك السلطات. ضمان أعادة التوازن للسلطات المتعاونة والمتفهمة في كل مرة يختل فيه التوازن أو يشارف على السقوط. ولتذهب الحماية الدولية لحقوق الإنسان في النصوص والعمل الرسمي للجحيم. وهنا أيضا لا ادعاء باكتشاف غير مسبوق, وإنما كشف بعض التضليل الذي يُقنّع بالمصالح المشتركة والتعاون المشترك القائم على المساواة في السيادة.
في التسعينات من القرن الماضي تم الترويج لمبدأ التدخل droit d’ingérence مقابل سيادة الدولة. أي أنه حسب هذا المبدأ يمكن التدخل في الشؤون الداخلية للدولة دون احترام لمبدأ السيادة. مع أن المادة 2.7 من ميثاق الأمم المتحدة تحرم أي تدخل يمس استقلال الدول الضعيفة. مع استثناء وحيد نصت عليه المادة 7 من الميثاق المذكور يجيز التدخل في حالة تهديد السلم والأمن العالميين. وللحد من إمكانية استغلال هذا الاستثناء من قبل الدول الكبرى, لم يعد هذا التدخل مسموح به (نظريا) إلا إذا كان في إطار الأمم المتحدة وبقرارها أو موافقتها عليه, وتحت عنوان الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. (هذا حسب النصوص).
يبني أنصار مبدأ التدخل مبدأهم على أن المنظمات الدولية, الحكومية وغير الحكومية, تتدخل في إطار إقليم الدولة التي تعاني من أزمات لتقديم المساعدات للضحايا والمنكوبين. هذه المساعدات من طبيعة إنسانية, وليست مشابهة للتدخل المسلح من قبل الدول. مع أن في بعض الحالات يمكن للتدخل المسلح أن يرافق أو يتبع المساعدات الإنسانية.
قانون حق التدخل هذا تم استدعاؤه مرات عديدة في نهاية القرن الماضي, لتبرير التدخلات العسكرية باسم المجتمع الدولي والشرعية الدولية, وبذريعة إغاثة السكان المهددين. ولكن لم يتم استدعاؤه ولو لمرة واحدة لإغاثة سكان الأراضي المحتلة في فلسطين, رغم طلب الفلسطينيين أنفسهم التدخل والحماية, حماية حقوقهم كأفراد وجماعات. حماية من المجازر, حماية حقهم في الحياة, حماية بيوتهم وممتلكاتهم. أليس الفلسطيني حامل في كيانه حقوق إنسان, حقوقا لصيقة به غير قابلة للتصرف بها وتدخل في مجال الحماية الدولية لها, كما تعلن مواثيق حقوق الإنسان؟.
ومع ذلك يبقى التعرض للحماية الدولية لحقوق الإنسان ضرورة, ليس فقط ليعرف القارئ الفارق بين ما هو مكتوب ومسموع ومقرر, وبين الواقع والعمل الدولي والكيل بمكايلين, وإنما كذلك للنضال من اجل الإقرار الدولي بان الحقوق وحمايتها تشمل الإنسان في العالم الثالث , وبشكل خاصة في الجزء العربي منه, الذي تردت أحواله ليصبح وكأنه عام ثالث في العالم الثالث.
يتبع.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟