|
الكومونة والسوفييتات -2
أنور نجم الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3195 - 2010 / 11 / 24 - 08:46
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أسباب ظهور الكومونة:
نتيجة للتَّطور الصِّناعي، وتمركز الوسائل الإنتاجية في أيدي أفراد قلائل في المجتمع، جعل الواقع القائم من كتلة عظمى من المجتمع، كتلة عاملة في حقل العمل، وهذه الكتلة تجد نفسها في تناقض دائم مع هذا الواقع، نظرًا لتحملها كلَّ أعباء الواقع القائم، فما هو هذا الواقع؟
إنَّ تطور القوى الإنتاجية قد وصل إلى درجة بحيث أصبحت قوى هدامة، وفي هذه الصَّيرورة تهلك الطبقة البروليتارية على الدَّوام، فهي تبني العالم لكي يهدم على رأسها كلَّ يوم مرة، فالعمل بالِّنسبة لها ليس سوى عبوديتها، والازدياد في القيم لا يعني سوى الانخفاض في قيمتها، والتَّراكم في الثَّروة لا يعني سوى الازدياد في فقرها، والرَّفاه يزيد من بؤسها، والثَّقافة تزيد من بلاهتها، والتَّطور يزيد من أعباءها، والدَّولة ليست إزاءها سوى قوة قامعة لها ومحتكرة لحريتها. لذلك لا بدَّ لهذه الطَّبقة أن تتخذ موقفًا صريحًا ضد هذه اللاإنسانية التي تتلخص في وجودها هي بالذَّات. وما هو هذا الموقف إنْ لم يكن ثورة ضد هذه الحياة المذلة؟ وما هي هذه الثَّورة إنْ لم تكن إعادة تنظيم الإنتاج والتوزيع من جديد، بحيث يؤدي مباشرة إلى حياة كومونية؟ فتعود إلى البروليتاريا قلب هذه الجماعية البشرية الموهومة التي لا تجمع في ذاتها سوى الذرات المتخاصمة، الذَّرات التي يجمعها فقط جماعية سياسية.
الجماعية السِّياسية:
بعدما دمر تطور القوى الإنتاجية الحياة البدائية للبشر، فحول بالتالي العزلة والتشتت بالترابط الشاملة –التاريخ العمومي، وعوض في الوقت ذاته عن الجماعية الواقعية للبشر -الكومونة- بالجماعية السِّياسية أيضًا، فنشوء تقسيم العمل، وتراكم الثروة، يصاحبه الانتقال إلى جماعية سياسية، فتراكم الثروة في أيدي أفراد قلائل، يفترض التنظيم السياسي للمجتمع -الدولة.
وهكذا، نجد أنَّ استعاضة العزلة بالتَّرابط العمومي، يجري بالضَّبط مع تجريد الإنسان عن نوعه، ثمَّ الاستعاضة عن مصالحه الجماعية بمصلحة وهمية ضمن جماعة سياسية، فانفصال مصلحة الفرد عن مصلحة الجماعة، هو الشَّرط المسبق لتكوين الإنسان السياسي، أي الفرد المنفصل عن الجماعة، وفي الأخير فقد النوع نفسه في جماعة وهمية، وحلَّ الفرد المنفصل محله في جماعية تعبر عن وحدتها في جماعة سياسية - الدَّولة.
وهكذا، نجد أنَّ الدَّولة ليست جهازًا منفصلًا عن المجتمع – ما يسمى البناء الفوقي - بل هي المجتمع ذاته، وبقدر ما هو من غير المعقول أنْ نفصل بين الرأس والجسد، بقدر ما هو غير معقول أنْ نفصل بين الدَّولة وعصبها الاجتماعية، فالدَّولة هي جماعية اقتصادية تتجلى في شكل جماعة سياسية، تكون مصلحة الفرد فيها كفرد، هي الغاية النِّهائية التي يجتمع البشر من أجلها، وينجم عن هذا الواقع، أنَّ الإنسان الذي يكون عضوًا في الدَّولة، يكون تابعًا لقوة ما فوق ارادته، بمعنى ان اتحاد الإنسان في الدَّولة شيء خارج عن إرادة الإنسان نفسه، أي أنَّ الدَّولة توجد كوجود خارجي عن وجود الإنسان –النوع، فضرورة وجود الدَّولة – الجماعة السِّياسية - هي ضرورة وجود انفصال الإنسان عن الإنسان، وعن إنسانيته نفسها أيضاً، فالإنسان في الجماعية السياسية يرضي ذاته، ويحقق فرديته بالآخرين فقط، وذلك هو نفس الصِّراع الطَّبيعي الذي نجده في العالم الحيواني: صراع البقاء!
أساس الدَّولة:
إنَّ مصلحة المجموعة السَّائدة التي تسيطر على مصالح الآخرين في المجتمع، تشكل الأساس الجنيني للدَّولة، وهذه المجموعة مضطرة في الأخير أنْ تعبر عن مصلحتها في مصلحة عامة واحدة، عن طريق ضبط جمهرة من الجماعات الإنتاجية التي تعمل لأجلها، وهذه المصلحة تؤدي بالضَّرورة إلى تأمين القوة التي تقوم بواسطتها بتنظيم المجتمع كيفما تشاء، أما الرَّابطة الاجتماعية التي تجمع كلَّ هذه المتخاصمات هي عنصر اجتماعي، لا يمكن للمجتمع تنظيمه سياسيًا إلاَّ من خلاله، وهذا العنصر هو الحقُّ، فالحقُّ هو الضَّابطة التَّاريخية لكلِّ هذه المتناقضات، ففي الدَّولة تسيطر الملكية الخاصة لأفراد خاصين، فالمجتمع الذي أدخل في جسمه هذا العنصر الاجتماعي، لا يمكن تنظيمه دون منظم جديد للتَّوزيع، وهو الحقُّ. أمَّا الدَّولة، فليست سوى ضمان لحقِّ الجميع، ولأجل الحفاظ على الحقِّ العام، على كلِّ فرد ممارسة حقه الخاص، ومن خلال الحفاظ على حقوقه الفردية الخاصة، يدافع الفرد عن الحقوق الفردية الخاصة لكلِّ الأفراد الآخرين، فالحقُّ هو العنصر العظمى الأساسي في الجماعة السِّياسية، رغم درجة تطورها: العبودية، والإقطاعية، والرَّأسمالية!
"إنَّ حقَّ الملكية هو حق المرء في التَّمتع بثروته والتَّصرف بها (كما يشاء) بدون الاكتراث للبشر الآخرين"وهذه الـ "حقوق لا يمكن أنْ تمارس إلاَّ إذا كان المرء عضوًا في جماعة مشتركة، المشاركة في الجوهر العام، في الحياة السِّياسية المشتركة لحياة الدَّولة، ذاك هو محتواها" (ماركس، المسألة اليهودية).
وهكذا، فالدَّولة ليست اتحادًا اختياريًا بين أفراد المجتمع، بل اتحاد قسري بين أفراد متخاصمين، يمثلون مصالح متخاصمة. والكومونة ظهرت لتمثل الطَّبقة المخضوعة، ومناشدة هذه الطَّبقة في العالم أجمع، لاعادة البشرية إلى اتحادها الطبيعي الاختياري.
ماذا فعلت الكومونة؟
لقد ناشدت الكومونة السكان في فرنسا لتوحيد المجتمع كله في الكومونات الإنتاجية، وإخضاعها للكومونات الإدارية في الأيام الأولى من انطلاق الثورة، فكان الاتحاد الاختياري في الكومونات، هو الهدف الأول والأخير للكومونة، أي للحركة الاجتماعية التي لم تستهدف سوى إعادة تنظيم الإنتاج لمصلحة كلِّ فرد من أفراد المجتمع.
وهكذا، نجد أنَّ ما فعلتها الكومونة هو إعادة إدارة الإنتاج إلى المجتمع نفسه، فالمجتمع هو الذي ينظم أمور الإنتاج لا الإدارة السِّياسية – الدَّولة، فالدَّولة في طبيعتها السياسية جهاز منفصل عن الإنتاج، والأحزاب، والأفراد يتسلطون عليها بصورة متناوبة، ويخضعون بدورهما كلَّ المجتمع لإرادتهم الخاصة، أو إرادة الطُّفيليين الذين لا يمكنهم العيش إلاَّ على ممتلكات الدَّولة، فالحزب بالذات يقوم بمكافئة أعضاءها بالمناصب الرَّابحة، واللصوصية في الأجهزة البرلمانية أو الحكومية، فالرَّابح من الحفاظ على السُّلطة ليس أصحاب رأس المال فحسب، بل تلك الحشرات البيروقراطية التي يتمتعون أيضًا بفائض العمل وأعلى الامتيازات دون أن يساهموا حتى للحظة واحدة في العمل الإنتاجي. أما الكومونة فحولت كلَّ الوظائف السِّياسية للدَّولة، إلى الوظائف الاجتماعية المتعلقة بالفعل بحياة النَّاس العامة، والشؤون اليومية للأمور الاقتصادية للمجتمع لمصلحة كلِّ فرد من أفراده، فالكومونة كما يقول ماركس:
"استأصلت جذور الشَّر الذي يعطي قسمًا كبيرًا من الدَّخل الوطني لتغذية المخلوق العجيب للدَّولة" (كومونة باريس، تعريب فارس غصوب، ص 133). Email: [email protected]
يتبع
#أنور_نجم_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكومونة والسوفييتات -1
-
جاسم محمد كاظم وفؤاد النمري: 3) خرافات جديدة في الاقتصاد الس
...
-
جاسم محمد كاظم وفؤاد النمري: 2) خرافة انهيار الاشتراكية
-
جاسم محمد كاظم وفؤاد النمري: 1) خرافة عودة لينين
-
نظام لينين نظام العمل المأجور: 3- التخطيط الشيوعي للإنتاج
-
نظام لينين نظام العمل المأجور: 2- كيف يجري التوزيع في الإنتا
...
-
نظام لينين نظام العمل المأجور: 1- طبيعة الاقتصاد السُّوفيتي
-
لينين: تراجيديا السوفيتية!
-
نظام لينين نظام تايلوري -2
-
نظام لينين نظام تايلوري -1
-
الاتحاد السوفيتي في ضوء قانون القيمة
-
الاتحاد السوفيتي السابق: كيف نبحث أسباب انهياره؟
-
الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -3
-
الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -2
-
الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -1
-
لينين: عدوا لدودا لثورة الكومونة
-
الديالكتيك الإلهي وقانون حركة المجتمع الحديث
-
ثورية الديالكتيك
-
ماركس وإنجلس في التناقض
-
الديالكتيك والشيوعية
المزيد.....
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|