|
من العداء للغرب (والتمركز حوله) إلى إصلاح العالم
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3192 - 2010 / 11 / 21 - 12:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
سجل العالم تدهورا مؤكدا على مستوى الحريات والعدالة والمساواة والتعاطف الإنساني في العشرية المنقضية من هذا القرن. هذا صحيح بخاصة في بلدان المركز الغربي الطليعية عالميا، وقد ازدادت أنانية ومحافظة في السنوات نفسها. في الوقت نفسه مضت أحوال العالم العربي نحو مزيد من التمزق والتعفن، وتطورت فيه ثلاث اتجاهات من التفكير والحساسية. اتجاه ممانع، معاد بشدة للغرب السياسي وغير ودود حيال الغرب الثقافي، واتجاه محافظ سياسيا وفاقد لأي منزع استقلالي حيال الغرب السياسي، لكنه ممانع ثقافيا بدوره. وهناك تيار ثالث، قد يوصف بأنه حداثوي، يرى الغرب الثقافي مثلا أعلى، ويمتعض من تقد الغرب السياسي. لكن وراء هذا الاستقطاب الحاد الظاهر يشترك الجميع في إنكار العالم والأزمة العالمية. تيار بسبب فرط قوميته ومعاداته الانفعالية للغرب، وتيار لكونه بلا قضية من أي نوع، وتيار أخير بفعل تقليصه العالم إلى الغرب ورفضه النضالي نقد الحداثة. الثلاثة متمركزون بإفراط حول الغرب. التيار الممانع، وهو يضم قوميين عربا وإسلاميين وشيوعيين، ينكر أزمتنا العميقة، أبعادها الثقافية والأخلاقية والروحية بخاصة، أو يرد ما يقره منها إلى مسؤولية الغرب، المحور الأميركي الإسرائيلي على وجه التعيين. وهو ينكر تماما أن لنا أي ضلع في الأزمة العالمية. لن تعتبر الأصولية الإسلامية ولا الاستبداد الفاجر المنتشر في عالمنا مساهمات من قبلنا في رفع منسوب التقهقر في العالم. إما أن لا يعترف بها أصلا، أو تعتبر مجرد ردود فعل على عدوانية غربية متأصلة. تمتنع الممانعة عن إصلاح أحوالنا وعن الدعوة إلى إصلاح العالم. تتستعيض عن الإصلاح بتطوير نزعة عداء مشتطة للغرب، سلبية وعقيمة، وتجعل منها شرطا للوطنية. التيار المحافظ، أو المعتدل حسب تسمية شائعة، كان قزما ثقافيا على الدوام، وعاجزا عن تطور رؤية عامة تخصه، ما جعل اعتداله معدوم الشخصية، أقرب إلى خنوع للأقوى. أما التيار الحداثوي فيقلل كثيرا من أية مسؤولية للغرب عن أوضاع العالم المتأـزمة، ومنها أوضاعنا التي قد تكون بؤرة التأزم العالمي الأشد كثافة. يخشى أن من شأن ذلك أن يضفي النسبية على "المشكلة" المتمثلة في تدهور أوضاعنا (ليست انحطاطا مطلقا)، والنسبية أيضا على "الحل" المتمثل في الحداثة (ليست إكسيرا)، وأن تطال النسبية أيضا هويته وتعريفه لنفسه (ليس مبرأ من أهواء وانحيازات تخصه) ، وأن يطالب بانضباط فكري ونفسي وتاريخي لا يبدو أن عموم دعاته يطيقونه. هذه مواقف غير كافية على حد سواء. "الممانعة" متعايشة جيدا مع الاستبداد السياسي والتعفن الفكري والثقافي في عالمنا، و"الاعتدال" فمتعايش مع الاستبداد العالمي وفاقد للعزيمة، أما الحداثية فمتكيفة مع الحال العالمية التي تمعن في الفساد ومن رأسها، وسيكون غدا قد تأخر الوقت كثيرا على نقدها والاعتراض عليها. ما نفتقر إليه هو إدراج إصلاح أوضاعنا في عملية إصلاح عالمية واسعة، يبدو أنها تزداد إلحاحا. العالم ليس أصلح منا كثيرا. إن عرفناه كغرب فهو كتلة دولية أنانية ومتعجرفة، وعدائية أيضا. وإن عرفناه كنظام دولي فهو أشبه بكثير بنظمنا السياسة منه بالنظم الديمقراطية في دول الغرب ذاتها، أعني أنه نظام استبدادي، تقوده أوليغارشية نافذة، كانت انخفضت عتبة استخدامها للقوة كثيرا بين نهاية الحرب الباردة وسنتين أو ثلاثة خلفنا. ولم ترتفع قليلا إلا بعد أن حطمت بلدانا، ورفعت منسوب الكراهية والتشاؤم في العالم ككل، لدينا وفي الغرب ذاته بخاصة. لا مناص من إصلاح عالمي، يتسع أيضا لإعادة النظر في معايير الصلاح العالمية، أو "المثل الأعلى" بالذات. بما في ذلك الرأسمالية والليبرالية والفردانية والديمقراطية والتكنولوجيا والنموذج الاجتماعي الثقافي الغربي. وفي مجالنا لا مناص مثلا من معالجة جذرية للمشكلة العالمية المتمثلة في إسرائيل، هذا الكيان الذي كان مصدر التهاب مستمر في جسم الإقليم، وفي جسم العالم كله. وفي روحهما أيضا. ولا مناص كذلك من إعادة النظر في نظام الطاقة العالمي في اتجاه يجعل الطاقة والتكنولوجيا معا رصيدين عالميين مشتركين، وينفتح على تكنولوجيات وطاقات بديلة أقل تلويثا وأكثر صداقة للبيئة وأكثر تحررا من هذيان "السيطرة على الطبيعة". لا مناص ثالثا من توفير مناخات أنسب عالميا لمعالجة مشكلات التعصب والعنف الديني، التي أسهم مسلمون أكثر من غيرهم في تغذيتها، لكن التي لا تكف أيضا عن تسفيه الإسلام والمسلمين، في الغرب أكثر من غيره، وعن استسهال إهانتهم واسترخاص حياتهم. ولا مناص أخيرا من مساءلة الرأسمالية وأنماط الحياة الغربية لكونها غير قابلة للتعميم عالميا (لا يتحملها الكوكب)، ما يكفي وحده للحكم بأنها غير شرعية. ليس لأن أحوالنا متدهورة نمتنع عن نقد ومساءلة الغرب، سياسة وثقافة وقيما. هذا منطق تعبئة ونضال، فقير ثقافيا دون أن يكون مثمرا عمليا. وليس لأن الغرب أناني وغير مخلص لما يجاهر به من قيم، ندين القيم ذاتها ونمتنع عن نقد وإصلاح عتادنا الثقافي والأخلاقي والديني. هذا أيضا نضال عقيم، خاسر ثقافيا وفاشل سياسيا. وليس مقبولا أن لا يكون لنا قول في حال عالم نحن منه وهو منا. ولعل أكثر ما يظهر خواء الممانعة والحداثية معا هو استسلامهما للانفعال، الهستيري أحيانا، وتوقفهما معا عن محاولة تقديم شرح عقلاني لأحوالنا، أو الكشف عن معنى محتمل لها. ذو دلالة أن عموم الحداثيين أقرب سياسيا إلى المعتدلين، وأن مخاصمي الغرب يزدادون انغلاقا ثقافيا وقيميا. كانت الحركة القومية العربية والشيوعية، وبصورة مغايرة الإسلامية (لها تاريخ من ممالأة الغرب السياسي)، حركات تغييرية وعدالية. لكنها حكمت على نفسها بالإفلاس بفعل استسلامها المنفعل لكره الغرب والكيد له، الأمر الذي يؤشر على فقدها زمام المبادرة السياسية والفكرية، وعلى تدهور ثقفتها بنفسها. إن حركة تحررية جديدة هي تلك التي تنجح في تجاوز العداء العقيم للغرب، وتحويل الطاقة المهدورة فيه إلى طاقة للتفاهم والإصلاح العالمي. هذا ما من شأنه أن يتيح أيضا تجاوز الاعتدال العقيم بدوره والذي لم يكون بديلا يوما، وكذلك الحداثوية المنفعلة التي يتفاقم طابعها المتشائم والرجعي بقدر ما تمعن أوضاعنا في الانسداد. وما يحتمل أنه ذو معنى في هذه "الثقافة"، أي الاعتراض على أوضاعنا السياسية والثقافية الراهنة والدفاع عن العالمية، يلبى على أحسن وجه، أحسن بكثير مما تستطيعه هي، عبر الانخراط النظري والعملي في تحويل العالم أو إصلاحه.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيران وتركيا وتحولاتهما الامبراطورية
-
حوار هادئ في قضايا راهنة
-
الطائفية كمحصلة لأزمة الهيمنة الوطنية
-
هل من معنى عام لتقييد المظاهر والرموز الدينية في سورية؟
-
من التحرر السياسي إلى الانبعاث الثقافي والأخلاقي
-
تطور معكوس: الطبيعة والماضي يسيطران... والخارج أيضا
-
في شأن -الثمرة المحرمة- وأصول الكلام الصحيح
-
نظرة عامة إلى بعض ملامح الاجتماع السياسي السوري المعاصر
-
هذا التفاوض متهافت، و-عملية السلام- كاذبة
-
التمركز حول الدين في تنويعتين إيديولوجيتين
-
محمد أركون.. منقذا من الضلال!
-
الإصلاح الإسلامي: من -الدين الصلب- إلى -الدين اللين-
-
خسر العلمانيون، وفازت العلمانية!
-
هل المثقفون مسؤولون عن نوعية تلقي أعمالهم؟
-
-النظرية الثقافوية في التاريخ- ووكلاؤها العامون
-
الغيلان الثلاث وأزمة الثقافة العربية: مقالة غير عقلانية
-
ياسين الحاج صالح في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول : الي
...
-
إسرائيل ك-لاعدل- جوهري مستمر
-
الدولة، الدولة أيضا، الدولة دوما
-
في -السياسة الطبيعية- والمشكلات غير السياسية
المزيد.....
-
سقط من الطابق الخامس في روسيا ومصدر يقول -وفاة طبيعية-.. الع
...
-
مصر.. النيابة العامة تقرر رفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرها
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى يستخدمها -حزب الله- لنقل الأ
...
-
كيف يؤثر اسمك على شخصيتك؟
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل حاخام في الإمارات
-
حائزون على نوبل للآداب يطالبون بالإفراج الفوري عن الكاتب بوع
...
-
البرهان يزور سنار ومنظمات دولية تحذر من خطورة الأزمة الإنسان
...
-
أكسيوس: ترامب يوشك أن يصبح المفاوض الرئيسي لحرب غزة
-
مقتل طفلة وإصابة 6 مدنيين بقصف قوات النظام لريف إدلب
-
أصوات من غزة.. الشتاء ينذر بفصل أشد قسوة في المأساة الإنساني
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|