|
2- الدرب الطويل/ 4
محمد علي الشبيبي
الحوار المتمدن-العدد: 3189 - 2010 / 11 / 18 - 16:54
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996) الحاضر والمستقبل في الشهر الرابع من هذا العام 1943 في أوله ولد لي أول ابنة ، أن فرحي بها لعظيم، ومع ذلك ليتها كانت الخاتمة. كانت ثالث مولود لي، سميتها "أحلام" إذ كنا إذ ذاك نعيش بأحلام نحلم بها بانتهاء الحرب وعودة، السلام والرخاء والحريات وتبدل الحياة إلى الأحسن والأفضل. فليس بمقدور موظف صغير مثلي أن ينهض بعبئ عائلة أكثر مما لدي. نحن لاشك مقبلون على متاعب يمكن لمن يفكر أن يتصورها. أسعار مواد العيش سترتفع أكثر وأكثر، ليس هذا فقط، ستشح أو على الأصح ستختفي. منذ مدة نظمت تنظيماً بدائياً بطاقات للحصول على الشاي والسكر، والشائع إن الحكومة تعمل لتنظيم أمور التموين، الرز، الحنطة، القماش، الشاي والسكر. وتبقى مسألة السكن. لعلهم يعتقدون إن هذه مسألة ليست مهمة. هذا البيت الذي أسكنه حالياً، تحولت إليه منذ أكثر من سنه، فقد نشب بيني وبين مالكه نزاع منذ عدة شهور، انه يطلب إخلاء الدار. لاشك انه كأي إنسان يسعى للثراء. لا يعف ولا يتردد إن وجد السبيل إلى ذلك مشروعاً أو غير مشروع. بدل الإيجار كان ثمانمائة فلس، فزدته وصار ديناراً، وهدأ شهرين، ثم عاد يلح بوجوب الإخلاء. ملاكوا الدور كلهم يفكرون برفع بدل الإيجار، ولكن لم يجرأوا لحد الآن على رفعها بشكل قفزة. إنني أبحث عن بيت، فان بيت المالك مجاور لي، وكان لهذا السبب دائماً مصدر قلق وإزعاج لنا. عائلته، زوجه وأطفاله، يتلصصون من شرفة منزلهم على منزلنا دائماً. زوجه تسأل عن كل من يزورنا. يتحرون أثناء زياراتهم المتكررة، بحكم الجوار، لمظهر الدار في الداخل، هذا المسمار لا يصح أن يدق على هذا الجدار؟! أنكم تبذرون باستعمال الماء؟ أرموا ماء الغسيل في الشارع لا في البالوعة!. إلى كثير من أمثال هذه التحرشات. وعدت وأهلي بعد الغروب مرة، فوجدت مدخل المفتاح قد سُدّ بخشبة! وصرح أمام من طلبتهم من وجوه الجيران "لن يُفتح الباب حتى أرمي بأثاثه من السطح إلى الشارع!". حينئذ رفعت الأمر إلى الشرطة. استجابت فأوقفته حتى الصباح، وعندما راجعتهم صباحاً، أرسلوا أثنين من الشرطة والمختار ونجاراً على حسابه لفتح الباب. فصار يصرخ أمام المراجعين والشرطة: "تريدون مساعدة الشيوعية –يقصد الشيوعيين- على سلب بيوتنا وأموالنا؟". انه صائغ وترى الجشع في عينيه، وملامح وجهه، ونبرات صوته. ما الذي ينتظرنا في مستقبل الأيام، لم ندخر من أمسنا شيئاً للحاضر الذي بدأنا نحس بالضائقة فيه، فقد اضطررت لبيع قرطي زوجتي وخاتمها وساعتها، وخمارها! فماذا نصنع غداً؟ إن كل ما حدث ويحدث، الحرب وويلاتها وخراب المدن، سفك الدماء، إزهاق الأرواح، كل ذلك من أجل أن يظل الرأسماليون مسيطرون وممعنين في استغلال الشعوب. وتثور الحروب فيما بينهم ليفرض الأقوى منهم استعماره للشعوب الضعيفة. خيرات بلادي كانت تفيض عن الحاجة. فكانت تصدر الحنطة والشعير إلى البلدان الأخرى. ولكننا اليوم، والجيوش البريطانية ترابط في أنحاء شتى منها، صرنا نأكل الخبز الأسود والرز المخمور التالف. ونلبس أردأ الأقمشة. وزج بخيرة شبابنا الواعي في المعتقلات والسجون. ماذا يهم المسؤولين من أمرهم لو عانى ذووهم، آباؤهم وأمهاتهم ، وزوجاتهم وأطفالهم مرارة الجوع والحرمان. نحن نعاني ما نعاني من قلق وحرمان، و" گرملي" يتجول في قرى العمارة، يقيم له رجال الإقطاع الولائم ببذخ وتبذير، وحفلات الرقص. گرملي هذا أحد الجواسيس البريطانيين بزي عسكري مسؤول. كان يتجول في أنحاء العمارة، فتقام له الحفلات والمآدب، فيرتدي أثناءها الزي العربي "كوفية وعقال" وثوب طويل ذي أردان طويلة، ويقدم لأتباع شيوخ الإقطاع من فلاحين وخدم الخمرة، ويقف بين المحتفلين مع الراقصة ويطلب أن يردد المشاركون بهذه اللازمة، وهي في غاية البذاءة وعذراً لتسجيلها هنا، هو ينشد: "هِلستي لو بَعَدَه؟" ويرد عليه الآخرون: "سَويته لك مسطاحه!". يريد بهذا أن تشيع بين صفوف الفلاحين السفالة وينحدروا عن أخلاقهم التقليدية إلى درك الفحش والاستهتار، فتنعدم فيهم الرجولة والنخوة العربية، ويجد عند هذا من يستغله للتجسس. ويذكر أن في جهة أخرى انكليزي آخر من نمط گرملي يدعى "بركي". الواقع إن أمورنا كلها أصبحت تحت سلطة البريطانيين، المفتشون الإداريون إنكليز، والمشاورون في كل وزارة ودائرة ومقاليد الشؤون العسكرية أيضاً إنكليز. لا بأس، هذا كله من أجل أن يدحر الحلفاء أخطر عدو للبشرية جمعاء، النازية. الغول الأشد شراسة ونهماً. ولكن هل تنتهي أمورنا إلى خير؟. والتقيت بأخي في بغداد، جرت بيننا أحاديث عن استقرار العائلة برعايته، عن حياته كمعلم، ومتصرف اللواء الوطني المعروف سعد صالح، ومدير معارفه السيد ناجي يوسف، كلاهما من أبناء بلدتنا، وكلاهما من معارفنا. تبسم وقال: "إفهم الأمور حسب المقاييس التي تعرفت عليها حديثاً، وراء الأكمة من وراءها؟!". قلت: "أعرف. أعرف ..." وتطرق إلى شؤون الحركة، وقال: "الحكومة لا تنظم ملاكها فقط، فقد نظمت ملاكنا أيضاً. فقد صادف نقلي إلى العمارة بعد نقل مسؤول تنظيمنا إلى السليمانية". ضحكنا للنكتة الرائعة. نقل أخي إلى العمارة في مركز اللواء، بينما نقل منها الأستاذ نعيم بدوي. وبالطبع أنا لم أستفسر منه عن حقيقة الرجل ومكانه في الحركة فهذا في أصولنا غير صحيح. ثم أستمر يحدثنا عن نشاط الرفاق هناك بين صفوف الفلاحين "الحركة هنا تتسع، والوعي ينتشر بين الفلاحين". هذا طبيعي، فوضع الإقطاع في لوائي العمارة والكوت، واستغلالهم البشع للفلاحين، واستبدادهم بحياتهم بأقصى درجات الاستغلال والاستبداد، يستدعي أن يتنبه الفلاحون من سباتهم. ومع ذلك فليس الأمر على حال يجعلنا نتفاءل تماماً. العبء ثقيل، والمسيرة طويلة وشاقة، وبيد الخصوم كل السلاح. الخبز والمنصب/1 فوجئت برسول من أبي يطلب مواجهتي. وأسرعت، أمرني "أن أسرع بالسفر إلى بغداد لمقابلة أخي بعد أن أتعرف في أي معتقل هو!؟". إن برقية وردت من العمارة، بتأريخ 9/6/1943، باسم أمي "أخذ حسين مخفوراً إلى بغداد". قبل حسين كان داود الصائغ قد أعتقل، لعل جلب أخي مخفوراً له علاقة به. وعلمت من رفيقه حازم انه موجود في موقف شرطة العبخانة. "حازم" الاسم الحركي للشهيد الخالد زكي محمد بسيم عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، وقد أعدم في 14 شباط 1949. في طريقي إليه التقيت بمفوض شرطة "علي الشيخ يوسف" أعرفه، وهو من عائلة نجفية تدعى الوائلي، والده كان من أبرار الروحانيين. أرشدني المفوض إلى كيفية الوصول إليه. نقدت الشرطي الحارس مئة فلس، فسمح لي بالاتصال به من نافذة غرفة الموقف. كانت مظلمة حتى إني لم أتبين فيها أحد غير أخي وشاباً آخر لا أعرفه، وقد دس هذا بيدي ورقة خفيفة جداً، بعد السلام عليه طلب إليّ "أن أسرع بجلب الجواب على ما في الوريقة وبعض الطعام". عدت ثانية إلى زكي محمد بسيم "حازم" حيث يعمل موظفاً في دائرة مشروع إسالة الماء قرب وزارة الدفاع. كنت حاولت قبل الوصول إليه أن أعرف محتوى الوريقة لأخذ حذري، وربما اضطراري لأتلافها. لم تزد على كلمتين: "إفادة داود!" كتبت حروفها بحروق من نار السيجارة. لذا لم أفهم شيئاً إلا بعد أن وضعتها على ورقة بيضاء. وكتب حازم الجواب بوريقة جد خفيفة وجد صغيرة، لفّها لفّاً محكماً. واشتريت من مطعم قريب للمخفر، رز ومرق ونصف دجاجة، ودسست الوريقة ملفوفة بشريط خفيف في الرز. مئة فلس أخرى للشرطي الحارس. قدمت الطعام وهمست في أذنه "دير بالك على الرز لتطشره!" واجهت بعض وجهاء الأقارب ليوصوا بي معاون شرطة التحقيقات الجنائية لأقوم بمعاملة إطلاق سراحه بكفالة. لقيت عناء في مواجهة هذا المعاون رفض أن أكون أنا الكفيل، طلب أن يكون نفس وسيطي إليه. كان وسيطي التاجر الوجيه جعفر الشبيبي، ابن عم أبي وهو شقيق العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي. تركته وعدت إليه بعد قليل، وقلت: "اتصلت تلفونياً بالبيت واُجبت انه نائم، هل ترى أن أستدعيه باسمكم؟". فصرخ بوجهي: "تريد سولي وياه مشكلة؟". ضحكت في نفسي، هذا تدبير لم أعلم بأهميته لديه. أحالني إلى حاكم التحقيق، الموجود في إحدى غرف المديرية. وهو شخصية معروفة "توفيق الفكيكي" كان من رجال القضاء المشهورين وله مؤلفات، عمل مدة في النجف، فكانت له علاقات في الأوساط الدينية والأدبية، وتمت له علاقة مع أبي وأخي وكانت بينهم زيارات. بعد مطالعة الطلب قال لي بلهجة المتألم، وكانت أساريره منقبضة أيضاً "هل واجهته؟". قلت: نعم. وقع على الطلب بالموافقة. وعدت مسرعاً والبهجة تغمرني لأقدم الموافقة على أطلاق سراحه. كان هذا في اليوم التالي لمواجهتي له. لم أستطع البقاء مدة أكثر، وحاولت معرفة أسباب جلبه مخفوراً وتوقيفه. فردّ عليّ "الأحسن ألا تعرف!"، وقال "سأعود إلى العمارة غداً، أبلغ الوالد تحياتي". في نهاية آب 1943 علمت انه أبلغ بالنقل إلى ناحية المشرح ولكنه رفض. واجه مدير المعارف "ناجي يوسف" يعلمه الرفض بإصرار وأسمعه كلاماً لم يتوقعه، ورغم انفعال المدير مما سمعه، فانه أجابه كمعتذر ومنذر بنفس الوقت وأجابه "أنا لا أضحي بخبزتي وخبز أطفالي من أجلك!". خاطبه حسين بلهجة مرة "لا أعتقد انك ترى عائلتي أوطأ من منزلة عائلتك، فتفرض علي أن تعيش في مثل المشرح ولعائلتك أن تعيش في مركز اللواء. أنا أرفض وافعل ما شئت ..." بعد أربعة شهور من صدور أمر النقل، استلمت برقية، يرجو "أن أتوجه لإعادة العائلة إلى النجف". كان هذا في 16/12/1943 حيث أنقطع هو عن الدوام بدون تقديم استقالته، وترك العائلة خلال هذه المدة برعاية أخينا محمد علي، وكان يشتغل في دائرة ري العمارة. وتوجهت بالقطار إلى البصرة لأواصل السفر إلى العمارة. ولاح صديقي "مهدي هاشم" تعرفت عليه أواخر عام 1942. طلب مني أن أدبر له دفتر نفوس شرط أن يكون سن صاحبه لا يزيد على 40-42 سنة، شراءً، أو أية صورة أخرى. لم أتعهد له تعهد جازم، فليس الأمر سهلاً، وليس لي علم تام بحقيقة هذا الشخص رغم علمي بماضيه السياسي. "مهدي هاشم" هو المناضل المعروف، نجفي من أم نجفية وأب هندي الأصل. كان الشائع لدى المعنيين بالشؤون التقدمية في النجف بأنه شيوعي وهو فعلاً كذلك. وقد القي عليه القبض أثناء توجهه إلى "ألشريفيه" ومعه صديقه حميد شيخ باقر من آل كاشف الغطاء ولكنهم يُدعَون "أبو البساتين" والذي شاع عندنا إذ ذاك أن الذي أوشى به هو صديقه هذا. وهذا غير مستبعد ولا مستغرب. فقد عرف حميد بالخسة وسوء السمعة، وفعلاً عمل بعد هذا في سلك الجاسوسية، وقد أشرت إليه دون ذكر أسمه أثناء الحديث عن انقلاب ياسين الهاشمي عام 1935. وقد أسقطت الجنسية عن مهدي هاشم مع من أسقطت عنهم عام 1937 وطرد من العراق. فعاش بين إيران والإتحاد السوفيتي، ثم عاد بتوجيه من حزب تودة وعمل في الأحواز. وطلب الحزب الشيوعي العراقي من حزب تودة إرسال من يعتمد عليه للعمل في شأن معين لأمد محدد. فأرسل حزب تودة مهدي هاشم أواخر عام 1942 على ما أذكر. وبعد مدة من اشتغاله، ظهر انه قد تدخل بشؤون أخرى لا تخص ما أنتدب له. فساءت العلاقة بينه وبين مسؤولي الحزب فكتبوا إلى حزب تودة باستدعائه. وهكذا عاد. ولم يعد للعراق إلا عند ثورة 14 تموز عام 1958. وقد عمل مترجماً في الإذاعة عن الفارسية، ولكنه لم يلتحق بالحزب الشيوعي العراقي. وحين منح عبد الكريم قاسم داود الصائغ حق تأسيس حزب شيوعي عكس ما كان متوقعاً، فقد شاع أن له اليد الطولى في تشجيع داود على ذلك. وداود الشيوعي العريق -غير خفي عليه- إن زعامته تلك لا تدل على ثقة عبد الكريم بشيوعيته بقدر ما تدل على انه أتخذه آلة لشق الحركة الشيوعية وإضعاف الحزب الشيوعي، إذ ليس أهلاً للقيادة من يساوم الحاكمين من أجل حياته، وقد سبق لداود أن تنازل في العهد الملكي عن النضال. وكل من أشترك في الحركة النضالية مع الحزب الشيوعي يعرف هذا. في القرنة حين توقفت السيارة للاستراحة، وجدت أخي وزميلاً له في مقهى، حيث يستريح ركاب السيارات الوافدة من البصرة وإليها. وحدثت أخي عن "الصديق" وما طلب. فأشار إلى زميله "أرأيت؟". وعلمت بعد ذلك إن هذا الصديق قد خرج على جماعته، وعاد إلى مأمنه. يبدو إن أخي صمم على التفرغ لشؤون النضال، وخوض غمرات السياسة. ولكن ظل لفترة بين بغداد والعمارة، حتى وصل أمر فصله من وظيفة التعليم في 12/11/1943، فقد أستقر في بغداد، ولا يزورنا إلا لماماً. بعد نقله قربني المسؤول أكثر من السابق، صار يعتمد عليّ في تبليغ الرفاق بما يلزم أو يجد من التعليمات. وذات مرة قرأت تذكرة صغيرة وردت من مسؤول خط الفرات "ديوانية، حله، كربلاء" فيه استغراب لوجودي واحداً من أربعة في أدارة الشؤون، جاء هذا تعليقاً على أعلام مسبق عن دعوة للحضور إلى بغداد. كان هذا المسؤول هو المحامي داود الصائغ، طبعاً عرفت من ارتباطي به وبآخر من أهالي الديوانية، ولم يصرح هو بهذا. والظاهر إن مسؤول النجف قد رشحني إلى جانبه للحضور، كنت إذ ذاك أحمل أسم "صخر" وأعقبه بعد فترة استدراك، فجاء منه بالذات على ضرورة حضوري مع المسؤول ورفيق آخر، وعني يقول: "ولا بأس بثالثة الأثافي صخر". وأخيراً اكتفى المسؤول بي وحدي للسفر وأعتذر هو، لماذا؟ إلى الآن لست أدري.
* * * * الجو مشحون، فالحرب يتسع ميدانها، وتشتد كوارثها، ويتقارب أعداء النازية –الحلفاء والإتحاد السوفيتي- لذا عقد اجتماع مؤلف من الأقطاب الثلاثة "روزفلت، تشرشل وستالين" للتداول في شؤون هذه الحرب الطاحنة. ألقى روزفلت خطبة، وتشرشل أخرى، وستالين ثالثاً. أشار الأولان إلى دوام الحرب هذا العام لأن العدو مازال قوياً وهو يملك الآن 400 فرقة! وأشار ستالين في خطابه إنها ستنتهي إذا عجلنا بفتح الجبهة الثانية. أعلنت هذه الخطب في 18/11/1943 بمناسبة ثورة أكتوبر. في كل منتدى يلتقي فيه اثنان أو أكثر يكون الحديث عن هذه التكهنات، ويتساءلون صحيح إن الحرب تنتهي إذا فتحت الجبهة الثانية؟ فالعدو أصبح منهوكاً لا حول له على الحرب في جبهات متعددة، وإذا فتحت هذه الجبهة تكون هذه السنة بداية النهاية، وليس النهاية. جيوش هتلر البربرية ترمي بكل ثقلها في الميدان الأهم –بلاد السوفيت- الحلفاء في حقيقة الأمر، يودون الانتظار حتى يقضى هذان العملاقان أحدهما على الآخر. وفرنسا ترزح تحت كابوس الاحتلال النازي. والمقاومة السرية فيها تشتد ضراوة، ولن يخفف من وطأة هذا الاحتلال غير فتح الجبهة الثانية. لقد أعلن ستالين حل الكومنترن، فحدثت في العالم ضجة تساؤل عن هذا الحدث. فيه كثير من الهمز والغمز حول مهمات الكومنترن بعضهم يقول، انه رشوة يقدمها ستالين للحلفاء، ويعقبون إن هذا خيانة لشيوعيي البلدان المرتبطين بهذه المنظمة؟ من الصدف أن يجيء إليّ صديق، كان مغرماً بستالين وهو يتميز من الغيظ، وصاح بوجهي "آه لو صح الحلم الذي رأيت، يا للعار يا للخيانة إذا تحقق هذا؟!" قلت: "ما الذي حدث؟". أجاب: رأيت في الحلم إن ستالين يصلي في الصحن الحيدري خلف إمام الجماعة الشيخ جعفر البدري وعن بعد رأيت صالح شمسه ينظر إلي باسماً، ثم ناداني وقال "أنظر، هذا هو المثل الذي تقتدون به. أنظر خلف من يصلي، ومتى عرف الصلاة؟". ضحكت لانفعاله، انه حلم. ثم قلت: "الصلاة تعني السلام والطمأنينة على قلوب المؤمنين. أفي هذا شك؟". - ولماذا خلف هذا بالذات، وكلنا يعرف انه العدو الأكبر لحركة المشروطة؟ والنصير المتحمس لخصوم الشيخ الخراساني، ووسيط الإنكليز ضد ثورة النجف السيد كاظم اليزدي. - قل ما تشاء ربما معناه انه يرمز للحلفاء وقد تقاربوا لمساعدة السوفيت". كان هذا قبل أن يلتقي القادة الثلاثة! ماذا يفعل ستالين من أجل السلام إذا كان الحلفاء يخشون هذه المنظمة "الكومنترن"؟ فعل ستالين هذا، من أجل توحيد الجهود لدحر العدو المشترك. فهو الضمانة المطمأنة لهم. وهذا لن يضر وحدة الشيوعيين عالمياً. وفي يوم 26/11/1943 أصدرت الوزارة عندنا تعليمات بالسيطرة على الأقمشة القطنية والقهوة والسكر والشاي. لابد إن هذه المواد ستصيبها الشحة، وهي حاجة الغالبية، ولم تشمل الأقمشة الحريرية والصوفية، لأنها حصة الذين يستطيعون شرائها بما تستحق. الناس راحوا يستبشرون خيراً. روزفلت خطب في 25/12/1943 معلناً فتح الجبهة الثانية، وعين أيزنهاور قائداً لها. ستحرر فرنسا حتماً من الاحتلال النازي. فديغول مع الجبهة الثانية، والمقاومة السرية من داخلها، وقد حشد لها الشيوعيون ما استطاعوا، ولمقاومتهم وشدة بأسهم وأساليبهم في المقاومة صدىً، يتغنى به أحرار العالم. لقد وقف أحد رجال المقاومة، الطاعن في السن، على كرسي المشنقة، وقد جمع البرابرة المحتلون كثيراً من الفرنسيين ليشاهدوا الإعدام، يريدون بهذا إرهابهم وإخافتهم. ولكن هذا الشيخ الشجاع، وقد جاوز من العمر السبعين عاماً ويدعى"فرنان غرينيه"، كان يهتف بالجماهير: لا تخافوا، قاوموا الغزاة! فلو عدت للحياة مرة ثانية لم أفعل إلا ما فعلت!. أنا واثق إن ميزان الحرب سيتغير، وستبدأ نهاية الغزاة، ستنتهي الحرب، فهل سيحل السلام، وهل يشمل الأرض كلها؟
المثقفون والمبادئ نحن المثقفين هل نقوى على السير قدماً والى النهاية، دون انحراف؟ أيمكن أن نعمل دائماً بدون غرور ومع نكران ذات!؟ أعتقد إن هذا أمر صعب للغاية. وخصوصاً في مثل الهدف الذي يعمل من أجله الشيوعيون. فالفكرة الاشتراكية تقرر إن الاشتراكية هي هدف ومصلحة الطبقة العاملة، التي أنصب عليها غضب الطبقة الرأسمالية والاستعمار، ولاشك إن للطبقة الرأسمالية مفكريها ومثقفيها، الذين يخططون لها، ويفلسفون أمر وجودها. ولها أيضاً مؤسساتها وجمعياتها ووسائل أعلامها من صحف ودور سينما وغيرها. وهي إلى ذلك لا تبخل بالمال من أجل نشر ما تصدره من كتب ومجلات وجرائد، وطبع الأفلام التي تستهوي الملايين بينما هي سمّ قاتل، ومدمر للأخلاق والتقاليد، ومثير لغريزة الجنس إلى حد التفسخ، وتحويل لطاقات الإنسان عن الأعمال الخيرة إلى تفنن في أساليب الأجرام في القتل والنهب. صحيح إن أية فكرة لا تستغني عن المثقفين، ولكن أي مثقف لن يكون مخلصاً في عمله إذا لم يندمج بالفكرة، وبالطبقة التي تكون تلك الفكرة ضوءها الكشاف في طريقها الشائك البعيد، والذي تخيم عليه سحب الريب والشكوك التي يُثيرها فلاسفة الطبقات المستغلة، ويصبها أدباؤها في قصص تبدو وكأنها ترثي للإنسانية التي طبعت على الظلم والأطماع من يوم نفي أبو البشرية آدم من الجنة. كما يقول الشاعر: "أبوكم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنــان" الطبقات الرأسمالية، والإقطاعية وسائر الرتب التي هي أقرب إليها في مطامح الكسب والاستغلال وان كانت تتأرجح أحياناً، وأحياناً كثيرة تقلد الرأسمالية في أساليب حياتها وأفانين حيّلها في الاستئثار بخيرات الحياة، وتشيع شتى أساليب التخدير للفئات الكادحة المعدمة. المتنعمون المحتكرون هم من يؤيدهم، هم الذين أشاعوا أو ابتكروا فلسفة الرهبنة، والدروشة، والزهد وما ينتظر الزهاد، والعازفين بدلاً عن لذائذ هذه الحياة، من نعيم في -جنة الخلد- ويصرفون أنظار هؤلاء عن أولئك الذين ما نعموا إلا بكدح هؤلاء. بأن لهم الجنة، بما صبروا، ولأولئك النار خالدين فيها. من أروع ما قرأت في معنى الزهد كلمة للإمام علي "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء". لقد أصيب الحزب بهزات عنيفة. السبب انحرافات بعض أعضائه البارزين، ذنون أيوب، وعبد الله مسعود ألقريني، ثم داود الصائغ ، وكلهم سلّوا سيوفهم وحملوا معاولهم لا على الاستعمار، ولا الطبقات المستغلة، وإنما على الحزب. كل ذلك لأنهم يطمحون أن يستقلوا بقيادة الحزب. ولا غرابة، فهم مثقفون وليسوا بكادحين، والمثقف حين لم يكن من الجياع أو المهدد بالجوع، يكون مترفعاً. أن تكون قيادة الحزب الذي ينضم إلى صفوفه بيد كادح تعلم من حياة الكادحين نظرية وأساليب الكفاح. إنها أنانية المثقف البرجوازي! لداود الصائغ كلمة رائعة هي "إذا رضي عني عدوي، عليّ أن أعيد النظر بسيرتي". وبانشقاقه أصدر جريدة باسم العمل لسان حال حزبه الذي سماه "رابطة الشيوعيين العراقيين" صدر العدد الأول منها في 1/11/1944. وكان هو الذي أكتشف عبد الله مسعود ألقريني بعد انشقاق ذنون أيوب "قادر" عام 1941. أما ذنون فقد كان انشقاقه أن هيأ أربعة ممن كانوا في التنظيم ، وتظاهر انه وسيط يحمل مقترحاتهم الأربعة وهي: "1- على الحزب أن يدعو لمؤتمر ويسن النظام الداخلي والمنهاج. 2- عليه أن يوضح ويعلن رأيه في الدين؟ 3- أن يوضح رأيه في المرأة! 4- يجب أن يكون سكرتير الحزب مسلماً لا مسيحياً لأن أكثرية العراقيين مسلمين". لهذا قام فهد وجماعته بإصدار جريدة باسم "القاعدة" في كانون الأول 1943. ولداود أعمال ارتجالية يستبد بها منفرداً وبدون مشاورة، وقد سبب غلق مجلة "المثل العليا" إذ نشرت مقالات لم تعرض على "قلم الدعاية الرسمي" وكانت المجلة لشخص غير حزبي، تنشر الممكن للعلن من الآراء التثقيفية، فأغلقت. حين أصدر الحزب صحيفة القاعدة، كتب فهد كثيراً من المقالات حول الكتل الانتهازية. وأشار إنها سوف لن تستمر لأن النضال لم يكن هدفها الأساسي. إنهم يحبون الزعامة أكثر من أي هدف آخر. وان بعضهم ليترفع أن ينظم إلى خلية يترأسها عامل. لم يهدف فهد فيما كتب ضد المنشقين الانتهازيين شخصاً. أبدا، كان يفضح الانتهازية، والأسس التي تبنى عليها، ويكشف عن الجذور التي تدفع إليها، دون التعرض لهم خاصة. هذا بعد نظر رائع لديه. فربما انتبه بعضهم للهوة التي يقع فيها، ويعود إلى صفوف حزبه. قامت الشرطة مرة بحملة تفتيش علم بها الحزب مسبقاً، فأرسل إلى "عبد الله مسعود القريني" ينبهه لأخذ الحذر. وأجاب القريني جواباً بعيد عن اللياقة "ليس في الحقيبة غير فُتات الخبز اليابس؟!". عدة مرات ذهبت إلى بغداد. لم أجد أخي حسين. كان اتصالي بعد داود بالرفيق حازم. ولقد اسرّ أخي إليّ انه سيكون بعيداً عنا، سيعبر الحدود، وقد تطول إقامته هناك. كان ما أسرّه إلي على أثر استقالته من التعليم. والغريب أن تذكري المفاجئ له كان بعد انشقاق داود!. وأدركني الحنين إليه فجأة، وبدون تفكير سابق، تصاعدت زفراتي وتراءت لي الحدود التي قال عنها، تصورتها صحارى شاسعة، مترامية الأطراف، وتمثل لي شبحه بقدّه الأهيف النحيل، يقطعه بخطواته العريضة، واحسرتاه عليك يا حبيبي. هل سأراك ثانية؟ لماذا تصورت الأمر هكذا، ونقشت الصورة على هذه الكيفية؟ لست أدري. ربما غلبت عزيمته التي اعرف إنها اندماج متناه بعقيدته، فتصورته لهذا يقطع المسافات راجلاً. لعل الدنيا بخير. نائب الوصي على العرش "الأمير زيد" خطب في 1/12/1943، يعد بعودة الحياة الديمقراطية. فتأهب نخبة من الشباب بطلب تأسيس حزب باسم "حزب الشعب". هم كل من المحامي توفيق منير، المحامي يحيى قاسم، عبد الرحيم شريف، عبد الأمير أبو تراب. ولكن الطلب لم يجب. وراحت القاعدة تساند الطلب وتحث المواطنين على تأييدهم. لقد أستمر هؤلاء الشباب بمطالبتهم. ووصل إلينا نسخة من النظام الداخلي والمنهاج للحزب المذكور. فرحنا ننسخ عليه صوراً، ونتدارسه ونبشر به. والليالي من الزمان حبالى، كالحات يلدن كل عجيب، وكل آتٍ كما يقولون قريب. يتبــــــــــع
ألناشر محمد علي الشبيبي
#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
2- الدرب الطويل/ 3
-
2- الدرب الطويل/ 2
-
2- الدرب الطويل/ 1
-
خطأ في موقعي الشخصي
-
1- معلم في القرية/ 22
-
1-معلم في القرية/ 21
-
1- معلم في القرية/ 20
-
1- معلم في القرية/ 19
-
الحوار المتمدن تميز وتطور مستمر
-
معلم في القرية/ 18
-
1- معلم في القرية/ 15
-
معلم في القرية/ 17
-
1- معلم في القرية/ 16
-
استفسار واتهام حول القطع الأثرية
-
معلم في القرية/ 14
-
معلم في القرية/ 13
-
معلم في القرية/ 12
-
معلم في القرية/ 11
-
معلم في القرية/ 10
-
معلم في القرية/ 9
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|