|
أزمة المعرفة الجاهلة
جمال علي الحلاق
الحوار المتمدن-العدد: 3187 - 2010 / 11 / 16 - 08:00
المحور:
المجتمع المدني
مواضيع كثيرة تطفو على سطح الرغبة ، وأنا أحاول أن أتصيّد واحداً فقط يمكن أن يكون نافذة لرأي أدلي به الآن ، وبالتأكيد لن يكون تصيّدي إعتباطيّاً ، لأنّ الكتابة - في النهاية - إعتراف صريح ، لكن ليس بالفهم الديني لمفهوم الإعتراف ، الإعتراف هنا لا علاقة له بالذنب ، بل يتّصل إتّصالاً متيناً بالمعنى ، إنّه خلاصة التوصّل والتحقّق ، القيمة التي تؤرشف جدوى وجودي حيّاً ، فالكتابة إعلان موقف في الحياة تجاه حدث ما فيها ، سواء أكانت هذه الكتابة إحتجاجا ضدّ هذا الحدث ، أم تضامنا معه ، ووجودي الشخصي في العالم هو - في النهاية - حدث من أحداث الحياة ، وأراني مُلزماً - بصفتي كائناً لا يُقْصِر ذاته على التفكير فقط ، بل يتّخذ الكتابة أداةً في فهم العالم - أن أواصل كتابتي في الحقول الضيّقة ، التي تخصّني تحديداً ، والتي تمثّل عمق أو ضحالة الطرق التي أسلكها سواء في الفهم ، أو في التعامل مع التفاصيل اليومية لوجودي حيّاً ، من هنا أتحسّس خطورة عملية التوثيق والتدوين لأنّها جزء من الذات ، وليس شيئاً كمالياً .
الكتابة محاولة في انتخاب كلّ ما هو خارج عن الرتابة والروتين ، إنّها إجهار بلا منطقيّة القراءة الجمعيّة لمفهوم ( الأصالة ) مثلاً ، وبالتأكيد فإنّها وفق هذه الرؤية ستقترب كثيراً - إن لم تتطابق معها - لحواراتنا الذاتيّة ، السريّة والنافرة منها بالتحديد .
أعتقد أنّ الشفاهيّة السائدة في مجتمعاتنا العربية - كثقافة إجتماعية - هي في إحدى صورها تملّصاً وانهزاماً جمعيّاً من تحديد الموقف تجاه ما يحيط بنا من أزمات تّتصل جذريّاً بالأعراف والتقاليد والشرائع الدينية هنا وهناك .
بوضوح أكثر دقّة - وفي حالة أنّنا ندرك تماماً ما نقوم به ولسنا منوّمين - تبدو لي عملية عدم التدوين وعدم الأرشفة تنصّلا من المسؤولية ، مسؤولية كوننا كائنات حيّة لا تزال موجودة على قيد الحياة في العالم ، كائنات تتحمل جزءاً كبيراً من معاناة الذين سيأتون من بعدها . نحن ضحايا الأسلاف ، وعلينا أن لا نكون خالقي مأساة أبنائنا القادمين أيضا .
عبر الكتابة أشعر بوجودي الحقيقي ، وبها أيضاً تتجسّد حريّتي ولو بالشكل الذي أطيق ( لا تزال هناك قيود راسخة في الذهن ، يوماً ما سأنجو منها جميعا ، رغم مساحة الحريّة التي أمتلك لكنّني أيضا أنتظر لحظة التعرّي التام إزاء كثافة التلثّم والإنحجاب ) ، الكتابة نوع من القفز ، ليس على المكان فحسب ، بل هي قفز متواصل على الزمان أيضا ، الزمان بدلالة الوعي وطريقة التفكير وزاوية النظر الى العالم من العالم .
الكتابة تجعلني مُشرفاً ، أجلس خارج دائرة الحدث وأراقب جريان الناس والأنهار ، الطبيعة والمجتمع الإنساني ، أرى إنعكاس ظلال البنايات والأحزاب على ما حولها ، وأرى خدعة صعود الشمس وانحرافها السريع نحو المغيب ، الكتابة تجعلني قريبا من الجذر ، وتجعلني قريبا من نمو الساق أيضا ، بل إنّها تمنحني القدرة على التنبؤ بأشكال الأجنّة القادمة ، هل بإمكان الظلّ أن يكون بناية ؟ التنبؤ بقدرة موجة واحدة على تحريك البحر بأكمله ، هل يمكن إمساك البحر من الجهات كلّها ورجّه رجّاً يجعل أسافل الماء أعاليها ؟
نتحرّك داخل أعمار سائلة ، تتسرّب من بين الأصابع مثل أسماك لزجة ، والكتابة تمرين في إزالة اللزوجة ، تمرين في تجميد هذا السيلان الهائل ، وتمرين في تثبيت الأشياء ، إيقافها على أرجلها ، وبالتالي الصعود بها وعليها الى درجات وعي أعلى .
بينما الشفاهية تجعلنا غاطسين في نفس الماء الراكد الى حدّ التماهي والذوبان فيه ، لا كسمك ، بل كأشياء لا هويّة لها ، فنحن لا نختلف قيد أنملة عن الذين كانوا قبلنا بمئات السنين ، الشفاهية لا تعني إتّباع الحشد فقط ، بل التلاشي فيه تماماً ، أن نبدأ من الصفر دائماً ، ولا جدوى من تراكم الخبرات ، التراكم هنا يفقد دلالته التكامليّة ، ليس هناك ما يرسّخ التجارب كوعي مختلف ، على العكس تماماً هناك وأد سريع لكلّ إختلاف ( أقرأ السكوت والصمت إزاء أيّ تجربة جديدة شكلاً من أشكال الوأد ) ، هناك تضامن جمعي مع كلِّ إستنساخ ، وهناك صمت وتكاتف جمعي ضدَّ كلِّ أصل مغاير . ينبغي الخروج على مقولة " حشر مع الناس عيد " ، العيد الحقيقي للفرد حين ينتصب كبرج باستقامة شديدة الى جانب ذاته .
الشفاهيّة - كممارسة ثقافيّة - تنتصب ضدّ خصوصيّة التجربة ، وضدّ إجراءات عملية التغيير ، إنّها بناء هائل قائم على أساسٍ مقدّسٍ هشٍّ جدا ، مقولات خلاصتها أنّ المعرفة كانت هناك قرب الجذر البعيد ، واكتملت هناك أيضا ، وأما نحن فما علينا إلا أن نبرمج حياتنا وفق تلك ( المعرفة العالمة ) التي رأت كلّ شيء ، وعرفت كلّ شيء ، الى درجة أنّنا نعلم كلّ شيء عبرها دون الحاجة الى تعلّم أيّ شيء ! هكذا تتسطّح المفاهيم ويتم تفريغها من كلّ محتوى .
الشفاهية هي الفطرة التي تجعل من وجودنا في الحياة وجوداً فائضاً ، تُفْرِغُ وجودنا من كلّ قيمة ، هكذا يمكن أن نوجد ، ويمكن أن لا نوجد أيضا دون أن يُحْدِثَ ذلك خللاً في حركة التاريخ على صعيد الأفراد أو الجماعات ، بينما عملية التدوين والأرشفة تجعل من وجودنا ضرورة وإضافة ، تمنح حياتنا الجدوى .
قد تتقارب التجارب الحياتية للأفراد ضمن الجماعة الواحدة لكنّها لا تتطابق أبداً ، وعدم تطابقها يشير بوضوح صارخ الى خصوصيّة كلّ فرد داخل الجماعة ، وهذه الخصوصية ، رغم عدم وضوحها أحيانا ، الا أنّها كفيلة بجعلنا - كأفراد - خارجين عن القطيع ، أي أنّ هناك شيء من التحليق المنفرد داخل كلّ منا ، وهذا التحليق المنفرد هو الإضافة التي تتحقّق خارج التحليق الجمعي ، وما أفعله الآن هو قدر الإمكان الكتابة في هذا الحيّز الشخصي جداً ، الذي يخصّني تماماً ، وأُريد له أن يُعرف ، لأنّه يمثّل إضافتي الخاصّة ، ويمثّل التبرير المنطقي لوجودي حيّاً في العالم ، هكذا أتحرّر من السؤال الثقيل : لماذا أنا حيٌّ ؟ والآن ؟
ما نحتاجه كأفراد أن ينتبه كلّ واحد منّا الى تبريره الخاص لوجوده في الحياة ، تمرين في الإنصات لذواتنا بعيداً عن التلقين ، فأنا غير أنت تماما ، ونحن غير المجموع ، لذا سأكون غبيّاً إذا ما حاولتُ من جهتي التطابق معك ، لكنّك أيضاً ستكون من زاوية ما سبباً في جعل خصوصيّتي أكثر توهّجاً حين تمتلك بصمتك الخاصّة ، وحين أحلّق بالقرب منك لكن بقناعات تخصّني ، لأنّها في النهاية قناعات تنتج عن تجربتي الشخصيّة في الحياة ، تنتج عن طريقة فهمي المختلفة للأحداث التي مررت بها والتي سأمرّ بها ، قناعات لها أسئلتها التي لا تقبل إلا بإجابة من داخل تجربتها الخاصّة ، تحترم إجابات الآخرين ، لكنّها لا تلزم نفسها باتّباع أيٍّ منها ، رغم أنّها تشير هنا وهناك الى بعض الإجابات التي تحسّ فيها اقتراباً ولو بسيطاً لتجربتها في الحياة .
أنا لا أرفض الآخر تماماً ، ولا أقبله تماماً ، سيكون هناك دائماً شيء من التعالق الذي يساهم في النهاية بجعل تجربتي الشخصيّة تنمو داخل خصوصيّتها ، وتتكامل ضمن المجرى العام لحركة الإنسان ككلّ - على الأرض - في العالم ، هكذا فقط أتحرّر من المعرفة الجاهلة .
#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من دكتاتورية الفرد الى دكتاتورية المجتمع
-
الصخرة لا تنزل يا كامو / إعتذار متأخّر لبشرى
-
قلق البوصلة ... الى مَنْ ؟ والى أين ؟
-
نزهة القائد العام للحواس
-
إحباط ليس في أوانه
-
بين كلب جياكوميتي وكلب أبي / صفحة من كتاب أصدقائي
-
آني جدّي قرد
-
مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي
-
الى ليلى محمد أقف على رؤوس أصابعي
-
قراءة منحازة لحادثة أحمد عبد الحسين وتداعياتها
-
لا يزال كامل شياع يقود دراجته بإتّزان جميل
-
علاقتي ببيتهوفن - صفحة من كتاب أصدقائي
-
التضامن تمرين في النجاة رسالة الى السيدين جلال الطالباني ونو
...
-
موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا
-
دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
-
رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
-
تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
-
كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
-
كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
-
الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
المزيد.....
-
غرق خيام النازحين على شاطئ دير البلح وخان يونس (فيديو)
-
الأمطار تُغرق خيام آلاف النازحين في قطاع غزة
-
11800 حالة اعتقال في الضفة والقدس منذ 7 أكتوبر الماضي
-
كاميرا العالم توثّق معاناة النازحين بالبقاع مع قدوم فصل الشت
...
-
خبير قانوني إسرائيلي: مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت ستوسع ال
...
-
صحيفة عبرية اعتبرته -فصلاً عنصرياً-.. ماذا يعني إلغاء الاعتق
...
-
أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
-
كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ
...
-
مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
-
ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|