|
انهيار السلطة الثورية : ملاحظات سريعة
مؤيد عبد الستار
الحوار المتمدن-العدد: 957 - 2004 / 9 / 15 - 09:41
المحور:
اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت
يقول الكاتب البولوني الشيوعي يان بياتا في روايته زمن العادلين ، التي كتبها حول الصراع في بولونيا مع منظمة التضامن: اذا اردت كسب الحرب ، فعليك تغيير القائد السيء. قد يكون يان بياتا اختصر بهذه المقولة مشكلة السلطة الثورية بالقائد السيء فقط، ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن من يستطيع أن يقرر من هو القائد السيء ، وكيف يكون القائد سيئا ؟ تنشأ الحركات الثورية في خضم النضال من أجل قضية واضحة الاهداف ، كأن تكون قضية استقلال وطن مثل استقلال الهند، أو تحرير شعب مثل شعب جنوب افريقيا، وهو ما يعرف بالظروف الموضوعية لانبثاق الحركة ، او الثورة .... وفي الشرق الاوسط ، أصبحت قضية الشعب الفلسطيني ، القضية المركزية في نضال شعوب البلدان العربية على مدى نصف قرن ، فانبثقت حركات واحزاب من رحم هذا النضال ، وحكمت حكومات باسم هذه القضية ، وعاشت منظمات على هامشها، واستفادت العديد من التشكيلات السياسية والاجتماعية من مسيرتها. ويلاحظ المراقب، ان أهم حركة تطورت في خضم هذا النضال، واحتلت موقع الصدارة في فلسطين والعالم العربي، هي حركة فتح، التي تطورت من حركة الى منظمة ،ثم الى سلطة ، وكانت في طريقها الى دولة ....!! ترأست منظمة فتح الكفاح السياسي والعسكري الفلسطيني على مدى نصف القرن الماضي حتى أصبحت الممثل الشرعي الوحيد لجميع قوى الشعب الفلسطيني دون منازع. ولكن ما ان استلمت المنظمة المسؤولية ، وانتقلت الى داخل الاراضي الفلسيطينية المحتلة، حتى أخذ نجمها بالافول والانحدار. ولاشك ان العامل الاول المسؤول هو الاحتلال الاسرائيلي الذي لايؤمن بحق الشعب الفلسطيني في العيش على أرضه ، الا ان العوامل الذاتية لها أهميتها ايضا في وصول السلطة الفلسطينية ، واية سلطة ثورية اخرى الى هذه الدرجة من الانحلال ، وهذا الدرك من الفساد. ومن أجل تقليب صفحات هذا الانهيار سنحاول النظر ببعض الاسباب والعوامل التي تقود الى انهيار السلطة الثورية بشكل سريع على أساس أن هذا الانهيار أصبح سمة للعديد من السلطات الثورية مثل سلطة البلاشفة ( الاتحاد السوفيتي ) ، وسلطة ماو تسي تونغ ( الصين) وسلطة كاسترو ( كوبا ) ، وسلطة عبد الكريم قاسم ( العراق ) وسلطة جمال عبد الناصر ( مصر) ، وسلطة بن بلا ( الجزائر ) ... الخ . تعتمد السلطة الثورية في سيرورتها على العناصر المقاتلة الشجاعة التي تثبت جدارة في المعارك التي تخوضها اثناء كفاحها من أجل تحقيق أهدافها الوطنية النبيلة، وفي غمار كفاحها ذاك تتغاضى عن الكثير من الصفات السلبية لعناصرها المقاتلة لحاجتها الماسة اليهم، ولايهمها أن يكون المقاتل مثلا ممن يتناولون المخدرات أو يتجرون بها، أو أن يكون سارقا أو زير نساء أو عدوانيا دمويا ...الخ ويستمر هؤلاء باحاطة أنفسهم ببطانة تساعدهم على تنفيذ مآربهم ، فتتشكل داخل المنظمة الثورية مراكز نفوذ تستطيع التأثير على قيادة المنظمة وتسييرها وفق اهوائها ، وارغامها على السكوت عن تجاوزاتها. وحين تتمكن المنظمة او الثورة من الوصول الى مراكز المسؤولية أو الحكم، بعد احرازها نجاحا ما، ستتلفت حولها محاولة ملء مراكز المسؤولية بافراد تثق بهم من بين اعضائها ، فتجد نفرا من أبنائها الفاسدين لاتستطيع التفريط بهم، وهم الذين كانت تعتمد عليهم فيما مضى في الكفاح و القتال، والذين لايصلحون الان لاستلام مراكز المسؤولية المدنية التي تحتاج أناسا يتمتعون بقسط من النزاهة والاحترام والمقدرة على اتخاذ القرارات خلاف ما اعتادوا عليه ايام الكفاح الثوري ، أو التنظيم السري من عادات وأساليب . وقد يحتل هؤلاء النفر والذين على استعداد لتنفيذ مايطلب منهم، مراكز الصدارة في ادارة المنظمة الثورية لاحقا، أو الحزب الثوري ، لانهم رجال المرحلة، ولامندوحة أمام المنظمة الثورية أو الحزب من استخدامهم، فتعتمد عليهم على أساس مؤقت، وهذا ما نجده في أغلب الثورات التي تأتي بمجلس قيادة مؤقت، وحكومة مؤقتة، ودستور مؤقت، ورئيس مؤقت ... وما يلبث الجميع الدخول في لعبة المؤقت . وكما يصبح الزواج المؤقت بعد مجئ الاطفال، زواجا دائما ، كذلك يصبح الرئيس المؤقت ،دائما، وربما رئيسا الى الابد ، بسبب الرفاق الذين لايستطيع أحد ابعادهم عن مراكزهم التي حصلوا عليها بالشرعية الثورية ، او بالعافية. وتمتاز هذه المرحلة ، أي مرحلة وصول المنظمة الثورية الى السلطة ، بشيوع المحسوبية، والاستحواذ على المناصب دون النظر الى الكفاءة، فتنشأ مراكز فاسدة داخل المنظمة تتمحور حول نماذج تقود المنظمة والسلطة نحو الانحدار. وبسبب هذه العناصر تضطر السلطة الجديدة الى التسامح مع مبادئها ، فتتبنى قرارات تفرضها تلك العناصر الفاسدة وتشير بها هيئات منحازة للمصلحة الخاصة، دون المصلحة العامة للمنظمة أو السلطة أو الشعب ، ولهذا( ولاسباب جوهرية أخرى) كان وقوف سلطة ياسر عرفات الى جانب صدام حسين في حربه ضد الجارة ايران ، رغم مواقف ايران والشعب الايراني المساندة للقضية الفلسطينية. وكذلك وقوفها الى جانب صدام حسين في حربه على الشعب العراقي عامة والشعب الكردي خاصة ، وأسطع مثال هو السكوت على جريمة حلبجة التي ضربت بالاسلحة الكيمياوية . فقد فضلت السلطة الفلسطينية الحصول على مكاسب مادية مرحلية من نظام صدام حسين ، علىحساب قضية الشعب الكردي خاصة والعراقي عامة ،وهذا ماجعلها تقف الى جانبه أيضا في غزوه للكويت . وليس غريبا أن نسمع تصاعد الدعوات في العراق والكويت لترك الشعب الفلسطيني وقضيته أمام الاحتلال لوحده، وتلك هي الخسارة الحقيقية التي سببتها السلطة الفاسدة ، والتي تتمثل في المواقف الخاطئة لقيادة قصيرة النظر. تقوم الحركة الثورية او المنظمة الثورية خلال نضالها الذي قد يكون مريرا و طويلا أحيانا، بانتاج قيادة ميدانية قد تستطيع احراز نصر على الاعداء ، والخصوم الداخليين في المنظمة، أو تتمكن من الاستحواذ على مراكز القوى المتعددة في المنظمة بشتى الاساليب المشروعة وغير المشروعة، ورغم مطالبة المنظمات الثورية ( بالديمقراطية )، نجدها أول الرافضين لها في ممارساتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، رشحت منظمة فتح، أم فلسطينية بسيطة( مع وافر احترامي لها) ، لتنافس رئيس الجبارين عرفات في الانتخابات الرئاسية.فهل هناك حاجة بعد ذلك للخوف على فوز الرئيس . وقل مثل ذلك عن الكثير من الثوريين الذين يفضلون الالتفاف على الديمقراطية باساليب ساذجة تكشف قصر نظر تلك القيادات، مثل لعبة الاستفتاء بدلا من الانتخابات ، او التعيين ، أو تغيير النظام الداخلي او الدستور .... الخ . اضافة الى استمراء اللعب بالممارسة الديمقراطية واحتقارها، تارة لكونها اسلوب غربي، واخرى لانها ليست من الاسلام في شيء ، على أساس ان الشورى هي التي تمثل الديمقراطية الاسلامية، رغم انهم لايريدون اتباعها، ولا يرغبون حتى بالاستفادة منها كاساس وممارسة تاريخية تحتمل التطوير. تبقى هناك عوامل اخرى تساعد على انهيار المنظمة الثورية والقضاء عليها من قبل اعدائها الاساسيين ، مثل القوى المستعمرة ، او القوى الرجعية ، وغالبا مايتم التحالف بين هذه القوى من أجل الاطاحة بالمنظمة الثورية وسلطتها، ويحدث ذلك بسرعة كبيرة اذا كانت قيادة السلطة الثورية مصابة بقصر النظر، او عمى الالوان ، بحيث لاتستطيع التمييز بين أصدقائها وأعدائها وهذا ماحدث لقيادة ثورة الرابع عشر من تموز عام 1963، اذ راحت لقمة سائغة لاعدائها في الوقت الذي كانت تزج فيه بانصارها في غياهب السجون، وتقاتل الشعب الكردي على ذرى جبال كردستان. تعتري المنظمة الثورية نشوة الانتصار اثر حصولها على نصر ما على عدوها الذي قد يكون عدوا منهارا ، او منخورا. ويصاب قادة المنظمة الثورية بالزهو والخيلاء ، وياخذون بالتبختر بالملابس العسكرية والمرقطة ظنا منهم انها زي محبوب ، في الوقت الذي يرفض فيه عامة الناس هذه المظاهر السلطوية. ويأخذ قائد الثورة بالتبختر فوق السجادة الحمراء مقلدا هتلر وموسوليني، حتى يصاب بمرض ادمان المظاهر والخطابات لينسى الجماهير التي كان يعمل من أجلها، والشعب الذي كان يريد تحريره.وقد يستعيض عن المنجزات بالخطب الرنانة والبليغة، حتى يستغرق ذلك منه زهرة العمر ( راجع خطب كاسترو او شافيز على سبيل المثال)، وينسى ان شعبه غارق في الفقر ويرسف في أغلال الامية والفاقة . تصيب الاحزاب الثورية المعارضة للحكومات الرجعية أو الدكتاتورية خلال نضالها السري أمراضا ظاهرة وأخرى باطنة،وتساعد الظروف السرية والقمع المسلط عليها على تساهل جماهيرها بمحاسبتها، وبالمقابل تتشجع الاحزاب السرية على ممارسة الاخطاء ورمي سلاح الديمقراطية في سلة المهملات ،لكونها تواجه حكومات قمعية ، ولكن التمادي في التخلي عن الديمقراطية يخلق لديها عقدة الخوف من الديمقراطية في المستقبل ، فتحرص على سن قوانين وأنظمة داخلية تتحصن بها من أي حساب تخشاه من قواعدها، وترفع راية الخيانة العظمى أمام كل من تسول له نفسه معارضتها أو التفكير بفضح ممارساتها واخطائها مهما كانت تلك المعارضة بسيطة.ولكي تحتاط للامر ، تفسح في المجال أمام الكوادر الوصولية والانتهازية والمصلحية للوصول الى المراكز القيادية، كي تكون سهلة القياد ، ولينة العريكة ، وعندما تنتقد على ذلك يكون الجواب الجاهز هو عدم وجود كادر أفضل ، أو ( هذا الموجود)، أوكما يقول الرئيس عرفات : اللي مايقبل يشرب البحر. وكان حزب البعث في العراق يتذرع بعدم وجود أحد سوى صدام حسين يصلح لقيادة العراق ، وعندما تناقشهم في ذلك يسألونك : حسنا من تراه يصلح أفضل منه لهذا المنصب ؟ويضعون أمامك قائمة تبدأ بعزة الدوري وتنتهي بطه الجزراوي، وتفضل اختار ، وكأن العراق عجز عن أن يلد سوى هؤلاء ( البلشتيه ) . تتميز المرحلة الثورية اليوم بالانحسار، وأهم أسباب انحسارها، الخسائر الفادحة التي سببها انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي . اما السبب الأهم كما أعتقد فهو عجز قوى اليسار في العالم عن تطوير أدواتها، وترهل قياداتها، حتى أصبح العديد من رجالها نسخا شبيهة بالقطط السمان ، فقد رحل غرامشي دون أن يخلف مثقفا عضويا في قيادة حزبه، واستلم قيادة اليسار الثوري طلبة تنقصهم الخبرة ، قادوا الجماهير في شوارع باريس ولندن وروما وحشدوا الرايات في بلدان العالم الثالث، وصعد الى المسرح ابطال شرفاء مغامرون مثل جيفارا ، قدموا حياتهم دون انجازات ميدانية، وتركوا مثالا اثيريا لايمكن الاستفادة منه في معركة شرسة مع الرأسمالية المتعاظمة في اوربا وامريكا، فراح جهدهم ادراج الرياح، وبقيت أسماؤهم خالدة الى جانب أسماء الشهداء العظام أمثال الحسين والحلاج وأبطال كومونة باريس . ومن الامراض التي تصيب القوى الثورية ، مرض الخوف من النقد ، والتطير من الراي المخالف لراي القائد او الرئيس ، والذي يؤدي في غالب الاحيان الى اقصاء اصحاب الراي المخالف، ولذلك تحدث الانشقاقات في المنظمة الثورية بدلا من التكاتف، وفي النهاية تفضل المنظمة الثورية التحالف مع اعدائها الطبقيين بدلا من ان تعيد تجميع اجنحتها المنشقة عنها، بل تذهب احيانا الى التعاون مع حليفها الجديد من اجل القضاء على رفاق الامس ، ويحدث ذلك تحت مبررات واهية ، وتحت شعارات الوطن والشعب ...الخ ومن اسطع الامثلة على ذلك اتفاق اوسلو بين عرفات و رابين ، وعدم اتفاق فتح مع سوريا. وحين اضرب مثلا بالقضية الفلسطينية فلا يعني ذلك انها الوحيدة في هذا الامتياز ، وانما لان هناك العديد من الامثلة الاقل شانا تتساوى مع هذا المثال الصارخ. واخيرا لابد من ان نشير الى ان عصر المنظمة الثورية الكلاسيكية الذي ولد على يد اليسار الثوري قد وصل الى نهايته المنطقية ،وليس بالامكان نفخ الحياة فيها بعد ان اصبح اكبر نصير لها في عداد الماضي، واعني به الاتحاد السوفيتي، لذلك لابد من البحث عن بدائل ثورية جديدة تتيح للطبقات الكادحة، والشعوب الفقيرة، والدول المستعمرة _ بشكل او باخر _ من اخذ زمام المبادرة لتتحرر من قيودها واغلالها.
#مؤيد_عبد_الستار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جريمة الاعتداء على المسيحيين
-
خطيئة مصر في رعاية المجرم صدام حسين
-
نداء الى السيد وزير العدل مالك دوهان الحسن المحترم
-
الشعب الكردي في كردستان تركيا يحقق أولى أمانيه المشروعة
-
الديمقراطية : فاكهة الرافدين المحرمة
-
الموقف من الجرائم والمسؤولية السياسية للقوى الوطنية العراقية
-
الطريق إلى بغداد
-
الخزي والعار لمن يلفق التهم : تضامنوا مع د. كاظم حبيب
-
حول تفجير مقر الحزب الشيوعي : الإرهاب سيف بلا رحمة
-
نداء إلى السيد آية الله السيستاني المحترم
-
مجسم الأشياء الهاربة
-
البحث عن رئيس مهزوم
-
يوسف إدريس ، شهادة في صدام
-
رئيس زائف متسربل بعار الهزيمة
-
موقع متميز يستحق المساندة والتقدير
-
مجلس الحكم العراقي : نحو اطار اكبر وتنظيم أشمل
-
الصحاف في قفص الاتهام
-
البرلمان التركي والقرار الخطأ
-
بغداديات : صدام إلى بلا روسيا
-
العراق لن يصبح جحيما للأبرياء
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
القصور والعجز الذاتي في أحزاب وفصائل اليسار العربي ... دعوة
...
/ غازي الصوراني
-
اليسار – الديمقراطية – العلمانية أو التلازم المستحيل في العا
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|