|
2- الدرب الطويل/ 1
محمد علي الشبيبي
الحوار المتمدن-العدد: 3177 - 2010 / 11 / 6 - 20:30
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
2- الدرب الطويل من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)
مقدمة ألناشر "الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة. كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه). وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير –كما يقول-. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق –ما استطعنا- من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟) جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم). لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم) في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه -عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"- للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية. في أيار/حزيران(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب(1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد*". فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق) وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال. كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي) وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق) خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح) ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك. ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة). ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر). ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟ وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!. في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء. * * * * 1- لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة. *- "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.
ألناشر محمد علي الشبيبي السويد 06/11/2010 [email protected]
2- الدرب الطويل/ 1 بداية الطريق كان لي في الشهر الثالث من إقامتي مع أهلي ما يسليني عن همومي بسبب حرماني من أية بهجة في حياتي العائلية. فقد جد جديد طالما كنت أحلم به. إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟ قبل هذا أرسل أخي "حسين" مقالاً إلى مجلة "المجلة" ثم وصلت إليه تذكرة من هيأة التحرير تستدعيه. عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها. وبعد مدة جلب عدة نسخ من مجلة المجلة، لصاحبها الأديب المعروف "ذو النون أيوب" الذي كنا نعرفه قبل سنين مديراً لثانوية النجف مع نخبة من المدرسين منهم الشهيد كامل قزانجي. ولعل لهما التأثير الأولي في التوجه السياسي والفكري لأخي الشهيد حسين. لم نستطع كبح جماح ما ساورنا من فرح طاغ. وما أشاع في نفسنا من عزم بحيث لم نلتزم السرية التي أكد هو على ضرورة التزامها. لذا أكثرنا من خوض بحوث شتى مع الوالد. كان أكثرها عن السياسة والحرب العالمية. عن العملاق الجديد الذي يتحمل العبئ الأكبر في مدار هذه الحرب. بعد أسبوع من مفاتحته هذه لي سافر ثانية إلى بغداد، ثم عاد يحمل نشرة من عدة وريقات. حين قرأتها ألهبت جوانحي. غيرت هدوئي وسكوني، أطلقت لساني. فقد وجدت جديداً أتحدث به. ولكنه أسرّ إلي "أعطها لمن تثق به، وليعطها هو أيضاً لمن يثق به. خذ منهم مساعدة، ثمن العدد". أخذتها عصر يوم إلى أحد زملائي "عبد الأمير السكافي" في المدرسة. أوصيته بلزوم السرية في أمرها. وأتصل هو ببعض زملائه في مدرسته أيضاً. وعبد الأمير هو صديقي المأسوف على شبابه، كان أول الأمر معلماً في مدرسة السلام الابتدائية. ثم التحق بكلية الطب وواصل دراسته فتخصص بطب الأمراض البولية، وأستشهد مع أخيه بحادث احتراق سيارتهما في بداية عام 1959. زميلي خاب سهمه. فقد أسرّ بالأمر إلى شقيقه. لم يكن يعلم أن شقيقه ممن خدع بزعامة الفوهرر. كان شقيقه "المحامي حسن" رساماً بارعاً. وقد عمل صورة للفوهرر على قطعة صغيرة من القماش كتب تحتها "هتلر زعيم الشباب العالمي" وثبتها تحت ياقة سترته على الصدر. وقد عدل "حسن" من رأيه السابق بعد ثورة 14 تموز. هذا أول الغيث. أتصل شقيقه بخاله، وأشار عليه بضرورة منعي من دخول بيتهم. ولما لم يتدخل خاله بجدية، اضطر لإفهامه بالواقع. يبدو أن البرجوازيين أكثر إدراكا لخطورة الفكرة على مصالحهم. فقد أنذر "حسن" خاله أن لا يسمح لي بزيارتهم، أو أن يطردني هو بصراحة! ولكني واصلت تزويد زميلي بما يرد من نشرات. كنا نتدارسها أحياناً سوية. أما بيتي الذي انتقلت إليه، فقد صار ملتقى من جمعهم أخي. ولست أدري كيف أستطاع وبسرعة، تكوين أكثر من خلية. جلهم من المعلمين. هؤلاء كانوا مثلي مارسوا النضال على غير أساس. ومع كونهم من المعدمين لا أتوقع استمرارهم. فما نقرأه في النشرة، وما يلقيه أخي علينا من محاضرات مخيف يثير الرعب في نفوس القانعين، وطالبي العيش الهادئ، ولو كان عيش الكفاف. كنت أحس هذا في تعليقات بعضهم. حتى النكات والطرف التي يتبادلونها كانت تشير إلى تأرجحهم. ولكني واثق إنهم كانوا مدركين جيداً إن الفكرة هي خلاصة ما اهتدت إليه البشرية من أجل خلاصها وإلى الأبد من كل الويلات التي عانتها خلال مسيرتها في مختلف العصور والمراحل. ولكنهم وا أسفاه لا يطيقون ولا يتحملون مشقة النضال. هذه دوامة جديدة أنستني كل هم كنت أواجهه، حين أعود من المدرسة إلى البيت. فأجد الوجوم مطبق على جو البيت كغيمة سوداء، والوجوه متجهمة. من هو المسيئ الحقيقي يا ترى؟ ما نوع الإساءة؟ لست أدري! ولا أحد يدري! صرت أعود متأخراً إلى البيت. عذري لدى أبي مقبول. كلما سألني عن تأخري. أجيبه "إنها بداية. لابد أن نواصل العمل من أجل تجميع الشباب الناضج". وعكفت على مطالعة ما زُودنا به من كتب ومجلات. ولكن عليّ أن أعترف أن بعض المواضيع كانت عسيرة عليّ. "صارم" كثير الأسفار، قد يسافر أكثر من ثلاث مرات في الشهر الواحد. ذات مرة أستلم من راتبه ديناراً ونصف فقط. ذلك لأنه يضطر أحياناً أن يسافر دون أجازة بالتغيب. صارم هو الاسم الحزبي لأخي حسين الذي عرفته به منذ التحق بركب النضال ولكنا كنا ندعوه "أبو علي". حقاً إننا جازفنا، واندفعنا بنشاط، نتحدث، ونناقش. وأحياناً نتحدى بدون تحفظ! وكأن الهدف الذي نسعى إليه قريب جداً. إنه في الواقع ليس كذلك. إن ما نناضل الآن من أجله، ليس هو الاشتراكية. النضال اليوم وطني بحت، من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، من أجل قضية الأرض للفلاح، من أجل تجميع القوى الوطنية على اختلاف اتجاهاتها على خطة نضال مشترك، ضد العدو المشترك "الاستعمار والاستغلال"، ولكن بسلاح لا يخيب هو النظرية العلمية. الضوء الذي ينير أمامنا الدروب المتشعبة، فنتجنب بفضله التيه والظلال. كم عانت البشرية في تأريخ حياتها منذ القدم. كم عدواً كانت تقاومه. الأمراض الفتاكة، والكوارث الطبيعية من زلازل وصواعق وطوفان وتفجر براكين، وسلطة الأقوياء والمستغلين. كم من الأنبياء أناروا الدروب بدمائهم. وركب البشرية يواصل المسير، وكلما حقق حلماً كان عتاة البشرية وشياطينها ينقضون على ثمار الجهود، وتضيع الدماء، ويضيق الخناق من جديد. ويبدأ صراع جديد. واليوم، في هذا العصر، وقد نمت في العالم الطبقة الأكثر وعياً –الطبقة العاملة-، الطبقة التي في وحدتها ونضالها لا تخسر سوى قيودها، والتحرر من الاستغلال، بفضل نظريتها العلمية. كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!". وملّ العيال من أولئك "الوكلاء" الذين كانوا يرشون به الوعاظ بما يقدمونه لهم من منافع، ليزيدوا من مواعظهم المخدِرة. بدأ هؤلاء "العيال" يرفعون رؤوسهم، بدأ هؤلاء "العيال" يدركون الحقيقة الصائبة. هي رفض أولئك الوكلاء. مرّ شتاء هذا العام شديداً قاسياً. جمدت فيه الأمواه في الأكواز. ووجد كثير من البؤساء قد ماتوا وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. ولم ينلهم من أولئك الوكلاء غير بضعة أذرع من القماش هي الكفن. ومنّ الواعظ متكرماً بترديد الصلاة على أرواحهم، راجين لهم من الله المغفرة!؟. هؤلاء الوكلاء اليوم ، وفي محنة البشرية في هذه الحرب المدمرة في شغل شاغل، يخفون البضائع ليوم قريب يتعسر فيه الاستيراد، حيث سيكتسح الفاشست معظم بلدان أوربا، وسيدنو الخطر من بلدان آسيا. وتسيطر، على كل ما يهم الناس من مواد الغذاء، الحكومات ذات الشأن، من أجل المجهود الحربي، الذي لابد أن يكون للبحار والحرائق منها القسط الأوفى، ويغور قسط آخر في مخازن وكلاء الله الخفية. ذات صباح في هذه الأيام وجدت أحد الوعاظ على المنبر يصرخ بالمستمعين "يصبح واحدكم يسأل عياله –قبل ذكر أسم الله- ماذا تريدون للغداء؟ ماذا نلبس؟ ... ماذا تقولون غداً لنبيكم؟! شُغلنا بالمأكل والملبس!؟". كان يتحمس بالقول، ويضرب على فخذه أسفاً. المستمعون كان ثلة من الفقراء، رجالاً لم يجدوا خيراً من الصحن العلوي ذي الظل الظليل، أنه المنتزه المجاني. هم لا يجدون ما يسمح لهم بجلسة في مقهى، ونساءً لا يدور في صدورهن إلا الهموم الثقيلة. أما السيد الواعظ فان على رأسه عمة سوداء من أغلى القماش، وجبّة واسعة الأكمام من القماش الصوفي الفاخر، أما عباءته فإنها اليوم ذات ثمن عالٍ. وحين عدت إلى البيت ظهراً صادفته يحمل قنينة "شرابت" من عصير البرتقال؟! وينتظره في البيت غداء رائع "الفسنجون" مع رز العنبر. والفسنجون أكلة أرستقراطية فارسية الأصل قوامها، الجوز المبروش -بنعومة عالية- مع دبس الرمان والماء وطبخه مع الدجاج أو البط!. ويزاملني معلم شيخ "حميد خان"، وهو من أصل فارسي من عائلة شهيرة في النجف وكربلاء، كان في الأصل معمماً أيضاً. يراجعه سمسار معروف في المحلات التجارية. أشترى له كميات كبيرة من القماش الأسمر، وحجر الزناد، والفلفل الأسود. هذه مواد مازالت نسبياً رخيصة الثمن ولكنها في الأيام القابلة لها شأن. وأشترى قبل عام ما يقرب من ألف متر مربع في موقع ممتاز من محلة "غازي" بسعر درهم واحد للمتر. انه معلم، فماذا سيعمل التجار الحقيقيون؟
يتبــــــــــع
ألناشر محمد علي الشبيبي
#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطأ في موقعي الشخصي
-
1- معلم في القرية/ 22
-
1-معلم في القرية/ 21
-
1- معلم في القرية/ 20
-
1- معلم في القرية/ 19
-
الحوار المتمدن تميز وتطور مستمر
-
معلم في القرية/ 18
-
1- معلم في القرية/ 15
-
معلم في القرية/ 17
-
1- معلم في القرية/ 16
-
استفسار واتهام حول القطع الأثرية
-
معلم في القرية/ 14
-
معلم في القرية/ 13
-
معلم في القرية/ 12
-
معلم في القرية/ 11
-
معلم في القرية/ 10
-
معلم في القرية/ 9
-
معلم في القرية/ 8
-
معلم في القرية /7
-
معلم في القرية /6
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|