أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - علي الشامي - الصحراء الغربية، عقدة التجزئة في المغرب العربي















المزيد.....



الصحراء الغربية، عقدة التجزئة في المغرب العربي


علي الشامي

الحوار المتمدن-العدد: 3168 - 2010 / 10 / 28 - 09:30
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


مقدمة

لم يعرف المغرب العربي الحديث مشكلة أكثر تعقيدا وخطورة من مشكلة الصحراء الغربية، ولم تدخل حكومات ما بعد الاستقلال في دائرة استنزاف متبادل، منذ حروب التحرير حتى اليوم، كما هي فاعلة لحظة كتابة هذه السطور. الأمر الذي يدفع إلى الظن بأن الاستنزاف نفسه بات هدفا لصراع يشوبه توازن دقيق صعب التجاوز، وبالتالي يصبح، أي الاستنزاف- معادلة سياسية، والصحراء الغربية عقدة مستعصية على الحل، تكمن أهميتها في استمراريتها كذلك، أي كعقدة تلتقي عند أعتابها استحالة الغلبة واستمرارية التوازن.

اعتبارها عقدة لا ينزع عنها مواصفات كونها قضية قائمة بذاتها عند البعض، وخاصة منهم الصحراويين، وإنما يشير إلى كونها مركزا لتراكم مجموعة كبيرة من التناقضات الداخلية والخارجية، التي يستحيل معالجة موضوع الصحراء بشكل نهائي بدون حلّها حلاً جذريا. ففي حين يعتبر الصحراويون المنتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليزاريو) أن موضوع الصحراء يشكل مجرد قضية تحرير وطني للشعب الصحراوي من الاحتلال المغربي، تكتشف مشكلة الصحراء نفسها عن مدى ارتباط أزمة دول المغرب العربي الحديثة بها، ومدى تأثيرها على مجريات الأمور والأحداث في داخل كل دولة وفيما بين هذه الدول جميعها.

فالصحراء الغربية تشكل الامتداد الجنوبي للمغرب، والامتداد الشمالي لموريتانيا، والامتداد الغربي للجزائر، أي أنها نقطة الوصل التي تربط هذه الدول الثلاث ببعضها البعض. مما يعطيها، انطلاقا من موقعها الجغرافي، أهمية خاصة في مشروع وحدة المغرب العربي. أما كيف تتحول الأهمية الوحدوية إلى عقدة في وضعية التجزئة، فإن في ذلك ما يفضح المعادلة التي تجعل من الصحراء الغربية تعبيرا لمشاكل أخرى نتجت أساسا عن قيام الدول المذكورة، وعن سيادة منهج التجزئة في المعالجة الرسمية لكافة المشاكل. ولما كانت حكومات هذه الدول تنمو وسط تناقضات ما بعد الاستقلال، ويترافق استقرارها مع ضرورة تأمين التشريع الإيديولوجي-الجغرافي للشعب الذي تحوّل إلى شعوب، والأرض التي استحالت أراضي، والدولة التي ذابت في دول، فإن همّ الصحراويين، أو الشعب الجديد، ينعقد مع هموم الشعوب المحيطة به والتي لم يسبق قيامها ولادته إلاّ بسنوات قليلة.

إذن، تتحول الصحراء الغربية إلى عقدة التجزئة لحظة انخراطها في معادلة الشعب-الدولة، ولحظة احتوائها لكافة الشروط الجغرافية المنعكسة في حاجة دول المنطقة إلى حدود ثابتة جديدة وطويلة الأمد. وبينما يناقض الماضي الحاضر، وتتحول الصحراء من أرض حاضنة لمشاريع الوحدة في المغرب العربي إلى بؤرة جذب لمشاريع التجزئة، تعكس الحلول المطروحة من قبل كافة الأطراف اتجاهاً جماعياً نحو تركيز وتشريع وضعية التجزئة. لا يغيّر من طبيعة هذا الاتجاه اقتراب الحل المغربي من الماضي التاريخي التجاوز للتقسيم الاستعماري، ولا إلحاح الحل الصحراوي الباحث عن الوحدة المستقبلية من خلاله اشتراطه عبور جسر التجزئة.

كان من الممكن لهذه القضية أن تأخذ مسارا آخر أقل تعقيدا لولا أنها ترتبط بعوامل أخرى لعبت، ولا تزال، دورا هاما في دفع الأحداث نحو المزيد من التعقيد والتأزم. فقد ترافق انفجار أزمة الصحراء الغربية مع ازدياد الحاجة الأمريكية لنقاط تفجير متنوعة تتمكن بواسطتها من عزل منطقة المغرب العربي عن المشرق، وإبعاد هموم هذه المنطقة بحكوماتها وشعوبها عن همّ المشرق الفلسطيني. وليس مصادفة بدء الحرب الأهلية في لبنان لتطويق الانتصارات الفلسطينية والعربية في نفس الفترة التي تصاعد فيها أزمة الصحراء الغربية، كما أنه ليس مجرد مصادفة أن يتزامن التوقيع على اتفاقية سيناء مع التوقيع على اتفاقية مدريد، وكلتاهما اتفاقيتان تتضمنان مواد للتفجير واستمرار للتناقضات وليس حلولا لها.

تلتقي هذه الحاجة مع ازدياد الصراع الدولي للسيطرة على أفريقيا وإعادة ترتيب التوازن الدولي السوفياتي-الأمريكي والأوربي الغربي بعد الاختلال الذي اعتراه بوصول «ماركسي» إلى السلطة في أثيوبيا، وتحول عدة حركات تحرير أفريقية إلى دول صديقة للاتحاد السوفياتي، وبدء الهجوم السوفياتي الاستراتيجي الهادف إلى إحكام السيطرة على الممرات المائية التي تتحكم برحلات النفط العربي والإيراني إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة. مما يدخل قضية الصحراء ودول المغرب العربي في دوامة صراع دولي يتحكم في مصيرها ويخضعها لشروطه: الاستنزاف الطويل الأمد داخل توازن جزائري-مغربي لا تسمح له التوازنات الدولية بالاختلال لمصلحة أحد الطرفين. وبالتالي، انتظار ما ستؤول إليه الأمور على مداخل البحر الأحمر وفي الشرق الأوسط وإيران الخميني والمحيط الهندي والقرن الأفريقي وأفغانستان ويوغسلافيا ما بعد تيتو وكوبا المنحازة وغير المنحازة وهند أنديرا غاندي والانتخابات الأمريكية والمشاريع الأوروبية بقيادة فرنسا وهوية خلفاء بريجنيف...

ضمن هذا السياق تبدو عملية التأريخ مرهونة بمسار الأحداث، بحيث ينفصل، نسبيا، التاريخ عن التطور الحدثي لمستجداته الراهنة، وتصبح الحاجة لمعرفة هذا التاريخ مدخلا لاستيعاب تواصله اللاحق سلبا وإيجابا، وشرطا لا غنى عنه للإلمام بأهم أزمة معاصرة يعيشها المغرب العربي.

وفق أية منهجية ينبغي التعاطي مع الموضوع: وفق نظرية الحق الشرعي للمغرب الأقصى التاريخي أم وفق مقولة حق تقرير المصير للشعب الصحراوي؟ وعلى أية مواقف ينبغي الاعتماد في تفسير التاريخ: على مواقف المغرب الرسمي وأحزابه المتعددة الهويات، على مواقف الجزائر الحديثة العهد، على مواقف موريتانيا المنسجمة مع الظروف الطارئة، على مواقف صحراويي تندوف أم على مواقف صحراويي العيون؟ وانسجاما مع أية وجهة تاريخية ينبغي تقديم المعرفة النظرية: مع الاتجاه التاريخي الوحدوي المكبوت أم مع الاتجاه التقسيمي المستقر بعد سنوات العنف الإمبريالي وجغرافية ما بعد حرية المستعمرات؟...

الانحياز للاتجاه الأول يلمح إلى القبول بوجهة نظر المغربي الرسمي والحزبي، فتقوم وحدة المغرب الأقصى (بدون موريتانيا) وتتأجل وحدة المغرب العربي إلى أجل غير مسمى، مما يفتح ثغرة رئيسية في الاتجاه التاريخي الوحدوي نفسه. الانحياز للاتجاه الثاني يلغي الماضي التاريخي وينظّر للتجزئة، ويتوافق مع هدف القائلين بتقرير المصير وقيام دولة صحراوية ستنظر –أي هذه الدولة- فيما بعد إلى موضوع الوحدة وتأخذه بعين الاعتبار، الأمر الذي يخضع الحقيقة التاريخية لضرورات التكتيك، ويبقى المغرب في وضعية سياسية-جغرافية عمل الاستعمار الغربي على ترسيخها منذ أكثر من قرن، وما زال يحلم باستمرارها.

العملية صعبة ومعقدة، حاولنا تجاوزها بمراجعة موضوعية لهذا الموقف والمنهجيات، مع انحياز حذر للاتجاه الوحدوي التاريخي المتعانق مع وحدة المغرب العربي. ودون أن يغلب الانحياز على الموضوعية-لأنه ليس في الكتابة التاريخية موضوعية بالمطلق تلغي الانحياز- بذلنا جهدا كبيرا للخروج من التمايز الفاصل بين الموقف الذاتي وعملية التأريخ بأقل الخسائر العلمية الممكنة. إذ الهدف من هذا العمل ليس مجرد إعلان موقف سياسي بقدر ما هو مساهمة في كتابة تاريخ قضية يجب أن تصل تفاصيلها إلى كل فرد في العالم العربي، وخاصة في المشرق، بعد سنوات الانقطاع الثقافي.

عندما نصل إلى مادة البحث نفسه، تزداد العملية صعوبة. فالكتابات التفصيلية شبه معدومة، ولم تتكاثر إلا في فترات لاحقة ولأسباب تعبوية-دفاعية. فالأطراف المعنية نفسها، وخاصة في منطقة المغرب العربي، لم تكتب عن الصحراء الغربية بشكل وافٍ يجعل من الممكن وضع الدراسات المتناقضة في مواجهة مع الواقع، خاصة وأن الكتابات المتأخرة تشهد طلاقا ملحوظا مع الماضي التاريخي. وفي حين يغيب التأريخ الجزائري كليا، وتكرّر المنشورات الصحراوية نفسها مع تركيز على نهضة تاريخية بدأت مع ولادة البوليزاريو، تقدّم المساهمات المغربية، الحزبية خاصة، خدمة كبرى للباحث عن تاريخ قضية أهمل أصحابها تأريخها. دون أن يعني ذلك أن هذه المساهمات موضوعية، بل بالعكس تماماً فإنها لا تخرج عن نطاق كونها داخلة في سياق العمل التعبوي اليومي دفاعاً عن قضية يعتبرها أصحابها غير خاضعة للمساومة، لا على صعيد التكتيك السياسي اليومي ولا على صعيد الكتابة التاريخية. ولما كانت المساهمات المذكورة تبتعد إرادياً عن مفاصل المشكلة الرئيسية، فإنها بالتالي لا تعبّر إلاّ عن وجهة نظر أصحابها، وتزيد على البحث العلمي هموماً أخرى.

دفعتنا هذه الأمور إلى تخفيف التحليل والنقاش المنهجي وتغليب منطق العرض الوثائقي لكافة المواقف، بحيث يمكن لكل قارئ أن يقترب من المقارنة والتقويم حسب استنتاجاته وقناعاته الخاصة، وذلك دون أن ندّعي ممارسة حيادية، أو نغيّب حقيقة كوننا قد ساهمنا إلى حدّ ما في إبراز منهج على حساب آخر وإخضاع منطق التجزئة لمصلحة منطق الوحدة.

وسط صعوبات كهذه، لا يمكن الركون إلى الاستنتاجات المستخلصة من الوثائق والمنشورات الرسمية والحزبية، كما لا يمكن اعتبار الأحكام الخاصة نهائية ومطلقة، سيما وأن مواقف الأطراف المعنية تجسد تناقضات دورية في الموقف المبدئي. ما يمكن الإقرار به عملياً وبشكل ثابت هو أن الصحراء الغربية تمثّل عقدة التجزئة، وأنها أداة كشف وتعرية لمجموعة المبدئيات المتمظهرة في مواقف جميع الأطراف. وموريتانيا تعطي المثل الأكثر وضوحا: من مبدأ موريتانية الصحراء في الستينات، إلى مبدأ تقرير المصير في بداية السبعينات، إلى مبدأ تقسيم الصحراء مع المغرب في أواسط السبعينات مرورا بمبدأ تقرير المصير مجدداً للصحراويين، انتهاء بلا علاقة موريتانيا بما يجري حولها، ومشاكلها تكفيها.

لا يخرج عن هذا تحولات الموقف الجزائري، ولا تناقضات الموقف المغربي من موريتانيا سابقاً ومن تيريس الغربية ووادي الذهب لاحقا، ولا انتقالات التجربة الصحراوية نفسها (من مغربية في الخمسينات، إلى وحدوية بخصوصية صحراوية في الستينات، إلى صحراوية صافية مع البوليزاريو) المبدأ الجوهري ليس في «الصحراء» وإنما تحديداً فيما تعنيه الصحراء بالنسبة للجميع. وهنا بالذات ينبغي البحث عن المشكلة والحل.

كنا نود إضفاء تحليل واف، منهجي وإيديولوجي، على تعددية المواقف المذكورة، بيد أننا فضّلنا البدء بتجميع المواقف وعرضها كمقدمة لمناقشتها، وكمساهمة أيضاً في فتح الحوار الجدّي والهادف انطلاقا من مادة محددة نسعى إلى تعميمها وتوسيع رقعة عارفيها، لكي يلتقي الجهد المتواضع مع جهود أخرى، تساعد مجتمعة على بلورة واضحة ومتكاملة، علّها تساعد على انتشال المعاناة الراهنة من ديمومتها السلبية.

تعمدنا في بحثنا تجاوز العمل الكتبي لكي نقترب أكثر من معطيات المشكلة، فاعتمدنا الحوار المباشر والعمل الميداني وتوثيق المواقف، كما رجعنا في ملاحظاتنا إلى أقوال المسؤولين وإلى النشرات الحزبية والرسمية مع اعتماد نسبي على بعض الكتب التي تحدثت مؤخرا عن القضية وخاصة الكتب الصادرة باللغة الفرنسية والتي تجهلها المكتبات العربية بشكل ملحوظ.

ولما كانت مادة الدراسة مستمدة أساسا من وثائق ونصوص رسمية ومراجع متعددة الصياغة، فقد ارتأينا الحفاظ على نصها الحرفي.

وأخيرا، نتوجه بالشكر لكل الذين ساهموا معنا في إنجاز هذا العمل، من مسؤولين مغاربة وجزائريين وصحراويين، حزبيين ورسميين، وجميع الذين ساعدوا بامكاناتهم المتواضعة على إيصال هذا الجهد إلى مبتغاه المنشود.

علي الشامي

الفصل الأول

وعي الذات واستراتيجية الغرب


ملاحظات جغرافية وسياسية

الموقع الجغرافي لشمال أفريقيا أنتج خصوصية تاريخية، سوف تتمحور حولها مجمل التطورات والبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، والتي على أساسها يمكن استيعاب كيفية كون المغرب العربي نقطة جذب لصراعات محلية وعالمية منذ غادر الفينيقيون مدينة صور حتى هذه اللحظة، دون تحديد أو مقدرة على تعيين النهاية. نهاية الصراعات السابقة كانت بداية لصراعات جديدة والترافق الدائم لهذه الصراعات مع التحولات التاريخية كان يفرض منطقه ليس فقط على طبيعة المنتصر بل يطال الدول والإمبراطوريات، نشأتها وانحطاطها، مرورا بمجمل الإنتاج الفكري والحضاري.

من الزاوية الغربية لمدينة وعلى امتداد الشاطئ الحار للمحيط الأطلسي وصولا إلى خط الاستواء ونهر السنغال، ومن الزاوية الشرقية لطنجة وعلى امتداد الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وصولا إلى البحر الأحمر عبر مصر، تمتد الحدود المائية التي تربط المغرب العربي بالسنغال وغينيا ومنها إلى أعمق أفريقيا، وتربطه بمصر وفلسطين ومنها إلى المشرق العربي وعمق آسيا الصغرى، كما تفصله عن أوربا من ناحية المتوسط وعن أمريكا من ناحية الأطلسي، مشكّلة في نفس الوقت الممر المائي شبه الوحيد الذي يربط أوروبا بالمغرب العربي، والذي بواسطته يمكن الوصول إلى أفريقيا كلها وآسيا مرورا بالوطن العربي. كما أن اتصال المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط يتم بعبور منطقة مغربية تمتد من طنجة إلى سبته.

الأهمية البرية للمغرب العربي لا تقل حساسية عن الأهمية البحرية. فالانتقال من شمال أفريقيا إلى جنوبها ووسطها أو منها إلى السودان والحبشة وصولا إلى الصومال والشاطئ العربي للمحيط الهندي، يجعل من الممرات البرية نقاط مواصلات ذات أهمية قصوى للأمن والتجارة على حد سواء. من خلال هذه الممرات يلتقي المغرب العربي من ناحية الشرق بليبيا ومصر، ومن ناحية الجنوب والجنوب الشرقي بمالي والنيجر وتشاد والسودان، وذلك من خلال الصحراء الكبرى التي تربط هذه الدول جميعا بباقي أفريقيا وتوصلها جميعا إلى الحدود البحرية. هذه الحدود الجغرافية أعطت للمغرب العربي الميزة الاستراتيجية الأولى التي تدعمت بميزة أخرى، وهي عقدة طرق المواصلات التجارية، التي، إذا أضيفت للميزة الأولى، تشكل المجال الحاسم والإطار شبه الوحيد الذي يحتوي كل التاريخ المغربي بتعقيداته وصراعاته.

الوطن العربي، أو العقدة المركزية للتجارة العالمية، ليس سوى تجمع العقد الصغيرة لطرق المواصلات وممرات القوافل البرية والسفن البحرية الدائمة التنقل بين أوروبا وأفريقيا وآسيا، والتي تخترق العالم العربي ذهابا وإيابا حاملة البضائع والثقافات، ومساهمة في قيام الإمبراطوريات والحضارات.

الموقع الجغرافي للمغرب العربي جعل منه عقدة أساسية في طرق المواصلات التجارية التي تربط أوروبا بأفريقيا وأفريقيا بآسيا من ناحية أولى، وتربط المناطق الأفريقية ببعضها البعض من ناحية ثانية. السفن البحرية-التجارية المحملة بالفضة والنحاس والقصدير من أسبانيا والبرتغال والجزر المجاورة لا يمكن أن تصل إلى أفريقيا إلا عبر الشمال الأفريقي والصحراء الكبرى، حيث تتشكل مرافئ البحر المتوسط والمحيط الأطلسي المحطات الأساسية للقوافل الأوروبية، التي سوف تنتقل بقوافل برية إلى زبائنها، ومصادر البضائع الأفريقية الأخرى. بالمقابل، فإن الذهب السوداني، والعاج وجلود الفهود والأفاعي والعبيد من أفريقيا الاستوائية والوسطى تصل إلى أوربا عبر نفس الطريق بحركة معاكسة. يضاف إلى كل ذلك البضائع القادمة من الهند والصين وبلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية وآسيا الصغرى وإيران ومصر التي يشترط وصولها إلى أوربا المرور بالمغرب العربي وعبور طرقه البرية والبحرية.

أدت هذه الوضعية إلى قيام مدن-ممرات للقوافل التجارية كانت السيطرة عليها كافية لإسقاط أعتى الإمبراطوريات وأقواها. ومعظم المدن في المغرب العربي تتصف بميزة الممر: تقاطع الطرق البرية أو مرفأ بحري. إن مدينة قرطاجة التي بناها الفينيقيون في تونس عام 1101 قبل الميلاد كانت محطة تجارية لقوافل الشرق قبل أن تكون جسر الحضارة الفينيقية إلى عالم البربر. كذلك مدينة لوكسيس على الشاطئ الأطلسي للمغرب الأقصى. إن السيطرة على سجلماسا، بوابة الصحراء، كانت الخطوة الأولى لمشروع إسقاط إمبراطورية وقيام أخرى: السيطرة على طريق تازا كان يستتبع غالبا قيام السلطة في فاس أو مكناس، والسيطرة على سجلماسا كانت الطريق السالكة إلى سلطان مراكش. والعملية ليست تركم مصادفات، وإنما نتاج طبيعي لعالم يعيش على التبادل السلعي والبضائعي تخضع صيرورة الدول فيه إلى نظام صارم وصراع دائم الاشتعال للدفاع أو للسيطرة على طرق المواصلات وعقدها في الشرق والجنوب.

إن التاريخ القديم للمغرب العربي كان تاريخا دائم التوتر تحكمه قوانين الحرب وصراع الإمبراطوريات الكبرى.على شواطئه وممراته الداخلية كان الفينيقيون والرومان واليونان والفرس والبيزنطيون والعرب المسلمون يتناوبون السيطرة بعد صراعات دامية كانت تطيل عمر أحدهم أو تقضي على الإرث الحضاري لآخر. في قلب هذه المعادلة كان سكان المغرب العربي يخوضون صراعا داخل الصراع، في محاولة لرفض سيطرة الآخرين وصنع تاريخ جاهدوا لتحديد شروطه وأسسه بأنفسهم.

كان وعي الذات يتنامى ويترسخ في وسط نار لا تعرف الانطفاء. تناقض مستمر بين ذات تريد أن تصنع تاريخها و«الآخر» الذي يريد أن يفرض تاريخه: صراع المركزة. الموقع الجغرافي-الاستراتيجي للمغرب العربي وخصوصية كونه عقدة للتجارة وطرق المواصلات استتبع ضرورة قيام سلطة مركزية قادرة على فرض سيطرتها على الممرات والموانئ وتأمين رحلات آمنة لقوافل التجارة. الصراع الدائم كان يدور بين قوى تحاول فرض المركزة من الخارج وسكان يريدون مركزة من الداخل، والتناقض ذو دلالات اقتصادية وثقافية في آن واحد. اقتصادية لحظة تعبيره عن صراع ضد السيطرة الخارجية والنهب والإخضاع، وثقافية لحظة تمسك البربر بتاريخهم وتراثهم ورفضهم العنيد لكل المحاولات «الحضارية» التي كانت تستهدف منح البربر وجودا تقاس شروط استمراره بضرورة استمرار التبعية للآخر.

الفتح العربي لشمال أفريقيا والأهمية التاريخية للإسلام في توحيد سكان وقبائل المغرب العربي غيرت معادلة صراع المركزة. لسنا هنا بصدد تقديم تبريرات للفتح العربي ودخول البربر في الإسلام، وإنما نحاول إبراز حقيقة ثابتة وهي أنه منذ الفتح العربي لغاية الآن، والإسلام يشكل عامل الوحدة الذي استطاع العرب والبربر المسلمون في أفريقيا الشمالية أن يعتمدوا عليه في مواجهة الأطماع والمخططات الأوربية منذ القرون الوسطى. العرب كانوا واعين للأهمية الاستراتيجية لشمال أفريقيا، جغرافيا وتجاريا، أهمية تطال نتائجها المشروع العربي-الإسلامي بأكمله.

الصراع العربي-البربري الذي استمر ما يقارب نصف القرن من 647 إلى 700 م (من 26 إلى 81 هـ) انتهى بأسلمة البربر وبدخول المغرب العربي تحت سلطة الخليفة الواحد، وفي ذلك فائدة للطرفين: العرب استطاعوا تأمين حدودهم في مواجهة أخطار البيزنطيين، والبربر شكلوا مع القبائل العربية قوة قادرة على فرض سيطرتها على مناطقها والدفاع عنها في مواجهة العدو الخارجي المشترك.

ومنذ تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة في تاريخ تلك المنطقة، مرحلة لا تلغي إطلاقا ولا لمرة واحدة الأهمية الاستراتيجية المذكورة آنفا. على العكس تماما، فإنها كانت تثبيتا لهذه الأهمية وتدعيما لها بأسس إيديولوجية وبشرية وعلى المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كافة. إن مصيرا مشتركا كان قد بدأ يشيّد دعائمه في تلك المنطقة. البربري الذي كان يتعامل، ولفترة طويلة، مع العربي بوصفه غريبا ودخيلا، اكتشف أن هذا الأخير يعطيه قوة غير محدودة ويشاركه مصيره ويواجه معه الهجمات الأوربية. والعربي الذي كان يتعامل، ولفترة متأخرة، مع البربري بوصفه فاتحا، اكتشف أن وحدته ومساواته مع هذا الأخير ليست فقط حاجة تكتيكية لحماية الوجود الإسلامي في أسبانيا، بل ضرورة استراتيجية لحماية الأمة العربية-الإسلامية كلها.

الإسلام، قوة التوحيد الأساسية بين العرب والبربر، تدعّمت بحضارة عربية إسلامية مغربية ومشرقية، بمصير مشترك، منتجة بذلك وضعية جديدة غيرت تاريخ تلك المنطقة وأعطته أبعادا سياسية وإيديولوجية سوف تتجندل على أعتابها كل المحاولات الخارجية المستهدفة السيطرة من خلال التجزئة بين عرب وبربر من ناحية وبين قبائل ومناطق كل طرف من ناحية أخرى.

بدأت «الذات» تتلمس طريقها وتثبت قدرتها على بناء نفسها حضاريا وسياسيا، فتقدم نفسها حامية لطرق المواصلات وفارضة شروطها على الغرب، بينما يجتهد هذا الأخير في إثبات هزال هذا المنطق، تارة باللجوء إلى فضل الآخر في صنع التاريخ المحلي لشمال أفريقيا، وطورا بالبحث عن مفارقات وتناقضات الإنتمائيين العربي والبربري لسكان المنطقة، وذلك طبعا ضمن مخطط للسيطرة على المدخل البحري والبربري لأفريقيا وآسيا ووضع اليد على أهم طرق مواصلات التجارة العالمية.

ما يهمنا من كل ذلك الإشارة إلى الموقع الجغرافي للمغرب العربي وأهميته الاستراتيجية سابقا وحاضرا، وإلى مفاصل السياسة الغربية المرتكزة على نفي «الذات» وإلحاقها بالآخر من خلال تجزئة المغرب العربي. «الإشكالية الاستعمارية في جملتها هي المقصود بالرفض، تلك التي ترى في المغرب متفرجا غريبا ولا واعيا على تاريخ يصنع فوق أرضه».(1).


محطات الاتجاه الوحدوي ونشأة الدول

داخل المنطقة التي حاولنا في الصفحات السابقة رسم خطوطها التاريخية تتعايش مجموعة من القبائل، كانت تناقضاتها وعدم قدرتها على توحيد نفسها وفرض سيطرتها عاملا هاما من العوامل التي سهلت دخول الإمبراطوريات القديمة. غلبة منطق العصبية القبيلة كان المانع الأكثر قوة لقيام دولة مركزية واحدة في شمال أفريقيا. وبالتالي فإن عملية التاريخ لمجتمع شمال أفريقيا لا يمكن أن تعطي أحكاما علمية دون الإلمام التفصيلي بتطور البنية القبلية لهذا المجتمع. المهمة صعبة ومعقدة ولكن تجاوزها ينتج تأريخا لا يمكن وصفه إلا بثرثرة سياسية.

إن الحد القاطع الذي يفصل بين حرية القبيلة وتعددية مراكز التقرير السياسية وبين الحاجة الملحّة لتنظيم مركزي يدخل مجموع البنى الاجتماعية في مشروع تأسيس سلطة واحدة فوق المجتمع، تضبطه وترسخ أقداما محلية ثابتة على مفترقات الطرق والمدن الساحلية، كان قد بدأ ينحني أمام اتجاه المركزة. «الموضوعي» كان يفرض احتواء «للذاتي» بحيث تصبح عملية اللامركزية السائدة وحرية القبيلة الرحم الذي ستولد منه مركزية صارمة تخضع القبائل جميعها لسلطة القبيلة الأقوى، دون أن يلغي ذلك البنى الداخلية للمجتمع الأهلي: الانتماء السياسي للفرد والصراع الدائم بين العصبيات القبلية القوية للاستيلاء على السلطة المركزية الواحدة. لكن، كل هذا التطور الانتقالي يستمد أصوله الإيديولوجية والمؤسسية من الإسلام، وتحديدا بعد الفتح العربي لشمال أفريقيا.

النموذج الذي جرى إقراره في الجزيرة العربية سوف يتكرر في المغرب العربي. الإسلام، الذي استطاع أن يحتوي التناقضات القبلية ويلغي التقسيم السياسي ويحرر العرب من هيمنة الفرس والبيزنطيين والأحباش، كان نواة الوحدة لسياسية للقبائل العربية وأساس قيام الدولة العربية المركزية الواحدة. إن استمرار الصراعات القبلية حول السلطة السياسية والغلبة لم يأخذ أبدا منحى استقلاليا للعودة إلى قوانين السياسة ما قبل الإسلامية. أصبح اتجاه الوحدة المركزية والمركزة فوق الرغبات الذاتية، والتطور التاريخي للمشروع الإسلامي كان أقوى بكثير من رغبة سيد قبيلة وعشقه لحرية البداوة التي كان استئصالها، رغم صمودها البطولي، شرطا من شروط تكوّن السلطة الواحدة (الخلافة).

لم يخرج المغرب العربي عن هذه القاعدة. الفتح العربي-الإسلامي الذي كان في بداية الأمر احتلالا لبلاد البربر أصبح فيما بعد وجودا سياسيا يوحّد تناقضاته الإسلام وضرورات الدفاع عن الذات ضد مشاريع الإمبراطوريات المحيطة الدائمة الاستنفار في الجانب الآخر للبحر الأبيض المتوسط. ومنذ بداية القرن التاسع وحتى دخول العثمانيين على شواطئ ليبيا والجزائر كانت القبائل العربية والبربرية تتصارع في شمال أفريقيا في معركة دائمة من أجل السلطة الواحدة. القبيلة لم تعرف حدودا لسيطرتها، ولا تدّعي نهاية لمشروع غلبتها.

الحدود التي تفصل حاليا بين دول المغرب العربي لم تكن، ولا في يوم من الأيام، إشكالية جغرافية أو سياسية تحول دون امتداد سلطة مراكش أو فاس أو تلمسان الخ... والهويّات الثقافية والاجتماعية، الموحّدة إيديولوجيا، لم تتربع في أحضان بُنى «وطنية»، كما أن هذه الأخيرة لم تتعرف على نفسها إلا مؤخرا. وعندما حاولت أن تبحث عن تاريخ تشكّلها الوطني اللاحق، وجدت انقطاعا عن الأصل، فبدأ الوطن بالتاريخ المعاصر، أما الماضي، فإنه لشدة تعقيداته لا يمكن الركون إليه في تفسير ما آلت إليه الأمور بعد قدوم قافلة الغرب.

المهندس الاستعماري هو الذي خطّ الحدود في أجزاء إمبراطورية الموحّدين، والعنف الغربي، العسكري والحضاري، أدخل نظرية الوطن ليخلق الأوطان في مجتمع كانت وحدته الجغرافية والسياسية والإيديولوجية سلاحه الأقوى في مواجهة الغرب.

لسنا بصدد تاريخ لتلك المرحلة، إذ أن ذلك يستلزم عملا آخر هادفا. ما يهمنا هنا هو تقديم بعض الملاحظات المتعلقة بوضعية المغرب العربي منذ الفتح الإسلامي الموحّد إلى التدخل الأوربي المجزّئ.

أولا، إن شمال أفريقيا قبل الفتح العربي كان منطقة صراع دولي من أجل السيطرة على مداخل أفريقيا وعلى الممرات الداخلية لقوافل التجارة العالمية، برا وبحرا. المركزة السياسية كانت شرطا لأمن الحركة التجارية، وعليه، فإن جهود الإمبراطوريات، من فينيقيين على بيزنطيين، كانت تصب كلها في هذا الاتجاه.

ثانيا، الفتح العربي لم يكن شذوذا عن القاعدة. فهو محاولة مركزة من الخارج أصبحت مع الإسلام وحركة التعريب مركزة قوامها وحدة وصمود الداخل ضد تهديدات الخارج «المسيحي»، وفي هذا سر بقاء العرب في شمال افريقيا وخروج «الدخلاء» الآخرين بتعدد هوياتهم.

ثالثا، الحالة الأولى واستمرار الحالة الثانية كانتا تعاملا موحِّدا للشمال الأفريقي. فلم يكن ينظر إليه كوحدات جغرافية مستقلة، ولم يكن الانتماء السياسي انقساميا إلا على مستوى القبيلة. الأرض واحدة، حدود التملك فيها تحددها قدرات القبيلة على الثبات ومجال ترحالها الدائم الحركة في مساحات تمتد من الأطلسي إلى ليبيا عابرة الصحراء وجبال الأطلس أن تصادف شريطا للحدود.

رابعا، إن البنية القبيلة لمجتمع شمال افريقيا سلاح ذو حدين. فهي قد تكون عاملا مساعدا على تبرير واقع التجزئة، وتكون أيضا عاملا مؤسسا لواقع الوحدة والمركزية. الإشكالية يمكن تحليلها من خلال عملية رصد تاريخية لتصادم البنى المحلية والدخيلة. تصادم الذات والآخر الذي كان يستتبع، وفق ميزان القوى، إخضاع الثاني للأول ونمو وعي الأول لذاته. هذا التصادم سوف يساعد التأريخ الاستعماري على أدلجة التجزئة من خلال التطوع باختراع تفريقات وتمايزات حادة ليس بين الذات والآخر وإنما بين قوى الذات نفسها بحيث تكون مهمة «الآخر» ضبط نتائج تناقضات البنية الداخلية لمصلحة الجميع.

إن صمود البنية القبيلة والإعادة الدائمة لإنتاج نفس العلاقات الاجتماعو-سياسية كانت تتم دائما على قاعدة مواجهة الذات للآخر، ووعيها لمصالحها. والانتقال من مستقر جغرافي-مكاني لقبيلة ما، أو إعادة تكرار نمط إنتاج سابق لغزو أجنبي ما، كانت يترافق بحقيقتين تاريخيتين لا يطالهما شك: إعادة إنتاج العلاقات نفسها تجاريا وحربيا، واللجوء إلى القبيلة بوصفه «عودة إلى الذات» في وضع تاريخي محدد، وكالنتيجة والتعبير عن تاريخ محاصر، تعبير متحول إلى مؤسسة، «والذي سيؤدي كرد على جميع المحاصرات اللاحقة. لسنا ندري من أين انطلق التاريخ المغربي، ولكننا نعلم إلى أين لم يستطع الوصول وهذه المسيرة المتوقفة لها اسم هو القبيلة»(2).

والأدلجة الاستعمارية لإستراتيجية التجزئة في المغرب العربي أصبحت الخبر اليومي لعباقرة القوميات المحلية شرعيين ومعارضين، تقدميين ورجعيين، الذين باتوا عاجزين عن رؤية التاريخ بدون نظارات الغرب. الذين أصبحوا لا يعرفون ذاتهم إلا بواسطة الآخر، دون أن يلغي ذلك جهدهم التبريري لإثبات العكس. هذه الألجة قامت وتقوم على تفريقات قاطعة بين العنصر المحلي والعنصر الدخيل لا تلبث أن تتحول إلى تفريقات تطال أسس المجتمع برمته: تفريقا جغرافيا (مدن، أرياف صحراء)، اقتصاديا (تجارة، زراعة، تربية ماشية في البادية)، لغويا (لاتينية، بربرية، عربية)، عريقا (بربر، عرب) وسياسيا (تعددية السلطات القبلية واستقلاليتها عن بعضها البعض). كان سقف هذه الأدلجة منح هذه التفريقات حدودا كخطوة تمهيدية لتحويل القبائل المقيمة داخل الحدود تلك إلى شعوب وبالتالي تشريع تحويل التاريخ المحلي إلى تواريخ.

نحن لا نحاول إلغاء التمايزات داخل الوحدة وإنما الوحدة تطويق التحويل القسري لهذه التمايزات إلى وحدات. النظام القبيل لم يكن مطلقا نظاما صافيا، واضحا ومتجانسا، ولكنه أيضا لم يكن انعكاسا لتعددية أوطان تحكمها قبائل. الوطن كان واحدا، بين جدرانه تتنافس قبائل هدف أقواها وأضخمها الاستبسال في الدفاع عن واحديته.

خامسا، كان ابن خلدون محقا عندما اكتشف القانون الذي ينقل التناقضات القبلية إلى مستوى سياسي، وكان بذلك المؤرخ الذي أكّد إمكانية استمرار التناقضات داخل الوحدة، وحتمية الانتقال في أشكال العمران من البداوة إلى الحضارة، من اللامركزية السياسية إلى السلطة المركزية الواحدة القائمة على غلبة قبلية. الإسلام والفتح العربي كانا حجر الأساس لمرحلة هذا الانتقال.

يقول ابن خلدون: «إن القبيل....لكل واحدة منها التغلب على حوزتها وقومها... وان غلبتها واستتبعتها، التحمت بها أيضا، وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها، وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد، وهكذا دائما حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة: فإن أدركت الدولة في هرمها، ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات، استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها.»(3).

«إن أنصار السلالة الحاكمة، الشعب الذي أقامها والذي يساندها، عليهم أن يتوزعوا فرقا في مختلف الممالك والقلاع التي استولوا عليها. يجب احتلال البلد لأجل التمكن من حمايته ضد العدو، فرض احترام سلطة الحكومة المركزية. ولهذه الفرق من خلال صلاحيتهم، مهمة جباية الضرائب واحتواء المغلوبين... خلال عدد كبير من القبائل، ثمة واحدة أكثر قوة من الأخريات مجتمعة، فتسيطر عليها من اجل توحيدها واحتواء...»(4).

«وصار الملك أجمع لها.... احتلال البلد لأجل التمكن من حمايته ضد العدو، وفرض احترام سلطة الحكومة المركزية... فتسيطر عليها من أجل توحيدها واحتوائها...» السلطة الواحدة، الحماية ضد العدو وتوحيد القبائل عبارات تعني ببساطة أن المغرب العربي منذ الفتح الإسلامي كان واحدا، لا أوطان ولا شعوب، ولحظات انفجار تناقضاته كانت محاولة إعادة فرض وحدته ومركزيته السياسية بشروط أخرى.

كيف يمكن لتاريخ المغرب العربي أن يثبت هذه الحقيقة؟ وكيف لم تؤد نزاعات القبائل وتغيرات السلطة المستمرة إلى قيام «الوطنية» التي يتحدث عهنها «الغربيون» الجدد؟

سنوجز في الرد الذي سيكون تأريخا، عملية مراجعة سريعة لتحولات السلطة في المغرب العربي هدفها الأساسي إبراز عدم الثبات الجغرافي لقوى السلطة باعتبار أن المساحة المطلوبة للغلبة تشمل كل المغرب العربي ولا تخفي حلما للعبور نحو المشرق من بوابة مصر.

الفتح العربي لشمال افريقيا وتدفق القبائل العربية إلى تلك المنطقة ظل يترافق مع مواجهات مستمرة بين قوى المجتمع الجدد. معركة الانتشار الإسلامي التي بدت وكأنها حسما نهائيا مع مطلع العام 700 كانت في الحقيقة مدخلا لصراعات جديدة سوف تؤدي لاحقا إلى قيام سلطات محلية مستقلة عن الخليفة العباسي.

مجموعة عوامل تضافرت لتدفع الأحداث إلى هذه الوجهة. إن بُعد المغرب العربي النسبي عن مركز الخلافة جعل حمايته بواسطة جيوش المركز مهمة مكلفة وصعبة. وبالتالي فان اتجاه السلطة سيصبح ملزما بالاعتماد على قوى تلك المنطقة نفسها في حماية الدولة الإسلامية في المشرق وما وراء البحر الأبيض المتوسط، بحيث تصبح هذه المنطقة العمق والقلاع التي تقف في وجه الغزوات الخارجية القادمة من الغرب (أوروبا) وتصبح منطقة المشرق حصنا في وجه الغزوات القادمة من الشرق (آسيا). اقتسام مهمة الدفاع عن وحدة المشروع الإسلامي خلق نتائج متوافقة في العمق متناقضة في الظاهر. التوافق كان يعني أن وضع المنطقتين قد التحم استراتيجيا، فهزيمة المشرق على يد الصليبيين مثلا كانت تستتبع تهديدا مباشرا للمغرب، كما أن اندحار المغرب تحت وطأة الهجمات الأوروبية القادمة من وراء الأندلس سوف يضع تلقائيا مصر والمشرق تحت نيران مدافع الكاثوليك.

هذا المصير المشترك كان يحث قوى المشرق للتحرك نحو المغرب في كل لحظة كان فيها هذا الأخير يتعرض للخطر، والعكس بالعكس. وضعية كهذه كانت تعزز اتجاه الوحدة بين المشرق والمغرب وتضع مجتمعات الدولة الإسلامية أمام امتحان عسير الدفاع عن الذات وتصليب تماسكها، وخاصة وأن الطرفين كانا يعتبران أن الخطر الخارجي يشكل تهديدا مصيريا لا يمكن مقارنته بأعظم التهديدات التي تنتجها التناقضات الداخلية للمجتمع العربي-الإسلامي في بدايات تشكّله.

ظاهريا، كانت التناقضات الدائرة من ناحية بين المغرب والمشرق كمنطقتي جذب محورية، وبين قوى المجتمع الغربي من ناحية ثانية، تأخذ منحى تكتيكيا أكثر منه استراتيجيا، بمعنى آخر، أن تناقضات النوع الأول كانت قد أصبحت تناقضات داخل مجتمع واحد، وهذا ما يفسرّه الوجود الدائم للإسلام كإيديولوجية التناقض التي لا تنزعها أية إيديولوجية أخرى، وتثبته النتائج السياسية التي لم تأخذ صيغة نسف للوحدة القائمة. بمعنى أن استقلال منطقة عن أخرى كان مرحليا وتكتيكيا في صلب إستراتيجية هدفها إخضاع منطقة لسلطة منطقة أخرى. أما تناقضات النوع الثاني، والتي لم تكن كلها بين قوى مغربية صافية، فإنها كانت نموذجا مصغرا ومحليا للنوع الأول. الصراع الدائم حول السلطة في المغربي العربي بين قبائل مشرقية ومغربية تارة وبين قبائل مغربية تارة أخرى كان يدخل في مشروع توحيدي دائم التوتر وعدم الاستقرار ولكنه ثابت. القبيلة الأقوى تملك هدف إخضاع القبائل الأخرى والسيطرة على السلطة الواحدة. بديهي أن تناقضات كهذه تسمح بتفسير صعوبة استقرار وحدة المغرب العربي، ولكن نتائجها وحركية انتقالها التاريخية وتناقضات صيغها السياسية لا تسمح بتاتا بتحويل مناطق النفوذ المؤقتة إلى حدود ثابتة كمقدمة لتشكل وطن-قبلي-إسلامي في شرق المغرب أو غربه.

ما يزيد في تدعيم هذا الاتجاه، أن الحركات المناوئة للخلافة العباسية لم تكن دائما بقيادة مغربية أصلية، بل أن القوى والفرق السياسية-الإسلامية، التي كان المغرب قاعدة لها ومنطلقها، كانت تضم مشارقة ومغاربة، عربا وبربا، يجمعهم هدف إسقاط السلطة واستبدالها. هذا التشابك، رغم تعقيدات مراحله ونتائجه، كان يربط أكثر فأكثر المشرق العربي بالمغرب العربي مصيريا، كما كان يدفع بقوة المجتمع المغربي نحو التماسك، والأسباب طبعا إستراتيجية، اقتصاديا وسياسيا وفكريا.

إن وعي الذات القومية كان يتبرعم في خضم هذه التناقضات، ويزيد في تصليبه أن هذه الذات كانت مستقرة لقرون طويلة في مواجهة الآخر، «الغرب». كان الخطر الخارجي يدفع بإلحاح نحو تماسك داخلي فكري وسياسي ويرغم الذات على تطوير وعيها لذاتها، حاضرا ومستقبلا. ومنذ تلك اللحظة، ووسط مجتمع تشوبه تناقضات حادة، كانت «الذات» تتوضح وتتفانى في صراع مصيري مع الغرب، في نفس الوقت ستسمح فيه لهذا الغرب بالانتصار عليها وتفتيت قواها.

طيلة القرن الثامن الميلادي كان شمال افريقيا جزءا من الخلافة الأموية التي كان مركزها دمشق. كونه كذلك فإنه قد ارتبط بالمشروع العربي-الإسلامي بشكل يدخله في صلب تناقضات هذا المشروع، دون إهمال التطورات الداخلية للمجتمع المغربي نفسه. أي أن وحدة عربية قد تأسست بين المشرق والمغرب دون إلغاء نهائي لتناقضات كل منهما التاريخية أو المستجدّة. القرن الثامن كان انعكاس تطورات الوضع في المشرق على بنية المغرب العربي السياسية والإسلامية. الجيوش العربية القادمة من منطقة الخلافة حملت معها إلى المغرب إيديولوجيات تبرير صراع العصبيات القرشية حول الخلافة أو صراع العصبية القرشية مع غيرها (الخوارج). (5)

قرن الانتفاضات المحلية (القرن الثامن الميلادي، من 81 إلى 84 هجري) انتهى بصياغة بداية استقلال سياسي متفاوت المراحل بين المجتمع المغربي وقواه السياسية من ناحية ومركز الخلافة العباسية من ناحية ثانية، وخاصة منذ وفاة يزيد بن حاتم حاكم القيروان (170 ه- 787 م).

صراع العصبيات القرشية على السلطة (هاشميون، أمويون، زبيريون) طال المجتمع المغربي وجعله أرضا خصبة لقوى الصراع وخاصة الخوارج وذلك طيلة القرن الثامن وأواخر القرن السابع. بعد سقوط الخلافة الأموية على يد العباسيين عام 750 م، كانت التأثيرات المتبادلة تتجه وجهة أخرى. فمنذ اللحظة التي بدأت فيها العصبيات الهاشمية (عباسيون وعلويون) تتفاقم، كان واضحا أن كليهما يبحث عن منطقة نفوذ كحصن وكمجال لانتشار الدعوة. أدت هزيمة الانتفاضة العلوية، التي قادها شيعة علي بن أبي طالب في المدينة عام 785 م (168 هـ) إلى ضرورة البحث عن ملجأ آخر للمعارضة العلوية. فكانت رحلة إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فرارا من المدينة إلى مصر ومنها إلى المغرب حيث أسّس بداية السلالة العلوية الادريسية في مدينة سبتة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، في عام 860 م. كانت سلطة الأدارسة قد بلغت أوج عظمتها وحولت مدينة فاس إلى مركز سلطة وثقافة، وامتد نفوذها ليشمل معظم المغرب وذلك حتى لحظة انهيارها عام 985 ميلادية. الأدارسة القادمون من المشرق قادوا المغرب منذ ولاية إدريس الأول عام 788 إلى ولاية الحسن عام 922 م في اتجاه معارض للسلطة العباسية، معارضة تهدف إلى استلام السلطة وإزاحة العباسيين لا يغير من طبيعتها حالتا الانكفاء والفشل اللاحقتان.

تأثير المد الشيعي والإدريسي لم تقف عند حدود فاس بل تعدتها إلى تونس التي بدأت تحذو حذوها في الخروج عن السلطة العباسية.

فالخلافات التي أعقبت وفاة يزيد بن حاتم ألزمت هارون الشريد بإرسال إبراهيم بن الأغلب، الذي كان حاكما لمدينة «الزاب»، إلى تونس ليتسلم السلطة فيها ويخفف من نفوذ الأدارسة.

استقلال بني الأغلب عن الخلافة العباسية، في المرحلة الأولى من حكمهم، وتعاطفهم مع الآراء الشيعية وأفكار الأدارسة أوجد حالة من الوفاق أسفرت عن تقوية إمارتهم، تقوية بدأت تعطي ثمارها في الامتداد والتوسع على طول المناطق الساحلية الافريقية والبحر الأبيض المتوسط. أدت هذه التطورات الداخلية إلى شن هجمات متتالية على سواحل ايطاليا وفرنسا وجزر قرصرة وسردينية والتي انتهت بالاستيلاء على جزيرة صقلية وذلك على مدار أكثر من نصف قرت (212-262 هـ، 727-787 م).

الأغالبة، أحفاد إبراهيم الأول، أعادوا ارتباطهم بالخليفة العباسي وظلوا يتعاطون العملة المركزية الصادرة من بغداد، مما حول الآراء الشيعية والادريسية إلى قنوات تمرد أدت إلى إضعاف بنية السلطة المحلية ومهدت لانتصار الفاطميين المعرضين للعباسيين والذين أنهوا سلطتي الأدارسة وبني الأغلب، الذين انهزم آخرهم زياد الله الثالث عام 909 م.

كان مشروع الأدارسة تأسيسا لوحدة مغربية سوف يعمل الفاطميون على توسيعها نحو المشرق معززين بذلك باتجاه الوحدة بين المغرب والمشرق.

دون أن التدخل في كيفية وصول إدريس الأول إلى أوليلي Oulili عام 788 م بعد دعوة وتبشير استمرا أكثر من عشرة أعوام، فإن تاريخ هذه الأسرة يشهد ميلاد هذا النوع. الإمام الإدرسي الأول كان يعمل على تأسيس مركز جديد لسلطة معارضة للعباسيين في نفس الوقت الذي كان ينشر فيه الدعوة الإسلامية. صيغة هذا المشروع دخلت حيز التنفيذ مع إدريس الثاني الذي يعتبر أساس نجاح المشروع التوحيدي. وإدريس الثاني كان من أب عربي وأم بربرية، الأمر الذي ذلل عقبات كثيرة أمام خطواته السياسية.

بدأت معالم هذا الاتجاه تتوضح منذ بداية القرن التاسع حيث تأسست مدينة فاس (عام 808 م) وضربت العملة الادريسية. كما بدأت سياسة تعاطف وتأييد عبرت عنها موجة الهجرة العربية باتجاه فاس قادمة من قرطبة عام 814 م ومن بعدها القيروان اثر عودة الأغالبة إلى الولاء العباسي. هجرات تحمل في طياتها فروقات مذهبية ذات تأثيرات حاسمة تجمع بشكل أساسي كل المعارضين للأمويين والعباسيين على حد سواء.

بديهي أن تدفع هذه التحولات بالأدارسة إلى بدء سياسة الامتداد الجغرافي والسياسي، خاصة نحو السيطرة على مفترقات الطرق الساحلة شرقا وجنوبا والتي بواسطتها يمكن تحقيق هدفي توسيع المشروع الإدريسي وتطويق محاولات الهجوم المضاد. وفق هذا السياق نفهم الأهمية الإستراتيجية للسيطرة على مدينة تلمسان وشيلا ثم نفيس –هذه المدن تربط منطقة النفوذ بطرق المواصلات التجارية المتجهة من الشرق إلى الشمال مرورا بالسهول الأطلسية، وصولا إلى بلاد السوس والجنوب المراكشي مع مشاريع العبور نحو الأندلس، اثر سقوط الخلافة في قرطبة. (6)

سياسة التوحيد الفاطمي التي بدأت مع مطلع القرن العاشر تمت على قاعدة تناقضات مذهبية وصلت إلى ذروتها في امتداد الفرق الشيعية وتشعّب اتجاهاتها وتغلغل دعاتها في أطراف الخلافة العباسية وخاصة في اليمن والمغرب وإيران. ترافق كل ذلك مع ولادة الإسماعيلية كفرقة شيعية سرية تعتمد تراتبا تنظيميا سوف يساعدها فيما بعد على التحول إلى قيادة سياسية فاعلة (المرشد والدعاة).

محاربة المركز في نقاط ضعفه: الأطراف. إستراتيجية تطويق المركز التي أجاد إتقانها الاسماعليون لحظة توجههم إلى شمال افريقيا حيث كان معقل الخليفة العباسي، بلاد بني الأغلب، يلحظ حركة قلق وانحدار. فشل أول أعقبه هجوم ناجح انتهى بسقوط مدينة سطيف عام 904 م تلتها مدينة طينة عام 905 م.

انتهت المرحلة الأولى بسحق جيوش زياد الله الثالث الأغلبي على يد أبو عبد الله الشيعي (وهو الاسم المستعار للداعي الاسماعيلي الذي كان يؤسس ويمهّد الطريق لسيده عبيد الله المهدي).

بعد هزيمة الحركة القرمطية سارع المهدي الذي يعود نسبه إلى الإمام علي مغادرا السلمية في سوريا متوجها إلى المغرب عام 902 م فوصل إلى سجلماسا حيث أسرها أميرها المدراري. مهمة تحريره من الأسر دفعت الداعي أبو عبد الله إلى التوجه نحو الغرب والجنوب فاحتل تاهرت وسجلماسا وأطلق سراح سيده الذي ما لبث أن أعلن نفسه أميرا للمؤمنين وباشر بتحويل الانتصار إلى دولة بنى إدارية وعسكرية سوف تعمل الضرائب على تقويتها ويعمل التنظيم السري على انتشار نفوذها في طول الإمبراطورية الإسلامية وعرضها، فسياسته كانت إذن كلها مرسومة. وبقيت إيديولوجيته على تشددها كما كانت قبل انتصاراته العسكرية: فسُمي قاضيا شيعيا وغير عبارات الآذان والألوان الرسمية... وإلى هذا الإطار يجب إرجاع حادث أبو عبد الله إلى مكانه. لقد طرحت المشكلة نفسها في الفترة التي كانت الإمبراطورية العباسية تتكون من (تعارض المنصور وأبو مسلم). إنه يعبر دائما على التناقضات بين الضرورات الإيديولوجية لدى طائفة والضرورات الأكثر تسامحا لدى الدولة. «إلا أننا لا ندرك دائما في هذه الأزمات من يكون الإيديولوجي المتشدد ومن هو السياسي المعتدل. وعلى أية حال فقد اعدم أبو عبد الله وأخوه العباس في تموز 911 م، وسجل عبيد الله بسرعة فائقة إرادته في إخضاع الإمبراطورية بأكملها، فهدفه هو أن يكوّن لنفسه جيشا قويا وخزينة حرب ويستأنف بأسرع ما يمكن طريقه إلى الشرق. وكمركز لهذه السياسة، أقيمت عاصمة بحرية (المهدية) بين سوس وصفاقس. وفي عام 921 م انتهت الأعمال التي بدأت عام 912 م.» (7).

إستراتيجية كهذه كانت تتطلب مركزا مستقرا لقيادة المشروع الفاطمي وإيصاله إلى الشرق العربي. لتحقيق ذلك كانت القيادة الفاطمية ملزمة بخوض مواجهات مع مناطق النفوذ المغربية والسيطرة على الطرق التجارية، حروب وتحالفات بدونها لم يكن لذلك المشروع، تحقيق أهدافه.

إعلان عبيد الله نفسه خليفة عام 910 م واحتلال تاهرت وسجلماسا كان يدفع الاتجاه العام نحو المركزة (خاصة وأن هاتين المدينتين تشكلان سوقين كبيرين في تقاطع طرق يسيطر على محاور التجارة الصحراوية والشرقية).

إن الإسراع بتعميم استنتاجات للمشروع الفاطمي تحت وطأة العاطفة القومية سوف ينتج بدون شك مغالطات تستتبع بدورها حالة ارتباك منهجية. إن قراءة دقيقة لتاريخ الفاطميين تستلزم مراجعة للبنى الداخلية الاقتصادية والاجتماعية التي وسط تناقضاتها وتعقيداتها، كان الامتداد الفاطمي يستمد حيثيات استيعابه: صراع مثلث الأطراف بين ثلاثة مراكز سلطوية: العباسيون في بغداد، الفاطميون في المغرب والأمويون في الأندلس. تناقض قبلي تاريخي دخلت حساباته في ثنايا التوحيد الفاطمي (صنهاجة وزناتة). يضاف إلى كل ذلك محورية الحروب المتعددة الانتماء والأسباب حول طرق ومدن التجارة التي كانت السيطرة عليها شرطا أساسيا لنجاح المشروع الفاطمي. وفق هذا السياق نفهم لماذا دارت الحروب الفاطمية ضد الأدارسة وحلفائهم والسلطة العباسية ورموزها الأغالبة والأمويين المسيطرين على مناطق الذهب الصحراوي المتحول إلى نقود بعد عبوره سجلماسا إلى فاس وأغمات، ولماذا كانت المعاركة طاحنة حول تازا، مكناس، سجلماسا، تلمسان، فاس وتاهرت. بل أكثر من ذلك، لعبت الأهمية الإستراتيجية للبحر الأبيض المتوسط والأهمية الحيوية للتجارة دورا حاسما في تطور سلطة الفاطميين وشمولها لعموم المغرب العربي دور سوف يكون في أساس تزعزع هذا المشروع التوحيدي والذي سوف يركز تناقضا ذا استمرارية بين سادة المدن وسادة الطرق التجارية.

الدولة الفاطمية، التي كانت في نهاية القرن العاشر قد وحدت تحت سلطتها جميع المناطق الساحلية لشمال أفريقيا ووصلت مصر بالمحيط الأطلسي، وضمت جزيرتي صقلية وسردينية، بدأت تعيش لحظة انهيارها ساعة قرر المعز لدين الله الفاطمي نقل عاصمة سلطته إلى القاهرة: على أنقاض دولة الوحدة سوف تنشأ إمارات ثلاثية الحكم حال قِصر عُمْر المشروع الفاطمي دون استئصال جذورها الدفينة. إمرات سرعان ما تنهار تحت ضربات المرابطين والموحدين: إمارة بني زيري، التي أسسها في صنهاجة عامل الدولة الفاطمية يوسف بلكين بن زيري عام 972 م واستمرت إلى عهد الحسن بن علي (1121- 1148م) الذي سقط تحت وطأة الهجمات المتكررة لجيوش رجار ملك صقلية والتي أعيد توحديها على يد الأمراء الموحدين.

إمارة بني حمّاد، التي تأسست في بجاية، إحدى مدن الجزائر، كمحاولة لتطويق نفوذ بني زيري، كانت نقطة وصل بين تونس الزيرية ونشأة مراكش (المركز الأقصى). هذه الإمارة التي تأسست على يد حماد عام 1007 انقرضت مع مجيء الموحدين الذين انهوا حكم يحي بن العزيز عام 1152 م. (8)

أما المغرب الأقصى (مراكش) فإنه يجعل من الصعب الحديث عن إمارة شبيهة بإمارات بجاية وتونس وإن كانت خارج نفوذ هاتين الإمارتين. سقوط الأدارسة استتبع بعد انهيار الوجود الفاطمي محاولات استقلال سياسي قامت بها قبائل البرابرة والمكناسة والمغراوة دون أن تؤدي هذه المحولات إلى استقرار يذكر. مجيء المرابطين أنهى هذه الوضعية كما أنهى معها إمارة بجاية في الجزائر.

ثلاثة عوامل كانت في أساس تشكل دولة المرابطين: العمل الإيديولوجي-الديني الذي أدى بانتشاره في شمال افريقيا إلى إفقاد التلاحم القبلي لبعض ركائزه.

العامل الاقتصادي-التجاري، الذي كان يتمركز في المدن-الدول، عاد ليعطي لحركة التجارة أهمية سياسية. إن التجارة المنظمة لمسافات بعيدة جدا والتي تعبر قوافلها نقاط اتصال إستراتيجية بعيدة عن مراكز السلطة (المخزن)، يضاف إلى ذلك انتشار العملة على حساب التبادل البضاعي، أسفرت عن ضرورة قيام دولة قوية قادرة على حماية وتنظيم حركة التجارة، وبالتالي فالقوة (القبلية) القادرة على الاضطلاع بهذا الدور تملك وحدها مفاتيح السلطة السياسية (9).

العامل السياسي كان انعكاسا لضعف داخلي وتهديدات من الخارج. في أواخر القرن الرابع الهجري كانت شمال افريقيا تلحظ انهيار الدولتين الأموية والزيرية اللتين أصبحتا إمارات بدون قوة. كما كان الشرق العربي-الإسلامي، والبيزنطي أيضا، قد بدأ مرحلة تراجع وانحطاط في مقابل نهوض الغرب الأوربي.

إلى جانب هذه العوامل كان التحضير لغزو شما افريقيا وهجمات سكان جنوى وبيزا للاستيلاء على جزيرتي قرصرة وسردينية، وتعاظم قوة الايطاليين في الجنوب المطل على الأبيض المتوسط، كل ذلك كان يمهّد لمواجهة إسلامية-مسيحية سوف يكون تاريخ المرابطين محاولة تجاوزها بانتصار.

وصول الفتح العربي إلى مداخل الصحراء وإعادة بناء مدينة سجلماسا الإستراتيجية أعاد التعامل بين الداخل والصحراء وأعطى لهذه الأخيرة أهمية تقريرية في مصير الاقتصاد المتطور الذي بدأ يحدث تأثيرات بنيوية في حياة القبائل البدوية (الصنهاجيين خاصة) الذين بدأوا ينتقلون من حياة الترحال إلى حياة الثبات قوامها الوحدة بين القبائل وتأسيس قوة قادرة على الإلمام بشروط التجارة.

من وسط هذه التطورات ومن الصحراء الغربية تحديدا سوف يبدأ نجم المرابطين بالظهور ناقلا المغرب المراكشي والجزائري واسبانيا إلى العصر الإمبراطوري.

في الصحراء الغربية بدأت تتأسس قاعدة الانطلاق للمشروع المرابطي: تقوية اتحاد قبائل لمتونة بعد إعادة بنائه، الهجوم على التجمعات السكانية المسيطرة على طرق التجارة الصحراوية في الشمال والجنوب، احتلال سجلماسا عام 1503 م ثم العودة إلى الجنوب واحتلال أوداغوست بعد هزيمة سود غانا الذين كانوا قد سيطروا عليها منذ عام 1040 م. وبهذه الخطوات يكون المرابطون قد سيطروا على التجارة الصحراوية وطرقها الأكثر أهمية.

أعقب هذه الانتصارات مرحلة التوسع نحو الشمال حيث استطاع أبو بكر بن عمر، بمساعدة ابن أخيه بن تاشفين، احتلال تارودانت وماسا ونفيس واغمانت وتادلا على التوالي. وبهدف مواصلة السيطرة على الطرق التجارية، واصل الجيش المرابطي زحفه لمحاذاة أطراف الأطلس وصولا إلى سفرد وفاس.

بعد أن بنى يوسف بن تشفين مدينة مراكش، الواقعة على ملتقى طرق المواصلات، جعلها عاصمته وبدأ منها عملية تنظيم وتوسيع دولته: تحويل مراكش إلى مركز نقدي (سوق للذهب ومركز وحيد لإصدار العملة) وذلك على حساب موقع سجلماسا، إعادة بناء الجيش وتقويته بفرق لرماة السهام وذلك ضمن مخطط التحضير لحملات الفتح في الشرق والشمال.

سبق الفقهاء الجنود في عملية تحضير إديولوجي لمشروع سياسي-مذهبي سوف يصطدم بإرث الوجود الشيعي والخوارجي بشكل خاص. ففي عام 1068 بدأ الهجوم على البارغواتا، أعقبه سقوط فاس عام 1069 م. وبين أعوام (1070-1080) بدأت المدن تسقط الواحدة تلو الأخرى تحت قبضة المرابطين ابتداء بتازا، بوابة الشرق، وغرسيف ووجدة وتلمسان ووهران وصولا إلى الجزائر المدينة. ولم يوقف تقدم المرابطين إلا تدهور الوضع في الأندلس وبداية التحضير لهجوم «مسيحي» باتجاه الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط.

قبل أن يبلغ القرن الحادي عشر نهايته كان غرب المغرب العربي لأول مرة، من الصحراء إلى البحر الأبيض المتوسط، قد تحول إلى سلطة سياسية واحدة.

يمكن القول أن هذه السلطة كانت قد تحولت إلى إمبراطورية تحتوي ثلاث مناطق منفصلة عن بعضها ومرتبطة بالسلطة السياسية في مراكش، عاصمة الإمبراطورية.

كان هناك منطقة الصحراء الغربية التي تبدأ جنوب مراكش من وادي درعا إلى حدود السنغال والتي كانت تتمتع باستقلال سياسي ذاتي بقيادة تحالف قبائل لمتونة –وهو أساس الدولة المرابطية- ومنطقة المغرب الغربي أو الأقصى والتي تضم الجهات الجنوبية والشرقية الشمالية، وأخيرا منطقة الأندلس التي يفصلها عن باقي الدولة البحر الأبيض المتوسط.

الحفاظ على وحدة البلاد والدفاع عن الأندلس من خطر الأوربيين المسيحيين كان الشغل الشاغل للمرابطين منذ مطلع القرن الثاني عشر. مهمة صعبة ومكلفة، سوف تنهك قوى المرابطين وتمهّد لانهيار دولتهم.

إمبراطورية المرابطين التي أسسها أبو بكر بن عمر بن وركوت عام 1056 م ودعم ركائزها ووسع حدودها يوسف بن تاشفين 1087 م انهارت عام 1147 م في عهد إسحاق بن علي حفيد يوسف، فاتحة الطريق لوحدة أخرى قادمة من الغرب: الموحدون.

ما هي عوامل الانهيار المرابطي؟ هل سبب ذلك «استرخاء أولئك المحاربين الصحراويين في ظل بساتين قرطبة الوارفة» أم تراجع حركة التجارة الصحراوية؟

دون أن نلغي أحد هذين العاملين نوافق على إخضاع مجمل العوامل لغلبة الإيديولوجية الإسلامية التي كانت تحتوي كافة العوامل وتوجهها وتوحّدها في مواجهة إيديولوجية أخرى بدأت أطماعها تطل من اسبانيا الكاثوليكية. أو كما يحلل عبد الله العروي حركة الانهيار قائلا: «نرى جيدا أن المسألة الإيديولوجية كانت قد غذت أساسية لأنها التعبير المركز عن جميع المشاكل الأخرى: مشكلة حرب لا نهاية لها في اسبانيا، مشكلة دولة ياهضة التكاليف (يقتضيها سكان المدن)، وأخيرا مشكلة تثبيت طائفة سياسية كانت تتكون انطلاقا من المدن-الدول ومن التجمعات المحلية، وإذا لم تكن هذه الطائفة مدعمة يوميا بإيديولوجية معدّة فإن القوى المحلية توشك أن تضعف فعاليتها.» (10).

وسط بينة معقدة من المذاهب السلامية كانت تنمو عملية تكوين إيديولوجي سوف يتجه بقوة وجهة سياسية، بحيث يمكن القول بأن الاتجاه الروحي-الديني كانت محاولة تحصين وتمهيد لمشروع سياسي تتحدد نتائجه بشموله الديني نفسه.

ما نقصده بذلك هو البداية الإيديولوجية لإمبراطورية الموحدين التي أقامت الدولة الواحدة في كل افريقيا الشمالية (المغرب العربي).

بديهي أن يساهم الانتماء الإيديولوجي في تبيان الخصائص السياسية للمشروع التوحيدي الجديد. وبسبب غموض المسألة وتعددية الاتجاهات المذهبية، فإن اتخاذ موقف فكري من الاتجاه التوحيدي الذي بدأه ابن تومرت يكاد يكون صعبا قبل تحول المشروع السياسي إلى حقيقة.

في بنية تتجاوز فيها الباطنية الشيعية، بنفوذها القوي في المغرب، والمذهب المالكي، الذي حاز على شرعية سياسية في عصر المرابطين، متوافقة مع نتاج المحاولات اللاهوتية الفقهية، التي نسقها الباقلاني المتوفي عام 1013 م، والأحاديث والدراسات الفقهية، التي نشرها ابن حزم المتوفي عام 1111 م، في مثل هذه البنية، يكون المخاض الفكري لا شك عسيرا. وكان لزاما على ابن تومرت أن يخرج من بلاد السوس على السفح الشمالي لجبال الأطلس الداخلية متوجها إلى قرطبة ليحمل معه ارث ابن حزم ويواجه به ارث الغزالي، مناقشا محاورا.

بعد رحلة العراق وقرطبة كان أبو عبد الله بن تومرت الذي كان يحارب بشدة آراء المشبهين والمجسمين، قد أصبح واقفا بين المعتزلة والأشاعرة: معتزلي لأن اختيار الاسم «الموحّدون» يرجع إلى المعتزلة المعروفين «بأهل العدل والتوحيد»، واشعري لأنه واجه المشبهة والمجسمة بتمثل عقلاني لتعريف الله وصفاته مستخدما الاستدلال والقياس والتفسير المجازي للقرآن. ولكي تصبح الاديولوجية سياسية، والمبشر زعيما، كان على ابن تومرت البربري واجب البحث عن أصل عربي يربطه بقريش وبالهاشميين تحديا: أن يكون المهدي الجديد للدولة الجديدة (11).

عام 1121 أعلن بن تومرت نفسه إماما وبدأ يستعد لطرح موضوع السلطة السياسية.

وكانت عودته من المشرق عام 1116 عابرا الإسكندرية وتونس وبوجي وتلمسان وفاس ومكناس ليستقر مؤقتا في مراكش، تشير إلى محطات المشروع السياسي التوحيدي (طرق الساحل) التي تتعارض مع محطات الوسط التي اتبعها من قبله الفاطميون، والمرابطون.

طريق العودة كان طويلا، وكان ذلك مقصودا. إذ أنه خلال طول المسافة لم تكن الاديولوجية هي مجال التكون بل المشروع السياسي نفسه الذي كانت الرحلة انعكاسه الزمني. كما أن توقفتا المتعمد أمام المسار الإيديولوجي لنشأة الموحدين لم يكن محاولة الشروع بمناقشة فلسفية للانتماء التومرتي. حاولنا، تحديدا، وضع السياسة وسط مخاض فكري بالغ الأهمية، كما حاولنا أن نقول أن الانطلاق من بلاد السوس إلى قرطبة والعراق لم يكن مجرد رحلة مؤمن بربري يبحث عن الله، بل كان، وبدقة متناهية، بحثا عن إيديولوجية موحدة لمشروع سياسي موحد كان يرى في تحدّي الغرب وتفكك المشرق بدايات نهاية مؤلمة لمشروع الرسول الإسلامي، نهاية كان يرغب ابن تومرت في إجهاض بداياتها (12).

بعد وفاة أبو عبد الله محمد بن تومرت عام 1128 م، وبعد أزمة خلافة استمرت ما يقارب السنتين بين عبد المؤمن وأبو حفص، استلم قيادة الحركة أخوه عبد المؤمن الذي أصبح عمليا زعيما لقبيلة مصمودة البربرية منذ عام 1130 م.

وعبد المؤمن يعتبر المؤسس السياسي والعسكري لإمبراطورية الموحدين. فقد استطاع خلال سنوات معدودة، انطلاقا من عام 1140 م، توحيد كافة مدن المغرب العربي بما فيها طرابلس، مسيطرا بذلك على القمم والسهول، الساحل والصحراء، المخزن وبلاد السيبة.

عام 1140 هزم جيوش المرابطين واحتل وهران وتلمسان وتازا وفاس وسبته وسلا، وفي عام 1146 م دخل مراكش منتصرا، وكان قبلها بعام قد أرسل جيشا إلى اسبانيا تمكن بواسطته، وبعد خمس سنوات، من ضمها إلى دولته. بعد إتمام السيطرة على اسبانيا والمغرب الأقصى اتجه الموحدون نحو الشرق فأنهوا حكم بني حماد عام 1152 م وطردوا النورمانيين، الذين خلقوا بني زيري في تونس عام 1158 م، وانهوا تقدمهم باحتلال طرابلس الغرب.

إذن من حدود مصر الساحلية، إلى حدود الأطلسي، مرورا بجميع سواحل افريقيا الشمالية وصولا إلى اسبانيا كانت دولة الموحدين من عام 1130 إلى عام 1269 م قد ثبتت الاتجاه التاريخي للمغرب العربي، اتجاه لم يضعف بشكل ملحوظ إلا بعد هزيمة غير متوقعة في لاس نافاس عام 1235 م والتي انتهت بانسحاب الموحدين من اسبانيا.

هزيمة «المسلم» أمام «المسيحيۑ»، وتراجع الأول عن حماية العمق الإسلامي في اسبانيا، كانت مدخلا لتناقضات داخلية سوف يؤدي تفاقمهما إلى تفتيت أهم مشروع توحيدي عرفته المنطقة منذ الفتح العربي. ففي عام 1172 م، وقبل الهزيمة أمام «الايبريين»، احتل صلاح الدين الأيوبي طرابلس. وفي 1228 استفاد ممثلو الموحدين في تونس (بنو حفص) من الضعف العام فأعلنوا تأسيس إمارة مستقلة. وحذا حذوهم بنو زيان في مدينة تلسمان التي أعلنوا منها استقلالهم في إمارة عام 1235 م. فلم يبق من سلطة الموحدين إلا المغرب الأقصى الذي كانت موازين القوى فيه تميل لمصلحة قبيلة بني مرين الجبلية التي لم تتردد في حسم الأمور لمصلحتها واحتلال مراكش عام 1269 م واضعة بذلك اللمسات الأخيرة على مشروع لم يكن مقدرا له هذا الانهيار السريع. (14).

ما ذكرناه لا ندعي كونه تأريخا ولا مساهمة في مشروع تأريخ. إنه محاولة قراءة للخطوط العريضة لتاريخ منطقة كانت منذ الفتح العربي في حالة حرب ضد غرب يسعى إلى تفتيتها والسيطرة عليها للعبور منها إلى المشرق العربي.

قوانين تاريخية لتكوّن الدولة السياسي باتجاه وحدوي حاولنا رصده بمنظار وعي الذات لنفسها: الوحدة كعامل استقلال وقوة في مواجهة الخارج. سقوط دولة وقيام دولية. استمرارية التناقضات السياسية والاقتصادية لم تغير في بنية الاتجاه نفسه، سوى مراحل ثباته الزمنية: الإسلام عامل وحدة، العلاقة مع المشرق تبادلية ومصيرية، السلطة المحلية لا «تهندس» حدودا ولا تغلق على نفسها في منطقة جغرافية ما. الادارسة القادمون من الشرق العربي، الفاطميون المغاربة الذاهبون إلى المشرق العربي، المرابطون القادمون من الصحراء والموحدون الهابطون من جبال السوس، عرب وبربر كانوا يصنعون تاريخا مليئا بالصعوبات والمنافسات المحلية.

حقيقة لا يخفي هذا التاريخ بروزها في كل لحظة انتقال أو انهيار وهي أن التناقضات المحلية كانت خاضعة باستمرار لإستراتيجية توحيدية تتعامل مع مجتمع المغرب العربي بوصفه وحدة ذات تمايزات وبوصفه تمايزات تسعى لفرض الوحدة.

هذه الإستراتيجية كانت تعكس معرفة «الذات» لحاجاتها وقدرتها على تحديد توجهاتها السياسية، يقابلها إستراتيجية أخرى كانت قد بدأت في محاصرة الشرق بجحافل الصليبيين، الذين زحف لصدهم الفاطميون من الغرب إلى فلسطين وطاردوهم إلى أنطاكية، بشن هجمات متتالية على الأندلس والجزر المتوسطية والأطلسية. ومنذ سقوط إمبراطورية الموحدين سوف تشهد الإستراتيجية الأولى تراجعا ملحوظا سوف يعمل التدخل العثماني على دعمه بإيقاف تقدم الغرب. ولكنه في نفس الوقت سينتهي مقدما للغرب نفسه منطقة ساعد بسياسته على ترسيخ تمايزاتها التي من خلالها ستدخل إستراتيجية الغرب لتحوّل هذه التمايزات، بالقوة، إلى وحدات سياسية: شعوب وأوطان.


تراجع المشروع الوحدوي وبدايات الانقسام

تحولات الوضع في المشرق العربي وحسم معركة اسبانيا لصالح الكاثوليك، يضاف إليها انهيار القوة المحلية القادرة على مواجهة آثار هذه التحولات، أدخلت المغرب العربي في مرحلة جديدة بدأت مع مطلع القرن السادس عشر واستمرت لغاية القرن التاسع عشر. الميزة التاريخية للوضعية الجديدة كانت تحويل شما افريقيا إلى ساحة سجال استراتيجي للهيمنة دارت رحاه بين الدولة العثمانية وأوروبا. ففي الوقت الذي شملت الغلبة العثمانية مناطق المشرق الغربي كان حتميا اتجاه الخلافة الفتية نحو افريقيا. كما أن سقوط اسبانيا بيد فردينان والملكة إيزابيل عام 1492 م، وإخراج المسلمين من شبه الجزيرة الايبرية كان أيضا بداية التقدم الأوروبي إلى مداخل افريقيا من ناحتي الأطلسي والأبيض المتوسط.

التدخل العثماني توقف عند حدود إمارة الجزائر والتدخل الأوروبي وصل إلى سبته ومليلية متجاوزا جبل طارق، وبينهما بقي المغرب الأقصى منطقة مستقلة تحارب المد العثماني شرقا والخطر الأوروبي شمالا وغربا. ومنذ 1587 م تحديدا كانت ليبيا وتونس والجزائر قد تحولت إلى ثلاث ولايات عثمانية بحيث انعقدت علاقات سياسية جديدة وضعت الاتجاهات التوحيدية على هامش التطور اليومي للأحداث التاريخية منتجة بذلك سلطة عثمانية في شرق المغرب العربي وسلطة شريفية في المغرب الأقصى (مراكش). سلطات فوق المجتمع لم تغير تجديدات البنية السياسية الفوقية من طبيعة الانتماء القومي إلا في فترة لاحقة وبعد ثلاثة قرون من الفصل الجغرافي والتمايز السياسي.

منذ مطلع القرن السادس عشر وبوادر التدخل العثماني في المغرب العربي تسير نحو الظهور بحيث أن منتصف القرن كان قد وضّح السياسة المبدئية للسلاطين الجدد. السيطرة العثمانية على القسم الشرقي من المغرب وقسمه الأوسط كانت نتيجة صراع دائم الحركة بين أطراف متناقضة المصالح تتغير تحالفاتها وفق موازين القوى: العثمانيون، الأوربيون وسكان المناطق المذكورة. كما كانت سيطرة ناقصة، بمعنى أنها لم تكن شاملة لكل المغرب العربي مما أوجد حلقة ضعف مركزية في المشروع العثماني: عدم القدرة في الوصول إلى المحيط الأطلسي. وناقصة أيضا لأن سلطة المشروع المذكور لم تستطع بلوغ كافة المناطق الواقعة تحت نفوذها.

سيطرة عثمانية غير هادئة، في حالة استنزاف دائم أمام محاولات حثيثة لاختراق ثغور السلطة، سيطرة غير شاملة لعدم تمكن السلطان العثماني من ممارسة سيطرة فعلية إلا في المناطق المحاذية للبحر الأبيض المتوسط.

أما عمق البلاد فقد كان، بسبب بعده عن مركز السلطة وعن مصدر الخطر الاستراتيجي (الأوروبي غالبا)، شبه مستقل، تخضع السلطة فيه للبنى الاجتماعية المحلية التي كانت سائدة –قبائل بشكل خاص. (15)

أما السيطرة نفسها فتدخل في تطور تاريخي خاص. أدى ضعف الإمبراطورية الموحدية إلى استقلال الجزائر التي أعلن عمال الموحدين فيها بنو زيان عن قيام إمارة جعلوا تلمسان عاصمة لها من 1235 إلى 1393 حيث عادت لتسقط من جديد في يد بني مرين المراكشيين وتتوحد مع المغرب الأقصى. في مطلع القرن الخامس عشر كانت الموانئ الجزائرية، بجاية ووهران، إضافة إلى طرابلس الغرب قد وقعت تحت سلطة الجيوش الاسبانية. عجّل هذا الانتصار الأوروبي بقدوم العثمانيين الذين استفادوا من أحداث «لسبي» فاحتلوا جزيرة حربي الواقعة مقابل الساحل الليبي (طرابلس) حيث بدأوا من هناك، بقيادة عروج بربروسة بشن هجمات بحرية على مواقع الجيش الاسباني انتهت بتراجع بني مرين عن الداخل الجزائري وانكفائهم نحو الغرب المغربي.

وفي عام 1515 وصل عروج إلى الجزائر معلنا بداية دخول هذه المنطقة تحت نفوذ السلطنة. ثلاثون عاما من التوتر والتصادم واجهت الدخول العثماني وانتهت بإحكام السيطرة: عام 1518 جرى تعيين خير الدين واليا على الجزائر بعد وفاة أخيه عروج، في عام 1530 سقطت قلعة بي تن الجزائرية التي كانت لا تزال في قبضة الاسبان، أما مدينة وهران فلم تسقط إلا عام 1708. أما التمركز الفعلي للسلطة الجدية فقد بدأ بعد وفاة حسن آغا عام 1544. (16)

بدءا من هذا العام أصبح الباب العالي صاحب القرار والسلطة السياسية المباشرة في الجزائر، حيث تحولت السلطة المحلية إلى باي لارباي يُعيّن مباشرة من قبل بابا العالي (17). أول ابي لارباي كان حسن باشا الذي بدأ حكمه اثر وفاة حسن آغا عام 1544. لكي يتمكن الوالي العثماني من ضبط الوضع الداخلي وتحديد منطقة نفوذه السياسي والعسكري عمد إلى تقسيم الجزائر إلى أربع مناطق:

1- منطقة مدينة الجزائر وضواحيها، وبعض المرافئ الهامة، وهي تدار من قبل الباشا مباشرة.

2- منطقة الجنوب وتسمى تيتري، تأسست عام 1548 وعاصمتها مدينة ميديا، وتدار بواسطة باي يعينه الباشا.

3- منطقة الغرب، المتأسسة عام 1563، تبدلت فيها العواصم لأسباب غير واضحة، وعلى الأرجح لأسباب عسكرية. فقد كانت عاصمتها الأولى مازونا والثانية مسكرة والثالثة وهران. أما قائد المنطقة (الباي) فيعينه الباشا أيضا.

4- منطقة الشرق، تأسست عام 1567، عاصمتها قسنطينة، وتدار بواسطة باي يعينه الباشا.

لم يستطع الباشا فرض سلطته على كل المناطق، وكما أشرنا آنفا، فان مناطق عديدة بقيت خارج النفوذ الفعلي للعثمانيين، محتفظة بسلطتها القبلية السائدة. كما كان الحال مع الملك كوكو، الذي كان حاكما على المنطقية الجبلية كلها. كذلك «شيخ بني عباس» الذي كان يحكم منطقة توغودت. (18). دون أن يعني ذلك «استقلالات» إيديولوجية عن الخلافة الإسلامية المرمّز إليها بالخليفة العثماني. بمعنى آخر، أسفر عدم الاهتمام بعمق المنطقة وانشغال العثمانيين بالثغور عن إبقاء مناطق محددة تخضع لسلطاتها المحلية التي لم تضع نفسها في مواجهة «المركز» بشكل حاد.

من بداية السيطرة العثمانية إلى بداية التدخل الفرنسي، عرفت الجزائر أربعة أشكال من السلطة السياسية، وذلك خلال أربع مراحل قطعها الوجود العثماني من 1546 إلى 1830.

المرحلة الأولى، وهي مرحلة الباي لارباي، امتدت من 1546 إلى 1587.

المرحلة الثانية، وهي مرحلة الباشوات الثلاثيات –أي أن حكم الباشا يدوم ثلاث سنوات فقط- امتدت من 1587 إلى 1659.

المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الاغاوات، امتدت من 1659 إلى 1671.

المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الديات-الداي- التي امتدت من 1671 إلى 1830 وانتهت مع احتلال فرنسا للجزائر في نفس العام.

وضعية المغرب الأوسط –الجزائر- تحت الحكم العثماني، كان يشوبها توتر داخلي بين رموز السلطنة العثمانية والزعماء المحليين. توتر كان يزداد أو يخف حسب درجة الانتفاضات الريفية ودرجة الخطر الخارجي وخاصة الاسباني. ورغم فشل الداي محمد بن عثمان 1766-1791 في محاولة إعلان نفسه ملكا للجزائر فإن النفوذ السياسي للزعماء المحليين كان يتعاظم بشكل أصبح معه القول بثنائية السلطة ممكنا. التوازن السياسي بين نمطي السلطة كان يسمح للزعماء المحليين بإعلان تعاطف مع الزوايا المراكشية، ولكنه في نفس الوقت كان يقوّي التحالف مع الأتراك في لحظات الخطر الأوروبي. حيث أنه، بفضل هذا التحالف، جرى طرد الاسبان من وهران ومرسى الكبير عام 1708. ومنذ تلك الفترة والصراع العثماني-الاسباني يشهد حركية مستمرة شهدت فصلها الأول بتحول وهران إلى عاصمة للبابوية الغربية عام 1793 وذلك كمقدمة لانهيار تام أعقبه انتصار فرنسي عام 1830. (19).

أعلن بنو حفص، ممثلو الموحدين في تونس، استقلالهم عن سلطة مراكش عام 1228 لحظة بدء انحسار قوة الإمبراطورية. ومنذ ذلك العام ولغاية 1534 أي أكثر من ثلاثة قرون بقليل، كان الحفصيون يقدمون تجربة سياسية ذات دلالات هامة انعقدت فيها علاقات تاريخية متينة مع المشرق العربي جعلت تونس خاضنة لإرث الثقافة المشرقية وبوابة عبوره نحو المغرب، كما عكست تجربة متقدمة من التعامل التجاري-الاقتصادي مع الجانب الشمالي للأبيض المتوسط وخاصة مع الجمهوريات الايطالية. إن دراسة التجربة الحفصية لا شك هامة، وبدونها يكون من الصعب معرفة العوامل الداخلية للارتباط السياسي-الثقافي بين المشرق والمغرب، معرفة علمية وأمينة. دراسة هذا النوع ليست في مجال عملنا الراهن، وعليه فإننا سوف نذكر فقط تأريخا حديثا لتحولها من استقلالية محلية إلى منطقة صراع عثماني-اسباني.

عام 1534م وصلت قوات خير الدين بربروسة إلى تونس منتصرة على الحفصيين، لكنها لا تلبث أن تنهزم، بعد عام، في معركة مع جيش الملك شارل الخامس الذي يمكن الحفصيين من استعادة سلطتهم. وبذلك يكون الصراع المفتوح حول تونس قد تحددت أطرافه: الجيش الاسباني يواصل تقدمه فيحتل غلته التي تسقط بعد سنوات بيد قراصنة البحر الذين يتقدمون ببطء ليخوضوا معركة مستمرة تفصل احتلال تونس المدينة عام 1568م عن احتلال غلته عام 1574م والتي بعدها استتب الوضع للعثمانيين لغاية التدخل الفرنسي عام 1881م.

إذن في عام 1574 وقعت تونس تحت السيطرة الفعلية للخلافة العثمانية وأصبح علي الدج سيدا على إمارة الحفصيين، كما عيّن في نفس العام سيد حيدر القيرواني وأعطاه لقب بشا داي.

على غرار الجزائر، عرفت تونس في ظل العثمانيين ثلاث مراحل كانت خلالها أشكال السلطة السياسية غير متجانسة، كما كان الزعماء المحليون يمتازون، وسط التناقضات العثمانية-الأوروبية، بنفوذ ساعدهم مرارا على التدخل في إدارة شؤون البلاد. أم السلطة المركزية فقد بدأت بمرحلة التنظيمات العابرة التي امتدت من سنة 1574 إلى 1590 حيث مهدت الطريق لمرحلة حكم الباي المنتخب من قبل الديوان والتي امتدت من 1590 إلى 1650. الصيغة الأخيرة للسلطة كانت وراثية وعرفت بمرحلة البايات الوراثيين والتي غطت مرحلة الحكم من 1650 إلى لحظة وقوعها تحت الحماية الفرسنية.(20).

ليبيا، التي كانت ضمن نفوذ بني حفص، سارعت إلى إعلان استقلالها عن تونس مع بوادر التدخل العثماني، وذلك لتقييم نوعا من الحكم الذاتي.

لم يتأخر الاسبان في الهجوم على ليبيا واحتلال طرابلس الغرب عام 1510، معلنين بذلك بدء المواجهة مع العثمانيين الذين كانوا في طريقهم نحو الجزائر. المواجهة الاسبانية-العثمانية حول ليبيا كانت معقدة وطويلة استمرت رحاها إلى مطلع القرن السابع عشر.

في شهر آب-أغسطس- من عام 1551 بدأ الهجوم العثماني على ليبيا، الذي انتهى بإخراج الاسبان عام 1554 واستلام تودغوت للسلطة بعد أن أصبح باي لارباي يحكم باسم الباب العالي. لم يكتف العثمانيون بالسيطرة على الساحل الليبي بل تقدموا إلى عمق البلاد ليحتلوا جربة على الحدود الليبية-التونسية وليخوضوا معركة طاحنة مع الاسبان استمرت أكثر من نصف قرن. عام 1609 كان تحديدا عام إعلان ليبيا ولاية عثمانية دون أي تحديد لحدودها مع الولايات الأخرى، استتبع ذلك منازعات بين الحكام المحليين، وخاصة بعد سقوط تونس، أدت إلى مشكلة حدود النفوذ السياسي، وخاصة حول مدينة حربة، الأمر الذي دفع الباب العالي للتدخل حاسما الأشكال بإعلان جربة مدينة تونسية، بمعنى أنها ضمن نفوذ الباي التونسي.

رغم كل ذلك، فإن شمول السيطرة العثمانية على ليبيا ترافق مع تمردات الحركات الداخلية التي جعلت العثمانيين في وضعية توتر واضطراب لغاية 1860.


في أصول تكون المغرب الأقصى

من التدخل العثماني وانتصار ايزابيل وصولا إلى مطلع القرن التاسع عشر، كان التراث الموحدين يتلقى ضربات ويقاوم. واعيا كان أم لا، فإن المغرب العربي كان يتصادم بعناد مع محاولات حثيثة لتفتيته من الخارج، لم تعمل تناقضاته الداخلية إلا على إخصاب حركة التدخل. انحطاط المغرب، الذي ترافق مع نهضة الغرب وامتداد النفوذ العثماني، كان قد دخل في شبكة علاقات وتحولات دفع المشروع الموحدي ثمنها باهضا، دون أن يلقي بكل أسلحته: بنو مرين خلفاء الموحدين في مراكش لم يتأخروا في الوصول إلى الجزائر وضمها إليهم، وبنو حفص لم يتباطأوا في استيعاب أهمية ليبيا فأدخلوها في سياستهم. السلف الحفصي والخلف المريني كانا يدركان أن استعادة المشروع التومرتي سوف يكون عسيرا، ولكن إهماله ودفنه يكون بدوره خطوة ستنهار معها ركائز المشروع المتأصلة في الوجدان المغربي.

المقاومة المحلية، رغم ضعفها العام، كانت قد ساهمتا في تسريع نهايتها. فالأسر التي عملت على إيصال مشروع التوحيد إلى ذروته، ورأت، في لحظة تراجع، إمكانية الشروع بتوحيد جديد تقوده هي من مواقع نفوذها، كانت في أساس التكون الجديد الذي سوف يخطو تكريسه خطوات متسارعة أثناء حكم البايات والدايات. وعلى امتداد قرنين كانت وضعية «جغرافيا» المغرب العربي قد ارتسمت معالمها، يرافقها تنامي التمايزات المحلية التي تضافرت عوامل عديدة (أوروبية، عثمانية ومحلية) على تركيزها. حدود سلطة الوالي ستتحول مع التدخل الأوروبي إلى حدود الوطن الذي لم يستطع الوالي نفسه تقديم صيغة ثابتة -قانونية- له. على قاعدة هذا السياق من التطور، كان المغربان الشرقي والأوسط، بولايات ليبيا وتونس والجزائر، يعيشان مرحلة نمو غير متجانس لم يخفف من حركة تطورها سوى تبعيتها لسلطة واحدة –عثمانية- وحنين نحو ماض كان أوان استرداده قد فات.

أما المغرب الأقصى فكان قد بدأ مسيرة انفرادية، سوف تتوضح، أثناء، معالم المغرب الجديد بحدوده ومشاكله.

السجال الحربي، الذي استمر سنوات طويلة بين اسبانيا والعثمانيين على مداخل وهران، كان الصدام الذي أعقب انتكاسة المشروع التوحيدي للمرينيين، الذين عادوا بجراح مثخنة لا يصنعوا تاريخيا إقليميا من مراكش. العودة «الجريمة» كانت مهد نزيف المستقبل، استتبعها رسم أمني للحدود بين مرينيين أحرار وزيانيين وقعوا في وسط تناقضات كانت تلقي بكل أثقالها على حلم الحرية. «إن الصراع الطويل، المتذبذب بين المرينيين ترك في الوضع العام خطا فاصلا لا شك في أنه ما يزال غير ثابت لكنه داخل رقعة إقليمية آخذة بالانكماش» (21).

من منطقة تنافس دولي (جبل طارق) ومنطقة صراع شرقي-غربي (وهران) إلى صحراء لم تعرف لغاية هذه اللحظة خطا حدوديا «بدون سياسة» وصولا إلى نهر السنغال كان المغرب الحالي يرسم حدود نفوذ سلطاته، التي أصبحت مع التطور اللاحق حدودا وطنية لبنية محلية تصرّ على تكوّنها القومي.

بنو مرين، سكان المرتفعات المراكشية، كانوا منذ نهاية القرن الثاني عشر قد بدأوا مسيرة الإطاحة بالموحدين. وفي عام 1269 استولوا على مراكش وحكموا المغرب الأقصى من طنجة إلى نهر السنغال، واتجهوا نحو المشرق ليضموا حكم بني زيان الجزائري لدولتهم عام 1393. هزيمة المرينيين على يد الأتراك وانسحابهم من الجزائر دفع ببني وتعس (إحدى قبائل بني مرين) إلى السلطة عام 1470، التي كان استلامها للسلطة بداية العد العكسي لوصول شرفاء مراكش الذين انهوا حكم محمد الثاني بن أحمد عام 1550. ولكن قبل ذلك بسنوات معدودة كانت الطريق قد أصبحت ممهدة لسلالة تربط نفسها بفاطمة ابنة الرسول الإسلامي محددة تناسلها من الإمام الشيعي الثاني الحسن بن علي بن أبي طالب: الأشراف العلويون.

عرفت السلطة السياسية في المغرب الأقصى تنافسا بين الشرفاء انتهى بإنتاج مرحلتي حكم: الأشراف السعديون من عام 1550 إلى عام 1650 والأشراف الفيلاليون –سكان منطقة تافيلالت- من عام 1650 إلى التدخل الأوربي، ولغاية الآن هؤلاء الأخيرون، حسنيين وفيلاليين، تنافسوا حول السلطة وتقاسموا قيادة البلاد: الحسنيون قادوها من فاس والفيلاليون من مراكش. الأولى بدأت مع محمد الأول الشيخ عام 1544 وانتهت مع أحمد الثاني عام 1658. والثانية بدأت مع الرشيد بن الشريف بن علي عام 1664 واليها يرجع الملك الحالي الحسن الثاني (22).

المغرب الأقصى المستقل عن النفوذ الخارجي، بدأ منذ القرن السادس عشر ينتج خصوصية تاريخية سوف تميزه لاحقا عن المغرب الأوسط والشرقي. العلامات الفارقة في هذه الخصوصية عكست ازدواجية صراع حاد بين السكان المحليين ضد المحاولات العثمانية القادمة من الشرق والزحف الاسباني والبرتغالي المتقدم من ناحيتي المتوسط والأطلسي. وأنتجت حالة الصراع الدائم مغربا حربيا ودولة فوق المجتمع قوتها اليومي يكمن في قدرتها على تأمين جيش مقاتل: تراجع التجارة وتعاظم النظام الضرائبي ثغرتا التسلل اللاحق لأوروبيي الثورة الصناعية فرنسا وبريطانيا.

قبل أن تتوضح معالم إستراتيجية الغرب، كان المغرب العربي، المستقل والواقع تحت النفوذ العثماني، ينمو باتجاه يعاكس التراث التوحيدي ويكيل إليه الضربات، لم تتوصل الرغبات الدفينة لأصحاب التاريخ المشترك إلى تضميد جراحه النازفة.

«في الحقبة المقابلة إجمالا للقرن الثامن عشر كانت الوقائع البارزة هي التالية: المصدر الرئيسي لموارد الدول-المدن وهو القرصنة قد نضب وقاد إلى ضعف الاستقلال الذاتي المديني، الإنتاج الزراعي لم يزد بشكل ظاهر ولاسيما في الجزء الغربي من المغرب، النزاع بين سلطة مركزية وسلطات محلية لم يعرف التوقف، التجارة البحرية بقيت على حالها بل ونمت، ولكن دائما تحت هيمنة الأجانب ومفيدة في المقام الأول للأقلية الحاكمة. وقد استمرت في أنها لا تلعب دور الموحد للمجتمع. وهكذا حل تسرب أوروبا الاقتصادي شيئا فشيئا محل التهديد العسكري. غير أن مناطق المغرب المختلفة لم يكن رد فعلها من نمط واحد على هذا التطور المشترك. فإن التباين قد تحدد.» (22).

ما نحاول ملاحظته في استخلاصنا لوضعية المغرب العربي بعد التدخل العثماني لا يوصلنا إلى نسف تام للبنية الداخلية لوحدة سياسية لم تنحن كليا بعد.

فالايدولوجيا مازالت قادرة على احتضان رغبات وحدوية كان التاريخ قد طبعها في ثنايا المجتمع. وسواء قامت هذه الإيديولوجية على قاعدة صراع وهمي مع غرب متردد وشرق عابث، أم على قاعدة تشكيل تحصين داخلي-ذاتي يواجه غربا قد تسلّح حتى الأسنان بالحضارة والعلم والمدفع وبالضائع، فإنها، أي هذه الإيديولوجية، سوف تسمح، ماضيا ومستقبلا، بإقرار ما يمكن تسميته الربط التاريخي بين أقسام منطقة لم يختر سكانها، ولا اللحظة واحدة، رقعة خاصة للانتماء السياسي. لا يخرج عن التعميم إلا جشع بعض السلاطين الذين انتفخوا في غفلة من الزمن.

المسألة صعبة ومعقدة ولكننا سنجازف في رسم خطوطها الماضية: الوضعية التي أوصلت المغرب العربي إلى أعتاب السيطرة الأوروبية حضنت على الدوام حضارة عربية-إسلامية دافع باستمرار عن تماسكها الداخلي عاملا الدين واللغة.

التراث الخوارجي والشيعي بنماذجه المتعددة أسس بدايات تغلغل المعتقد المشترك الذي لن يغير شكله المذهبي من ثبات أقدامه. وضمن السياق يأتي الأثر العميق للموحدين الذين ربطوا السياسية بالمذهب وجعلوا من التصوف الإيماني شكلا آخر من عشق الأرض. اللغة كانت تعبير الدين وأيضا رمز الاشتراك الحضاري-الثقافي، لا يخرج عن نتائجها البربر.

لقد «أعطى التعريب للمغاربة قوالب معدة للتعبير وكان السلاطين والملوك البربر هم اللذين، بدأب فريد، فرضوه. وإذا سجلنا بعض مؤشرات المعارضة فإنها لم تكن إلا في حقبة الانحطاط وفي إطار صراع سياسي من العسير الإحاطة به- العروي».

الدين واللغة ركائز حفظت، بمشاركة عاملي التماثل العرقي والتشابه في البنية الاجتماعية، للمغرب العربي وحدته السياسية. تجربة القرون الأخيرة أنتجت نموا إقليميا وأعقبت ملامح تثبيت ما للحدود، سوف يسلك طريقا متعرجا ينتهي بانفصال كيانات سياسية.

«ولكن أكثر كذلك من الحدود التي تكرسها فوارق طفيفة في اللهجات فإن تنوع الظروف التي سوف يتبلور فيها، في كل دولة، الوعي بمصيرها الخاص، وهو ما يجب الإشارة إليه. فالمغرب الأقصى تمالك نفسه في صراعه ضد الايبيريين والأتراك في إطار جمعياته الدينية والإخلاص لتركة الإسلام الأندلسي. ودمجت تونس حكامها الأجانب وفي الوقت الذي لم تنس فيه، ممارسة القيروان العقائدية عليها، فيما مضى، فتحت أبوابها لجميع مؤشرات شرق البحر الأبيض المتوسط. وأخيرا فإن الجزائر، على الرغم من تباعد التقاليد، الزيانية والحمادية، قد تفردت في شعور التمييز المشترك الذي فرضه النظام التركي.

كل هذا، ليبقى مخلصا للحقيقة الواقعة، يتطلب ظلالا عديدة من الفروق ولن يأخذ نهائيا شكله إلا في غضون القرن التاسع عشر، ولكن من المؤكد أن عناصر جديدة، مميزة قد أخذت ابتداء من القرن السادس عشر، تعمل بوضوح. غير أن جميع البلدان المغربية وجدت نفسها من جديد في ذلك العصر موحدة فيما كان ينقصها جيش قومي وعاصمة متكونة من قبل وبسبب هذا العوز، سوف تعرف نفس الاحتلال الأجنبي» (24).

هذا هو المغرب العربي عشية وصول السفن الأوروبية إلى شواطئه.

كونه كذلك فإنه سيبدأ مباشرة مواجهة حادة مع إستراتيجية تقسيم ستعتمد على الفوارق الراهنة لتقيم دويلات تستمد شرعيتها من العنف الاستعماري.


إستراتيجية الغرب: من الاستعمار إلى التجزئة

نقل القرن التاسع عشر الأزمة الأوروبية إلى الخارج محولا الحضارة إلى امبريالية.

ولما كان «الخارج» فقير الإمكانات فإن مهمة اغنائه لن تكون غير تنافس بشع سيحمل تناقضات أوروبا حرب الثلاثين عاما إلى قلب «الخارج» فتنهال عليه تفتيتا، وإخضاعا. ولا تسمح مظاهر الأثر الحضاري الفعلي للتركة الأوروبية بأية تبرئة.

لقد كان العنف الامبريالي شكل تجل لعنف من نوع آخر: العنف الحضاري.

لم يعد المطلوب استغلال الخارج وتقسيمه بل ينبغي أيضا تدمير ذاته لكي بقى وإلى الأبد جزءا من ذات أخرى. لقد كانت المهمة تدمير مجتمع وتاريخ لخدمة مجتمع وتاريخ آخر. من الجزائر إلى جنوب افريقيا وصولا إلى فلسطين كانت ظاهرة استئصال الآخر مهمة سامية لأحفاد الثورة الصناعية. المطلوب كان نفيا لكل حضارة لا ترى في البضائع المحملة والمرابين، القادمين بحماية الجيوش المتعددة الهويات، بداية مستقبل باهر.

تنافس أوروبي على الضحية واتفاق إجماعي على سحقها وتجريدها من كل شيء، هذا هو التعبير المختصر لإستراتيجية الغرب لحظة انحطاط قوى الذات.

الوضعية الجيو-سياسية والإستراتيجية للمغرب العربي جعلت منه منذ قرون طويلة مسرحا لصراعات لا تهدأ. منذ ما قبل التدخل العثماني إلى لحظة انكفاء اسطمبول كانت أوروبا تنظر إلى المغرب النظرة نفسها: بوابة افريقيا والعالم العربي، مدخل إلى الفقراء الذين تعودوا نقل البضائع لا إنتاجها. الأساطيل البرتغالية والاسبانية ظلت لأكثر من أربعة قرون تقطع الأطلسي والمتوسط ذهابا وإيابا. بريطانيا لم تتأخر عن نسج علاقات «ودية» مع السلطات المحلية في فترة تدهور صحة السلطنة العثمانية، ولم تتأخر، لحظة اكتشافها لأهمية مضيق جبل طارق، في إرسال جيوشها لتستقر على شواطئ طنجة. أما فرنسا فقد كان لها تكتيك آخر: سياسة النفس الطويل سوف تتحول مع مطلع القرن التاسع عشر إلى سياسة عنف ستنتهي مع مطلع القرن العشرين بإحكام السيطرة والبدء بتقسيم المغرب العربي، تقسيما لا يراعي إلا حاجة الاستعمار في ضبط الوضع الداخلي للمستعمرات، والتحضير لإبقائها قدر الإمكان حلقة ضعف لا يشفيها إلا العلاج السحري المستورد من باريس.

ثلاث قوى رئيسية، فرنسا وانكلترا واسبانيا، سوف تلعب دورا هاما في تاريخ المغرب العربي، تاريخ وحدته الداخلية ووحدته مع المشرق العربي. الدور المعني تنافس وبالتالي تقسيم.

هذا لا يعني تحييد الآخرين (ألمانيا وايطاليا) بقدر ما يعني النتائج التي جرى تحضيرها منذ قرون بين الدول الثلاث المذكورة.

تستهدف دراستنا، تحديدا، وبالدرجة الأولى، إبراز حقيقتين: الأولى لا تدخل مباشرة في صميم بحثنا ولكنها أساسه التاريخي، والثانية ما سوف نعتمد عليه في معالجتنا لقضية الصحراء الغربية: تقسيم المغرب العربي إلى كيانات سياسية وتقسيم المغرب الأقصى نفسه بين الدول الأوروبية كخطوة أولى لإستراتيجية توليد كيانات داخل الكيان لإعلانها في اللحظة المناسبة، لحظة اليقظة التي ترى في الكيان الأساسي اصطناعا فكيف بها أمام خطر كيانات الكيان. تحويل الجزء إلى أجزاء كانت سياسة وإستراتيجية الغربيين في المغرب الأقصى. كيف كان ذلك؟ الإجابة تعني إعادة قراءة للتاريخ الاستعماري، أحداثه ووثائقه. سنختصر الأحداث ونستعرض الوثائق (الاتفاقات، المعاهدات، المؤتمرات) لكشف أقنعة هذه الإستراتيجية التي أصبحت، عند بعضنا، حقيقة وواقعا.

الخطوة الأولى كانت تدشينا لأبشع بداية استعمارية: احتلال الجزائر. الحضارة المقنّعة كشفت في الجزائر عن وحشية مضاعفة: مرة عندما استعبدت الأرض ومرة لحظة تدمير المجتمع. الخطوة الأولى طالت بنتائجها عموم المغرب العربي، وكانت تحديدا مقدمة لها.

تميزت الخطوة الأولى بطابع العنف العسكري المباشر. فالتمهيد التحضيري الحضاري والديبلوماسي لم يحدث إلا فترة قليلة من الزمن. السبب هو الموقع. فالأهمية الإستراتيجية للجزائر في قلب افريقيا الشمالية، وازدياد حدة التناقض في العلاقات الجزائرية-الاسبانية، وتدهور الوضع الداخلي للعثمانيين وضرورة التدخل السريع من أكثر النقاط ضعفا لحسم الموقف والاستفادة القصوى من الظرف، كل ذلك نقل الفرنسيين إلى مرحلة البدء بتنفيذ إستراتيجية تدخل امتازت بخصوصية الطريقة: بدون أية اتفاقات ولا معاهدات، وبدون توقيع أي نمط من الوثائق (حماية، تجارة، جمارك...) بل إنذار عسكري رافقته حشود الجيش الفرنسي التي وضعت حدا لما يسمى السلطة السياسية الجزائرية –التي، رغم وجود الأتراك، كانت بيد الزعماء المحليين- معتبرة الجزائر مقاطعة فرنسية. نتيجة هذا التدخل، ورغم صدامه بمقاومة عنيفة (تجربة الأمير عبد القادر، إعلان سكان تلمسان انضمامهم لسلطة عبد الرحمن بن هاشم المراكشي)، كانت إلغاء ولفترة طويلة من الزمن تزيد عن قرن، للوجود السياسي والديبلوماسي للجزائر مترافقا مع عنف يومي قوامه تذويب قسري للذات في الآخر...

العملية كانت سهلة البداية، تطورها الحدثي واختلال ميزان القوى يشهدان على ذلك.

منذ اللحظة التي رفض فيها الداي حسين التعاون مع فرنسا، وصلت الأزمة بين الداي وباريس إلى طريق مسدود مفتاحه الوحيد كان عسكريا. في 31 كانون الثاني من عام 1830 اتخذ مجلس الوزراء الفرنسي قرار التقدم نحو الجزائر واحتلالها عسكريا بهدف إخضاع الداي حسين لسلطة فرنسا. وهكذا كان: 37684 جنديا وضابطا و5200 وسيلة نقل تحركت من ميناء طولون الفرنسي على متن أسطولين من أضخم الأساطيل الفرنسية –الأول يتألف من مائة وحدة بحرية من القطع الكبيرة، والثاني من خمسمائة وحدة من القطع المتوسطة متجهة نحو العاصمة الجزائرية. الظاهرة السياسية الوحيدة التي رافقت التقدم كانت تطويق ردود فعل المنافسين الأوروبيين، وإنذارا بالاستسلام للداي.

وبالمقابل كانت القوة الجزائرية في حالة قلق داخل ميزان قوى يميل بكيفيته لصالح القادم الأوروبي: «ستة آلاف جندي من الأوجاق، الذين أقلعوا منذ زمن طويل عن عادة القتال حقيقة» لم يكن يمقدورهم أكثر من الصمود قليلا.

النشاط الديبلوماسي كان قد أصبح، سلفا، في تصرف النشاط الحربي. بعد أن توصل وزير خارجية فرنسا إلى ضمان سكوت باي تونس وباي ليبيا مع تحييد السلطان المغربي عبد الرحمن وسكوته، بدأت مواجهة الضغوط الأوروبية التي كانت ترى في التحرك الفرنسي بدء السباق نحو القارة السوداء.

اسبانيا كان لها حسابات خاصة على مداخل المغرب الأقصى فلم يكن مكلفا لها السكوت عن احتلال الجزائر، بل ودعمه أيضا: تقديم مرفأ باليارس Baleares للقوات الفرنسية، إضافة إلى بعض التسهيلات في المواقع الإستراتيجية مثل موقع ماهون.

أما بريطانيا فقد رأت في التدخل الفرنسي بداية تقدم سوف يؤدي تمريره إلى أبعاد المملكة المتحدة عن افريقيا، فقامت بسبب ذلك بحملة انتقادات واحتجاجات معارضة السياسية الجديدة لفرنسا. بهدف تطويق الموقف الانكليزي تحرك الفرنسيون باتجاهين: اتجاه ديبلوماسي عبّر عن نفسه برسالة من الحكومة الفرنسية مؤرخة في 12 آذار 1830، موجهة إلى كافة الدول العظمى، تنتقد ردة الفعل الانكليزية (25).

واتجاه عسكري يستهدف الانتهاء السريع من عملية الاحتلال وبالتالي وضع الانكليز أمام الأمر الواقع.

بهدف استكمال ناجح للخطة، وجهت الحكومة الفرنسية إنذارا للداي حسين طالبة منه التسليم وفتح الطرق أمام القوات الفرنسية، متعهدة له بضمان سلامته وسلامة أفراد عائلته، دون أي تلميح أو عرض للمساومة أو الاتفاق. وفي عشية 4 تموز يخضع الداي لنص الإنذار ويعلن الموافقة على ما ورد فيه، تلاه في صبيحة اليوم التالي، 5 تموز 1830، تحول الجزائر إلى مستعمرة فرنسية (26).

الخطوة الأولى كانت استثناء في الأسلوب انعكس على الخطوات التالية فتغيرت الطريقة والنتيجة، على المدى الطويل، واحدة.

الوضعية التي سهلت على فرنسا احتلال الجزائر، وتطويق رد الفعل الانكليزي، لم تتكرر وتيرتها في حالة تونس، مما ألزم الفرنسيين بممارسة نشاط ديبلوماسي وخوض صراع مكشوف مع بريطانيا والسلطنة العثمانية في داخل تونس وخارجها. بديهي أن للتطورات الداخلية انعكاساتها على هذه الوضعية: منذ فشل تجربة الإصلاح الأولى، التي أعلنها الباي محمد الصادق في 9 أيلول/سبتمبر عام 1857، وفشل تجربة الإصلاح الثانية، وتجربة خير الدين عام 1869، مرورا بالأزمة الاقتصادية عام 1858 والتي بلغت ذروتها «على شكل اختلال عظيم في النقد» (27) والأمور تتطور بشكل أصبح فيه التدخل الأوروبي -الفرنسي خاصة- في مصير تونس مسألة وقت.

التنافس الفرنسي-الانكليزي حول تونس كان قد مال منذ المسألة الجزائرية لمصلحة فرنسا. ورغم كونه متعدد الأشكال والصيغ فإن الطرفين ارتكزا على مواقع سياسية واجتماعية واقتصادية داخل تونس: الحليف المحلي أو التبعية في صيغة جنينية. فقد «كانت انكلترا تريد توطيد السيادة العثمانية على تونس، بينما كانت فرنسا تختار أن تلعب ورقة الاستقلال… وعلى عكس ما كان في الوسع توقعه لم تكن النخبة التركية الأصل وعلى رأسها الباي معادية للسياسية الفرنسية بينما جنحت النخبة المحلية الأصل نحو انكلترا والسلطان» (28).

عدم التردد الفرنسي وانشغال الانكليز بترتيبات جبل طارق أعطى الفرنسيين دفعا قويا سوف يؤدي، بعد مخاض وتوتر، إلى حسم المسألة وتوقيع معاهدة الحماية الفرنسية على تونس. وبالفعل، ففي 26 نيسان/أبريل عام 1881 دخلت قوات الجنرال الفرنسي فورجنول الحدود الخاضعة لسلطة باي تونس، وفي 12 أيار/مايو من نفس العام جرى التوقيع على معاهدة الحماية-معاهدة باردو.

نصت معاهدة باردو على عدة نقاط أهمها:

1-السماح لفرنسا بالاحتلال العسكري.

2- حق فرنسا في تسمية وزير مقيم، مهمته «التوسط» بين الحكومة الفرنسية والسلطات التونسية لمعالجة الأعمال المشتركة بين البلدين.

3- تنظيم الشؤون المالية لخدمة الدين العام.

4- سحب حق الباي في أية مناقشات أو اتفاقات دولية –التمثيل الديبلوماسي- مع ضمانة كل الحماية اللازمة لشخصه ولأفراد عشيرته (29).

ولكي تكون الحماية احتلال جرى تعديل على نصوص معاهدة باردو بالتوقيع على اتفاقية جديدة في 8 حزيران/يونيو عام 1883 والتي أطلق عليها اسم معاهدة مارسا. أهم نقاط هذه المعاهدة وردت في بندها الأول الذي نص على انه «من أجل تسهيل الحكومة الفرنسية في ممارسة حمايتها، على صاحب السمو باي تونس أن يقوم بتنفيذ الإصلاحات الإدارية والحقوقية والمالية التي تراها الحكومة الفرنسية صالحة.»(30).

بديهي أن تضع نهايات كهذه الدول الأوروبية المتنافسة أمام ضرورة تصعيد آخر للمواجهة، سارعت فرنسا قبل غيرها إلى تطويقه بتوقيع اتفاقية مع انكلترا عام 1890، تعلن فيها الدولتان موافقتهما على إتباع سياسة مشتركة لتقسيم المنطقة المجاورة للصحراء الوسطى والشرقية.

أسفر احتلال تيبستي عن تصعيد في الخلافات التركية-الفرنسية حول الحدود الليبية-التونسية انتهت باتفاق الطرفين وتوقيع اتفاقيتين حول الحدود، الأولى عام 1906 والثانية عام 1910، سوف تكونان في أساس تخطيط الحدود اللاحق. توقيع الاتفاقيتين فتح قابلية ايطاليا وألمانيا وانكلترا التي سارعت في البحث عن مداخل إلى ليبيا. كسب المسعى الايطالي السباق وانتهى بحصول ايطاليا على عدد كبير من المؤسسات التجارية والمصرفية والزراعية، كما نالت حقوقا لبناء المدارس التعليمية والمهنية. ولما كان المغرب الأقصى بحدوده الأطلسية وأهمية جبل طارق الإستراتيجية مجال تنافس دقيق، فإن ايطاليا سوف تتفرع لليبيا بينما يتراكض الباقون لتقرير مصير سلطان مراكش.

لم تتأخر ايطاليا، وهي، إذ تستفيد من الامتيازات المذكورة، بتحضير غزو عسكري ما لبث أن دخل حيز التطبيق صبيحة 5 تشرين أول/أكتوبر من عام 1911. كانت كل الظروف تساعد الايطاليين على الحسم السريع: الوضع التركي الداخلي يعاني مأزقه القاتل عام 1912، والسكوت الأوروبي عن الهجوم الايطالي كان له ما يبرره –كان كل طرف يعمل على كسب ايطاليا في فترة كانت الأمور تسير فيها نحو حرب شاملة وأكيدة- واندلاع حرب البلقان الأولى.

أخذت السيطرة العسكرية والسياسية الايطالية على ليبيا صفة شرعية بعد التوقيع على معاهدة لوزان-اوشي في 27 تشرين الأول/أوكتوبر عام 1912 (31).

وهي آخر معاهدة في مسلسل التدخل الأوروبي بعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب في 30 آذار/مارس 1912. وبذلك تدخل أوروبا الاستعمارية إلى افريقيا وتخرج منها الإمبراطورية المريضة بهزيمة تنهيها على حدود أنطاكية (32).

في الوقت الذي كان فيه سكان تلمسان (الجزائرية حاليا) يرون في الانتماء السياسي المراكشي عملية طبيعية في مواجهة العسكر الذين سيطروا على الساحل الجزائري، والأمير عبد القادر يخوض تمردا متواصلا كان يحلم بأن يكون تحالفه مع السلطان عبد الرحمن استراتيجيا في عملية دفاع عن أرض واحدة. في ذلك الوقت، كانت مراكش (المغرب الأقصى) قد تآكلها الرأسمال «المدنس»، والتفكك الداخلي يبحث عن حضن غربي ظلت تناقضات أطرافه عامل الحفاظ على استقلال يعيش لحظة احتضار وانهيار بطيء. ولكن كل شيء كان قد بدأ يتجه وإصرار نحو مغرب الأطلسي، وهناك تحديدا ستتراكم التناقضات الاستعمارية وتنفجر، فتعيد التئامها بتقسيم آخر.

منذ مؤتمر فيينا 1815 إلى مؤتمر برلين 1881 كانت إستراتيجية غريبة قد رسمت الخطوط العريضة لخط سيرها نحو مراكش، في رحمه كان ينمو مستقبل كان أصحابه آخر من شاركوا في صناعته.

المغرب الأقصى الذي كان يتمتع باستقلالية سياسية عن السلطنة العثمانية، كان قد تحول إلى مسرح لصراع مستتر وقاس دفع سلطانه للبحث عن حماية انكليزية (33).

وكان الانكليز، بعد أن دخلوا من نقاط ضعفه –التجارية خاصة- قد استحوذوا على امتيازات عسكرية وسياسية واقتصادية سوف تلعب، لفترة من الزمن، دورا كبيرا في إيقاف المدّ الفرنسي. هذا المدّ الذي كان، منذ حطّ رحاله في الجزائر، يرى في الوصول إلى الأطلسي محطة نهائية بدونها يعجز الفرنسيون عن سد أهم ثغرة إستراتيجية في مشروعهم الاستعماري الخاص بافريقيا. فالمغرب الأقصى الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، ووقوعه بأيد لأوروبية معادية لفرنسا سيهدد مباشرة الوجود الفرنسي على محاذاة المتوسط، وما وراء الصحراء على مشارف «افريقيا الفرنسية». وهنا تكمن أهمية التطورات الخاصة، محلية وأوربية، التي تميّز المغرب الأقصى عن باقي مناطق المغرب العربي (34).

كان التوقيع على معاهدة طنجة، في 10 تشرين أول/أوكتوبر عام 1844، ومن بعدها التوقيع على اتفاقية الحدود الفرنسية (الجزائرية)- المغربية المسماة بمعاهدة للالا مارنيا في 18 آذار/مارس عام 1845، والتي تميزت «بتحديد غير دقيق للحدود الجزائرية-المراكشية الأمر الذي كان يقدم للفرنسيين وسيلة ضغط مفيدة دائما».

بداية التدخل الفرنسي في المغرب الأقصى، مهّدت له تطورات مستجدة: وفاة السلطان عبد الرحمن عام 1859، احتلال اسبانيا للجزر الجعفرية، التدخل الانكليزي تحت ستار تقديم الدعم للسلطان، التوقيع على اتفاق فرنسي-مغربي في 17 آب/أغسطس 1863. هذه التطورات غيرت وجهة سير السفن الفرنسية، تغيير اشترط تحقيق نجاحه الحسم السريع (35).

بحجة مواجهة قبائل أولاد سيدي الشيخ، تقدمت الجيوش الفرنسية باتجاه العمق المراكشي والصحراء، فاحتلت القليعة عام 1891. وفي 19 آذار/مارس عام 1900 احتلت تواط وبعدها في 5 نيسان/ابريل وصلت إلى ايغلي (36).

اثر التدخل الألماني في طنجة عام 1905، ونتائج مؤتمر الجزيرة الخضراء الدولي عام 1906، بدأت فرنسا سياسة مواجهة مع الأوربيين أخذت صيغة التقدم العسكري الشامل، تأخير تنفيذها سوف يعجّل بقدوم الألمان.

وفق السياق، كان من المنطقي أن تضرب فرنسا عرض الحائط مقررات مؤتمر الجزيرة، وتتذرع يتمرد المغاربة في المخزن، لتتقدم مسرعة نحو الوسط والساحل. كانت مدينة وجدة المحطة الأولى فاحتلتها بتاريخ 19 آذار/مارس 1907، أعقبتها بقصف مدفعي شديد على الدار البيضاء قبل أن تدخلها في آب/أغسطس من نفس العام.

أثار هذا التقدم ردود فعل ألمانية شديدة كان لزاما على فرنسا، لتهدئتها، تقديم تنازلات في مواضع أخرى أخذت شكلها القانوني بالتوقيع على معاهدة 9 شباط/فبراير عام 1909. التسوية الفرنسية-الألمانية أعطت زخما للمخطط الفرنسي الذي استكمل تقدمه فوصل محتلا إلى مراكش عام 1911. وفي 21 أيار/مايو من نفس العام جرى احتلال فاس وبدء التمهيد لعقد معاهدة حماية بالقوة، مع السلطان المغربي عبد الحفيظ.

قدرة فرنسا على تجاوز حادثة أغادير وتطويق الأطماع الألمانية باتفاقية جديدة (4 تشرين الثاني/نوفمبر 1911) وضعت اللمسات الأخيرة على معاهدة الحماية. وفي 30 آذار/مارس من عام 1912 جرى توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب، التي بواسطتها تمكنت فرنسا من تشريع سيطرتها السياسية والاقتصادية على القسم الأكبر من المغرب الأقصى، من النواحي القانونية والدولية فقط. فهي قد اجتاحت لأكثر من عشرين عاما لتتمكن من فرض سيطرتها على كامل التراب المغربي (بالتعاون مع اسبانيا). بمعنى أنها خاضت حربا شعواء ضد انتفاضات القبائل المغربية في الشمال والجنوب، حربا انتهت بتصفية المعارضة الشعبية التي صمدت في ظروف قاسية وحالت دون هدوء السيطرة الفرنسية-الاسبانية لغاية مطلع عام 1935.

الوضعية الخاصة والتنافسية والتاريخية لاسبانيا أرغمت فرنسا على قبول منطق تقسيم المغرب معها، بحيث يمكن القول أنه منذ قرن أو أكثر من التدخل والتدخل المعاكس الاسباني والفرنسي، خاصة بعد احتلال اسبانيا لمدن في شمال المغرب وجنوبه، كانت قد ارتسمت إستراتيجية مميزة لتقسيم المغرب الأقصى سوف نعرض تفاصيلها في الصفحات القادمة.

كون هذه الإستراتيجية إطارا تاريخيا يشكل استيعابها مدخلا لفهم تناقضات قضية الصحراء، فقد رأينا ضرورة عرض الصراع الأوروبي حول المغرب وكيفية معالجة الغرب لهذا الموضع وذلك من خلال عرض أهم ما ورد في المعاهدات الثنائية المتعلقة بالمغرب الأقصى.


تشريع التجزئة والمسألة المغربية

الاتفاقيات الثنائية التي عقدت بين المغرب وإحدى الدول الأوروبية، أو بين الدول الأوروبية نفسها تتضمن مسألتين جوهريتين:

الأولى، وهي اعتبار المغرب الأقصى من شاطئ المتوسط في الشمال إلى نهر السنغال في الجنوب منطقة «سياسية» تابعة للسلطان. لا يلغي ذلك كيفية علاقات هذا السلطان بأطراف سلطته. الدول الأوروبية تتعامل مع سلطان المغرب بوصفه مالكا لصفة شرعية وممثلا للسكان الذين سوف يرزحون تحت نير الاستعمار.

الثانية، وهي أن إستراتيجية الدول الغربية المتنافسة على المغرب الأقصى انتهت بتقسيم منطقة موحّدة سياسيا وجغرافيا، لم تفصل بين سكانها أية حدود. الصراع الأوروبي للحصول على مواقع في أهم المداخل الإفريقية كان يضعه التناقضات باستمرار على حافة مواجهة شاملة: التقسيم الاستعماري للمغرب الأقصى بين مناطق نفوذ فرنسية ومناطق نفوذ اسبانية إضافة إلى مناطق عازلة ودولية الخ. كان، تحديدا، محاولة لتفادي الصدام الشامل.

بهاتين المسألتين تحاول دراستنا تقديم شهادة تاريخية وإدانة في نفس الوقت.

شهادة على وحدة تاريخية، وإدانة لمؤامرة تاريخية... نعني بالوحدة التاريخية أن الوضع الراهن هو نتائج المؤامرة التاريخية وليس صيرورة طبيعية لبنية كان مصيرها أن تتجزأ، وكون الاستعمار لم يفعل سوى الإشراف والمراقبة على تجزئة تجري من الداخل! أيضا، الوحدة في مفهومنا ليست وجود سلطان «سياسي»، مع أهمية هذا الوجود، الوحدة هي الثبات في التاريخ الذي يصنعه نفس البشر وفي نفس المنطقة مع التبدل الدائم لوجه السلطان. من إدريس الأول والمعز لدين الله، ويوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن بن تومرت الخ... وصولا إلى عبد الحفيظ كانت الظاهرة ثابتة على الأرض ومتغيرة في السلطة. كانت ولازالت. إن تناقضات «الذات» وتمايزات المناطق لم تسفر «تاريخيا» عن «ذوات» مستقلة ومتباعدة عن بعضها. وحده العنف الامبريالي-الاستعماري الذي يقسم الأراضي والشعوب، والوثائق تشهد بينما الجيوش تنفّذ: تفتيت الذات من الخارج كان الدرس الأول لأساتذة الحضارة الغربية.

كان التعامل مع سلطة وأرض موحدتين، والتاريخ المادي ذكرناه، لنقرأ التاريخ النظري: -بتاريخ 28 أيار/مايو عام 1767 وقّع السلطان المغربي محمد بن عبد الله بن إسماعيل على «معاهدة السلام والتجارة» مع ملك اسبانيا كارلوس الثالث، وذلك في إطار وضع حد للمشاكل التي كانت تثيرها تجاوزات السفن الاسبانية في المياه الإقليمية للمغرب في الشمال من ناحية البحر الأبيض المتوسط وفي الجنوب من ناحية المحيط الأطلسي.

أهم ما ورد في هذه المعاهدة نصت عليه الفقرة الأخيرة منها، وخاصة المادتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، والذي جاء فيها حسب النص العربي للمعاهدة:

«18- إن سيدنا نصره الله تبرأ من أهل كنارية من اصطيادهم للحوت بساحل وادي نون إلى ما وراءه ولم يبق عليه درك فيما يقع بهم من عرب البلاد حيث لم تنلهم أحكام ولا قرار، فهم ينزلون بخيمهم حيث شاؤوا ويذهبون حيث شاؤوا، وهلاك أهل كنارية محقق مع هؤلاء العرب. وأما ما كان من ساحل أكادير إلى ناحية العرب فهو تحت ظل أمامنا وقد جعل أيده الله لأهل كنارية أن يصطادوا بساحل أكادير واسقط عنهم الوظيف وأبقى هاتيك الساحلين بقصد أهل كنارية وغيرهم من الاسبانيين لا يزاحمهم فيها أحد مراعاة للصلح والمهادنة».

«19- طلب التوسع في الأرض للمدن الأربعة سبتة ومليلية والنكور وباديس فكان الجواب على ذلك من سيدنا نصره الله أن الملوك المتقدمة جعلوا تلك الحدود القائمة الآن بمحضر العلماء والقضاة والجماعة من المسلمين من زمن أخذ هذه المدن المذكورة وأنزلوا عليها خطوط أيدهم وألزموا نفوسهم عند تلك الحدود حتى لا يقع فيها نقص ولا زيادة، وكل سلطان يتولى أمر الرعية يشهد عليه عمارة تلك الحدود المذكورة، وأردتم أن يحضر رجل منكم وآخر من قبلنا حتى تعرفوا هذه الحدود وتتحققوا منها حتى لا يبقى فيها خلاف. ها نحن جعلنا وكيلنا للوقوف مع وكيلكم قائد تطوان والذي يفعل مع صاحبكم أمضيناه وتُخطّ الحدود بالأحجار».

بتاريخ أول آذار عام 1799 وقّع الفقيه سيدي محمد بن عثمان،وزير السلطان المغربي بن سليمان، مع سفير الملك كارلوس الرابع «معاهدة السلام والصداقة والملاحة والتجارة والصيد، في مدينة مكناس. هذه المعاهدة تعالج تقريبا نفس القضايا التي تضمنتها المعاهدة السابقة مع توضيح أكثر لصلاحيات وحقوق السلطان المغربي، وخاصة فيما يتعلق بموضوع الصيد البحري.

ففي البند الرابع عشر من هذه المعاهدة ورد أن «رعية الاسبان الفارين من سبتة ومليلية والنكور وباديس إلى بلد سيدنا أمير المؤمنين، فإن خرجوا في بلد فيها القونصوا (القنصل الاسباني) أو نائبه، فإن أراد أحدهم الإسلام فيحضر القونصوا أو نائبه ليرى وليسمع، وأن يخرجوا من حضرة سيدنا نصره الله أو غيرها مما لا قونصوا بها ولا نائبه فسمع ممن أراد الإسلام العدول ومن بقي على نصرانيته يدفع للقونصوا...»

والبند الخامس عشر نصّ على ما يلي: «تبقى حدود سبتة وما حولها لرعي بهائمهم على ما تركهم عليه سيدنا رحمه الله وجيرانهم واقفون عند الحدود محافظون على شروط الصلح بخلاف جيران مليلية والنكور وباديس فغير محافظين على الشروط فيجب أن يلزموا الوقوف عند الحد والوفاء بالعهد ولا يتركون على الإساءة إلى أهل هذه القرى فإن لم يقصدوا فإن حكام المدن المذكورة يدافعون عن أنفسهم بالمدفع وغيره».

أما من ناحية الساحل الأطلسي والجنوب فقد نص البند الثاني والعشرون على انه «إذا حرث مركب لجنس الاسبان فيما وراءه سوس وواد نون فمن جهة المحبة التي لملك اسبانيا في سيدنا أيده الله يبحث كل البحوث ويستعمل عزمه في إنقاذ رعية المحرثين بما أمكن، إلى أن يرجعوا لبلدهم».

البند السادس والعشرون نصّ على أن «لا تعطي رعية سيدنا نصره الله بمرسى الاسبان في صك الدخول والخروج عن سلعتهم المأذون المتاجرة فيها إلاّ ما هو معلوم لهم من قديم إلى الآن».

البند السابع والعشرون يكمّل بأنه «إذا أتى أحد من رعية الاسبان بسلع تجارة غير ممنوعة لمراسي سيدنا فلا يعطون عن صاكتها إلا عشرة في المئة سواء دفع في الواجب سلعة أو دراهم».

البند الخامس والثلاثون نصّ على أنه للاسبانيين «القاطنين بجزر كنارية وغيرها يأمر سيدنا لتلك السواحل من حرس أكادير إلى وراءها من جهة الزط بأن يتركوا تلك الرعية يصيدون السمك وغيره بالبحر وبحيث لا يلحقهم ضرر من المسلمين أن يلتجئوا إليهم».

البند السادس والثلاثون يتابع بأن «رعية الاسبان الذين يخرجون من مراسيهم بصدد الصيد يستظهرون لولاة سيدنا بتلك الناحية بسنسية (إذن) إتيانهم ليعين الحاكم المتولي هنالك الوضع الذي يتصيدون منه ولا يتعدونه». البند الأخير من هذه المعاهدة يجيز للمغاربة اعتقال كل اسباني يتقدم نحو الساحل بدون موافقة السلطات المحلية، حيث يدفع بعد إلقاء القبض عليه إلى القنصل أو «لأحد نوابه بالقرب من الموضع الذي قبض به في الحين ليبحثوا في أمره فإن كانت عليه حجة في ذلك يزجرونه على حسب ما يقتضيه حكم جنسهم...».

معاهدة السلام والصداقة بين اسبانيا والمغرب الموقعة في تطوان بتاريخ 26 نيسان/ابريل عام 1860، من قبل الملكة ايزابيل الثانية والسلطان محمد عبرت عن تشريع للاحتلال الاسباني في مناطق المغرب الشمالية (سبتة، مليلية، النكور وباديس) حيث يتعهد السلطان المغربي بضمان أمن وسلامة الاسبان المقيمين في تلك المناطق ويحول دون هجمات القبائل عليها (البند السادس).

كما يعطي في البند السابع كل الحق لملكة اسبانيا باتخاذ «التدابير التي تراها ملائمة لأمن تلك الأراضي، وذلك بأن تقيم في أي مكان منها التحصينات، والمواقع الدفاعية التي تراها مناسبة، دون أن تلقى في أي وقت أية عرقلة من جانب السلطات المغربية».

أما البند الثامن فقد نص على وعد من السلطان المغربي بإعطاء اسبانيا موقعا على ساحل المحيط وذلك «لتكوين مركز للصيد البحري» وذلك بالقرب من سانتا كروز دي ماربيكينا، المعروفة حاليا باسمها المغربي ايفني.

واضح من المعاهدات أنها تضمنت جميعها مشاكل تدور داخل الأراضي المغربية، وحلولا تراوح فيها التنازل مع التمسك بالأرض في فترة كان فيها السلطان المغربي باتجاه تقديم تنازلات أكثر من الصمود. لهذا بدون شك أسباب، مهما تكن طبيعتها، فإن معالجتها تساعد على معرفة خلفيات مضامين هذه البنود مجتمعة. ما يهمنا التنبيه إليه وهو أن السلطان المغربي، إذ يتفاوض باسم كل المنطقة المذكورة وسكانها، كان، في حالة تنازله، ملزما بخوض مواجهة مع القبائل التي ترفض دخول الأجنبي إلى بلادها، سواء كان ذلك في الشمال على حدود سبتة أم في الجنوب بمواجهة جزر الكناري. وفي ذلك ظاهرة متكررة تحول المغربي، باستمرار، إلى مقاتل لحظة شعوره بتهديد يطال أرضه، صحراء كانت أم ريفا.

المعاهدة البريطانية- المغربية حول امتلاك المغرب لمنشآت شركة نورث وست افريكا (شمال غرب افريقيا) في الطرفايا، التي وقعها في 13 آذار/مارس عام 1895 كل من الوزير أحمد بن الفقيه موسى بن احمد وأرنيط ماسن ساطو، تضمنت اعترافا انكليزيا بحقوق المغرب الجنوبية المحاذية للأطلسي. فالبند الأول نصّ على انه في حالة شراء المخزن للشركة المذكورة «لا يبقى كلام لأحد في الأراضي التي من وادي درعا إلى رأس بوجدور المعروف بالطرفايا المذكورة، وكذلك فيما هو المحل من الأراضي لكون ذلك كله من حساب أرض المغرب». أما البند الثالث فيعتبر أن عملية شراء الشركة المذكورة شاملة «لزينة البناء حجرا أو خشبا الذي بالبحر والذي بالبر كما يكون شاملا أيضا شراء المخزن لذلك ولجميع ما اشتمل عليه جميع البناء المذكور الذي في البر والذي في البحر من مدافع وغيرها ولا يبقى كلام لأحد في ذلك ولا في تلك الأراضي».

الاتفاقيات المغربية-الفرنسية كانت سياسية-جغرافية أكثر من بحرية-تجارية. وهنا تكمن أهميتها، إذ تكشف بوادر الإستراتيجية الفرنسية تجاه المغرب فور احتلال الجزائر.

كان تمرد الأمير عبد القادر الجزائري بشكل نواة حرب تحرير استفادت من استقلال المغرب الأقصى لتنطلق منه عمليات صد قوات الاحتلال الفرنسي. استمرارية حركة مسلحة من هذا النوع كادت تؤدي إلى تهديد طويل الأمد للمشروع الفرنسي، ظهرت بوادره في تعاظم التأييد الشعبي للأمير وفي بداية نوع من التحالف بين الجزائريين (بقيادة الأمير عبد القادر) والمغاربة ممثلين بسلطانهم عبد الرحمن. لمواجهة حالة متميزة بالخطورة تحركت فرنسا لتحقيق ثلاثة أهداف: الأول، تصفية الانتفاضة المعادية للاحتلال الفرنسي. الثاني، إخراج المغرب من فلك الأزمة الجزائرية من خلال ضرب الموقف المشترك من التدخل الفرنسي المعبر عنه بالتعاطف مع الأمير عبد القادر. الثالث وهو رسم حدود للسيطرة الفرنسية ضمن إستراتيجية التقدم البطيء باتجاه وديان الأطلس كخطوة أولى نحو المحيط. أي تدخل بخطى سلحفاة واحتلال تدريجي للمغرب يرافقه تقسيم غير ثابت لوحدة الأراضي الجزائرية-المغربية.

المعاهدة الفرنسية-المغربية الموقعة في طنجة بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر عام 1844 كانت حجر الأساس لهذه الإستراتيجية. حول هذه المعاهدة نقدم الملاحظات التالية:

إنها نصت على أن القوات المغربية المجتمعة بشكل غير عادي على حدود الدولتين، أو على مقربة من الحدود، يجب أن تسرّح، وعلى أن سلطان المغرب، من الآن فصاعدا، سيلتزم بمنع أي تجمع من هذا النوع. بالمقابل، يحق لقائد منطقة وجدة أن يملك قوة مؤلفة، في الحالات العادية، من ألفي رجل على أن يزيدهم في الظروف غير العادية والتي تراها الحكومتان كذلك، وذلك بما هو ضروري للفائدة المشتركة (البند الأول).

إنها نصت على معاقبة، معاقبة نموذجية، كل زعيم مغربي يقود أو يتعاطف مع أعمال العنف، التي تمارس أيام السلم، فوق الأراضي الجزائرية ضد قوات صاحب الجلالة ملك فرنسا. بناء عليه فإن على الحكومة المغربية إشعار الحكومة الفرنسية بالتدابير التي ستتخذها لتنفيذ ذلك. (البند الثاني).

إنها نصت على التزام السلطان المغربي بشكل نهائي ومطلق، بعدم تقديم أية معونة مادية (أموال أو أسلحة) للمتمردين أو أعداء فرنسا. (البند الثالث)

البند الرابع جرى تخصيصه لقضية الأمير عبد القادر. حول ذلك نصت المعاهدة على اعتبار الأمير خارجا عن القانون في داخل المملكة المغربية، وكذلك الجزائر، وبالتالي فإنه سيصبح ملاحقا بالسلاح بواسطة الفرنسيين فوق الأراضي الجزائرية، والمغاربة فوق الأراضي المغربية، حتى يقع في قبضة إحدى القوتين.

استتبعت هذه النقطة تحديدا عاما للحدود هدفه معرفة دائرة التحرك العسكري للفرنسيين والمغاربة. لذلك نصت المعاهدة أن تعيين الحدود التابعة للفرنسيين ولسلطان المغرب تبقى وضعيتها التي كانت قائمة ومعترفا من قبل الحكومة المغربية منذ عهد السيطرة التركية على الجزائر. على أن يكون التنفيذ التام لهذه القضية موضوع مناقشات ميدانية بين اختصاصيين من كلا الطرفين. (البند الخامس). انسجاما مع هذه النقاط تتوقف العداوة بين الطرفين. واثر تنفيذ مضامين البنود السابقة بما يرضي الحكومة الفرنسية، تنسحب القوات الفرنسية من جيرة موغادور ومدينة وجدة، كما يعاد لكل حكومة سجناؤها المعتقلون عند الحكومة الأخرى. (البند السادس).

عمومية هذه المعاهدة وخاصة فيما يتعلق بقضية الحدود أدت إلى توقيع معاهدة ثانية خاصة بالحدود الجزائرية-المغربية. معاهدة دقيقة من ناحية الحدود الشرقية، وعامة فيما يتعلق بالصحراء.

تضمنت هذه المعاهدة الموقعة بتاريخ 18 آذار عام 1845 (معاهدة لالاّ مارنيا) عدة بنود هامة جديرة بالتعليق.

البند الأول، اعتبر حدود السلطة التركية نهائية ونصّ على أن الطرفين يعتبران الحدود القائمة سابقا بين المغرب وتركيا تبقى هي نفسها بين الجزائر والمغرب. ولا يحق لأي من الدولتين تجاوز حدود الأخرى. كما لا يحق لأحد بتعمير جديد على خط الحدود الذي لن يتعين بالحجارة، بل سيبقى، وبكلمة واحدة، كما كان بين البلدين قبل التدخل الفرنسي في الجزائر.

البند الثاني أقرّ، لكي تصبح القضية واضحة، أن كل ما هو شرق هذه الحدود يتبع الجزائر، وما هو غربها يتبع المغرب.

البند الثالث كان هندسة دقيقة وميدانية للحدود المذكورة، بحيث كانت تتعين النقاط وفق حاجة المخطط الفرنسي بدون أية مراعاة للتواجد البشري: تقسيم قبيلة أو قرية مثلا (حالة أولاد سيدي الشيخ)، أي تقسيم للأرض وللمقيمين عليها. وقد جرى تعيين الحدود على الشكل التالي:

«تبدأ الحدود بخط يمتد من البحر بممر وادي أجرود ويتابع سيره للمكان حيث يأخذ الوادي اسم كيس، ويصعد أيضا مع نفس مجرى المياه ليصل إلى النبع المعروف برأس العيون الواقع في سفح ثلاث تلال تحمل اسم مناسب كيس، التي، بسبب وقوعها شرق الوادي، تتبع الجزائر. من رأس العيون يتابع هذا الخط سيره صاعدا باتجاه الجبال المجاورة ليصل إلى نقطة تدعى دراع-الدوم، حيث ينحدر باتجاه سهل الأوج.

من هذه النقطة يتجه بخط مستقيم فوق حوش سيدي عايد الذي يبقى رغم ذلك ضمن مساحة 250 مترا (أي الحوش)، إلى الجانب الشرقي من الحد الجزائري. من حوش سيدي عايد يتابع الخط سيره باتجاه جرف-البارود الواقع فوق وادي بو-نعيم، ومنه يصل إلى كركور سيدي حمزة الذي يوصله بدوره بزوج البغال، ومن ثم يمتد شرقا من منطقة أولاد علي بن طلحة إلى سيدي زاهر الواقع فوق الأراضي الجزائرية. يتابع الخط سيره على الطريق الكبير، لغاية عين-تكبالت الواقعة بين وادي بو أردة والزيتونتين المعروفتين باسم التومية فوق الأراضي المغربية. من عين تكبالت يصعد الخط مع وادي ربان ليصل إلى رأس عافور.

يتابع تاركا من ناحية الشرق مربط سيدي عبد الله بن محمد الحمليلي، وبعد أن يتجه غربا متبعا طريق المشميمش يسير بخط مستقيم ليبلغ مربط سيدي عيسى الذي يقع في نهاية سهل ميسويين. هذا المربط وتوابعه يعتبران فوق الأراضي الجزائرية.

بعد ذلك ينحدر جنوبا إلى كودية الدباغ، وهي التلة الواقعة على طرف الأرض الزراعية حيث يستقيم في وجهة تتجه نحو الجنوب لتصل إلى خناج الحادا التي تسير منها إلى تانيت الساسي حيث الفائدة تعود للطرفين.

لم ندخل بعد إلى الصحراء. المهندس الفرنسي سار لغاية الآن من البحر إلى أول تلة رملية ووقف. هندسة تقسيمية أخرى للقبائل: لكي تكون الحدود واضحة يجب أن يكون التقسيم البشري أيضا واضحا. من الحبر باتجاه الخط المذكور برا. تصبح قبائل بني منغوش التحتا وعاطية، المغاربة جزائريين (أي تحت حكم فرنسا) بعد أن ارتحلوا لخلافات لهم «مع إخوتهم في المغرب» -كما يقول النص- لأنهم وجدوا في ظل الحاكم الجزائري ملجأ مقابل ضريبة سنوية. ولما كان مندوبو فرنسا راغبين في إثبات «الكرم الفرنسي» أمام مفاوضهم المغربي و«لتمتين أواصر الصداقة والتفاهم والعلاقات الجيدة بين البلدين» فليلغوا الضريبة (ومقدراها خمسامئة فرنك فرنسي على كل قبيلة) ويعفوا القبيلتين من الدفع مقابل تبديل الانتماء «طالما السلام بين ملكي فرنسا والمغرب قائما».

تتابع العملية فصولها لتصبح القبائل التي تقع بعد أراضي عاطية خاضعة لنفوذ سلطان الجزائر الفرنسي: قبائل مسيرده، ال آشاش، أولاد ملوك، بنو بو سعيد، بنو سنوس، أولاد الناصر... يقابلهم على نفس المستوى اعتبار القبائل التالية مغربية: أولاد منصور رل طريفا، بني ايزناسن، المزاوير، أولاد أحمد بن إبراهيم، أولاد العباس، أولاد علي بن طلحة، أولاد عزوز، بني بو حمدون، بني حمليل وبني متار رل رأس العين...

الإسهاب في عرض البند الثالث من هذه المعاهدة لا يهدف سوى إلى إبراز القاعدة التي كان يتم عليها تجزئة الشعب الواحد والأرض الواحدة: تقسيم المياه والسهول والزيتون وحتى القبائل التي كانت تشرب من نفس المياه وتزرع نفس السهول وتأكل نفس الزيتون!!.

مع البند الرابع تطل مسالة الصحراء لتأخذ صيغة لا زالت سلبيتها ترمي بأثقالها لغاية هذه اللحظة: «في الصحراء لا يوجد حدود ترابية يمكن إقامتها بين البلدين، لأنها أرض غير صالحة ولا تفيد إلاّ ممرا للعرب (القبائل الرحل) التابعين للدولتين التي تأتي باحثة عن مرقد تجد فيه المرعى والمياه الضروريتين لها...» وإذا كان تحديد الخط الرملي صعبا فمن السهل تحديد أسماء القبائل المفترض خضوعها لإحدى الدولتين: قبيلة أولاد سيدي الشيخ تصبح قبيلتين واحدة مع المغرب (أولاد سيدي الشيخ الغاربة) –من غرب- والثانية مع الجزائر (أولاد سيدي الشيخ الشارقة)... نفس العملية تنطبق على قبائل حميان التي تصبح كلها للجزائر باستثناء فرع حميان-جنيه الذي يلتحق بالمغرب (بواسطة المعاهدة طبعا).

تصل المعاهدة إلى القصور، أو قرى الصحراء، فتمارس عليها نفس المخطط: قصور ايش وفيغويغ للمغرب وقصور عين صفرة وصفيصة وأصلا، ويتوط، وشلاّلا، والأبياد وبوسمغون للجزائر... (البند الخامس).

لأن المنطقة الواقعة جنوب هذه القصور لا تحتوي على مياه وغير مسكونة والتي هي صحراء بكل معنى الكلمة فالحدود تبقى فيها مائعة (البند السادس).

باستثناء القبائل المذكورة، بإمكان كل فرد أن ينتقل بين طرفي خط الحدود، وحركة انتقاله تحدد انتماءه الوطني. من أراد أن يكون جزائريا يقطع الطريق شرقا ومن أراد أن يكون مغربيا يقطعه غربا ولا يحق للسلطات المعنية منعه.

كذلك، من أراد تغيير جنسيته ووطنيته يتنقل من تحت الزيتونة التي فصلتها عن الزيتونة المجاورة مسطرة المهندس الفرنسي.

أما «الحاج عبد القادر وكل من تبعه لا يحق لهم الاستفادة من هذه المعاهدة، علما بأن ذلك يناقض (في حالة العكس) البند الرابع من معاهدة 10 أيلول/سبتمبر لعام 1844» (البند السابع).

انتهى التقسيم مبدئيا ووقعه الكونت دي لارو وأحمد بن علي.

البروتوكول السري، الذي وقعته كل من فرنسا والمغرب بتاريخ 20 تموز/يوليو عام 1901، طوّر معاهدة الحدود وأضاف عليها تحديدا لنقاط المراقبة والجمارك. البنود الثاني والثالث والرابع تسمّى النقاط التي يحق الحكومة المغربية ولسلطات الاحتلال الفرنسي إقامتها.

ولما كانت المسألة على شيء من التعقيد، فإن الحل سوف يأتي غربيا وخاصة كما نصت البنود الباقية، الخامس والسادس تحديدا:

«وضعية سكان الأراضي الواقعة بين خطوط المراكز التابعة للبلدين والمذكورة أعلاه، سويت على الشكل التالي:

فيما يتعلق بالسكان التابعين لقبائل دوي-منيا وأولاد جرير، تعين الحكومتان ممثلين للاتصال بهم ومنحهم حق اختيار السلطة التي يرغبون الانتقال إليها. الذين يرغبون منهم بالبقاء ضمن نفوذ السلطة الفرنسة، يمكنهم البقاء في منازلهم. والذين يرغبون بالانضمام للنفوذ المغربي يجري نقلهم من مكانهم إلى المكان الذي تعينه الحكومة المغربية لهم، كما يحق لهم الاحتفاظ بملكياتهم وإدارتها بواسطة مفوضين عنهم أو بيعها إذا أرادوا. أما السكان الآخرون الذين يسكنون نفس المنطقة ولكن تحت الخيام فيصبحون تحت السلطة المغربية ويمكنهم الاحتفاظ بإقامتهم.

سكان القصور، القاطنون في نفس المنطقة، يختارون السلطة التي تدير شؤونهم، وبكل الأحوال، يمكنهم متابعة العيش فوق أرضهم.» (البند الخامس).

البند السادس يعطي الحق للذين يقيمون في «الجزائر» بإدارة ممتلكاتهم العائدة لهم والواقعة في «المغرب» والعكس بالعكس..

لتأكيد ما ورد في هذا البروتوكول السري وقعت كل من فرنسا والمغرب على بروتكول آخر بتاريخ 28 نيسان/أبريل عام 1902، وقعه باسم المغرب محمد الكبّاس وباسم فرنسا الجنرال كوشميز.

يُعيّن البند الأول مواقع السلطة المغربية، تاركا الصحراء للنفوذ الفرنسي:

«تقيم الحكومة الفرنسية السلطة والسلام في المناطق الصحراوية، والحكومة المغربية، جارتها، تساعدها بكل إمكاناتها».

البند الثالث عيّن النقاط التي يحق لأي من الطرفين إقامة أسواق تجارية فيها. بقصد نشر السلام وتأمين حرية المرور بين البلدين تضمن البند السابع تسمية المناطق التي تقام فيها مراكز الحراسة لكلا الطرفين.

البند الثامن كُرّس «للأمن» حيث يتفق الطرفان على ملاحقة «المشاغبين» الذين يهددون السلام بين البلدين...

سلسلة المعاهدات هذه انتهت بتوقيع معاهدة الحماية في 30 آذار/مارس 1912 بعد أن كانت القوات الفرنسية قد تغلغلت في طول بلاد السلطان وعرضها.

لم تتناول هذه المعاهدة قضية الحدود المغربية كما تناولتها المعاهدات السابقة باستثناء فقرة تلميحية وردت في البند الأول وجاء فيها أن «حكومة الجمهورية الفرنسية ستتفاوض في موضوع المصالح التي لها من أجل موقعها الجغرافي وممتلكاتها الأرضية على الشاطئ المغربي.

كما أن مدينة طنجة ستحفظ بالطابع الخاص الذي اعترف لها به والذي سيحدد نظامها البلدي».

اتفاقيات المغرب مع فرنسا واسبانيا وانكلترا أخذت صيغة مزدوجة يغلب عليها طابع التنازل العام أمام الزحف الأوروبي من ناحية، وطابع الدور الفرنسي في مشاكل الحدود التي ورثتها لحكومتي ما بعد الاستقلال، من ناحية ثانية.

إلا أن الجانب الآخر للحدود وهو الجانب الجنوبي على محاذاة الأطلسي فقد كان خارج موضع التساؤل، ولو ببعض الغموض، وخاصة في الاتفاقات المغربية-الاسبانية والمغربية-الانكليزية.

أما الاتفاقات التي عقدتها الدول الأوروبية فيما بينها فقد احتوت على إثباتات وبراهين تفضح نوايا الغرب وتساعد على كشف الإطار القانوني الذي بموجبه كانت تتم عملية التجزئة الاستعمارية للتراب المغربي.

فرنسا، ألمانيا، النمسا، هنغاريا، بلجيكا، الدانمارك، اسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، ايطاليا، البلاد المنخفضة، البرتغال، السويد والنروج عقدوا مؤتمرا في مدريد بتاريخ 3 تموز/يوليو عام 1880 ليناقشوا، وبحضور المغرب، «طبيعة وحجم الوجود الديبلوماسي الدولي في المغرب».

مؤتمر ملفت للنظر. فإذا كانت العادة المتبعة تنص على أن العلاقات الديبلوماسية بين بلد وآخر تخص الحكومات المعنية في هذين البلدين، فلماذا إذن يجتمع كل هؤلاء ليتحدثوا ويتقاسموا مهمات سفرائهم في المغرب.

المسألة تتعدى الإعلان الرسمي للمؤتمر لتفتح ملف المغرب برمته في فترة كان التنافس الأوروبي على الأسواق الخارجية والمستعمرات قد وصل إلى درجة بات فيه ضروريا مرافقة السيطرة على الأسواق بالسيطرة على المواقع الإستراتيجية التي تحمي الأسواق.

وهنا بالذات أهمية المشكلة المغربية. الموقع الاستراتيجي للمغرب الأقصى هو في أساس هذا التنافس، في ذلك الحين، لا الفوسفات ولا النفط بل تحديدا إمساك العالم العربي وافريقيا من أهم مداخلهما.

خارج هذا الإطار يصبح عسيرا استيعاب الفضول الأوروبي والاهتمام المتزايد بمصير السلطان عبد الحفيظ.

عندما انتهت فرنسا من الأمير عبد القادر، وعالجت مشكلة الحدود بالشكل الذي يناسبها، وحسمت المسألة التونسية، أصبح همها الوحيد الانطلاق باتجاه الأطلسي من الشرق وعبر الصحراء. باحتلال تونس والجزائر ازدادت قوة فرنسا في شمال افريقيا واضعة بذلك الدول الأوروبية الأخرى في حالة تنافس مباشر معها. وهذا ما يفسر كون معظم الاتفاقات الأوروبية حول المغرب قد جرى توقيعها بين فرنسا ودولة أخرى.

كانت البداية في صيف عام 1902 عندما وقعت فرنسا وايطاليا معاهدة ثنائية حاول فيها الطرفان تطويق احتمالات اتساع خلافاتهما. ففي مقابل سكوت ايطاليا عن التدخل الفرنسي في المغرب، لا تعارض فرنسا بشدّة التدخل الايطالي في ليبيا.

انكلترا، التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع السلطان المغربي والتي لعبت دورا ملحوظا في عملية تأخير السيطرة الفرنسية على المغرب في أواخر القرن الماضي، والتي، أيضا تحتل مواقع جغرافية مميزة داخل المغرب، شكلت الخصم الأول والمنافس القوي لفرنسا، الذي يشكل شرط إبعاده ضرورة لا غنى عنها لانجاز المخطط الفرنسي. أخذ التنافس صيغة أولى عبرت عن نفسها من خلال اشتراط انكلترا بحقها في استمرار سيطرتها على مدينة طنجة ومضيق جبل طارق وأن يكون لها كامل الحرية فيما يتعلق بالنشاطات الاقتصادية داخل المغرب، وذلك مقابل تسهيل حصول فرنسا على مواقع مميزة داخل ذلك البلد.

رفض فرنسا لهذه الشروط أدخل العلاقات الفرنسية-الانكليزية في أزمة حادة، حاول الطرفان تجاوزها بمفاوضات ومشاورات قاسية دامت عدة أشهر وانتهت بتوقيع اتفاقية ثنائية حول المغرب ومصر وذلك بتاريخ 8 نيسان/أبريل عام 19074 في لندن.

فيما يتعلق بالمغرب تضمنت هذه المعاهدة موافقة بريطانيا على اعتبار المغرب تحت الوصاية الفرنسية. فقد جاء في البند الثاني ما يلي: «تعلن حكومة الجمهورية الفرنسية عن عدم وجود نوايا لتغيير السلطة السياسية القائمة في المغرب.

من جهتها، تعرف حكومة صاحبة الجلالة البريطانية بأنه يعود لفرنسا، خاصة بوصفها قوة مجاورة للمغرب على مسافة واسعة، أن تشرف على كل الإصلاحات الإدارية، الاقتصادية، المالية والعسكرية حيث تدعي الحاجة.» كما أعلنت فرنسا موافقتها على أن يكون الباب المغربي مفتوحا أمام التجارة البريطانية لمدة ثلاثين عاما، قابلة للتجديد بعد انتهاء هذه المدة.

فيما يتعلق بمصر تتضمن المعاهدة عملية تبادل ومقايضة: المغرب لفرنسا مقابل أن تكون مصر وطريق الهند لبريطانيا. وفق ما جاء في البند الأول فإن «حكومة الجمهورية الفرنسية تعلن أنها لا تعرقل نشاط انكلترا في مصر، مطالبة بان يحدد شكل الاحتلال البريطاني أو أية صيغة أخرى...»

لكي لا تبدو هذه المعاهدة وكأنها استبعادا لاسبانيا المنافس الأقوى لفرسنا في المغرب، عمدت الدولتان التنويه بفوائد حصول اسبانيا على بعض الأراضي الساحلية، وذلك بسبب موقعها الجغرافي:

«بسبب ما تكنانه من مشاعر الصداقة تجاه اسبانيا تأخذ الحكومتان بعين الاعتبار وبشكل خاص الفوائد التي لاسبانيا من ناحية موقعها الجغرافي وممتلكاتها الترابية على الساحل المغربي لبحر الأبيض المتوسط، وحول هذا الموضوع سوف تجري فرنسا محادثات مع الحكومة الاسبانية»- البند الثامن-

أرفقت الدولتان هذه المعاهدة ببنود سرية لم يجر كشفها إلا مؤخرا، وتتعلق بسياسة كل من فرنسا وانكلترا في كل من المغرب ومصر.

نصّ البند الأول على انه «في الحالة التي ترى فيها إحدى الحكومتان نفسها مرغمة بسبب قوة الظروف على تغيير سياستها تجاه مصر أو المغرب، فإن الالتزامات التي تعهد به كل طرف تجاه الآخر تبقى ثابتة».

أما البند الثاني فقد نصّ على أنه «في الحالة التي تصبح فيها صاحبة الجلالة البريطانية أمام فرصة مناسبة لإدخال إصلاحات إلى مصر لجعل التشريع المصري شبيها بتشريع الدول المتحضّرة الأخرى، فإن حكومة الجمهورية الفرنسية لا ترفض فحص هذه الاقتراحات، بشرط أن تقبل صاحبة الجلالة بفحص الإجراءات التي من الممكن أن توجهها إليها الحكومة الفرنسية حول إدخال إصلاحات من نفس النوع في المغرب».

كانت هذه المعاهدة عمليا تحضيرا لمعاهدة أخرى مع اسبانيا. ولكن لاسبانيا تاريخ تدخل مختلف عن انكلترا وله حساباته الخاصة.

لان اسبانيا كانت بأمسّ الحاجة لموقع استراتيجي على مداخل افريقيا، ولأن الصحراء تشكل ممرا تجاريا يربط القارة الأوروبية بالقارة الافريقية عند التقاطع المائي الذي يربط جزر الكناري-جزر الخالدات- بالصحراء الغربية، ولأن مضيق جبل طارق يتحكم بمصير البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي ومن خلالهما يتحكم بالطرق التجارية التي تعتبر اسبانيا محطتها الأولى على أهم تقاطع بحري مواجه لأوروبا. لأنها باختصار بصدد البحث عن مستعمرات فقد تقدمت واحتلت الجزر الجعفرية عام 1848.

أعقب ذلك تقدم وسيطرة على تطوان عام 1859 ووصول الجيوش الاسبانية من الشمال إلى المحيط الأطلسي عام 1884 انتهى بإحكام السيطرة الاسبانية العسكرية التامة على شمالي المغرب، يضاف إلى ذلك احتلال مدينتي سبته ومليلية الإستراتيجيتين وحجرتي النكور وباديس، كما كانت قد حسمت موضوع تدخلها في الجنوب المغربي محتلة سيدي ايفني في شمال الصحراء الغربية ومدينة الداخلة –فيلا سيسنيروس- في أقصى الجنوب الصحراوي.

ردة الفعل الفرنسية أحذت شكل تقدم مضاد حيث سارعت الحكومة الفرنسية بإرسال قواتها، التي أوشكت على إحكام سيطرتها على الجزائر وتونس، نحو باقي الشمال والوسط المغربيين وتصل إلى الجنوب الشرقي-أي موريتانيا الحالية. تقدم وتقدم مضاد أوصل فرنسا واسبانيا إلى صراع مفتوح حول طريق البحر، وخاصة ربط الوجود الفرنسي في الجزائر والصحراء الشرقية بالمحيط الأطلسي على الشاطئ المواجه لها.

انتهت المرحلة الأولى من الصراع بمحادثات مكثفة أسفرت عن اتفاقية سريّة لم يعلن عنها إلاّ بعد توقيع اتفاقيتي الحماية الفرنسية والاسبانية على الأراضي المغربية.

ما يميز هذه المعاهدة أنها تضمنت تقسيما واضحا وصريحا للمغرب بين الدولتين تنال بموجبه فرنسا كل المنطقة التي تقع فيها موريتانيا حاليا وكل الوسط وقسما كبيرا من الشمال وصولا إلى البحر. تأخذ اسبانيا كل المنطقة الممتدة شمالا من مدينة مليلية على البحر الأبيض المتوسط وتمر عبر حوض نهر أناوون وصولا إلى منطقة كركوس عبر طريق مولاي بوشته على ساحل المحيط. وتأخذ أيضا كل المنطقة الممتدة جنوبا من وادي درعا وسوس لغاية منطقة ماسة في أقصى جنوب الصحراء الغربية.

ونظرا لأهمية هذه الاتفاقية فقد ارتأيانا عرض أهم ما ورد فيها حسب النص الحرفي المترجم إلى اللغة العربية عن النص الاسباني:

«قرر رئيس الجمهورية الفرنسية وصاحب الجلالة ملك اسبانيا، رغبة منهما في تحديد مدى الحقوق وضمان المصالح الناتجة لفرنسا عن ممتلكاتها الجزائرية ولاسبانيا من ممتلكاتها على الشاطئ المغربي أن يبرما اتفاقية، وعيّنا لهذا الغرض كمعتمدين لهما:

رئيس الجمهورية الفرنسية: صاحب السعادة السيد تيوفيل ديلكاس، النائب ووزير خارجية الجمهورية الفرنسية...

وصاحب الجلالة ملك اسبانيا: صاحب السعادة السيد دي ليون أي كاستيو، مركيز مونى، وسفيره فوق العادة المعتمد لدى رئيس الجمهورية الفرنسية...

اللذان، بعد أن تدولا أوراق اعتمادهما ووجداها مستوفية الشروط، اتفقا على البنود التالية:

1- تنضم اسبانيا بموجب الاتفاقية الحالية إلى التصريح الفرنسي-الانكليزي المؤرخ بـ 8 نيسان/ابريل 1904 والمتعلق بالمغرب ومصر.

2- تعتبر الناحية الواقعة غرب شمال الخط المحدود أسفله منطقة النفوذ الناجمة لاسبانيا عن ممتلكاتها على الشاطئ المغربي للبحر الأبيض المتوسط. ويحتفظ لاسبانيا في هذه المنطقة بنفس العمل المعترف به لفرنسا بمقتضى البند الثاني من الفصل الثاني من تصريح 8 نيسان/أبريل 1904 المتعلق بالمغرب ومصر.

غير أنه اعتبارا للصعوبات الراهنة، ولما في تذليلها من مصلحة متبادلة تعلن اسبانيا أنها لن تمارس هذا العمل إلاّ بعد أن تتفق في شأن ذلك مع فرنسا خلال الفترة الأولى من تطبيق الاتفاقية الحاضرة على أن لا تتجاوز هذه الفترة خمسة عشر عاما، ابتداء من توقيع الاتفاقية.

وخلال نفس الفترة، فإن فرنسا، رغبة منها في أن تكون الحقوق والمصالح المعترف بها لاسبانيا بموجب الاتفاقية الحالية، محترمة دائما، ستحيط مسبقا حكومة الملك علما بعملها لدى سلطان المغرب فيما يتعلق بمنطقة النفوذ الاسباني.

وعند انصرام هذه الفترة الأولى، وطيلة بقاء الحالة على ما عليه، فإن عمل فرنسا لدى الحكومة المغربية، فيما يتعلق بمنطقة النفوذ المحتفظ بها لاسبانيا، لن يمارس إلاّ بعد اتفاق مع الحكومة الاسبانية...

ويبدأ الخط المشار إليه أعلاه (أي منطقة النفوذ الاسباني) من مصب نهر الملوية في البحر الأبيض المتوسط ثم يصعد تلعة النهر المذكور في محاذاة الضفة اليسرى لواد ديلفا. من هذه النقطة وبدون أن يقطع مجرى الملوية بحال من الأحوال يصل رأسا بقدر الإمكان إلى خط القمم الذي يفصل أحواض الملوية وواد يناون عن حوض واد كيرت ثم يستمر في الاتجاه صوب غرب خط القسم الذي يفصل أحواض واد يناون وواد سبوعن عن أحواض كيرت وواد ورغة ليصل إلى أقصى الذروة الشمالية لجبل مولاي بوشتة. ثم يصعد بعد ذلك في اتجاه الشمال، مبتعدا بمسافة لا تقل عن خمسة وعشرين كيلومترا شرقي الطريق المؤدية من فاس إلى القصر الكبير على طريق وزان إلى الالتقاء مع واد القوس ثم يهبط تلعة هذا النهر إلى مسافة 5 كيلومترات في أسفل نقطة تقاطع هذا النهر مع الطريق المذكور، طريق القصر الكبير من وزان، ومن هذه النقطة يتجه رأسا بقدر الإمكان نحو ساحل المحيط الأطلسي، فوق البحيرة الزرقاء...

3- في حالة ما إذا بدا أن الحالة السياسية في المغرب والحكومة الشريفية غير ممكنتي البقاء، أو تبين أن النظام الحالي صار من المستحيل بقاؤه إما بسبب ضعف هذه الحكومة وعجزها المستمر عن صيانة الأمن والنظام أو لأي سبب آخر يلاحظ باتفاق مشترك، يمكن لاسبانيا آنذاك أن تمارس بحرية عملها في الناحية المحددة في البند السابق والتي تعتبر منذ ذلك الحين منطقة نفوذها.

4- بما أن الحكومة المغربية سلمت لاسبانيا بموجب الفصل الثامن من اتفاقية 26 نيسان/أبريل 1869 منطقة في «سانتا كروز دي ماربيكنيا» -ايفني- ضمن المعلوم أن مسافة هذه المنطقة لا تتعدى مجرى واد تزروالت. من منبعه إلى ملتقاه مع واد ماسه، ومجرى واد ماسه، من ملتقاه هذا مع واد تزروالت إلى البحر، حسبما هو مبين في الخريطة رقم 2 الموجودة طيه مع هذه الاتفاقية.

5- إتماما للحدود المعلن عنها في الفصل الأول من اتفاقية 27 حزيران/يونيو 1900 فإنه من المعلوم أن الخط الذي يفصل بين منطقة النفوذ الفرنسي ومنطقة النفوذ الاسباني هو الخط الذاهب من ملتقى الدرجة 14-20 غرب باريس مع الدرجة 26 من خطوط العرض الشمالية، والذي يمتد شرقا إلى أن يصل إلى نقطة التقائه مع الدرجة 11 غرب باريس، ويستمر هذا الخلط محاذيا لهذه الدرجة إلى نقطة التقائهما مع نهر درعا، ثم محاذيا لتلعة وادي درعا إلى نقطة التقائه مع الدرجة 10 من خطوط الطول غرب باريس، ومن الدرجة 10 غرب باريس إلى قمة الأراضي التي بين حوض وادي درعا وحوض وادي سوس ويتابع طريقه باتجاه الغرب محاذيا للخط الأعلى من وادي درعا وسوس ثم يسير بين الأراضي الساحلية لواد ماسه ووادي نون إلى أن يصل إلى اقرب نقطة لمنبع وادي تزروالت، وهذا التحديد مطابق للتحديد المسطّر في الخريطة رقم 2 المذكورة، والمرفقة بالاتفاقية الحالية.

6- يطبق البندان 4 و5 في نفس الوقت الذي يطبق فيه البند 2 من الاتفاقية الحالية غير أن حكومة الجمهورية الفرنسية توافق على أن تقوم اسبانيا في أي وقت من الأوقات باحتلال المنطقة المعينة في البند 4 شريطة أن تتفق قبل ذلك مع السلطان.

كما أن حكومة الجمهورية الفرنسية تعترف من الآن للحكومة الاسبانية بمطلق الحرية في أن تعمل ما تشاء في الناحية الواقعة بين الدرجة 26 والدرجة 40 و27 من خطوط العرض الشمالية والدرجة 11 من خطوط الطول غرب باريس وهذه الدرجة توجد خارج الأراضي المغربية.

7- تلتزم اسبانيا بأن لا تعطي الغير وبأن لا تتنازل له بأية صورة من الصور حتى ولو كان ذلك بصفة مؤقتة، عن الأراضي المعينة في البنود 2 و4 و5 من الاتفاقية الحالية، كلها أو بعضها.

8- إذا تبين عند التطبيق الفصول 2 و4 و5 من هذه الاتفاقية أنه لا بد لأحد الطرفين المتعاقدين من القيام بعمل عسكري، فعليه أن يخطر بذلك في الحين الطرف الآخر.

9- تحتفظ مدينة طنجة بصيغتها الخاصة التي يخولها إياها وجود السلك الديبلوماسي بها ومؤسساتها البلدية والصحية.

10- طالما ظلت الحالة الراهنة على ما هي عليه فإن القيام بالأشغال العمومية مثل السكك الحديدية والطرق والقنوات التي تبدأ من نقطة ما في المغرب لتنتهي في الناحية المعينة في البند الثاني، وعكسا تقوم بها شركات يمكن للفرنسيين والاسبان أن يؤسسها. كما سيكون في وسع الفرنسيين والاسبان بالمغرب أن يشتركوا في استثمار المناجم والمرافق ذات الصبغة الاقتصادية على وجه العموم.

11- تحترم المدارس والمؤسسات الاسبانية الموجودة حاليا بالمغرب، ولا يمنع ولا يعرقل رواج العملة الاسبانية وتداولها، ويستمر الاسبان في التمتع في المغرب بالحقوق التي تضمنها لهم المعاهدات والاتفاقات والأعراف المعمول بها بما في ذلك حق الملاحة والصيد في المياه والمراسي المغربية.

13- يتمتع الفرنسيون في النواحي المعنية في البنود 2 و4 و5 من الاتفاقية الراهنة بنفس الحقوق المعترف بها للاسبان، بموجب البند السابق، في بقية أنحاء المغرب....» (37).

لم تنته الاتفاقيات بنصها الحرفي عند هذا البند، فهناك بند يتعلق بموضوع الأسلحة وآخر بحدود الاتفاق الفرنسي-الانكليزي...

ما نريد الإشارة إليه فيما يختص بالبنود المذكورة هو كيفية التحرك والتقرير الاختياري لكل من فرنسا واسبانيا في مصير المغرب ووحدة أراضيه. فهم يقيسون ويقسمون وفق مصالحهم، ويحدّدون مجالات الاستغلال المناسبة لفوائدهم بحرية تامة.

وُقعت هذه الاتفاقية بتاريخ 3 تشرين أول/أكتوبر عام 1904 ولم تنشر، ولكن أرفقت بتصريح صدر في نفس اليوم وموقع من قبل نفس الأشخاص. وقد نصّ التصريح على وحدة التراب المغربي. فقد جاء في هذا التصريح ما يلي: «ان حكومة الجمهورية الفرنسية وحكومة صاحب الجلالة ملك اسبانيا بعدما اتفقا على تحديد مدى الحدود وضمان المصالح الناجمة لفرنسا من ممتلكاتها الجزائرية، ولاسبانيا من ممتلكاتها في شاطئ المغرب، وبعد أن انضمت حكومة جلالة ملك اسبانيا بناء على ذلك إلى التصريح الفرنسي-الانكليزي المؤرخ بـ 8 نيسان/ابريل 1904 والمتعلق بالمغرب ومصر، وهو التصريح الذي أبلغتها إياه حكومة الجمهورية الفرنسية، تعلنان:

إنهما تتشبثان بصفة بوحدة تراب المملكة المغربية تحت سيادة السلطان وبمقتضى ما ذكر، فإن الموقعين أسفله:

سعادة وزير الشؤون الخارجية، وسعادة السفير فوق العادة والمعتمد من طرف جلالة ملك اسبانيا لدى رئيس الجمهورية الفرنسية، اللذين أذن لهما بذلك، فقد أصدرا هذا التصريح ووضعا عليه طابعهما».

لم يبق خارج اللعبة إلاّ ألمانيا. وها هي فور علمها بهذه الاتفاقات تبدأ تدخلا مباشرا عنوانه الحرص على سيادة المغرب. الصراع الفرنسي الألماني حول المغرب يشكل أهم المنعطفات القابلة للانفجار بين أطراف الاستعمار الأوروبي في شمال افريقيا. صراع كاد أن يؤدي أكثر من مرة، إلى حدوث مواجهة شاملة بين البلدين. بهدف تفادي هكذا مواجهة أجرى الفريقان عدة محادثات ووقّعا على عدة اتفاقات وتعهدات كانا يعملان على تجاوزها عند أول سانحة وعند أدنى تغيير في موازين القوى. خاصة وأنه بداية القرن والخط العام للتحالفات الإستراتيجية بين الدول الأوروبية يتم على قاعدة عزل ألمانيا، المنافس القوي والجديد على الساحة. هذا ما يفسر جوهر الاتفاقيات التي سبق ذكرها من ناحية التناقضات الأوروبية-الأوروبية.

في محاولة شن هجوم دفاعي يطوّق سلبيات الاتفاقيات المذكورة على مستقبل ألمانيا، حاولت هذه الأخيرة استعمال أوراق الضغط المتوفرة عندها: القوة الحربية. ففي 31 آذار/مارس عام 1905 يدخل الإمبراطور الألماني غليوم الثاني إلى مدينة طنجة ويعلنها مدينة دولية مفتوحة لكل الأطراف، ويعترف باستقلال المغرب ووحدة أراضيه وعدم خضوعه لسيطرة أية دولة أجنبية.

هذه الخطوة الألمانية كانت في حقيقتها مناورة استفزاز تهدف إلى عقد مؤتمر أوروبي يتم بموجبه إعادة ترتيب المسألة المغربية وفق التقسيم «العادل» وانسجاما مع المتغيرات المستجدة. كانت ردة الفعل الفرنسية عنيفة، بدأت بحملة إعلامية مركزة ضد التدخل الألماني في طنجة وأخذت فيما بعد صيغة رفض قاطع لأي مؤتمر دولي حول المغرب، مرتكزة في ذلك على وجود اتفاقات ثنائية بينها وبين كل من ايطاليا وانكلترا واسبانيا. فلا حاجة لاتفقا جديد، جماعي أو ثنائي.

رفض فرنسا وإصرار ألمانيا أديا إلى تدهور كان تداركه تراجعا متبادلا تمت صياغته باتفاقية 8 تموز/يوليو 1905. تضمنت الاتفاقية المذكورة تراجعا فرنسيا عن رفض حضور مؤتمر دولي لمناقشة موضوع المغرب فأعلنت فرنسا الموافقة عليه، بينما تراجعت ألمانيا واعترفت بحقوق وفوائد فرنسا في المغرب.

الجزيرة الخضراء، المدينة الاسبانية التي يفصلها عن المغرب البحر وجبل طارق، استقبلت لمدة ثلاثة أشهر زعماء أوروبا الاستعمارية الذين جاؤوا ليناقشوا فيها، وعلى مقربة من المغرب، مصير هذا الأخير. افتتحت أعمال المؤتمر في 15 كانون الثاني/يناير من عام 1906 واستمرت إلى 7 نيسان/ابريل من نفس العام أي حوالي ثلاثة أشهر من الصراعات الدولية الحادة، تمحورت في معظمها بين فرنسا وألمانيا. دارت خلافات المؤتمرين حول أربعة مواضيع أساسية جرى إعلانها مسبقا كجدول أعمال لهذا المؤتمر:

1-تنظيم دولي للبوليس داخل حدود المغرب.

2-إنشاء مصرف للدولة.

3-الصلاح المالي ومبدأ المشاركة المادية في الأشغال العامة.

4-المخلون بالأمن.

بالنسبة لقضية البوليس، توصل المؤتمر إلى حصر المسؤوليات بفرنسا واسبانيا على أساس أن تقوم الأولى بالإشراف الأمني في كل من الرباط وصافي ومغادور، والثانية في كل من تطوان ولاراش، وكلتاهما معا تشرفان على طنجة والدار البيضاء.

لمواجهة الضغوطات الداخلية وعمليات تسرّب الأسلحة أعاد المؤتمر تنظيم العلاقات الجمركية. ووافق أيضا على إنشاء مصرف دولي، برأسمال أوروبي، وبرئاسة فرنسية، مركزه الرئيسي في باريس. حددت مهمة هذا المصرف بإصدار العملة وتسهيل عمليات البورصة، والمصارفة، إضافة إلى تقديم المساعدات للمؤسسات الأوروبية.

وأخيرا، وافق المؤتمر على أن يكون باب المغرب مفتوحا لكل الأطراف المشاركة في أعمال هذا المؤتمر في التجارة والتعاون المشترك. (38).

كان مؤتمر الجزيرة، عمليا بمثابة تدويل لقضية المغرب، الأمر الذي يؤدي في حالة استمراره إلى إضعاف النفوذ الفرنسي. لا يغير من ذلك في شيء انحياز مقررات المؤتمر لمصلحة فرنسا أكثر من غيرها. وفق هذا السياق، وبسبب كون المشروع الفرنسي يتجه نحو السيطرة التامة على المغرب، فإن فرنسا لن تلتزم بحدود مقررات هذا المؤتمر. وبهدف تطويق عملية التدويل ودفنها في المهد، سارعت فرنسا إلى إحكام سيطرتها على بعض المدن المغربية، فاحتلت بعد عام واحد على هذا المؤتمر مدينة وجدة على الحدود الجزائرية-المغربية، ثم تقدمت فاحتلت في نفس العام مدينة الدار البيضاء على المحيط الأطلسي وبدأت تحضر نفسها لغزو مراكش.

بديهي أن تعبر ألمانيا هذا التقدم الفرنسي بمثابة خرق لاتفاقيات الجزيرة الخضراء، فشنت تبعا لذلك هجوما ديبلوماسيا عنيفا ضد السياسة الفرنسية في المغرب. أما فرنسا، التي اعتمدت سياسة وضع الألمان أمام الأمر الواقع فقد سارعت إلى تطويق ردة الفعل الألمانية بعقد معاهدة 9 شباط/فبراير التي جمدت مؤقتا الخلاف الثنائي بين البلدين.

نصت هذه الاتفاقية على نقطتين أساسيتين: في الأولى، تلتزم فرسنا بالحفاظ على وحدة واستقلال المغرب، وتتعهد بالحفاظ على المساواة الاقتصادية، وبالتالي لا تتعرض للفوائد التجارية والصناعية الألمانية في المغرب. في النقطة الثانية تتعهد الحكومة الألمانية بأن لا تواصل سوى الأعمال الاقتصادية معترفة بالمصالح السياسية الخاصة لفرنسا داخل الأراضي المغربية.

وقد جاء حرفيا ما يلي:

«إن حكومة الجمهورية الفرنسية، متعلقة كليا بالحفاظ على وحدة واستقلال الدولة الشريفية. تقرر أن تحافظ فيها على المساواة الاقتصادية، وبالتالي، لا تعرقل الفوائد التجارية والصناعية الألمانية في المغرب.

والحكومة الألمانية، متبعة فقط الفوائد الاقتصادية في المغربـ تعترف، من ناحية ثانية، بأن الفوائد السياسية الخاصة لفرنسا داخل المغرب مرتبطة تماما بتثبيت النظام والسلام الداخلي، وتتعهد بعدم عرقلة هذه الفوائد»(39).

لم يشذ هذا الاتفاق عن قاعدة الصراع الفرنسي-الألماني، كما لم يكن بإمكانه وقف مسيرة التدخل الفرنسي. إذ انه لم يمر عامان على هذا الاتفاق حتى سارعت فرنسا إلى خرقه، خالقة بذلك وضعا جديدا أنتج بدوره مضاعفات خطيرة تجسدت بحادثة أغادير ولم تنته إلاّ بتوقيع معاهدة جديدة وأخيرة في سلسلة التنافس على المستعمرات الافريقية.

بحجة مواجهة التطورات الداخلية التي باتت تهدد الوجود الفرنسي في المغرب، وخاصة بعد توتر الأوضاع في المخزن وتصاعد العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال، وبداية تمرد القبائل على الوجود الفرنسي، تقدمت الجيوش الفرنسية باتجاه الجنوب فاحتلت مراكش ومن بعدها اتجهت نحو الشمال الشرقي لتدخل مدينة فاس وتحتلها في 21 أيار/مايو عام 1911.

قبل أن يستتب الأمر لفرنسا على هذه الوضعية الجديدة كان عليها أن تواجه معارضة حادة من قبل ألمانيا التي اعتبرت هذه التصرفات الفرنسية خرقا لمقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء، وخاصة احتلال مدينة فاس. ورغم المحاولات الصعبة والطويلة بين البلدين، فإن فرنسا، المتفوقة ميدانيا، ظلت متمسكة بنهجها رافضة الاقتراحات الألمانية.

أمام هذا الوضع تقدمت البواخر الحربية الألمانية من الشواطئ المغربية من جهة المحيط الأطلسي، ودخلت البارجة الألمانية ميناء أغادير، رافقها تصريح للسفير الألماني في باريس شوين معلنا «أن قوات بلاده دخلت إلى ميناء أغادير وذلك للحفاظ على المصالح الوطنية الألمانية المهددة في منطقة سوس»(40).

اعتبرت فرنسا هذا التصرف الألماني خروجا على اتفاقية 9 شباط/فبراير 1909، فبدأت حملة اعتراضات ديبلوماسية مرفقة بتهديد بالتدخل العسكري، لا يخفّف من حدته احتمال تحوله إلى مواجهة شاملة بين البلدين.

تمسك ألمانيا بموقفها، مع تلميحها بأن لا أطماع لها في المغرب وبأن المشكلة قابلة للحل في حالة حصولها على تعويض في منطقة أخرى من افريقيا، يضاف إليهما تردد فرنسا في هجومها العسكري لإخراج البارجة الحربية من أغادير مع إدراكها لطبيعة التكتيك الألماني، هذه الأمور مجتمعة أدت إلى تخفيف حدّة التوتر بين البلدين. على أرضية هذا الهدوء بدأ الطرفان عملية مفاوضات مفتوحة استمرت من شهر تموز/يوليو إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1911. بالطبع، فإن الخلاف حول طبيعة التعويض الفرنسي لألمانيا، وحجم الثمن الذي تطلبه هذه الأخيرة مقابل سكوتها (الإصرار على الكونغو والغابون) أطال في عمر المفاوضات.

انتهت المحادثات بتوقيع اتفاقية جديدة بتاريخ 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1911.

نصّت هذه المعاهدة على تخلي ألمانيا نهائيا عن كل المغرب لفرنسا، مقابل أن توافق فرنسا على إعطاء ألمانيا ما طلبته في الكونغو والاوبانغي، مع ضمانات المرور في الممرات النهرية، إضافة إلى تسهيلات أخرى في كل من بك دي كانار (Bec de Canar) والتوغو (Lession Au Togo) والكونغو البلجيكي، على أن يبقى الكونغو الأوسط فرنسيا. (41) تمثّل التنازل الألماني باعتراف ألمانيا بأن يكون لفرنسا حق التمثيل الديبلوماسي للمغرب والاحتلال العسكري وحق الحماية والإصلاح الحقوقي الخ...

وبما أن المغرب قطعة أرض يجري اقتسامها عمليا بين فرنسا واسبانيا، فإن ألمانيا لن تكتفي بتعويض فرنسي بل حاولت أن تحصل على تعويض اسباني مقابل سكوتها عن احتلال أجزاء المغرب الشمالية والجنوبية. وقد تدارك الألمان عدم تضمّن الاتفاقية المذكورة لتعويض من هذا النوع، فسارعوا بإرسال مذكرة إلى الحكومة الفرنسية كتبها السيد دي كيدولين، كاتب الدولة في الشؤون الخارجية وسلمها إلى جول كامبون، السفير في برلين، قال المسؤول الألماني في هذه الرسالة:

«لكي أوضح تمام الإيضاح الاتفاق المؤرخ بـ 4 تشرين الثاني/ 1911 والمتعلق بالمغرب، ولكي أبين مداه أتشرف بإحاطة سعادتكم علما بأنه في حالة ما إذا رأت الحكومة الفرنسية من واجبها أن تتكفل بحماية المغرب، فإن الحكومة الإمبراطورية لن تضع في طريق ذلك أية عرقلة.

فالموافقة التي منحتها الحكومة الألمانية للحكومة الفرنسية بصفة عامة بمقتضى الفصل الأول من الاتفاق المذكور تنطبق بالطبع على جميع المسائل التي تقتضي التقنيين كما أشير إلى ذلك في معاهدة الجزيرة الخضراء.

ومن جهة أخرى فقد تفضلتم بإعلامي بأنه في حالة ما إذا أعربت ألمانيا عن رغبتها في الحصول من اسبانيا على غينيا الاسبانية وجزيرة كوريسكو وجزر ايلوبي، ستكون فرنسا مستعدة لان تتخلى في صالحها عن ممارسة حقوقها التفاضلية المترتبة لها عن معاهدة 27 حزيران 1900 بين فرنسا واسبانيا. يسعدني أن أسجل هذا التأكيد وأن أضيف أن ألمانيا ستظل بعيدة عن الاتفاقيات الخاصة التي سترى فرنسا واسبانيا من واجبها إبرامها فيما بينهما بخصوص المغرب، مع العلم بأن المغرب يشمل على جميع القسم في افريقيا الشمالية الممتد بين الجزائر وافريقيا الغربية الفرنسية ومستعمرة ريو دي أورو (وادي الذهب) الاسبانية.

وأن الحكومة الألمانية بتنازلها عن المطالبة بتحديد الحصص التي ستعطي للصناعة الألمانية في بناء السكك الحديدية مسبقا، تعتمد على أن فرنسا سيسعدها أن يقع تمازج في مصالح رعايا الدولتين في القضايا التي سيكون في مستطاعهم الحصول عليها...».

الرسالة الملحقة بالاتفاقية أبعدت ألمانيا، واقتنعت انكلترا بحجمها في مضيق جبل طارق، وبالتالي أصبحت الطريق ممهدة لاتفاقية تقسيم فرنسي-اسباني علني للمغرب ينهي الخطة السرية ويغيّر نوعيا التكتيك السياسي لهذين البلدين وخاصة بعد توقيع معاهدة الحماية. فالاتفاقية الفرنسية-الاسبانية الموقعة بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1912، والتي كانت عمليا خاتمة الاتفاقات الدولية، شرّعت للسيطرة الاستعمارية على كامل التراب الوطني المغربي ناقلة قوات الاحتلال إلى مرحلة مواجهة الانتفاضات الشعبية التي رأت، في التوقيع على معاهدة الحماية، انتقاصا من حرية واستقلال المغرب، التي كانت القرون الماضية صمودا عنيدا في خدمتها.

الفصل الثاني سوف يتناول تاريخ المواجهة المغربية-الاستعمارية. وعليه فإننا سنكتفي هنا بذكر الخطوة الأخيرة القانونية، في العرف الاستعماري، لتقسيم المغرب وفق ما احتوته هذه الاتفاقية.

نصّت هذه المعاهدة على مجمل النقاط التي جرى الاتفاق عليها سريا في اتفاقية عام 1904 مع بعض التعديلات.

بموجب التعديلات الأخيرة تعطي اسبانيا لفرنسا المنطقة المحيطة بايفني والتي كانت قد حصلت عليها اسبانيا عام 1880، وذلك بموجب معاهدة الصيد التي جرى توقيعها بين اسبانيا والسلطان المغربي. وبذلك تكون فرنسا قد بسطت هيمنتها على كل المنطقة الممتدة من وادي درعا إلى وادي سوس، وهي منطقة غنية بالمعادن. أضف إلى ذلك حصول فرنسا على المناطق الأكثر خصوبة وكثافة سكانية في الشمال وهي المنطقة المسماة بوادي أويرغا، حيث تمكنت فرنسا، بفضل ذلك، ربط المغرب بكل من الجزائر وتونس بواسطة خط سكة الحديد الممتد من الجزائر-وهران-وجدة-فاس. هذا الربط كان يعني تأمين اتساع السيطرة الاقتصادية وتسهيل حركة ضبط الأمن في عموم الشمال الافريقي.

من ناحية اسبانيا جرى تعديل نسبي في حدود الاتفاق السابق وخاصة من ناحية مول الباشا وعلى طول المولويا ومن ناحية غرب القسار أيضا.

أما الأمن في مناطق النفوذ الاسباني فيتم نشره عن طريق خليفة للسلطان يختاره من بين اثنين تقترحها اسبانيا ويكون مقره في تطوان ويتبع إليه كل السكان المغاربة المقيمين داخل منطقة الاحتلال الاسباني المعينة شمالا وجنوبا لغاية الحدود الفرنسية-السنغالية الجنوبية التي تنتهي عند الحد الذي يمتد من موقع بحري يتجه جنوب مدينة الداخلة ليفصل منطقة تيريس الغربية كلها من موريتانيا الحالية التابعة سابقا للنفوذ الفرنسي.

نظرا لوضوح كيفية التقسيم الفرنسي-الاسباني وجدنا من الضرورة عرض أهم ما ورد في هذه الوثيقة-الاتفاقية.

بعد أن يحدد البند الثاني الحدود الشمالية لمنطقتي النفوذ الفرنسي والاسباني محددا انطلاقها من ملوية وانتهاءها بين دوار مغاريا وماريا سيدي سلامه حيث يرتبط عند هذه النقطة الخط البري بالبحر، وذلك وفق الخط الذي جرى تفصيله في معاهدة 3 تشرين أول/أكتوبر 1904. فيما يتعلق بالتقسيم المشترك لجنوب المغرب جاء في هذا البند ما نصّه: «في جنوب المغرب، حدود المنطقتين الفرنسية والاسبانية ستحدّد انطلاقا من مجرى وادي درعا الذي يصعد من مصبه على البحر إلى نقطة التقائه مع خط الطول 11 غرب باريس، يتابع هذا الخط سيره باتجاه الجنوب لغاية نقطة التقائه مع خط العرض 27 درجة و40 دقيقة عرض شمالي. إلى الجنوب من هذا الخط تبقى البنود 6.5 من اتفاقية 3 تشرين أول/أكتوبر 19.4 سارية المفعول.

أما المناطق المغربية الواقعة شمالا وشرق التحديد المذكور في هذا النص ستصبح تابعة للمنطقة الفرنسية...».

«وبما أن الحكومة المغربية قد منحت اسبانيا، بموجب البند الثامن من معاهدة 26 نيسان/ابريل 1860، مركزا في سانتا كروز دي ماربيكينا (ايفني)، يفهم من ذلك أن أرض ذلك المركز ستكون لها الحدود التالية: شمالا، نهر بوسدره من مصبه، جنوبا، نهر نون، من مصبه. وشرقا، إلى خط يمتد على مساحة تقريبية مقدارها 25 كيلومترا عن الساحل». (البند الثالث).

«ستعين لجنة فنية، يعين أعضاءها بعدد متساو من قبل الحكومتين الفرنسية والاسبانية، لتثبّت الخط الدقيق للحدود المنصوص عليها في البنود السابقة. ويمكن للجنة أن تأخذ بعين الاعتبار أثناء عملها، ليس فقط التضاريس الطبيعية بل أيضا العوامل المحلية...» (البند الرابع).

البند الخامس نصّ على التزام اسبانيا بأن «لا توفت ولا تتنازل عن حقوقها، بأي شكل من الأشكال، حتى ولو بصفة مؤقتة، سواء بالنسبة لمجموع التراب المشمول بنفوذها أو بعضه.»

أما وضعية جبل طارق فقد نص عليها البند السادس بما يلي: «بقصد تأمين العبور الحر لمضيق جبل طارق، تتفق الحكومتان على عدم السماح بإقامة تحصينات أو منشآت إستراتيجية في أي نقطة من الساحل المغربي المشار إليه في البند السابع من التصريح الفرنسي-الانكليزي بتاريخ 8 نيسان/أبريل 1904، والبند رقم 14 من الاتفاقية الاسبانية-الفرنسية بتاريخ 3 تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام والمشمولة بمنطقتي نفوذ الدولتين.»

مدينة طنجة ذات الموقع الاستراتيجي الهام افرد لها بند خاص لتعيين حدودها. فقد جاء التعيين في البند السابع على الشكل التالي:

«ستزود مدينة طنجة وضواحيها بنظام خاص سيحدد لاحقا، وهي المنطقة المتضمنة في الحدود التالية: انطلاقا من بونتا-التارس على الساحل الجنوبي لمضيق جبل طارق، تتجه الحدود بخط مستقيم نحو سفح جبل بني ميمل، تاركة إلى الغرب قرية تدعى دكسار الزيتون، ثم تتابع خط الحدود الواقعة بين الفحصى من ناحية قبائل عنجرة ووادي رأس من الناحية الثانية إلى نقطة التقائها مع وادي الصغير، ومن وديان محرحر وتزامورز إلى البحر...»

«الاستقلالية الإدارية المتبعة في منطقتي النفوذ الفرنسي والاسباني داخل المملكة الشرفية لا يمكنها أن تمسّ الحقوق، العطايا والامتيازات الممنوحة، استنادا لعقد الجزيرة الخضراء، لمصرف الدولة في المغرب. على كل أراضي الدولة وبواسطة الحكومة المغربية، مصرف الدولة المغربي يواصل تمتعه بكامل الحقوق في كلا المنطقتين... دون نقصان أو تحفظ» (البند 16).

نفس الحقوق تنطبق على المؤسسة الدولية للتبغ في المغرب وفق البند رقم 17.

والمغاربة المتحدرون من منطقة النفوذ الاسباني يجري نقلهم إلى الخارج تحت حماية الهيئات الديبلوماسية والقنصلية لاسبانيا. (البند رقم 22). أما البنود الباقية فتحدد الصلاحيات المتبادلة وحدود صلاحيات السلطان المغربي إضافة إلى اعتبار هذه المعاهدة بمثابة إلغاء للمعاهدات السابقة المخالفة لما ورد فيها. (42).

إستراتيجية الغرب التي حاولنا قدر الإمكان تبيان مسار تنفيذها، في الواقع وفي النصوص، لم تطل بنتائجها التقسيمية المغرب العربي فحسب، بل ستطبق نفس المنهج على عموم العالم العربي والقارة الافريقية.

إن نظرة مقارنة على القارة الافريقية عام 1879 مثلا مع نظرة أخرى لنفس القارة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تساعدنا على قول الحقيقة التالية:

في المرحلة الأولى كانت الدول الأوروبية تسيطر على مواقع في افريقيا يمكن تحديدها كما يلي:

1-فرنسا: متواجدة شمالا في الجزائر، غربا في السنغال، في الوسط غينيا وبنين وليبرفيل فقط.

2-اسبانيا: متواجدة شمالا في سبتة ومليلية (المغرب)ـ غربا في جزر الكناري، وفي الوسط في غينيا الاسبانية المحاذية لليبرفيل.

3-بريطانيا: متواجدة في غامبيا غربا وسيراليون، شاطئ العاج ونيجيريا في الوسط، ومنطقة ساحلية في ناميبيا إضافة إلى افريقيا الجنوبية كلها.

4-البرتغال: متواجدة غربا في كاسامانس، وجنوبا من الناحية الغربية في موقع بحري (كابيندا) وعموم أنغولا، ومن الناحية الشرقية في الموزامبيق.

أما ألمانيا وايطاليا فلم يكن لهما أي موقع في عموم القارة. والملاحظ أن أماكن التواجد الأوروبي هذه كلها ساحلية بدون استثناء، مما يعطي لعملية التدخل صفة السيطرة على المداخل الإستراتيجية الساحلية للقارة السوداء.

أما المرحلة الثانية، فإنها تكشف حقيقة التقسيم الاستعماري لكامل القارة الافريقية باستثناء أثيوبيا التي لم تكن قد خضعت كليا بعد. ويمكن تحديد إستراتيجية التقسيم كما يلي:

1-فرنسا: كانت تسيطر على كامل المنطقة الممتدة شرقا من الاوبانغي على حدود الكونغو البلجيكي مرورا بالصحراء الكبرى ووصولا إلى المحيط الأطلسي والدول الواقعة على سواحله باستثناء ليبيا ومواقع النفوذ الاسباني في المغرب شمالا وجنوبا وسيراليون وغينيا البرتغالية. بالإضافة إلى الكونغو برازافيل وجيرة مدغشقر الواقعة تحت السيطرة الفرنسية.

2-اسبانيا: كانت تسيطر على المناطق التي سبق تحديدها في شمال المغرب إضافة إلى ايفني والصحراء الغربية، كما أنها احتلت جزيرة غرناندوبو القريبة من غينيا الاسبانية.

3-بريطانيا: كانت تسيطر على سيراليون، غامبيا، شاطئ العاج، نجيريا، روديسيا واتحاد جنوب افريقيا وافريقيا الشرقية البريطانية (كينيا) والجزء الصومالي الواقع على الممر الضيق الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي. بالإضافة لمصر والسودان.

4- البرتغال: كانت تحتل غينيا بيساو، كابيندا، أنغولا، وموزامبيق إضافة إلى جزر رسان تومي.

5-ألمانيا: كانت تسيطر على الكاميرون، ناميبيا وافريقيا الشرقية الألمانية (تانزانيا).

6-ايطاليا: كانت تسيطر على ليبيا، ارتريا والصومال الايطالي الواقع على جهة الساحل المواجهة للمحيط الهادئ...




هوامش الفصل الأول

1-عبد الله العروي: تاريخ المغرب. ترجمة ذوقان قرقوط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1977، ص 60.

2-المرجع السابق، ص 66-67. يضيف عبد الله العروي محددا «ان النظام القبائلي، في جميع وجوهه وبأنماطه المتدنية، يجب أن يوصف في الوقت الذي ظهر أو عاد إلى الظهور فيه، في تاريخ، بعد الفتح الروماني، وليس كنظام أساسي، في أصل التاريخ نفسه، فأهميته المستديمة في ماضي المغرب ليست في انه كان أساسا لتطور أو لركود، بل في أنه الرد، مبتكر أو مأخوذ به من جديد (وهو ما يعتبر في النهاية شيئا واحدا) الديالكتيكي على محاصرة تاريخية.

ومن هنا يأتي وجهه المزدوج: من الاستدامة ومن الدفاع عن الذات، تعلق تقليدي وكذلك انتقالي....» ص 67-68.

3-ابن خلدون: المقدمة، الجزء الأول، ص 245.

4-المرجع السابق، ص 122.

5-يؤكد عبد الله العروي هذا الارتباط معتبرا «ان تاريخ الإمبراطورية العربية هذا يساعدنا على فهم بعض الوقائع المغربية أفضل مما كان يتيحه لنا تاريخ بيزنطية الداخلي في حالة مماثلة، لأن التأثير العربي كان يتجاوز كثيرا تأثير البيزنطيين ويستأنف تأثير الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث...»

المرجع المذكور، ص 92.

6-حول سياسة الأدارسة، راجع العروي المرجع السابق الصفحات 109-113. حول تواريخ الحقبة الادريسية وأسماء زعماء هذه الأسرة وتاريخ سقوطها.

راجع:طبقات سلاطين الإسلام، تأليف ستانلي لين بول، الترجمة العربية، بغداد -1968- صفحات 39-40 حول تاريخ الأغالبة: العروي ص ص 116-122 وص ص 40-41.

7-العروي، ص 122. حول سياسة الفاطميين، نفس المرجع ص ص 130-138.

8-حول بني زيري وبني حماد، راجع العروي، المرجع السابق، ص ص 138-158 حول سلالة الزيرين ومدة إماراتهم، طبقات سلاطين الإسلام، ص 42-43، بني حماد ص 44.

9-«يمكن الظن بأن هذه التجارة لم تكن تجري مباشرة (إذا كانت المرحلة الأخيرة في أيدي الزناتيين) وان حروب القرن العاشر الكبرى قد أتاحت لصناهجيي الجنوب الوصول إلى أسواق الشمال، مستفيدين من انتقال الزناتيين إلى مراكش. ويمكن الظن كذلك بأن دمار سيجلماسا وتاهرت، مغبة الحروب المستمرة في المغرب الأوسط، أعطى من جديد أهمية لطريق غربي أدرار موريتانيا، منذ زمن طويل تحت سيطرة اللانتونا Lantuna، والقودّالا Cuddala الذين اتصلوا حينئذ بمدن الوسط المراكشي (تامادالت ونفيس وتادلا وسالة وجميعها إمارات ادريسية أو افرانية). وهي افتراضات بالطبع، تستند إلى تفصيلات بسيطة سجلتها الأخبار التاريخية، لكنها تلقي أضواء على الحوادث التي سوف تبقى بدونها مليئة بالألغاز...» عبد الله العروي، المرجع السابق، ص 161.

10-المرجع السابق، ص 173. حول تاريخ المرابطين، نشأتهم، سلطتهم، حركة انهيارهم، راجع العروي، ص ص 159-174. حول أسماء زعماء المرابطين وتسلسل حكمهم، تواريخ وأسماء المدن، راجع طبقات سلاطين الإسلام، ص ص 44-48.

11-«كانت الدعاية الشيعية من القرن الثامن إلى العاشر قد جعلته يألف فكرة المهدي فلم يساوره أي تردد في أن يدمج هذه الفكرة في مذهبه. ولما كان ينبغي لهذا المهدي أن يكون من ذرية فاطمية، فإنه اصطنع لنفسه أو اصطنعت له شجرة نسب تمت به إلى علي، ألحقته بالأسرة الادريسية في الجنوب المراكشي.» عبد الله العروي، المرجع السابق، ص 178.

12-تكتيك ابن تومرت يكشف إلى حد بعيد إلى أي درجة كان مؤسس الموحّدين يحاول تقليد تجربة الرسول السياسية.

13-عبد الله العروي، المرجع السابق، ص 179.

14-حول تاريخ الموحدين، راجع العروي، ص ص 175-200. حول أسماء زعماء الإمبراطورية الموحّدية وتاريخ حكمهم، راجع طبقات سلاطين الإسلام، ص ص 48-51.

15-تاريخ افريقيا الشمالية قبل 1830. تأليف ل.بيشو. صفحة 7.

L.Pechot: Histoire de l’Afrique du Nord avant 1830. Ed; Gojesso, Alger, 1919

16-المرجع السابق، ص 52.

17-باي لارباي اصطلاح تركي يعني بيك البكوات.

18-المرجع السابق، ص 30.

19-حول الحكم العثماني في الجزائر، راجع عبد الله العروي، المرجع السابق، ص ص 267-271.

20-ل.بيشو، المرجع السابق، الصفحات 157-206 تتضمن تفاصيل السيطرة العثمانية على تونس، مع ذكر الأسماء والتواريخ. وفي كتاب العروي عرض لتفاصيل التدخل العثماني في شمال افريقيا في الصفحات 249-262، وخاصة معركة عروج بربروسة مع الاسبان صفحة 250 وتمركز السيطرة السياسية، أي قيام الولايات.

21-العروي، المرجع السابق، ص 240.

22-حول تسلسل الحكم في المغرب الأقصى من المرينيين إلى العلويين، راجع طبقات سلاطين الإسلام ص ص 58-64.

23-العروي، المرجع السابق ص 263.

24-المرجع السابق 286-287.

25-مما قاله الفرنسيون في هذه الرسالة مهدّدين: «نحن لا نزج بأنفسنا في شؤون الانكليز، فعليهم أن لا يزجوا أنفسهم بتاتا في شؤوننا».

26-تتضمن الصفحات 140-156 من كتاب ل.بيشو، المرجع السابق، عرضا بالتفاصيل لتسلسل الأحداث وحجم القوات الفرنسية مع ذكر كافة الأسماء والتواريخ المتعلقة بغزو الجزائر، إضافة إلى النص الحرفي للإنذار الذي وجهته فرنسا للداي حسين. وتتضمن الصفحات 293-304 من كتاب عبد الله العروي، المرجع المذكور، عرضا سريعا ومكثفا لصراع الأمير عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين، وطبيعة التدمير الاقتصادي الفرنسي للمجتمع الجزائري، وكيفية تحطيم معالم البنية الاجتماعية السائدة.

27-عبد الله العروي، المرجع السابق، ص 310، وفي الصفحات 304-314 يتحدث العروي عن أزمات وإصلاحات المجتمع التونسي قبل وصول فرنسا.

28-المرجع السابق، صفحة 305. ويضيف العروي على الهامش قائلا: «لقد وجدت سياسة انكلترا شكلها في المعاهدة الانكليزية-التركية لعام 1838 –معاهدة كوتاهية- التي سوف ترغب بريطانيا العظمى تطبيقها على تونس بمجرد التصديق، والتي ستفيد كنموذج للمعاهدة الانكليزية-المراكشية المؤرخة في 9 تشرين أول/أكتوبر 1856».

29-شارل اندريه جوليان: تاريخ افريقيا الشمالية: تونس، الجزائر، المغرب. نشر بايو، باريس 1931، ص ص. 708-710.

30-ذكر جوليان، المرجع السابق، ما ورد في هذه المعاهدة، صفحة 712.

31-رغم التوقيع على هذه المعاهدة، فإن المقاومة المحلية للغزو الايطالي استمرت سنوات طويلة. أحمد الشريف ظل يقاتل ولسنوات باسم السلطان التركي محمد الخامس. هذه المقاومة جعلت السيطرة الايطالية ثم على مرحلتين شهدت كل منهما مواجهة شعبية مسلحة: الأولى امتدت من عام 1911 إلى عام 1917، والثانية من 1923 إلى 1932. غير أن السيطرة النهائية والفعلية لم تتم إلا بعد اعتقال عمر المختار وإعدامه في 16 أيلول/سبتمبر 1931.

للمزيد من التفاصيل راجع:

ليبيا الجديدة، انقطاع واستمرارية. إصدار المركز الوطني للبحث العلمي، باريس 1975. تتضمن الصفحات 26-32 من هذا الكتاب أهم ما ورد في معاهدة لوزان-اوشي. الصفحات 32-51 تتضمن تفاصيل الأحداث التي أعقبت التدخل الايطالي، وخاصة مواجهة الايطاليين مع أحمد الشريف ومن بعده عمر المختار.

32-على الحدود السورية-التركية.

33-يقول العروي، ص 316: «لم يكن الجيش المراكشي، المفكك والسيء التجهيز هو الذي يضمن استقلال السلطان وسلامة الأراضي المغربية بل حماية الانكليز».

34-

Les Relations Franco-Espagnoles et l’Affaire du Maroc.

Par Jean Alengry Ed.Maurice D’Alligny, Paris 1920

الصفحات 89-90، تتضمن تعريفا جغرافيا بالمغرب الأقصى. وحسب المؤلف فإن المغرب في تلك الفترة كانت مساحته 850 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانه بين 10 و12 مليون نسمة من عرب وبربر ويهود. أما عن حدوده فقد قال: «المغرب هو المنطقة الشمالية الغربية من القارة الافريقية، من الشمال والغرب يحده الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي اللذان يشكلان حزاما مائيا طوله 1700 كلم، وفي الجنوب الصحراء تحيط به من نواحي Cap Juby إلى منطقة القصور في تافيلالت فيجويج Tafilette et figuig بحزام رملي طوله 1300 كلم. في الشرق تحده مولويا Moulouia والوادي غوير Oued Guir الذي يمر بمحاذاة الاطلسي ويتوقف عند الحدود الجزائرية المتفق عليها في معاهدة آذار-مارس 1845.»

35- يصف العروي الوضع قبل التدخل الفرنسي في الصفحة 322: «انطلاقا من عام 1860 يتخذ الوضع الاستعماري شكله في المغرب: قبل عامين كان إخضاع بلاد القبائل ومناورات الإرهاب البحرية في عرض البحر على طول السواحل التونسية، والاستعدادات للحرب المراكشية-الاسبانية، بعد ثلاث سنوات أعلن النظام المدني S.C. لعام 1863 في الجزائر، وتم توقيع المعاهدة التجارية الانكليزية-التونسية والمعاهدة الفرنسية-المراكشية وما كاد يمضي عام واحد حتى كانت تنطلق ثورات الرحامنة Rhamna في مراكش وثورات أولاد سيدي الشيخ في منطقة وهران والعروش Urush في الجنوب التونسي وحتى عام 1871 كانت ستتعاقب سنوات المجاعة والوباء والكوارث الطبيعية، وهي أحداث كانت بالتأكيد مألوفة لكن آثارها المدمرة ضوعفت هذه المرة بالاستئثار بالأراضي وازدياد التجارة الأوروبية وارتفاع الأسعار والأزمة النقدية. وفيما وراء فارق مجموعة الأنظمة التشريعية-السياسية، كان سكان المغرب الأوسط يعرفون، شأنهم في الماضي، الظروف المفجعة نفسها».

وفي الصفحات 314-325، يعرض العروي التطورات والأزمات والإصلاحات التي تسارعت في المغرب قبل وقوعه تحت السيطرة الفرنسية.

36-بعد أحداث الصحراء التي جرت عامي 1900 و1901 أدت المحادثات التي أجراها وزير فرنسا في طنجة السيد Revoil مع السلطان، إلى إبرام معاهدتين واحدة سرية والأخرى علنية، وقد عرفتا ببروتوكول 1901 (-20 تموز/يوليو) واتفاق 20 نيسان-ابريل 1902، الذي تم بموجبها تنظيم مسائل الحدود، والتعاون المشترك الفرنسي-العربي، وإقامة الأسواق المشتركة.

37-تضمنت الصفحات 7-12 من كتاب النجري المذكور مزيدا من التفاصيل حول هذه الاتفاقية.

38-ذكرها النجري Alengry، في كتابه-المرجع السابق- صفحة 17.

39- ذكرها النجري Alengry- المرجع السابق، صفحة 29.

40-النجري ذكرها النجري Alengry، المرجع السابق، صفحة 39.

41-تتضمن الصفحات 25-54 من الكتاب المذكور ذكرها النجري Alengry تفصيل دقيقة عن المفاوضات الفرنسية-الألمانية، وأهم ما ورد في الاتفاق الفرنسي-الألماني.

حول تاريخ السياسة الألمانية في المغرب، من المفيد مراجعة الكتاب:

Pierre Guillen L’Allemagne et Le Maroc: de 1870-1905. Ed.P.U.F. Paris 1967

42-حول الأزمة المغربية وتاريخ السياسة الفرنسية اعتمدنا:

Jean-Claude Allain. Josef Caillaux et la seconde crise marocaine 3 volumes; Thèse de Doctorats, soutenu le 30 Nov. 1974

حول الاتفاقيات الدولية، اعتمدنا على أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، ومطبوعات لجنة الدراسات والنشر التابعة لحزب الاستقلال. كما اعتمدنا أيضا على المراجع الفرنسية المذكورة سابقا مع إضافة كتاب للملك الحسن الثاني عنوانه «التحدي»: Le Defi . صدر عن دار نشر ميشال البان Michel Albin في باريس عام 1976.

ومقال للقومندان الفرنسي جورج سالڨي Michel Albin، نشرته جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير عام 1976 بعنوان:

« Le grand jeu politique dans le désert»



#علي_الشامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR ...
- تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
- جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
- أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ ...
- -نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
- -غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
- لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل ...
- ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به ...
- غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو ...
- مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - علي الشامي - الصحراء الغربية، عقدة التجزئة في المغرب العربي