عبد الرحمن تيشوري
الحوار المتمدن-العدد: 3167 - 2010 / 10 / 27 - 18:08
المحور:
الادارة و الاقتصاد
هل تتناسب سياسة رفع الدعم مع نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تتبناه الحكومة, مع الإشارة الى عدم وجود حزمة أمان اجتماعي
عبد الرحمن تيشوري
شهادة عليا بالادارة
شهادة عليا الاقتصاد
تمهيد:
من المعروف أن ما يسمّى بالدعم موجود في كل دول العالم و تمارسه كل الحكومات بشكل أو بآخر, فقد يتم دعم سلعة استهلاكية ما أو خدمة ما, أو قد يتم دعم إحدى القطاعات الاقتصادية أو الاجتماعية أو إحدى السلع الإستراتيجية التي تؤمن قطعاً أجنبياً. في جميع الحالات هناك فئة مستهدفة في هذا الدعم و هناك غاية له, لذلك يتوجب على الحكومة عندما ترى أن هذا الدعم يصل إلى غير مستحقيه أن تقوم بإعادة توزيعه بما يضمن إصلاح الخلل ووصوله إلى الفئة المستهدفة فقط قدر الإمكان.
لكن ما الذي حصل من خلال رفع أسعار بعض المشتقات النفطية؟ هل هو استجابة للخطة الخمسية العاشرة التي أقرت برنامجاً للإصلاح الاقتصادي ومن ضمنه إصلاح نظام الدعم وتوجيه الحكومة لإعداد سياسة جديدة لدعم المشتقات النفطية بحيث تؤدي إلى إعادة توزيع الدعم لمستحقيه؟ أم أنه استجابة لنصيحة صندوق النقد والبنك الدوليين للعام الماضي الواردة في البند 95 المتعلقة بالاقتصاد السوري والتي جاء فيها: "أن العجز المالي الذي تعاني منه الموازنة السورية لا يمكن أن يُصلح إلا برفع الدعم عن أسعار المازوت تحديداً كونه يستحوذ على غالبية كتلة الدعم اليوم؟", واقترحت تلك المادة "أن يتم الرفع بشكل فوري بمقدار 60% مباشرة ومن ثم التدرج اللاحق في الارتفاع حتى عام 2010، ليصل إلى أسعاره العالمية"، وحددت المادة المذكورة الزيادة بمقدار 230% التي ستكون كافية لتحقيق سد 60% من الفجوة بين الأسعار المدعومة والأسعار العالمية.
أم أن هذا القرار صدر كغيره من القرارات الحكومية بطريقة ارتجالية واعتباطية من دون دراسة كافية ومن دون تهيئة الأرضية المناسبة له؟ أم أن الحكومة تقوم بالتحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي على طريقتها حيث تبدأ باقتصاد السوق ثم تضيف له النكهة الاجتماعية عندما ترتأي ذلك؟
لكن من جهة أخرى, هل يمكن أن نحسن الظن بالحكومة ونقول انه قرار صحيح ومحتم لكنه صدر بتوقيت غير مناسب, ولعله الحظ العاثر الذي رافق عملية التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي, حيث ترافقت هذه العملية مع أزمات عالمية للأسعار.
أسئلة كثيرة تراود المستهلك دون أجوبة, ربما أهمها ماذا بعد؟
موجبات القرار ومبرراته من وجهة نظر الحكومة:
تصر الحكومة على أن ما قامت به هو إعادة توزيع للدعم وليس رفعاً له, وأن هناك أسباب مبررة لهذا القرار منها:
• بينت دراسات حكومية أن أكثر من 56% من الدعم المقدم للمشتقات النفطية وحوامل الطاقة لا يصل الى مستحقيه من المواطنين السوريين, ودعم المحروقات يكبد الدولة يومياً حوالي 750 مليون ليرة سورية وقد زادت هذه القيمة نتيجة لزيادة أسعار النفط وتراجع إنتاجه محلياً من جهة ودخول اللاجئين العراقيين بأعداد كبيرة من جهة أخرى.
• ستشكل تكلفة الدعم أكثر من 60% من الموازنة العامة للدولة وستشكل حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي وأن الاستمرار فيه سيؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد الوطني لأن تطبيق الدعم فشل خلال السنوات الماضية في تحقيق العدالة في التوزيع, حيث يستفيد الأغنياء بنسبة 56 ضعف مما يستفيده الفقراء, وهذا يعني أن 10% من السكان الأكثر غنىً استأثروا بنسبة 56% من الدعم.
• إن اختلال الأسعار الكبير بين سوريا والدول المجاورة يؤدي إلى تهريب المواد المدعومة محلياً وتكبيد الدولة خسائر فادحة.
• إن تدني سعر المشتقات النفطية في السوق المحلية يؤدي الى استهلاك غير رشيد وغير عقلاني وفيه الكثير من الهدر.
• إن استمرار الدعم بالأسلوب الحالي سيؤدي الى استنزاف خطير لموارد الخزينة, حيث تبلغ قيمة الموازنة العامة لعام 2008 حوالي 600 مليار ليرة سورية, يذهب نصفها تقريباً لدعم المشتقات النفطية, إضافة إلى أن 45% من المشتقات النفطية تستورد من الخارج وتمول من احتياطات الدولة.
من جهة أخرى, يتحدث رئيس الحكومة عن أن إيرادات رفع أسعار المحروقات ستصب في دعم المستوى المعاشي للمواطنين عبر إعادة توزيع الدعم الحكومي ليصل الى مستحقيه من خلال 11 إجراءً حكوميا, كما طمأن بأن الخبز خط أحمر وأسعاره لن تتغير.
لكن ما هي وجهة نظر المستهلك لهذا القرار؟ هل أقنعته الحكومة بمبرراتها؟ وهل لمس فعلاً أن إيرادات رفع أسعار المشتقات النفطية حسنت مستوى معيشته واقتنع أن ما قامت به الحكومة هو إعادة توزيع الدعم لمستحقيه استجابة لقرار المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي في حزيران 2005؟ وهل القرار السياسي, على الرغم من أهميته, بعدم مس أسعار الخبز كافٍ؟ أي بعبارة أخرى هل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟
الآثار المترتبة على صدور القرار من وجهة نظر المستهلك النهائي:
إن الطريقة التي اتبعتها الحكومة في رفع أسعار بعض المشتقات النفطية قد أثرت سلباً على المستهلكين حتى قبل اتخاذ القرار, فالمدة الزمنية الطويلة التي استغرقتها الحكومة في التحضير للقرار والتصريحات الكثيرة التي أدلى بها الفريق الاقتصادي قد أثرت سلباً على أسعار العديد من المواد, فكل تصريح أو تلميح من إحدى الجهات الرسمية عن رفع أسعار المازوت رافقه ارتفاع في أسعار بعض المواد, كما أن التمهيد لهذا القرار سمح للبعض بشراء و تخزين كميات كبيرة منه, لكن الطامة الكبرى كانت عند اتخاذ القرار, فقد تبين من جراء الآثار المباشرة والسريعة له أن الحكومة لم تدرسه بالشكل الكافي ولم تستعد لمواجهة آثاره المرتقبة على الرغم من طول الفترة التمهيدية.
من المؤكد أن قرار رفع أسعار المشتقات النفطية قد طال بآثاره السلبية كافة المستهلكين, حيث أن المشتقات النفطية تدخل في جميع المنتجات والمشاريع تقريباً, وبالتالي فإن رفع سعرها قد أدى, إضافة الى الإشكالات الآنية التي استمرت حوالي اليومين في مجال النقل والحصول على رغيف الخبز, إلى:
1. ازدياد أجور النقل بشكل كبير, للمواطنين وللمواد الأخرى المنقولة, والتي تؤثر بدورها على جميع تكاليف المعيشة من تعليم وغيره.
2. ارتفاع أسعار جميع المواد الغذائية كونها بشكل أو بآخر تعتمد في مرحلة أو أكثر من مراحل إنتاجها ونقلها على المازوت.
3. ارتفاع كبير في أسعار مواد البناء التي تعتمد في إنتاجها و نقلها على المازوت بشكل رئيسي, مما زاد من أزمة السكن الموجودة أصلاً.
إن المستهلك النهائي هو المتضرر الأكبر من جراء هذا القرار, حيث أن الفئات الأخرى من صناعيين وزراعيين وخدميين سوف يحاولون عكس ارتفاع التكلفة على المستهلك النهائي الذي لا حيلة له في تفادي سلبيات القرار إلا الاتكال على الحكومة التي يبدو أنها تمتلك وجهة نظر أخرى, ففي الوقت الذي كانت فيه عناصر التموين تقوم بإبلاغ أصحاب محطات الوقود بالسعر الجديد وجرد الكميات الموجودة لديهم ليلة اتخاذ القرار, لم نر أو نسمع أي تصريح من أعضاء الفريق الاقتصادي الذين غابوا تماماً عن الشاشة إلى ما بعد الإعلان عن زيادة الرواتب والأجور في ظهيرة النهار التالي، حيث تناوب بعض أعضاء هذا الفريق على تبرير تلك الزيادة الهائلة في أسعار الغاز والمازوت، فأكد وزير المالية لصحيفة الثورة بتاريخ 4/5/2008: أن الزيادة ستكلف ميزانية الدولة 58 مليار ليرة سنوياً وقد تزيد مع التعويضات التي ستحتسب على أساس الأجر الجديد بالنسبة للعاملين في الدولة والمتقاعدين", كما أضاف: "إن هذا الرقم الذي كان يذهب مع أضعافه إلى التهريب ,الآن سيذهب إلى المواطنين السوريين الذين سيبقون يتمتعون بميزة الحصول على المازوت المدعوم عبر القسائم".
لكننا نعتقد أن التهريب لم ولن يتوقف طالما أن الحكومة غير جادة ولم تكن يوماً جادة في مكافحة التهريب وهي القادرة على وقف التهريب إن أرادت ذلك فعلاً.
أما وزير الاقتصاد فقد صرح لنفس الصحيفة بكلام غريب عجيب عن الانعكاسات التي شاهدها بقوله: " أن شعور المواطن العادي بأن زيادة أسعار المازوت لا تعنيه طالما أنه سيحصل على سعر مدعوم بموجب القسائم". ولا ندري كيف تمكن من معرفة شعور المواطن العادي بأن زيادة أسعار المازوت والغاز "لا تعنيه " ؟ هل نزل إلى الشوارع والحارات وسأل ذلك المواطن العادي عن رأيه بالزيادة ؟ أم أنه قصد بالمواطن العادي مدير مكتبه أو سكرتيرته؟ ومن حقنا أن نسأله هل كمية الألف ليتر من المازوت المدعوم والمخصصة للتدفئة فقط، سوف تؤمن لذلك المواطن العادي طعاماً بسعر معقول، وتمنع أي زيادة في أسعار النقل والمواد الغذائية وغيرها من المواد والخدمات التي التهبت أسعارها بمجرد الإعلان عن رفع أسعار المازوت والغاز؟؟
وأما نائب رئيس الحكومة السيد عبدالله الدردري الذي ملأ الدنيا بتصريحاته الداعية إلى رفع الدعم عن المحروقات، فقد أنشغل ذلك اليوم الذي ارتفعت فيه أسعار المازوت والغاز بافتتاح معمل لتصنيع سجائر " لاكي سترايك ورق " بامتياز من شركة ( BAT ) البريطانية, وامتنع عن التعليق على الأسئلة التي وجهت إليه والمتعلقة بزيادة أسعار المحروقات وتداعياتها.
واللافت في تصريحات الفريق الاقتصادي قبل الزيادة وبعدها تأكيدهم المستمر على طمأنة المواطنين "من أن هناك قراراً سياسياً بعدم مس رغيف الخبز". وكأن الخبز وحده كافياً لبقاء الإنسان على قيد الحياة، على أهمية بقاء الخبز على سعره الحالي. ولكن ماذا عن أسعار بقية المواد التموينية وغيرها التي يدخل فيها المازوت والغاز عنصراً أساسياً سواء في إنتاجها أو تسويقها؟ فهل ستبقى المواد الغذائية التحويلية التي تعتمد على التسخين والمبادلات الحرارية على حالها كالحلويات والمربيات والطحينة؟ وماذا عن أسعار مشتقات القمح كالمعجنات والمعكرونة والبرغل والكعك ؟ وماذا عن أسعار المحاصيل الزراعية المروية بواسطة محركات الديزل كالخضروات والفواكه والبقوليات؟ وماذا عن المواد الصناعية التي تعتمد صناعتها على وجود البخار والماء الساخن المتولد عن المراجل كالنسيج والسكر والزيوت والبلاستيك والأسمنت والجلود والقطر الصناعي والأدوية والصناعات المعدنية؟ ناهيك عن التدفئة المنزلية والتجارية والصناعية، وكذلك أجور النقل في وسائط النقل الجماعية داخل المدن وبين المحافظات..! فهل فكر أعضاء الفريق الاقتصادي بذلك؟ أم أنهم مصرون على أن المواطن العادي سوف يحيا بالخبز وقسائم المازوت المدعوم!؟
إن الآثار السلبية على المستهلكين المترتبة على هكذا قرار تتعدى النقاط السابقة, لكن يمكن اعتبار ما تمت الإشارة له هو أبرزها وأكثرها إيلاماً, كما أن هذه الآثار لن تتوقف عند هذا الحد, فمن المتوقع أن يعاني المستهلك من أزمة كهرباء في الشتاء القادم لأن الكثير ممن باعوا قسائم المازوت الموزعة عليهم لن يقدروا على شرائه بالسعر الجديد, وسيتحولون إلى الكهرباء في تأمين التدفئة, ونعلم من خلال خبرتنا في طريقة عمل الحكومة أنها تتحرك فقط بعد وقوع المشكلة, مع أن المفروض أن يكون لديها إجراءات وقائية واستعداد مسبق.
سيناريوهات بديلة:
بعد أن تبين من خلال الآثار والنتائج التي تلت قرار رفع أسعار المازوت والغاز, أن ما قامت به الحكومة هو رفع جزئي للدعم وليس إعادة توزيعه كما صرحت, يحق لكل مواطن أن يتساءل هل كان هذا هو الحل الأخير والخيار الأمثل لدى الحكومة لتأمين موارد للخزينة العامة للدولة؟ وهل استنفذت الحكومة كل الخيارات الأخرى المتاحة لها؟
من المؤكد أن الحكومة قد اختارت الطريق الأسهل والأقصر لتأمين موارد لخزينة الدولة, مع أن هناك الكثير من الحلول الأخرى التي ترفد خزينة الدولة وتساعد على إصلاح التشوه الهيكلي في الاقتصاد السوري بما ينعكس إيجابا على مستوى المعيشة, منها:
1. مكافحة التهرب الضريبي, من خلال إصلاح النظام الضريبي وتحقيق العدالة الضريبية ورفع كفاءة الإدارة الجبائية في وزارة المالية, حيث لطالما صرح المسؤولون أن التهرب الضريبي يصل إلى 200 مليار ل.س ( وهذا الرقم هو مقدار العجز المقدر في موازنة 2008).
2. الإصلاح الإداري, من خلال مكافحة الفساد المستشري في مفاصل الإدارات والمؤسسات العامة والرقابة على الإنفاق العشوائي والهدر, والذي يعتبر خطوة مهمة على طريق الإصلاح الاقتصادي الذي يهدف إلى بناء وترسيخ اقتصاد ديناميكي ذو إنتاجية اقتصادية عالية, وعدالة اجتماعية واضحة.
3. إصلاح النظام القضائي , كخطوة أساسية على طريق مكافحة التهريب من خلال تشديد العقوبات على المهربين وتطبيق القانون على الجميع بدون تمييز, حيث يمكن لهكذا خطوة أن تحد بشكل كبير من ظاهرة التهريب إذا ما ترافقت بالإجراءات الميدانية واللوجستية المناسبة. وهذا الإجراء لابد منه لحسن تنفيذ البندين السابقين.
إضافة للنقاط السابقة, فإن الإسراع في بناء مصفاة نفط جديدة, بالرغم من تكلفتها المرتفعة, كان سيخفض من فاتورة الدعم بشكل كبير, فالأجدى هو تكرير النفط الخام المنتج محلياً بشكل كامل بدلاً من تصديره وإعادة استيراد جزء منه على شكل مشتقات نفطية بفارق سعر كبير, وحتى لو نضب النفط لدينا يبقى استيراد النفط الخام وتكريره محلياً أجدى اقتصاديا واجتماعياً, من خلال فارق السعر وتشغيل اليد العاملة في مصافي النفط.
رفع الدعم واقتصاد السوق الاجتماعي:
نعود الى الأسئلة الكثيرة التي تراود كل منا, هل تتناسب سياسة رفع الدعم مع نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تتبناه الحكومة, مع الإشارة الى عدم وجود حزمة أمان اجتماعي متكاملة قادرة على امتصاص الآثار السلبية لرفع الدعم؟ أم أنه جزء من سياسة إصلاحية ستعمل على تغيير الاقتصاد السوري نحو الأفضل؟
فإذا كان ما تتخذه الحكومة من إجراءات هو للتحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي كما تدعي, هنا يتساءل المستهلك: بأي معيار يمكن قياس التطورات الحاصلة حتى نتبين هل نحن نسير باتجاه جانب السوق أم الجانب الاجتماعي؟
- باستخدام معايير السوق:
تمكين القطاع الخاص في قطاعات كانت حكراً للدولة (مصارف – تأمين...), تحرير التجارة الخارجية, تحرير الأسعار, تشجيع الاستثمارات الخاصة, تخفيض العبء الضريبي...
- باستخدام معايير الجانب الاجتماعي:
هي المعايير التي تعزز دور الدولة بأدوات متنوعة مثل تعزيز الإنفاق الحكومي وضبط الأسعار وربطها بالأجور ومكافحة البطالة...
بقياس الإصلاحات التي تمت حتى اليوم وفق المعايير المذكورة نجد أن غالبيتها تمت لمصلحة السوق على حساب البعد الاجتماعي, حيث يبدو من خلال ما نلمسه على أرض الواقع من توسع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية, وتحول الجزء الأكبر من الطبقة الوسطى نحو الطبقة الأدنى, مع ازدياد ثراء الطبقة الغنية على حساب القسم الأكبر من باقي فئات الشعب, أن الحكومة تتجه نحو اقتصاد السوق الحر, وكل ما تصرح به من خطابات حول التحول الى اقتصاد السوق الاجتماعي هو إما جهل منها بتعريف السوق الاجتماعي, وهذا موضع شك في ظل وجود اقتصاديين مخضرمين فيها, أو أنه للاستهلاك المحلي وتخدير الشعب بالوعود والأمنيات المستقبلية لتمرير نصيحة صندوق النقد والبنك الدوليين, وهو الاحتمال الأرجح.
الواجبات المستجدة للحكومة تجاه المستهلكين:
ما زال الفريق الاقتصادي في الحكومة مصراً على أن اقتصادنا واعد, وأن بلادنا هي الأقل مديونية بين دول المعمورة, وأن نسبة النمو ترتفع بشكل "مضطرد", وأن العجز في الميزان التجاري ينخفض, وأن الاستثمارات تتساقط علينا كالأمطار في الساحل السوري, لكن أحداً منهم لم يفسّر لنا حتى الآن: لماذا لم تنعكس كل هذه "الإنجازات" إيجاباً على أوضاعنا المعيشية التي ما زال مؤشرها يتجه هبوطاً ولا ندري إلى أين سيصل؟!.
على كل حال, إذا كانت الحكومة قد بدأت برسم الملامح الاقتصادية في سوريا وفق ذهنية القطاع الخاص, فإن رسم الملامح الاجتماعية يبقى مسؤوليتها الأهم, وبعد أن قامت الحكومة برفع الدعم جزئياً عن المازوت والغاز المنزلي وما رافق ذلك من ارتفاع في أسعار العديد من السلع والخدمات, بات لزاماً على الحكومة القيام ببعض الإجراءات التي من شأنها التخفيف من وطأة هذه الأسعار على المستهلكين, ومن أهمها إنشاء بنية أو شبكة ماصة للآثار السلبية المرافقة لرفع أسعار المشتقات النفطية, يمكن أن نسمي هذه الشبكة شبكة الحماية الاجتماعية, وأهم ما يجب أن تحويه شبكة الحماية الاجتماعية تلك:
• تأمين وسائل نقل عامة لائقة وحضارية في كافة المحافظات تعمل داخل المحافظات وفيما بينها بتسعيرة معقولة, إضافة إلى تفعيل وتحديث شبكة الخطوط الحديدية.
• إحداث صندوق المعونة الاجتماعية ومباشرة مهامه بأسرع وقت ممكن, لدعم الأسر الفقيرة وتقديم إعانات البطالة وإعانات ومساعدات لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.
• يجب على الحكومة عدم تخليها عن دورها في دعم الصحة والتعليم, بل زيادة الاهتمام بهذين القطاعين الحيويين في هذا الوقت بالذات, وتأمين الضمان الصحي لجميع المواطنين.
• تفعيل دور المؤسسات الاستهلاكية وصالات الخزن والتسويق, من خلال التدخل الإيجابي في الأسواق, حتى لا يقع المستهلك تحت رحمة السوق وجشع التجار. إضافة إلى مساعدة جمعيات حماية المستهلك ووضع قانون حماية المستهلك موضع التنفيذ الفعلي والمتابعة.
• دعم قطاع الإسكان والجمعيات السكنية بشكل ملموس, من خلال توفير الأراضي اللازمة والمشاركة في تنفيذ بعض المشاريع السكنية الخاصة بمحدودي الدخل, كما يجب الاهتمام بمشاريع التنمية ودعم المشاريع العائلية الصغيرة.
نتائج سياسة الحكومة في رفع الدعم:
إن المؤكد حتى الآن, أن أزمة المواطن المعيشية ازدادت تفاقماً منذ بدء تطبيق خطة "إعادة توزيع الدعم على مستحقيه" كما يحلو للفريق الاقتصادي أن يسميها, كما أن حمى الأسعار قد عمت البلاد وأرهقت العباد, ولم يعد بالإمكان ضبطها أو كبحها, وما زال المواطن ينتظر أن يصبح شعار إعادة توزيع الدعم واقعاً ملموساً على الأرض ويصل "الدعم" إلى جميع المستحقين دون غيرهم.
إن الآثار التضخمية الخطيرة التي بدأنا نتلمسها بوضوح جراء رفع أسعار بعض المشتقات النفطية سواء على صعيد المستوى المعاشي العام للمواطنين, أو على صعيد الاستثمار و النمو الاقتصادي, أو على صعيد توزيع الدخل القومي داخل المجتمع السوري, قد بدأت تزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً, ولا نجافي الحقيقة كثيراً إذا ما قلنا أن ما يحصل حالياً هو ثورة مظفرة على الفقراء, الذين أصبحوا من غير دعم هم بأمس الحاجة له, وخاصة بغياب الحد الأدنى من الأمن الاجتماعي, كما أصبح الركود التضخمي واقعا يوميا ملموسا و معاشا, كما يمكن تحسس الصدمة على مستوى الاستهلاك التي أصابت معظم الأسر والمرشحة للاستمرار ما لم تتحرك الحكومة لإيجاد الحلول الناجعة.
إن نهج السوق الاجتماعي الذي اعتمدته الحكومة بعد المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، لا يعني الاقتصاد الحر، ولا يعني الانصياع لتعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, وبالتالي فإن جهود الحكومة الهادفة لهيكلة الاقتصاد السوري وفق اقتصاد السوق يجب أن تترافق مع جهود مماثلة لحل المصاعب والأزمات التي تعانيها الفئات الفقيرة والمتوسطة، كالفقر، والبطالة، والضمان الصحي، والجدول المتحرك للأجور تناسباً مع ارتفاع الأسعار, فالاقتصاد يجب أن يخدم المجتمع وليس العكس.
كلمة أخيرة:
يتوجب على الحكومة بناء جسور الثقة بينها وبين مواطنيها, كما يجب عليها أن تتعامل بشفافية وصدق معهم, لا إطلاق شعارات والعمل بنقيضها, إضافة الى ذلك ومهما ازدادت الضغوط الاقتصادية عليها يجب أن لا تتخلى عن الجانب الاجتماعي أو تهمله, فالحكومة التي تتخلى عن وظيفتها الاجتماعية تفقد مبرر وجودها.
إن المستهلك على استعداد للتضحية والقبول برفع كامل للدعم, وتحمل الآثار السلبية الناجمة عن ذلك, لو كان يثق بالحكومة وإجراءاتها, أو لو لمس لدى الحكومة عزماً صادقاً على الإصلاح من خلال البدء بمكافحة الفساد بكافة أشكاله من رشوة ومحسوبية وفساد إداري وتهرب ضريبي وتهريب وتمييز في تطبيق القانون وغير ذلك من أشكال الفساد المتنوعة وخاصة داخل الجسم القضائي, لأن المستهلك عندما يشعر بهذه الإصلاحات يتولد لديه شعور بأن كل ما تقوم به الحكومة من إجراءات يهدف إلى تحسين مستوى معيشته, ويولّد هذا الشعور لديه استعداد للتعاون مع الحكومة حتى تنجح بما تقوم به, ولو كان ذلك على حساب انخفاض مستوى معيشته لفترة محددة.
المهم الآن بعد أن انجلى غبار السجال الذي احتدم حول الدعم وإعادة توزيعه وانتهى بالقرار المعروف، برفع أسعار المازوت والغاز المنزلي، فإن ما هو مطلوب من الحكومة اليوم، وبصرف النظر عن الموقف من هذا القرار، هو تلمس الثغرات والنواقص ومختلف أشكال الغبن التي بدأت تبرز مع الشروع في تنفيذ القرار، والتي أغفلها أو تجاهلها صانعو القرار أو لم ينتبهوا لها أو لم تخطر لهم على بال, للعمل على معالجتها وتخفيف آثارها السلبية.
#عبد_الرحمن_تيشوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟