إدوارد سعيد
الحوار المتمدن-العدد: 954 - 2004 / 9 / 12 - 11:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كل من يفهم، وإن بالقدر القليل، كيف يتم عمل الحضارات، يعرف أن عملية تحديد حضارة ما، وكشف ما تمثله في نظر أبنائها يفتح دائماً الباب على جدل كبير وديموقراطي حتى في المجتمعات غير الديموقراطية. إذ يجب انتقاء السلطات المناسبة وإخضاعها بانتظام للنقد وحملها على النقاش وتكليفها مجدداً أو إعفائها. كما يجب تحديد وبحث وإعادة البحث في فكرة الخير والشر والانتماء أو عدم الانتماء (المشابه والمختلف) وسلّم القيم والتوصل إلى اتفاق أو عدم الاتفاق حول هذه المسائل وبحسب الحالات.
من جهة أخرى فان كل حضارة تحدد أعداءها في ما هو خارج حيزها ويشكل خطراً عليها. فبالنسبة إلى اليونانيين، وبدءاً من هيرودوتوس، كل من لم يكن يتكلم اللغة اليونانية هو تلقائياً بربري، هو "آخر" يجب بغضه ومحاربته. في كتاب صدر مؤخراً تحت عنوان "مرآة هيرودوتوس" يبين الأختصاصي في الآداب الكلاسيكية فرنسوا هارتوغ بكل وضوح كيف شرع هيرودوتوس [1] بكل تروٍ ودقة في تشكيل صورة الآخر البربري في حالة "الشيت"، أكثر حتى من الفرس.
إن الحضارة الرسمية هي حضارة الكهنة والأكاديميات والدولة. وهي تعطي تحديداً عن المواطنية والشرعية والحدود وما سمّيته الانتماء. هذه الحضارة الرسمية هي التي تتكلم باسم المجموع والتي تحاول التعبير عن الإرادة العامة، عن الفكرة والأخلاقيات العامة، والتي تتمسك بالماضي الرسمي، بالآباء والنصوص المؤسسة، بمجامع الأبطال والخونة، والتي تنقي هذا الماضي من كل ما هو غريب أو مختلف أو غير مرغوب فيه. ومن هنا يأتي تحديد ما يمكن أو ما لا يمكن قوله، وتحديد الممنوعات والتحظيرات الضرورية في كل حضارة راغبة في إقامة سلطتها.
كما أن من الصحيح تماماً أنه على هامش الحضارة المهيمنة، الرسمية أو القانونية، تقوم حضارات منشقة أو مخالفة، غير أرثوذكسية، هرطوقية، تشتمل على العديد من التيارات المناهضة للاستبدادية معارضة الحضارة الرسمية. ويمكن إطلاق تسمية الحضارة المضادة على مجموعة ممارسات تنسب إلى مختلف المنافسين الضعفاء، مثل الفقراء والمهاجرين والبوهيميين والمهمومين والمتمردين والفنانين. ومن هذه الحضارة المضادة يصدر نقد السلطة ومهاجمة كل ما هو رسمي وأرثوذكسي. فالشاعر العربي المعاصر الكبير أدونيس قد كتب الكثير عن العلاقة بين الأرثوذكسية والهرطوقية في الحضارة العربية وبرهن أن ما بين الاثنين يقوم نوع من الديالكتيك والتوتر المستمر. فلا يمكن فهم أي حضارة إذا لم يكن هناك إدراك، أياً يكن نوعه، لمصدر هذا التحريض الخلاق الماثل باستمرار والمتمثل بهذه المواجهة بين اللارسمي والرسمي. فإهمال هذا الحراك داخل كل حضارة والاعتقاد بوجود تجانس تام بين الحضارة والهوية يعني التنكر لما هو حيوي وخصب.
في الولايات المتحدة مرّ الحوار حول ماهية أميركا بالعديد من التحولات وحتى بخضات لافتة. ففي طفولتي كانت أفلام الوسترن تبرز هنود أميركا كأنهم شياطين مؤذية يفترض تدميرها أو إزاحتها. كانوا يسمّون "البشرة الحمراء" كما انه بقدر ما أمكن توظيفهم في مجمل الحضارة كانوا يستخدمون لإبراز تطور الحضارة البيضاء (وهذا ينطبق أيضاً على التاريخ الأكاديمي كما في الأفلام). أما اليوم فان هذا كله تغير، فبات هنود أميركا يعتبرون ضحايا تقدم الحضارة الغربية في البلاد وليس كمجرمين.
حتى وضع كريستوف كولومبوس قد تغيّر. أما بالنسبة إلى وضع الأميركيين الأفارقة أو المرأة فقد شهد خضات لافتة أكثر. فلقد بيّنت توني ماريسون تشبث الأدب الأميركي الكلاسيكي بالانتماء إلى العرق الأبيض كما شهد على ذلك وبطريقة بارعة موبي ديك من ملفيل وأرثر غوردن بيم من ادغار الن بو. لكنها توضح أن الكتّاب الأميركيين الرئيسيين من الذكور والبيض، وهم الرجال الذين أضفوا المعايير على الأدب الأميركي كما نعرفه، قد وظفوا في نتاجاتهم الانتماء إلى العرق الأبيض كوسيلة لتحاشي أو لإخفاء أو لطمس الوجود الإفريقي في مجتمعنا.
لقد انتقلنا من عالم ملفيل وهمنغواي إلى عالم دوبوا وبولدوين ولانغستون هيوغز وتوني موريسون، ومجرد أن تحقق روايات وانتقادات توني موريسون نجاحاً باهراً إلى هذا الحد فهذا شاهد على حجم التغيير القائم. فما هي رؤية أميركا الحقيقية والتي يمكن القول إنها تمثلها وتحددها؟ إن هذه المسألة معقدة ومثيرة إلى أقصى حد لكن لا يمكن الإجابة عنها عبر تلخيص القضية ببعض الكليشيهات.
إن كتاب آرثر شليزنغر الصغير "أميركا تفقد وحدتها" [2] (La Désunion de l’Amérique) يعطي نظرة حديثة عن الصعوبات الملموسة في أشكال النضال الحضاري الهادفة إلى إيجاد تحديد للحضارة. فشليزنغر يتخوف، كمؤرخ ينتمي إلى التيار السائد، ويمكن تفهمه في ذلك، من كون مجموعات المهاجرين التي تبرز في الولايات المتحدة تعترض على الأسطورة التوحيدية الرسمية لأميركا كما تعوّد المؤرخون الكلاسيكيون الكبار في هذا البلد أن يقدموها، مثل بانكروفت وهنري أدامز وحديثاً جداً ريتشارد هوفستايدر. فهذه المجموعات تريد كتابة تاريخ لا يعكس فقط صورة أميركا كما بناها وقادها بعض السياسيين والملاّكين، بل أميركا لعب فيها العبيد والخدم والعمال والمهاجرون الفقراء دوراً مهماً لا يتم الاعتراف به حتى الآن.
إن روايات هؤلاء الأشخاص، التي يتم التعتيم عليها في الخطابات الطنانة الصادرة من واشنطن ومن مصارف الاستثمار في نيويورك ومن جامعات إنكلترا الجديدة ومن الثروات الصناعية الكبرى في الغرب الأوسط، قد جاءت تعكر التطور البطيء وصفو الرواية الرسمية الرصينة. فهم يطرحون الأسئلة ويروون تجارب المحرومين اجتماعياً ويعبّرون عن مطالب الناس في أسفل السلّم الاجتماعي، من النساء والآسيويين والأميركيين الأفارقة وسائر الأقلية الجنسية أو الاتنية. وسواء أكنا نوافق شليزنغر أم لا في "صرخته الصادرة من القلب"، فانه لا يمكن رفض المقولة التي يتضمنها كتابه والتي ترى أن كتابة التاريخ هي الطريق الأسمى لتحديد بلدٍ ما، وأن هوية مجتمع ما هي، في جزء كبير منها، وليدة التفسير التاريخي، وهو المجال الذي تتواجه فيه التأكيدات موضوع الخلاف أو التأكيدات المضادة. في هذا الوضع من تدافع التحديدات تغرق الولايات المتحدة في الوقت الحالي.
--------------------------------------------------------------------------------
* - هذا النص مقتطف من كتاب
“ The Clash of definitions ”, publié dans Reflections on Exile and Other Essays (Harvard University Press, 2000)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] . فرانسوا هارتوغ
François Hartog, Le miroir d’Hérodote, Poche, 2001.
[2] راجع
Arthur M. Schlesinger, La désunion de l’Amérique, 1991, traduction française 1993, Liana Levi, Paris.
جميع الحقوق محفوظة 2004© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
#إدوارد_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟