|
صمتوا حين كان الكلام واجباً
نوال السعداوى
الحوار المتمدن-العدد: 3166 - 2010 / 10 / 26 - 10:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما هذه الظاهرة الغريبة؟ أن يحتل شخص منصب الوزير لعدة سنوات، يشارك فى فساد الحكومة، بالصمت على الأقل، فيستمر الفساد والسرقات ونهب أموال الشعب المصرى، ثم يكافأ الوزير أو الوزيرة بعد الخروج من الوزارة بمنصب مرموق فى بنك كبير أو مؤسسة ضخمة، أو الأمم المتحدة فى نيويورك أو جنيف أو بيروت أو فيينا، يتحول إلى رجل أعمال يربح الملايين، ثم بعد سنوات من المتعة والمكاسب له ولأولاده وأحفاده، يطرأ له فجأة أن يشارك فى الحملة الإعلامية ضد فساد الحكومة، ويصبح من أقطاب المعارضة المصرية وبطلاً من أبطالها، وقد يرشح نفسه فى انتخابات البرلمان أو الشورى أو رئاسة الجمهورية.
قرأت فى الصحف خلال هذا الصيف ٢٠١٠، تصريحات خطيرة أدلت بها وزيرة سابقة للتأمينات والشؤون الاجتماعية، قالت إن الحكومة استولت على ٤٣٥ مليار جنيه مصرى من أموال أصحاب المعاشات لدعم البورصة، وسد العجز فى الميزانية، وقالت إن الحكومة لم تسمح لها أثناء توليها الوزارة أن تفعل شيئا لمنع هذا العمل غير القانونى بل غير الدستورى؟، لم تكشف الوزيرة وهى فى منصبها عن هذه الجريمة، هذا النهب الحكومى لأموال الملايين من فقراء الشعب المصرى، العجائز الذين يعيشون على معاش ضئيل لا يكفى لسد الرمق؟ لماذا سكتت كل هذه السنين؟ بعد خروجها من الوزارة حصلت هذه الوزيرة السابقة على منصب سفيرة ثم على منصب كبير بالأمم المتحدة.
قابلتها فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى، كانت تعمل حينئذ بإدارة المؤتمرات الدولية بوزارة الخارجية بالجيزة، أعجبتنى شخصيتها المستقيمة المساندة للحق، لعبت هى دوراً فى تسجيل جمعية تضامن المرأة العربية الدولية بوزارة الخارجية، كما أنها تحمست لإنشاء الاتحاد النسائى الذى شرعت فى تكوينه، مع مجموعة كبيرة من النساء والشابات المصريات والجمعيات، شجعتنا الوزيرة حينئذ، وكانت مختصة بالجمعيات الأهلية، فى مكتبها بالوزارة وهى وزيرة سلمتنى قائمة بأسماء وعناوين الجمعيات النسائية فى مصر، للاتصال بها للانضمام إلى الاتحاد النسائى، وفعلا اتصلنا بهذه الجمعيات التى تحمست للمشاركة، واستمر النشاط ليل نهار، انضمت الكثيرات من الشخصيات والجمعيات النسائية، قدمنا جميع الأوراق المطلوبة لتسجيل الاتحاد، ثم حددنا موعد الاجتماع العام لإعلان إشهار الاتحاد النسائى المصرى،
فوجئنا قبل موعد الاجتماع بيوم واحد بالصحف الحكومية، على رأسها جريدة «الأهرام»، تنشر تصريحا بلسان الوزيرة تقول فيه إن هذا الاتحاد النسائى غير قانونى، دهش الجميع، لم نفهم السر فى الانقلاب الطارئ فى موقف الوزيرة، حتى التقيت بالصدفة بإحدى القيادات النسائية فى الحزب الوطنى الحاكم، فقالت لى: السلطة العليا لا تريد اتحادا للنساء ينشأ بطريقة شعبية، إنهم يؤسسون الآن بديلا للاتحاد النسائى تحت اسم المجلس القومى للمرأة، وفعلا لم يمض وقت طويل حتى نشرت الصحف الكبرى الخبر العظيم عن تكوين المجلس القومى للمرأة برئاسة السيدة الأولى.
لم أفكر فى عتاب الوزيرة أو محاسبتها على ما فعلته مما يخالف الضمير الحى، وقد علمتنى التجارب السابقة أن المسؤولين الكبار، نساء ورجالا، يغيرون مواقفهم بغتة، حسب الأوامر العليا التى تصلهم بغتة، لا يملكون إلا الطاعة، حفاظا على المنصب أو خوفا من العقاب، ثم فوجئت بعد بضع سنوات برسالة تأتينى بتوقيع السيدة المديرة التنفيذية الأعلى لمنظمة «الأسكوا» بالأمم المتحدة (إنها الوزيرة السابقة التى تنكرت لوعدها معنا)، تدعونى لحضور مؤتمر نسائى دولى يعقد فى بيروت، دهشت كثيرا، كيف نسيت الوزيرة ما فعلته مما وأد الاتحاد النسائى فى مهده؟ هل ضميرها بدأ يؤنبها؟
أنا بطبيعتى متسامحة، بشرط الاعتذار وعدم تكرار الخطأ، لكن السيدة الوزيرة لم تعتذر، فأرسلت إليها برقية اعتذرت فيها عن تلبية دعوتها لحضور المؤتمر.
هذه قصة واحدة من قصص كثيرة معروفة، يكفى أن تكون وزيرا أو صاحب نفوذ أو مال كثير حتى تتنكر لوعودك أو تنكل بآخرين يعجزون عن محاسبتك، وكم نجا من العقاب أصحاب السلطة والمال، فى ظل عرف مراوغ وقانون مزدوج، يحمى الأقوى ويحبس البرىء.
ما أدهشنى هو الصفحات الكثيرة التى نشرت بلسان هذه الوزيرة السابقة تكشف فيها عن فساد الحكومة أثناء كانت فى منصبها، لماذا لم تتكلمى حينئذ؟ قالت: قدمت استقالتى لكن الحكومة رفضت إعلانها، لماذا لم تعلنى أنت بنفسك عن استقالتك؟ هل فرضوا عليك البقاء فى منصبك رغم أنفك؟ هل فرضوا عليك الصمت رغم أنفك؟ هل يتم استغفال الشعب إلى هذا الحد؟ لكن معارضة الحكومة أصبحت موضة؟ أو سلعة فى السوق الحرة؟ (مثل الأصوات فى الانتخابات يتنافسون عليها)؟ لا تكلف المعارضة الوزراء السابقين شيئا إلا الكلام الثورى، ونشر صورهم فى الإعلام باعتبارهم أبطال المعارضة؟
يبدو أن كل شىء أصبح مباحاً، ومعروضاً للبيع فى السوق بما فيها المعارضة؟ تم إقصاء المعارضين الحقيقيين، الذين عانوا القهر على مدى السنين، حرموا من المناصب والمكاسب، تم تشريدهم وإفقارهم وتشويه سمعتهم، أو حبسهم ونفيهم إلى الداخل أو الخارج، أصبح على هؤلاء المعارضين الحقيقيين أن يتعففوا عن التنافس فى سوق المعارضة السداح مداح، حيث يتبارى أصحاب الملايين أو البلايين فى نقد الحكومة، كأنما لم يكونوا جزءا منها. كثرت المقالات عن الفساد والفقر والمرض بأقلام كانت من أهم أسباب الفساد والفقر والمرض، كيف ينسى الناس الماضى القريب، كيف ينسى المسؤول السابق صمته الطويل؟ وأمواله الطائلة التى كسبها على مر السنين داخل الحكومة وخارجها ؟
كيف يصدر حكم القضاء ضد واحد من الكبار المتورطين فى الفساد، ثم تدفن القضية حتى ينساها الناس فيخرج إليهم بوجه جديد برىء، كم مرة تكررت هذه القصص؟
ذاكرة الشعب المصرى ضعيفة، فالذاكرة خلايا فى مخ الإنسان، تضعف بالفقر ونقص الغذاء واليأس والحزن والإرهاق، لا يذكر الشعب المصرى وجوه حكامه الموتى.
ولماذا يذكر شيئا مؤلما؟ من الطبيعى أن ينسى الإنسان الآلام، وإلا كيف يعيش ويحتمل الحياة؟ ينسى الفقراء ذل الفقر، وينسى الحكام فحش الثراء، كلاهما ينسى، الفقر مؤلم إلى جوار الثراء، الثراء الفاحش عار وخزى إلى جوار الجوع القاتل، أما الاستبداد السلطوى فهو قمة الخزى والعار، فى نظر شعب معدوم السلطة.
بعض الناس يقولون: كل إنسان يخطئ، الله يغفر للناس خطيئتهم فلماذا لا نغفر أخطاء البعض منا؟ وهل نحن منزهون عن الخطأ؟ والشعب المصرى طيب القلب ينسى الإساءة أو يغفرها لمن يعترف بالخطأ ولا يكرره.
لكن إذا لم يعترف الإنسان بالخطأ؟ وبدا كأنما لم يخطئ، أو أنه يكرر خطأه دون خجل أو حياء؟ كما يحدث مع هؤلاء المسؤولين الكبار، لم أقرأ لأحدهم اعترافا بالخطأ، يلجأون إلى التبرير والتأويل والتمويه، يخرجون أبرياء بل أبطالا فى سوق المعارضة، وتغرق الحقائق فى المراوغة والضباب.
#نوال_السعداوى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الضمير الحى فوق الهوية القومية والدينية
-
وجوه تتكرر فى كل عهد
-
الدكتوراة الفخرية والتعددية والنسبية
-
جلسة مع كاتبات فى القاهرة
-
الصورة المفبركة بدل الحقيقة المؤلمة
-
المرأة الكاتبة
-
«سارة بالين» وجوارى القرن الواحد والعشرين
-
الدكتورة نوال السعداوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول
...
-
التاريخ سينصف تجربتي والطفلة في داخلي تنتصر على الشرطي
-
شهرزاد جديدة أكثر تحررًا
-
خطورة قوانين الأحوال الشخصية الدينية
-
عن النقاب والنفاق والسلطة
-
حاربت 60 عاماً ضد الختان وفقدت وظيفتى وسمعتى وعندما صدر القا
...
-
أنا أكتب إذن أنا أعيش
-
خلايا العقل المظلمة
-
الكتابة بين الذكورة والأنوثة وهوية النص .
-
الحرب والنساء
-
حجاب العقل.. أخطر
-
المرأة العربية تعيش من أجل الجنس فقط و المسيار أفضل من الزوا
...
-
د.نوال السعداوي: مصر لا تستحقني.. وأنا -قرفانة- من الجنس
المزيد.....
-
لبنان: غارة مسيّرة إسرائيلية تودي بحياة صيادين على شاطئ صور
...
-
-لا تخافوا وكونوا صريحين-.. ميركل ترفع معنويات الساسة في مخا
...
-
-بلومبيرغ-: إدارة بايدن مقيدة في زيادة دعم كييف رغم رغبتها ا
...
-
متى تشكل حرقة المعدة خطورة؟
-
العراق يخشى التعرض لمصير لبنان
-
مقلوب الرهان على ATACMS وStorm Shadow
-
وزارة العدل الأمريكية والبنتاغون يدمران الأدلة التي تدينهما
...
-
لماذا تراجع زيلينسكي عن استعادة القرم بالقوة؟
-
ليندا مكمان مديرة مصارعة رشحها ترامب لوزارة التعليم
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|