|
المذهبية عدو الدولة الوطنية
عهد صوفان
الحوار المتمدن-العدد: 3160 - 2010 / 10 / 20 - 21:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ وجد الإنسان على الأرض سعى لتنظيم حياته وفهمها والسيطرة عليها. ارتحل في عالم الفكر يبحث ويفتّش عن أسرار الكون الواسع وعن دوره فيه. وبدافعٍ من غرائزه البدائية استخدم القوة العضلية للسيطرة على أبناء جنسه .. تطورت غرائزه وسلوكياته واستحضر الآلهة والنصوص المكتوبة والشرائع. وتفنن في خلق مفاهيم الخضوع عند رعاياه. فأقام أنظمة يحكمها هو كإلهٍ أو ابن الإله أو والد الإله. ابتدع وراثة الحكم والسلطة. ودوّن لها المبررات التي تبقيه سيد العرش الوحيد.. حاول أن يحمي سلطته ويديم عرشه ولكن لم يستطع. فكان يسقط في كلّ مرة بأخطائه التي لم تواكب مستجدات الحياة. ولم تعِ المتغيرات الكثيرة حوله...
مرت حياة البشر بمراحل كثيرة حكمتها الظروف وانتقل الإنسان من حال إلى آخر متقدماً سلم التطور الحتمي. وبدخولنا مرحلة الثورة الصناعية بدأت ملامح جديدة تظهر. بدأت تولد دولة حديثة مختلفة. بدأت تفاعلات كثيرة تحدث. لم يعد بإمكان الحاكم تجاوزها .. بدأ الحاكم يخاف من هدير الشعوب التي يحكمها. وعليه أن يحسب لها ويضعها في اعتباره أكثر. تطورت القوانين وبدأت تظهر حدود جديدة بمعايير جديدة. في كلّ الأزمنة السابقة كانت غريزة الحروب هي الأقوى. وكان سهلاً أن ترسل جيشاً ليقاتل ويموت دون أن يعلم به أحد. ولا أحد يعلم كمّ البشر الذين سقطوا على مذبح الحياة بأمرٍ من قائدٍ إله وجبت طاعته وعبادته. ولا أحد يعلم كمّ الدموع التي ذرفت هنا وهناك فوق تراب أرضنا التي شبعت من الجثث والدمّ المسفوك.. ففي نهاية الحرب العالمية الثانية استفاق العام من غيبوبة القرون السحيقة على وقع أكثر من 60 مليون قتيل وعلى خرابٍ ودمارٍ طال الأرض كلّها.. استفاق العالم على جرائم لم ترتكبها حتى الحيوانات المفترسة في غاباتها. تذكروا ما جرى في لينينغراد على أيدي جيش هتلر وكمّ الاغتصاب الذي حدث هناك . تذكروا ما جرى في معركة برلين وماذا فعل جنود ستالين بنساء برلين وأطفالها. وكم كان سهلاً أن تدكّ الطائرات بيوت الآمنين فتحولها إلى أكوام من الحطام دفن داخله جثث الأطفال والنساء والشيوخ.. تذكروا أن ثمناً غالياً وكبيراً دفع لأجل رجلٍ أراد هذه الحرب!!!..
هذه الصحوة الضرورية أرّخت لقيام دولة فيها القرار ليس للقائد الأوحد بل لنظام مؤسساتي يحمي الإنسان ويجلب الأمان.. ودخلت الدساتير والقوانين حيز التنفيذ بعد أن أنزلت من على الرفوف القديمة وفُعّلت هيئة الأمم المتحدة . وبدأ عصر ولادة دولٍ جديدة تخضع لشرعة الأمم المتحدة .انضمت هذه الدول التي كانت من كافة الألوان والأشكال والعقائد إلى هيئة الأمم المتحدة.
الكثير من هذه الدول بدأ الأنين بعد اللحظة الأولى لولادته . لأن معتقدات شعوبهم مختلفة حيث بدأت هويّات المعتقدات تضغط وتحتلّ الأماكن والمواقع وكأنّها تبني عرشها على حساب عرش الوطن . كبرت هذه المذاهب وتسابق أبناؤها في قضم أجزاء الوطن فاستحضر الجميع نصوص التاريخ السحيق ليبرروا قضمهم هذا . استحضروا الدهاء والذكاء والقوة وكل التبريرات فولدت دولنا مريضة ومشوهة منذ لحظتها الأولى . لم ننظر لها كمظلة للجميع . تحمي الجميع وتعمل لأجلهم . ولدت ونحن ننظر إلى مذاهبنا التي كبرت على حساب الوطن .فكان الانفصام الحاد بين أبناء الوطن الواحد الذي يفترض أنه وطن الجميع .. واليوم وصل الأمر لدرجة تذكرنا بأيام الحروب الأولى .
اليوم الحرب مشتعلة في النفوس والكره تضخم وكبر بين أبناء الوطن الواحد . الوطن اليوم لم يعد عائلة واحدة لها أب واحد وأم ّواحدة ... هو خليط غير متجانس . خليط كاره ومستعدّ لقتل أخيه ابن وطنه لأنه ينتمي لمذهبٍ آخر أو دينٍ آخر . احتلت المذهبية الوطن كله ,حتى صار دستوره مستمد من المذهبية وقوانينه مذهبية . المذهبية تراها في الشوارع وفي المحال وفي اللباس والغذاء والعادات والسلوكيات . المذهبية صارت داء الوطن العضال الذي سينتهي بموت الوطن حتما كما ماتت في السابق أوطان كثيرة وتلاشت من التاريخ ولم يبق منها إلا سطور كتبت للذكرى ... أمم انتهت واندثرت ليس بسبب الغزو الخارجي بل بسبب الوباء الداخلي الذي قسم البشر على بعضهم. وزرع سيفاً بين الأخ وأخيه. ورسم حدودا كثيرة تفصل بين أبناء الوطن الواحد .
في أوطاننا الأمثلة كثيرة ويعرفها الجميع الكبير والصغير. ولكننا نكذب على أنفسنا وعلى أوطاننا بإلقاء اللوم على البعيد الغريب.. في العراق وأمام أعين الجميع تتبارى المذاهب المنقسمة الكارهة لبعضها بمعلقات الكلام البديع بينما الوطن معلّق في الهواء ينتظر أبناءه أن يشكلوا حكومة تخدم المواطنين الذين لم يبق شبرٌ في أجسادهم لم يصب بشظية طائفية ومذهبية..
وفي لبنان هذه الدولة التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً!! أهي دولة ؟ أم مزرعة ؟ . فكلّ المذاهب دول وبعضها مسلح له حدوده ومدارسه وشبكات كهربائه ومائه واتصالاته ومرجعياته وو.. كيف نبني هكذا وطن؟؟؟!!!..والجميع لا يؤمن بالوطن أولاً وأخيرا. وفي مصر, المذهبية على فوهة بركان. إن انفجر يحرق الجميع. وفي السودان وفي اليمن وفي البحرين وفي كلّ بلادنا نرى ونسمع أصوات المذاهب تعلو فوق صوت الوطن...
ومع ذلك ترى مثقفينا على الشاشات يلوكون الكلام دون أن يقتربوا من نقد المذهبية التي تعبث بالوطن. تسمع منهم حرصهم على الوطن وعلى أبناء الوطن. ولكن كيف يكون الحرص على الوطن ونحن نخفي أمراضه الفتاكة ونطلب من الناس أن يحبوا بعضهم ويكونون يدا واحدة في بنائه؟؟ . كيف نطلب من أبناء الوطن أن يحبوا بعضهم ونحن ننشر المذهبية تحت عناوين التنوع الثقافي والحضاري ؟؟. هل المذهبية حضارة ؟؟. مع العلم أن مرجعيات أبناء الوطن هم في الخارج حيث الجالسون على عروش المذاهب وليسوا داخل الوطن!!. نحتاج الجرأة من الجميع أن يشخّص المرض الحقيقي ويقول الحقّ الذي ينجي الوطن والمواطنين..المذهبية ضد الوطن تماما ولا يمكن بناء وطنٍ مذاهبه أكبر منه وحدودها تتجاوزه...
دروس التاريخ عبرٌ لمن يعتبر وهي حبرٌ على ورق لمن يصمّ آذانه ويغلق عينيه . لا يمكن أن نبني وطنا فيه تنوع فكري وثقافي متحارب ومحمّل بالكره والعنصرية تجاه الآخر . لا يمكن أن نبني وطنا فيه أحزاب تعمل للسلطة فقط وتركب كل أمواج الوصول والتسلق . تبيح كل شيء وتفعل أي شيء فقط لأن كرسي الحكم مفيد ويجلب المكانة والوجاهة والمال ...
الوطن يبنيه أفراد مؤمنون به أنه المظلة الوحيدة فوق رؤوسهم وأنه الجامع الأول والوحيد لهم ... كيف نبني وطنا نهدم به يوميا ونفتت وحدته باستمرار ؟؟.. كيف نبني وطنا يصغر كل يوم في عقولنا حتى تحول إلى قزم أمام مذاهبنا ؟؟.. كيف نبني وطنا نتقاضى راتبه دون أن نعمل ؟؟.. كيف نبني وطنا نسرقه يوميا وننهبه باستمرار؟؟.. كيف نبني وطنا نراه فريسة علينا أن نأكلها ؟؟.. كيف نبني وطناً افترست مذاهبه كل الإثنيات والقوميات التي تعيش فيه؟؟.. كيف نبني وطنا وولاؤنا لمذاهبنا أولا وثانيا وثالثا ؟؟..
هذه المذهبية التي زرعت الكره بين البشر بادعاء كل منها أحقيتها بالوطن وأنها هي ابنة الوطن الحقيقية. عندما تنتشر المذهبية تنتشر معها أمراض أخرى كثيرة تعمل معها على تفتيت الوطن وإضعافه وتمزيق وحدته التي بدونها لا يبقى الوطن وطنا...
#عهد_صوفان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مآخذ النظام الرأسمالي كبيرة ولن يشفع له تفوقه على النظام الا
...
-
المسيح الثائر. متقدّم رفض العهد القديم
-
أيّ ملّة عند الله هي الملّة الناجية؟؟
-
هل الإله خلق الإنسان ضعيفا أم الإنسان خلق الإله قويا ؟
-
الدين مشروع سلطة استمر بالمقدس
-
الله الخالق يخلق أرضا متصدعة وقاتلة لأبنائها
-
الصنمية توأم الإنسان منذ كان
-
قراءة نقديّة للنصّ المقدّس – التلمود ضرورة توراتية
-
لماذا أبدع اليهود وفشل المسلمون؟
-
القداسة مدخل صناعة الطغاة والغيب بداية السقوط
-
مرة أخرى من المسئول عن تخلفنا؟؟
-
من يحب فلسطين يوحد الفلسطينيين
-
القلمُ جريمته كبرى
-
عصر الدولة الدينية انتهى
-
المرأة في الحديث والسيرة الإسلامية
-
كيف نقاوم الإرهاب والتطرف؟؟
-
قراءة نقدية للنص المقدّس - القضاء والقدر في القرآن 6
-
ترانيم دول العبيد
-
أساطير الخلق والتكوين في منطقة الشرق الأدنى القديم
-
القتل في التوراة والقتل في القرآن
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|