|
زواج ابنة حجي چلوب
حسين القطبي
الحوار المتمدن-العدد: 3157 - 2010 / 10 / 17 - 14:59
المحور:
الادب والفن
الغبار يثقل حركة الذباب المتزاحم على طبق غداء حجي چلوب، وحافلة الحمولة التي مرت في الساحة الترابية، امام دكانه المعتم، محملة بنعاج محشورة خلفها، نبهته الى حاجة هذه الساحة لرش الماء.
- نعله اعلة ابوك لابو شرفك
قال بصوت كاد ان يكون مسموعا لفرط حقده على الرجل، سائق الشاحنة، الذي يملأ الطرقات غبارا، وضجيجا كلما مر، وكأنه يعلن زهوه على المارة بعاصفة ترابية. منذ الصباح كررت هذه الشاحنة ممرورها بسرعة امام الدكان ربما لعشرة مرات، او اكثر، كان السائق الشاب، النحيف ذو الشارب الذي يميل للحمرة، يرمق الحاج چلوب خلالها بنظرات هي بين المتعة والمشاكسة والسخرية.
عاد الى طبق الغداء، رفع باصابعه لقمة يابسة ليمضغها دون شهية، وهو يشعر بجفاف شفتيه، ومرارة الظهيرة الحارقة، واكتشف عرضا ثمة ارتجافة في الاصابع اصابته بهلع الشيخوخه.
- شواربه تگول عبالك ابو الزمير...
قال ذلك بصوت اعلى، على ان مرارته هذه ليست بسبب رشقات التراب، ولا هدير الحافلة، كلما مرت، ولا استغاثات النعاج خلف قضبانها، التي ربما كانت تشكو غضب الشمس، وسياطها العمودية، او تستنجد من مصيرها المحتوم نحو القصبخانة، بمشهد يذكره بايام العسكرية، حين كان يعبأ مع الجند مكان هذه الماشية.
حرقة ريقه وجفاف فمه انما لسبب اخر يختلف تماما، لا يريد ان يتذكره، او مجرد ان يفكر فيه، لكنه لا يستطيع ان ينساه ايضا.
هذا الصباح، وقبيل اذان الفجر بقليل، حلت به الكارثة، التي كان عليه ان يتلاقاها بصمت، وان لا يدع اي من الاقربين يتحسس عليه وقعها، فعلى عكس كل الاستخارات القرانية، وثقة الشيخ الذي اكد له ان المولود القادم سيكون ذكرا، وصالحا، وكان هو بحسه واثقا من ذلك، ولدت زوجته له بنتا، مكذبة كل الايات العشوائية التي كان الشيخ يستفيض في شرحها، فباغتته الفاجعة منذ مطلع هذا اليوم، المشؤوم، بالضبط كما لو انه فقد احد اولاده الخمسة.
والبنت "كسران ظهر" كما يعتقد، فالابناء بوسعهم الركض في هذه الساحة الترابية الفسيحة، يشاكسون، يضربون من يعتدي عليهم، بالاكف، او بالحصى، وان اقتضى الامر هبوا في "عركة" يفتعلونها في بعض الاحايين من اجل لفت الانتباه، وتحذير المشاكسين من الجيران.
واذا غاب احد من الاولاد عن ناضريه، فلا بد ان يكون امنا، في ثمة فسحة من هذه الساحة الواسعة، التي لا تكاد تميز من يتمشى في طرفها الاخر.
الساحة عبارة عن ارض شاسعة ليس لها حدود معروفة، تتبعثر على جانب منها مجموعة دكاكين، ومقهى، ووقفة بيع الاغنام، وفي جانبها الاخر بيوت طينية تبدو عن بعد كانها خرب متروكة، تقطنها العوائل المعدمة المهاجرة من القرى التي تصحرت في السنين الاخيرة.
نعم، البنت، وله منهن ثلاثة، عالة تثير الشفقة اكثر من الفرح، فتقبع بالدار بانتظار اللقمة التي يجلبها لها الاب، ولو حدث له مكروه، او طالته الشيخوخة، وهذا ما صار يخشاه بعد ارتجافة اصابعه، التي داهمته منذ الصباح، ووهن اطرافه الذي حرص ان لا يطلع عليه احد، فانها ستذل على يد اخيها قبل ان يذلها ويركبها الزوج لتكون مجرد خادمة لكل ملذاته، وبؤرة خوفه وعاره هو.
لهذا فلم يصرخ على سائق الحافلة، ولم يفكر في ان يستل مديته ويلحق به امام المارة، فارعا صدره، مشمرا عن ساعدين نحيفين يلتمع العرق عليهما من بعيد ليكشف عن عضلات ضامرة، كما كان يفعل كلما يستبد به الغضب، بل شعر هذه المرة باحباط، كأنه درويش حاف، يحمل في كيس متاعة على كتفيه صخرا، ويجلد ذاته في مسيرة طريق صحراوي ليس له نهايه. بل ربما اثقل من ذلك.
اندلفت سنونو سوداء بسرعة البرق في دكانه واستقرت اعلى السقف في ابعد زاوية فيه، وابردها، لتستقر مع الفراخ عند عمود السقف الخشبي، العش مباشرة فوق حب الماء.
- سلام عليكم...
فاجأه صوت عالي، بجانبه، اذ كان سارحا، فقفزت كل اسارير مخيلته هلعا، مثل مجموعة طيور يلقى عليها حجر، ولكن اكثر ما المته، هي تلك النبرة الساخرة، والضحكة التي رافقتها، والرجل هذا هو سائق الشاحنة ذاتها.
ورغم انه لمح في ابتسامته بعض الارباك، الا انه اعتقد بأن هذا الشاب يتسلى معه بلعبة مشاكسة. وقبل ان يفتح فمه ليصليه بسلسلة من الاهانات، على هذا الطيش، وعلى تهوره في سياقة حافلة طويلة، بهذه السرعة، في هذه الساعة من الظهيرة، واصل الشاب سلامه المتعجل، ونبرته المرحة على غير العادة.
- شلونك عمي شلون صحتك شلون احوالك شلو...
- ولك انت ليش ما تستحي، من الصبح ليهسه كم مرة مريت منا وترشقنا بالتراب، ما تقول اكو ناس بهذا الـ....؟
باغته وهو يدنو منه، كأنه يريد الهجوم عليه فجأة، فتراجع الشاب وهو يلمح الشر في نظرات الرجل، حاول ان يتمتم فتعثرت في فمه الكلمات، تغيرت سحنته نحو جدية خائفه واضطراب، غاب عنه فجأة ذلك التضارف الذي رافقه منذ صباح اليوم، وتلاشت الابتسامة التي بدأ بها التحية، كأنه يتقي ضربة، او لطمة وشيكة.
- عمي سامحنى والله.. ما دريت
- ما تقول هذا التراب وين يروح...
وبينما كان يبحث عن كلمة نابية، بشفتين مرتجفتين من فرط الغيض، ظهر احد اولاده، اصغرهم، بدشداشتة القصيرة، ولونها الذي قد يكون اصفرا، او ان الشمس قد صبغتها بلونها اللا مستقر، قال الصبي وهو يشير الى جهة ما، كأن الحافلة مركونة فيها.
- الجهال صعدوا باللوري... جاي يلعبون ويه الغنم...
وعلا صوت منبه الحافلة من تلك الناحية، التي مازال اصبع الصغير يشير تجاهها، يبدو ان احدهم قد صعد القمرة، خلف المقود، الا ان السائق الشاب بدا اكثر تماسكا وادبا مما كان يضنه الرجل، رابط الجأش رغم ان الحاج واصل تقريعه..
- ولك التراب مو مشكلة.. لو ضاربلك جاهل شلون؟؟؟
- عمي سامحني... والله بس اجيت اقول لك.. ابوي وكم واحد... راح يجون عندكم اليوم بالليل..!
تراخت تقاطيع الحاج، وحاول اخفاء ذهوله، كي لا يبدي امتعاضا من عناء الضيافه. كتم سؤالا في نفسه عن سبب هذه الزيارة الغريبة، وعن هؤلاء الذين سيأتون معه.
- هلة بيهم. يشرفونا...
لكن الاستغراب، والفضول لمعرفة الدافع لم يبارحه، وقد تعلقت نظراته بلا مكان لبرهة، وتراخت تقاطيعه، اما الشاب فقد احس بالقليل من الأمان، وعاد الدم لابتسامته من جديد، حاول ان يفتح فمه ليكمل، فبادره الرجل بنفس الحدة والنظرات الغاضبة.
- والحسين لو اجيت بعد منا وتدنيت على الدكان، لا اقطعك بهذه الــ..
واشار الى ناحية القضيب المسنن، الذي يشبه السيف، ملقى بالقرب من كوة النار. ضحك الشاب بصوت مرتفع وهو ينسحب.
- لا لا عمي... والله بعد ما اجي منا .. والحسين لو اجيت...
وابتعد وهو يصرخ على مجموعة من الصغار قفزت من الحافلة وفرت بعيدا عند سماع صوته المضطرب.
اما الحاج چلوب فقد عاد الى ذاته، نسي الجوع، ومرارة الريق، والغبار الذي افسد عليه غداءه، انكمش يقلب طيات الذاكرة، مستفسرا عن معنى لهذه الزيارة، التي لا معنى لها يلوح في خاطره.
ابو هذا الشاب هو من الاثرياء الذين جاؤوا الى هذه البلدة من مدة ليست بالقصيرة، يمتلك اراضي زراعية تعيل مجموعة من الفلاحين، الذي لا يخفون رضاهم عن كرمه وحسن معاملته، اضافة لمجموعة من الدكاكين التي يعمل فيها صناع اوفياء، وفوق ذلك فهو يتاجر بالحبوب والماشية، وحافلة الاغنام هذه، التي اثارته منذ الصباح، والتي لا يستطيع تخمين ثمنها، انما هي نزر يسير من ممتلكات والده المعروف بين الناس بالورع والطيبة.
تربط العائلتين قرابة عشائرية بعيدة، لكن تفاوت المستوى المعيشي حال دون التواصل الاجتماعي بينهما لسنوات ليست قليلية.
وظل الذباب يحلق قريبا من فمه الفاغر، وقد سكن كتمثال للحظة.
- قد تكون "سالفة عشاير"، أو"فصل"، يا ساتر..
قال في سره. لكنه تذكر ذات مرة، حين كان يضطجع الى جانب زوجته، في ليلية شتائية قارصة، وفي ساعة الخلوة المتأخرة، حيث كان الصغار، الكلاب، والمدينة كلها نائمة، لكزته هي بركبتها وهمست عند اذنه بصوت خافت، حاذرت من يقضة ابنتهم الكبرى، النائمة في زاوية الغرفة البعيدة، في ظلمة تكاد تكون داكنة، بان احد اولاد هذا الرجل، وربما يكون هذا الشاب، سائق الحافلة، "واضع عينه"، على البنت، وسوف يأتون لخطبتها، ناقلة عن ام الشاب مباشرة.
ولان الايام توالت، والشهور، وتتابعت بعض فصول العام فقد نسى الامر واعتبر الامر تخريفا من احاديث النساء التافهة.
انتبه الى دوي الحافلة نفسها من جديد، وهي تمر ثانية من امام دكانه، تسبقها غبرة خفيفة، لكنها ابطأت السير هذه المرة، فلمح نظرة السائق تجاهه، كان محاذرا ان لا يثير تلك الزوبعة، حتى النعاج بدت خلفها ساكنة، كانها مروضة بسياط الشمس العمودية اللاهبة.
- ماكو غيرهه، هي هاي السالفة.
تفهم سر المرور المكرر امام دكانه، واستعراض الشاحنة للاغراء، واحس بعجز عن التفكير، بعد ان ترك الشاب ذو الابتسامة، والشارب الذي يميل للحمرة تساؤلا، وحيرة، ورائحة تشبه رائحة الماعز في الدكان.
ابتسم، لاول مرة، رغم مرارة ريقه التي لازمته منذ الفجر، اعاد طبق غدائه بحركة كانت ثقيلة، وبطيئة، وبلا ارادية بدأ يهف الغبار بكفه، والذباب، حمل بين اصابعه التي ارتجفت وهنا، لقمة، وعيناه مركزتان في البعيد، في بيوت الضفة الاخرى من الساحة، تلك التي تبدو كأنها اطلال خربة، في بيته بالتحديد، الذي بدت جدرانه عن بعد، تحت اشعة الشمس العمودية وكأن مطرا من السراب يغسلها.
15 اكتوبر 2010
#حسين_القطبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لبوة تقتحم مجلس اللوياجيرغا
-
العراق.. امية، تطرف ديني ومسلسلات هابطة
-
هكذا تنكر الحزب الشيوعي لفاتحة الرفيق زهير ابراهيم
-
مسلسل تركي جديد قبالة شواطئ غزة
-
هل العراقي انسان أولا؟
-
التزوير الحقيقي بدأ قبل الانتخابات
-
ثلاثة انتهازيين لقيادة العراق الديمقراطي
-
اجتثاث البعث ام اجتثاث البعثيين؟
-
سمفونية جديدة للمالكي
-
بئر الفكة النفطي ... من المستفيد ومن الخاسر من الازمة؟
-
هل الاسلام يشجع على الجريمة ام الاسلامي السياسي متوحش?
-
الحوثيون خونة ام ضحايا ام مجرد ظاهرة؟
-
محارب لله ورسوله لانه كردي.. فاعدم
-
المشكلة الكردية خنجر في خاصرة العراق
-
كيف سيوظف المالكي التفجيرات الاخيرة في حملته الانتخابية
-
كردستان لقمة اكبر من فم العراق
-
التجربة الفاشلة لضم اليمن الجنوبي، هل ستنتهي قريبا؟
-
مذابح التاميل مرت بصمت
-
شعب التاميل هل يستحق الحياة؟
-
اية قرانية تدعو لقتل الاكراد
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|