كهلان القيسي
الحوار المتمدن-العدد: 952 - 2004 / 9 / 10 - 10:39
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
إن نظرة موضوعية تاريخية فلسفية إلى تاريخ الشعب العراقي عبر عصور التاريخ نستطيع تلمس فكرة دنيوية تغلب في عقيدته في الحياة, بالرغم من صعوبة الحياة في بلاد الرافدين بقسوتها البيئية والسياسية إلا إن هذه النزعة لها جذور تاريخية, لابد من الوقوف عندها والرجوع إليها في فهم الواقع العراقي ألان وفهم كافة المتغيرات التي طرأت على حياة المجتمع العراقي.
إن إيمان العراقيون ومنذ القدم بالروح وخلود الروح سواء كان ذلك في معتقداتهم القديمة والحديثة جعلهم لا يهتمون بالجسد الفاني ( فبما إن الإنسان قد خلق من التراب – حسب الفكر الديني القديم والحديث- فان الجسد يعود إلى التراب) أما الروح فهي تبقى خالدة لا تموت لان موت الروح يعني فناء الخلق... لان الإنسان خلق من تراب ورح. - , وان في قصة نزول الالهه عشتا ر إلى العالم السفلي خير دليل على ذلك حيث انتزع منها كل شيء من حرس وصولجان وثياب إلى أن نزلت كما خلقها ربها- عبرة جيدة-- لذلك نجد إن العراقي القديم كان يمتع جسده بما يستطيع إليه سبيلا ومن ذلك طيب الأكل والشراب والتمتع بالنساء والمال و البنيين والجاه والشهرة والسطوة والقوة من خلال تقلد منصب الحكم وقيادة الشعب, لذلك أخذت هذه العقيدة منحى كبيرا في حياتهم الدنيوية, بل حتى الآلهة التي عبدوها قبل التوحيد أضفيت عليها الطبيعية البشرية من الحب والكره والغضب وصورها على أشكال البشر في رسوم ومنحوتات. وبنفس الوقت نجدهم مهما على شانهم وامتدت مملكتهم في أصقاع الأرض لم يهتموا بقبورهم بل اهتموا بقصورهم وملذات حياتهم, ومثلا على ذلك لا يمكن أن يعقل أن ملوك عظام من حمو رابي إلى آشور بانيبال إلى نبو خذ نصر بل تعدى ذلك إلى أخر الأباطرة العظام كهارون الرشيد, لم نجد قبرا واحدا كبيرا ومهما يدلنا على هؤلاء العظام سوا أعمالهم وهي إن كانت المعابد أو الزقورات أو المدن المحصنة كبغداد وسامراء( على عكس عقيدة المصريين القدماء التي تؤمن بعودة الروح الى الجسد فبنوا ما بنوا من قبور واهرامات),,,,, يبدو إن هذه العقيدة القديمة استمرت بشكل أو بأخر في نظرة العراقيين إلى الآخرة ( والتي الجزاء فيها حسب فكرهم هو العمل الصالح في الدنيا). والذكر للإنسان عمر ثاني- كلكامش.
والغريب في الأمر بقيت ارض الرافدين وشعبها ذو طبيعة مختلفة جدا عن بقية البلدان المجاورة, فبالرغم من إن العراق كان مركز الحضارة والدولة والإمبراطورية الإسلامية ومركز إشعاع حضاري, إلا إن جانب المتعة في الحياة الدنيا بقي يحتل حيزا كبيرا في حياة العراقيين من حبهم لمتعة الحياة الدنيا أكثر من أي شيء أخر, فنجد في بغداد أبي نواس وغيره ولذة وطيب الإقامة في العراق الذي أسهب المؤرخون في وصفه, بنفس الروحية التي وصف بها أهل العراق من دين وعلم وأدب,,,,,.
وفي التاريخ الحديث وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية تبنى العراق سياسة الدولة العلمانية التي تماشي الجميع رغم بعض الاستثناءات, وإذا نظرنا إلى الفترة بين الأربعينات والسبعينات نجد ان العراق كان يسير على نظام علماني شبه أوربي ويتفاخر العراقيون بمعرفتهم بالفكر العالمي وما يدور حولهم وكانت الحرية الاجتماعية واضحة في كثير من المجالات من خلال إطلاعهم وحبهم الواسع لقراءة الكتب والمجلات التي كانت تصلهم. ولكن ما الذي حصل في فترة السبعينات والتسعينات من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي الحديث,
صدام وحربه على الدين ثم حملته الإيمانية؟؟؟
عندما تسلم صدام والبعث السلطة في العراق وجد إن التيار الديني لا يتماشى ونظريته التي يريد تطبيقها في العراق, ربما قيل له أو انه نفذ أجندة معينه وهي القضاء على كافة التيارات الدينية التي من الممكن أن تقف في وجهه وبذلك حاول جاهدا أن يجعل المجتمع يبتعد عن كل ما هو ديني (طبعا ليس كل المجتمع) لكن الأغلبية الكبيرة منه. لذلك نجد مثلا ان فترة الثمانيات وبالرغم من الحرب العراقية الإيرانية بقي المجتمع العراقي يمارس حريته الاجتماعية حسب رغبته فنجد ان الأمور الدنيوية والدينية تسير بشكل متوازن. ولو أخذنا مثلا ظاهرة التحجب بين النساء المتعلمات مثلا وحتى غير المتعلمات تعتبر نسبة ضئيلة إذا ما استثنينا الطبيعة القبلية للشعب العراقي التي تجبر الفتاة على تغطية رأسها, ففي عام 1980 نجد إن نسبة الفتيات المحتجبات في الجامعات والدوائر الرسمية تشكل نسبة 5% من نسبة التحجب, ( وكنا أيام الدراسة نتندر على الفتيات المتحجبات بالعقدة) أما الجوامع في تكاد تكون واحدة لكل مدينة. ولكن مع استمرا الحرب العراقية الإيرانية وفقد الناس للأمل في أن تكون هناك نهاية قريبة, فبدء الناس يتجهون شيئا فشيئا إلى ناحية الدين خصوصا إن الجميع يريد أن تحصل معجزة ألاهية في نهاية هذه الحرب الدامية, إضافة إلى الأعباء الكثيرة التي تحملها المجتمع سواء بفقد الأحبة أو بفقد الدخل الجيد,,, الخ من العوامل.
وحصلت المعجزة وانتهت الحرب وما كاد العراقيون أن يلملموا جراحهم وينسوا الماضي حتى أقحمهم صدام في حرب جديدة, صحيح إنها لم تدم طويلا ولكن نتائجها كانت خطيرة لا يمكن تصورها,, وبذا بدء الحصار على الشعب الذي سحقه سحقا مميتا لا يمكن إصلاحه بسهولة, كما إن فقدان الشعب للأمل في حياة حرة كريمة وأمان جعل الكثيرين يتركون جانب من الحياة الدنيا إلى التدين,,,. مثلا في عام 1990 كانت نسبة الفتيات المحجبات تصل إلى 50% بعد أن كانت 5% قبل عشرة أعوام, إضافة إلى الاتجاه نحو الرب في ألازمات إلا إن ألازمة الاقتصادية كانت اكبر بحيث إن من لا تستطيع تزيين نفسها اضطرت إلى لبس الحجاب وان من لا يستطيع شرب الخمر اكتفى بالتدخين.
هل كانت الحملة الإيمانية مدبرة أم مخطط لها أم هي تحصيل حاصل؟؟؟
ربما !! و لا نعرف السبب الحقيق في ذلك إن صدام أراد أن يتقرب إلى بعض الجماعات الدينية, أو إن أحدا شاره بذلك لا نعرف السبب أو انه أراد تضييق الخناق أكثر على الشعب,,,؟ الله وحده يعلم, وبذلك أطلق حملته الإيمانية في الربع الأول من التسعينات( والتي كتب عنها مفتش الأمم المتحدة سكود رترد بحثا مفصلا) بمنع و بغلق كافة البارات والنوادي ألليليه والاجتماعية وحتى النوادي المتخصصة كنادي الأطباء والخطوط الجوية..الخ من تقديم المشروبات في ألاماكن العامة,, بالرغم من انه لم يمنع بيع وشراء الخمور لأنها تجارته وأعوانه. لكن ما الذي ترتب على ذلك, اضطر بعض الناس إلى البقاء في بيوتهم ومنعم من الالتقاء للتنفيس عن أنفسهم في التجمعات العامة, ثم إن معظم الآباء لا يفضل أن يشرب أمام أولاده إضافة إلى الفاقة المالية ( وهنا أيضا نشير إن الانقطاع الدائم للكهرباء يضطر الرجال إلى النوم مبكرا وهذا أحدث ثورة سكانية كبيرة أيضا- من إحصاءات الأمم المتحدة)., أذان أصبح أسهل شيء هو ترك المشروب والاتجاه نحو الدين.ثم إن بعض الشباب الذين لا يتمكنون من شراء الكحول التجأوا إلى طرق أخرى أسهل وارخص,,, ولو على نطاق ضيق.( نود هنا أن نشير إلى انه في جماهيرية ألقذافي يمنع المشروب منعا باتا,,,, لكن ما هو البديل الشباب يتناولون المخدرات وهذا اخطر من شرب الكحول), ولكن في الحالة العراقية تعتبر المخدرات من الأشياء النادرة في العراق.ولكن ألان أصبحت رائجة بفضل الإيرانيين.
ثم بدء حملته الإيمانية وبشكل فعلي من خلال بناء بعض الجوامع وإجبار رموز النظام على التظاهر بأنهم مؤمنون ويحضرون صلوات الجمعة على الهواء مباشرة, ومن ثم محاولة القضاء على البغاء من خلال قطع الرؤوس,,الخ.
لذلك نجد إن غياب وسائل المتعة واللهو لدى الشباب العراقيون, لا تلفزيون لان تلفزيون صدام كان مقرفا و لا من ستلايت وانترنت ومن كتب ومجلات, دفع هذا بمعظم الشباب العراقي إلى الالتجاء إلى الدين أكثر فأكثر, وبوجود الحصار والإعلام المعبىء ضد الغرب والظلم الواقع على الشعب بأيادي غربية( الحصار طبعا على الشعب وليس على صدام والشعب يدرك ذلك ويكره أمريكا كرها اشد من اليهود) وظهور شيوخ شباب يرغبون ويرهبون الشباب بشتى الوسائل كل هذا أدى إلى ظهور جيل من الشباب العراقي الذي يؤمن إيمانا عميقا بالدين وحتى تكفيريا في بعض الأحيان والنظر إلى المستقبل نظرة سوداوية. وبذلك أصبح عدد الجوامع في المدينة الواحدة لا يتسع لجميع المصلين فنجد إن الجامع الواحد في المدينة الواحدة أصبح عشرة أو أكثر ( يجب أن لا ننسى الزيادة في عدد السكان).
ثم بدأت الحرب الأخيرة والتي كان الجميع مدرك إن صدام سوف لن يصمد يوما أو يومين, وانتهى كل شيء وهذا أيضا يولد شعور بالإحباط لدى البعض, وجاء الأمريكان, وبغبائهم أو متقصدين, الله اعلم, لم يدركوا حقيقة وطبيعة الشعب العراقي وان هناك فكرا دينيا ووطنيا كبيرا لدى هؤلاء الشباب وحصل الذي حصل, والذي يدفع الأمريكان ثمنه والعراقيين أكثر لذلك نجد إن غياب المعالجة السياسية الواعية والنزيهة وانعدام الرؤيا في هدف المحتل سهل لرجال الدين في العراق أن يأخذوا زمام المبادرة, ورغم ذلك لم يتعامل المحتل و السياسيون معهم بشكل حضاري بذلك أصبح لدينا ألان في كل حارة وشارع 100 شيخ , أنا لا اعرف من أين جاء هؤلاء وتكاثروا بشكل انشطاري بحيث إن كل من أطال لحيته ووضع خرقه سوداء أو بيضاء على رأسه أصبح شيخا وإماما وحجة الإسلام والمسلمين!!! وطبعا معظم هؤلاء هم من المحرموين ثم أصبحوا منتفعين بفعل الظروف الحالية..
وأصبحوا ينفذون ما تمليهم عليهم عقيدتهم الدينية من تحريم وتحليل ومصادرة للحرية الفردية فمن قتل وتفجير وإغلاق محلات وإجبار على الحجاب,,,الخ. ولكن المصيبة الأعظم هو أن تتحول الجامعات العراقية ( التي يجب أن تبقى بعيدة عن أيادي وأفكار هؤلاء) إلى مرتع لسياسة هؤلاء وان تصبح أشبه بحسينيات تلطم وتبكي مثلما حصل في جامعة بغداد !!!وان من يريد يحي ذكرى إمام عليه الذهاب إلى المكان المخصص والأهيب ألا وهو الجامع أو الحسينية, وليس في منبر علم!!
سألني صديق يوما ما هو السبيل لكي نبعد هؤلاء الشباب عن الالتفاف حول المعممين الشباب قلت له إن ذلك يتطلب أمور كثيرة إذا صدقت النوايا :
أولا: ابعد المحتل عن وجوههم على الأقل أن يبقوا في قواعد ثابتة
ثانيا: أعطهم كفاف يومهم من الرمق بإيجاد الوظائف وحتى يدونها على شكل معونات اجتماعية.
ثالثا: أعطي كل شاب جهاز كومبيوتر وانترنت, يجب أن تكون بالمجان.
رابعا: من لم يتعلم ادخله دورات بسيطة لتعلم أي حرفه أو مهنة .
بعد مدة قصيرة سوف تجد هؤلاء شيئا فشيئا ينفضون من حول قادتهم ويحاولون الاندماج في الحياة العامة, وهناك نقطة لا تنساها إن هؤلاء الشباب عانوا ما لم يعانية شباب في العالم كله من حرمان وضنك وقهر, لذلك يجب التعامل معهم من هذا المنطلق. ونحن لا نلومهم على ما يفعلون ألان لان هذا حقهم الشرعي إنسانيا ودوليا. علما إن هؤلاء لا يبغون ما يبغية الشاب الأوربي – الذي ينتحر على ابسط الأشياء – بل هم متواضعون ومتطلباتهم بسيطة وسهلة.
هذا إذا كانت كل النوايا طيبة وصادقة وتريد أن تعوض الشعب المظلوم لا أن تنهب ما يمكن نهبه وتترك هذا الشعب المسكين يترحم على أيام هي أصعب.
#كهلان_القيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟