|
التحدّي الحقيقي من الصين هو شعبها لا عملتها
فريد زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3154 - 2010 / 10 / 14 - 14:44
المحور:
الصحافة والاعلام
أحبّ فكرة الثنائية الحزبية. مجرّد رؤية الديموقراطيين والجمهوريين يجتمعون معاً تجعلني أبتسم. أقول في نفسي "أخيراً الحكومة الأميركية تعمل". ثم أنظر إلى ما يتّفقون عليه، فيتملّكني التوق إلى الشلل. في 29 أيلول، أقرّ مجلس النواب مشروع قانون حظي بدعم ساحق من الديموقراطيين والجمهوريين على السواء. يعاقب مشروع القانون الصين لحفاظها على الانخفاض في قيمة عملتها من طريق زيادة التعرفات على السلع الصينية. يبدو أنّ الجميع موافقون على أن الوقت حان لذلك. لكنهم مخطئون. فمشروع القانون هو في أفضل الأحوال تموضع عقيم وفي أسوئها ديماغوجية خطرة. لن يحلّ المشكلة التي يسعى إلى تصحيحها. والأكثر إثارة للقلق هو أنّه جزء من مشاعر العداء للصينيين التي تتعاظم في الولايات المتحدة وتفوِّت التحدّي الحقيقي الذي تطرحه المرحلة المقبلة من التنمية في الصين. لا شك في أن الصين تحافظ على انخفاض عملتها، اليوان الصيني، كي تساعد مصنّعيها على بيع ألعابهم وكنزاتهم وأجهزتهم الإلكترونية بأسعار رخيصة في الأسواق الخارجية، ولا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا. لكنّه مجرّد عامل واحد من سلسلة عوامل جعلت الصين قاعدة التصنيع الأساسية في العالم (تشمل العوامل الأخرى الأجور المتدنّية والبنى التحتية المدهشة والأجواء المؤاتية للأعمال والنقابات المذعنة واليد العاملة المجتهدة). لن يغيّر ارتفاع بسيط في قيمة اليوان هذا كلّه بسحر ساحر. تصنع الشركات الصينية سلعاً كثيرة بكلفة أقل بخمسة وعشرين في المئة من كلفتها لو صُنِّعت في الولايات المتحدة. زيادة أسعار تلك السلع بنسبة 20 في المئة (لأنه من المنطقي الافتراض أنّه من دون تدخّل الحكومة، سوف تزيد قيمة العملة الصينية في مقابل الدولار بنسبة 20 في المئة تقريباً) لن تجعل المصانع الأميركية تنافسية. أما النتيجة الأكثر ترجيحاً فهي أنّ من شأنها مساعدة الاقتصادات الأخرى المتدنّية الأجور مثل فيتنام والهند وبنغلاديش التي تصنع عدداً كبيراً من السلع نفسها المصنوعة في الصين. إذاً ستستمر متاجر "وولمارت" في تخزين سلع بأدنى أسعار ممكنة، لكن الفارق هو أن مزيداً منها سيأتي من فيتنام وبنغلاديش. فضلاً عن ذلك، فإنّ هذه البلدان وبلدان أخرى كثيرة في آسيا تُبقي على قيمة عملاتها منخفضة أيضاً. كتب هلموت رايسن، رئيس الأبحاث في مركز التنمية في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في مقال صدر أخيراً "هناك أكثر من عملتَين في العالم". لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل. فمنذ تموز 2005 إلى تموز 2008، وتحت تأثير الضغوط من الحكومة الأميركية، أجازت بيجينغ ارتفاعاً في قيمة عملتها في مقابل الدولار بنسبة 21 في المئة. على الرغم من تلك الزيادة الكبيرة، ظلّت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة تسجّل نمواً هائلاً. بالتأكيد، عندما وقع الركود، تباطأت الصادرات الصينية، لكن ليس بقدر صادرات البلدان التي لم تسمح لقيمة عملاتها بالارتفاع. إذاً حتى مع السلع الأغلى نسبياً، كان أداء الصين أفضل من الدول المصدِّرة الأخرى. انظروا إلى أمثلة أخرى في الماضي وسوف تتوصّلون إلى الاستنتاج نفسه. عام 1985 أرهبت الولايات المتحدة اليابان في اجتماعات اتفاق بلازا كي تزيد قيمة الين الياباني. لكن زيادة الخمسين في المئة لم تساهم في جعل السلع الأميركية أكثر تنافسية. يشير ستيفن روتش من جامعة ييل إلى أنّه منذ عام 2002، تراجعت قيمة الدولار الأميركي بنسبة 23 في المئة في مقابل عملات شركائنا التجاريين كافة، ومع ذلك لا تزدهر الصادرات الأميركية. تستورد الولايات المتحدة من 90 بلداً حول العالم أكثر مما تصدّر. فهل السبب هو تلاعب تلك البلدان بعملاتها أم أنّه بالأحرى نتيجة خيارات أساسية اتّخذناها كبلد وتقوم على تفضيل الاستهلاك على الاستثمار والتصنيع؟ الصين الجديدة آتية التحدّي الحقيقي الذي نواجهه من الصين ليس أنها ستستمرّ في إغراقنا بالسلع الرخيصة. بل العكس تماماً: تتقدّم الصين صعوداً في سلسلة القيمة، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل عنصر المنافسة الجديدة الأبرز مع الاقتصاد الأميركي في المستقبل. في الجزء الأكبر من العقود الثلاثة الماضية، ركّزت الصين جهودها على تشييد بناها التحتية المادية. لم تكن بحاجة إلى الاستثمار في شعبها؛ فهي كانت تهدف في شكل أساسي إلى إنتاج سلع بأجور متدنّية وهامش أرباح منخفض. كان هذا جيداً طالما أن عمّالها كانوا يعملون بجهد ومقابل أجور منخفضة. لكن وجب أن تكون المصانع حديثة، والطرقات عالمية الطراز، والمرافئ شاسعة والمطارات فاعلة. وقد بُنيَت كلّها بسرعة وحجم لم يُشهَد لهما مثيل من قبل في التاريخ البشري. والآن تريد الصين الانتقال إلى السلع والخدمات الأعلى جودة. يعني ذلك أن المرحلة المقبلة من نموّها الاقتصادي، التي يحدّدها المسؤولون الحكوميون بوضوح، تقتضي منها الاستثمار في رأسمالها البشري بالعزم نفسه الذي أظهرته في بناء الطرقات السريعة. منذ عام 1998، عمدت بيجينع إلى إجراء توسيع كبير في القطاع التعليمي، فضاعفت ثلاث مرات تقريباً الحصّة المخصصة له في إجمالي الناتج المحلي. وهكذا زاد عدد الكليات في الصين مرّتَين في العقد المنصرم، وزاد عدد الطلاب خمس مرات من مليون طالب عام 1997 إلى 5.5 ملايين عام 2007. لقد حدّدت الصين أفضل تسع جامعات لديها، وأبرزتها وكأنّها نسختها عن جامعات النخبة في الولايات المتحدة. وفي وقت ترزح فيه الجامعات في أوروبا والجامعات الحكومية في الولايات المتحدة تحت وطأة الخفوضات الشديدة في الموازنات، تسلك الصين الاتّجاه المعاكس كلياً. فقد قال رئيس جامعة ييل، ريتشارد لفين، في كلمة ألقاها في وقت سابق هذا العام "هذا التوسّع في الإمكانات هو الأول من نوعه. لقد بنت الصين قطاع التعليم العالي الأكبر في العالم في غضون عقد فقط. في الواقع، تفوق الزيادة في عدد الطلاب الملتحقين بالمرحلة ما بعد الثانوية في الصين منذ بداية الألفية الحالية مجموع المتسجّلين في التعليم ما بعد الثانوي في الولايات المتحدة". فوائد القوة الدماغية ما معنى هذا الاستثمار غير المسبوق في التعليم بالنسبة إلى الصين – والولايات المتحدة؟ وضع الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، روبرت فوغل، من جامعة شيكاغو تقديرات حول التأثير الاقتصادي للعمّال المدرَّبين جيداً. في الولايات المتحدة، العامل ذو التحصيل العلمي الثانوي أكثر إنتاجية بمعدّل 1.8 مرّة من شخص توقّف عن متابعة تحصيله العلمي في الصف التاسع، وخرّيج الجامعة أكثر إنتاجية بثلاث مرّات. تزيد الصين إلى حد كبير عدد خريّجيها الثانويين والجامعيين. وعلى الرغم من أنّها لا تزال متأخِّرة جداً عن الهند في قطاع الخدمات، سوف تدخل الشركات الصينية هذه السوق الواسعة أيضاً مع تعلّم طلابها اللغة الإنكليزية في شكل أفضل وتدرّبهم في التكنولوجيا – وهذا ما يحصل الآن. يعتبر فوغل أن الزيادة في عدد العمّال ذوي المهارات العالية سوف تحفّز إلى حد كبير معدّل النمو السنوي في البلاد طوال جيل كامل، وترفع إجمالي الناتج المحلي إلى مستوى تجحظ له العيون مع 123 تريليون دولار بحلول سنة 2040 (أجل، بحسب توقّعاته، ستكون الصين سنة 2040 أكبر اقتصاد في العالم بفارق كبير عن البقية). سواء كان هذا الرقم الخيالي صحيحاً أم لا – وفي رأيي، فوغل متفائل أكثر من اللازم بشأن النمو الصيني – من الواضح أن الصين تتحرّك صعوداً في سلسلة القيمة نحو صناعات ووظائف كانت تُعتبَر حتى الآونة الأخيرة حكراً على العالم الغربي. هذا هو التحدّي الحقيقي الذي تطرحه الصين. وهو ليس وليد تلاعب بيجينغ بالعملة أو إعانات حكومية مخفيّة بل إنّه وليد استثمار استراتيجي وعمل دؤوب. وليس الرد الأفضل والأكثر فاعلية عليه التهديدات والتعرفات إنما إصلاحات عميقة وهيكلية واستثمارات جديدة كبرى لجعل الاقتصاد الأميركي ديناميكياً وعمّاله تنافسيين. هذا ما نحتاج إلى اتفاق بين الحزبَين حوله. فهل من يسمع؟ "تايم" ترجمة نسرين ناضر رئيس تحرير مشارك وكاتب أسبوعي في مجلة "تايم"
#فريد_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|