|
الحتمية الكلاسيكية واللاحتم الكوانتي
محمد باسل الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 3151 - 2010 / 10 / 11 - 19:09
المحور:
الطب , والعلوم
من المفاهيم الجديدة التي جاء بها ميكانيك الكم مفهوم اللاحتم Indeterminism. إذ أصبح الجزم بوقوع الحوادث على سبيل الحتم غير وارد في التصور الكمي الجديد. وقد برز هذا المفهوم نتيجة لطرح التصور الموجي للجسيمات حيث بدلاً من أن يتم النظر إلى الجسيم المادي على أنه شيء متحيز وغير قابل للإنقسام أصبح بموجب التصور الجديد موجة تخضع للتبدل والتغير المستمر وهذا ما أدى إلى ظهور اللاحتم في قياس الكميات الفيزيائية. وهذا التصور الموجي للجسيمات فرضته جملة من التجارب العملية والظواهر التي أكتشفت مطلع القرن العشرين. وقد أثبتت الوقائع العملية صحة التصور الجديد إذ نجح نجاحا باهراً في تفسير البنية الذرية والجزيئية للعالم. وعلى الرغم من عدم وضوح الأرضية الفلسفية لهذا الواقع الجديد إلا أن هذا المفهوم الجديد أحدث زلزالاً في التصور الفيزيائي وذلك لأن الميكانيك التقليدي ينهار في مثل هذه الحالة. إذ أصبح من غير الممكن التنبؤ بمسارات الجسيمات أثناء حركتها في مجال قوى خارجية أيا كانت تلك القوة. وقد كان الفيزيائيون من قبل أصبحوا واثقين من فيزيائهم عندما وجدوا الصياغة القانونية Canonical Formalism لمعادلات الحركة تلك التي صاغها هاملتن ولاغرانج ولابلاس في القرن التاسع عشر. وهي التي جعلت لابلاس يزهو بقوة الميكانيك التقليدي وصرامته فيعتقد أن السماء ليست بحاجة إلى إله يديرها طالما أن قوانين الميكانيك كافية للتنبؤ بمسارات الكواكب والأجرام السماوية بدقة لا نهائية، من الناحية النظرية على الأقل. لقد كان لابلاس يعتقد بالحتمية الفيزيائية التي تقررها معادلات الحركة. ويكفي لحل هذه المعادلات أن يعرف متغيرين أساسيين هما: موقع الجسيم وسرعته عند نقطة معينة (هي عادة نقطة البداية) بدقة وفي آن واحد لكي نحل معادلات الحركة ونتنبأ بالمسار الكامل للجسيم. أما إذا لم تتوفر هاتين المعلومتين يصبح من المستحيل التوصل إلى حل دقيق أوحد للمعادلات الحركة. ضمن نتائج ميكانيك الكم تبين أن من المستحيل تحديد موقع جسيم وزخمه (أو سرعته) بدقة لا متناهية في آن واحد. بل ظهر أن تحديد موقع الجسيم بدقة كبيرة يقتضي ضياع الدقة عند تحديد سرعة الجسيم. مما فوت الفرصة على الحتميين الكلاسيكيين في التنبؤ بمسارات الجسيمات من خلال حلول معادلات الحركة التي لم يعد بإمكانهم الحصول عليها بالدقة المطلوبة. فضلاً عن ذلك فإن التعامل الاحتمالي مع الوقائع جعل الحتمية الكلاسيكية تصبح (خبر كان) كما يقال. وهذا مما أوقع الفيزيائيين خلال النصف الأول من القرن العشرين في حَيصَ بَيصْ ودخلوا في حوارات نظرية وفلسفية عميقة لم يصلوا معها إلى أية نتيجة قطعية بل ظهرت مدارس مختلفة لتفسير ميكانيك الكم. حاول نيلز بور وهايزنبرغ تقديم تفسيراتهم لهذا اللاحتم فتصور بور أن ما يقدمه ميكانيك الكم لا يتطابق بالضرورة مع ما يحصل في الواقع، مدللاً على مذهبه هذا بحقيقة أن التصوير الموجي للجسيمات ودالة الموجة نفسها هي ليست إلا تصوير رمزي قد لايمت إلى الواقع بصلة حقيقية. أما هيزنبرغ فقد حاول تفسير اللاحتم في القياسات الفيزيائية بأنه نوع من تأثر المقيس بالقائس، وضرب مثلا لذلك عملية قياس موقع ألكترون. إذ أننا لكي نعرف موقع الألكترون علينا أن نسلط ضوءً عليه وهذا الضوء ينبغي أن يكون ذي طول موجي قصير يتناسب مع حجم الألكترون وإلا ما أمكننا الكشف عن الألكترون. ومثل هذا الطول الموجي القصير يمكن أن نجده في أشعة جاما. وهذه هي التجربة الذهنية المشهورة عن هايزنبرغ التي تسمى "تجربة تلسكوب جاما" Gamma-ray Telescope. لكن بتسليط أشعة جاما هذه على الألكترون فإنه سوف يغير من زخمه (أي سرعته) حال اصطدام أشعة جاما به وذلك بموجب ما يسمى تأثير كمبتن Compton Effect. وهذا مما سيمنعنا من معرفة سرعة الألكترون بدقة عالية، مما يعني أننا لا يمكن أن نقيس موقع الألكترون وزخمه في آن واحد بدقة لا متناهية. وبالتالي فإننا لن نتمكن من توفير المعلومات اللازمة لحل معادلة الحركة والتنبؤ بحركة الألكترون. وعلى الرغم من أن هذه التجربة هي ليست إلا مثالاً تعليمياً في حقيقتها إلا أن بعض مؤلفي الكتب قد جعلوها تفسيراً لواقع اللاحتم الكمومي. بمعنى أنهم جعلوا من اللاحتم الذي تتصف به نظرية الكوانتم إلتزاماً جهازياً Instrumental أي متعلقاً بأجهزة القياس. ومن هنا برزت مشكلة القياس في الميكانيك الكوانتي The Problem of Measurement حيث أصبح التوزيع الاحتمالي لقيمة المتغيرات الفيزيائية هو الصفة الغالبة والمهيمنة في العالم الكوانتي. ورب قائل يقول إن هذه الصفات الكوانتية الغريبة لا تظهر في عالم الحياة اليومية الذي نعيشه، فلا تظهر أمامنا أية صفات موجية للأجسام سواء كانت ساكنة أم متحركة ويبدو وكأننا قادرون على حساب الحركات بدقة كبيرة جدا إن لم نقل لامتناهية. فمثلا نحن قادرون على حساب مواقع الشمس والقمر والكواكب السيارة لأي وقت بدقة عالية جداً وبالتالي نتمكن من حساب أوقات الخسوف والكسوف لمئات السنين القادمة بدقة تصل إلى 1% من الثانية. كيف يتوافق هذا مع ميكانيك الكوانتم واللاحتم الذي يتضمنه وضياع الدقة فيه؟ الحقيقة هي إنه وعلى الرغم من أن اللاحتم هو قانون عام أكثر عمومية من قوانين الفيزياء الكلاسيكية إذ ينطبق على جميع الأشياء صغيرها وكبيرها، إلا أن أهميته العملية لا تظهر إلا في العوالم الذرية وتحت الذرية، تلك العوالم التي نسميها مجهرية Microscopic. وفي العوالم الكبيرة عوالم الحياة اليومية حيث السيارات والقطارات وكرات البليارد مثلاً والكواكب السيارة لا يظهر اللاحتم صريحاً لأن قيمته ضئيلة جداً وتصبح مهملة من الناحية العملية. إذن ما أهمية اللاحتم في حياتنا اليومية؟ ما أهمية اللاحتم في بنية الكون وفي تصرف الأشياء؟ وكيف سيكون العالم الطبيعي لو كان حتمياً؟ الحتم الطبيعي يعني الخيار الواحد أو بكلمة أخرى اللاخيار.. بمعنى إنه لو كان نظام العالم محكوما بالحتم لم نتمكن من رؤية كل هذا التنوع وهذا الطيف العريض من المخلوقات والأشكال والألوان وهذا التباين الواسع في مكونات العالم الحية وغير الحية. ذلك أن اللاحتم المجهري هو الذي يضع أمام الأشياء قدراً من الحرية الطبيعية التي تجعله قادراً على تحقيق التنوع وبالتالي تحقيق الازدهار وإلا لكان العالم كله لوناً واحداً، رمادياً أو أسوداً أو أبيضاً. فالتفاعلات النووية التي أدت إلى تكوين نوى الذرات المختلفة بل وتكوين نظائر مختلفة للعنصر الواحد هي ليست إلا نتاج اللاحتم الكوانتي. والتفاعلات الكيمياوية بين الذرات والجزيئات هي محكومة أيضاً باللاحتم الكوانتي مما يؤدي إلى تخليق جزيئات متنوعة. وعلى المستوى الأعقد فإن التكوين الجيني للكائن الحي والتنوع الحيوي هو ليس إلا نتاج لهيمنة اللاحتم الكوانتي وفعله المباشر. وفي الواقع فإن الطفرات الجينية التي أدت إلى كل هذا التنوع الحياتي الهائل الذي نراه على الأرض ممتداً من الخلايا البدائية عديمة النواة وحتى مستوى التعقيد الحيوي الهائل للكائنات الراقية ومنها الإنسان إنما هو نتاج اللاحتم الكوانتي على المستوى الجزيئي. إذن فاللاحتم نعمة كبيرة وقانون أساس في بنية العالم ليكون بهذه الصورة ولو لم يكن لكان عالمنا هذا مختلفا جداً وبالجزم لن تكون فيه حياة متطورة أبداً.
#محمد_باسل_الطائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ستيفن هوكنج وخلق العالم؟
-
من الضروري مراجعة كتب الحديث التي لا تتوافق مع صريح القرآن و
...
المزيد.....
-
فوائد العسل لتقوية مناعتك في الشتاء
-
بكتيريا السالمونيلا الضارة تخفي مفتاحا لعلاج سرطان الأمعاء!
...
-
الرغبة في مضغ الثلج قد تكون علامة على هذا المرض
-
الطيران المسيّر للاحتلال يستهدف مجددا الكوادر الطبية لمستشفى
...
-
أفضل نمط حياة لصحة القلب وفحوصات مهمة
-
عاجل | مراسل الجزيرة: إصابات بين الطواقم الطبية في مستشفى كم
...
-
إصابة 3 من الطاقم الطبي لمستشفى كمال عدوان شمال القطاع بطائر
...
-
راقب لعب طفلك وانفعالاته.. علامات وعلاج اضطراب ما بعد الصدفة
...
-
رويترز: المغرب يفرض غرامة على شركة أدوية أميركية عملاقة
-
هل تنازلت إسبانيا عن المجال الجوي للصحراء الغربية لفائدة الم
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|