مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3149 - 2010 / 10 / 9 - 17:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الأناركيون و الحرب الشيشانية الثانية
الوضع في شمال القوقاز و الرد التحرري
ترجمة : مازن كم الماز
من غير المشكوك فيه أن الفشل الكامل لأية محاولة لمعارضة الحرب الشيشانية الثانية كانت الهزيمة الأكثر مرارة للحركة الأناركية الروسية في العقد الماضي . شعور بالعجز الكامل أمام الوقائع الوحشية لمطحنة اللحم الشيشانية كانت تضغط بقوة هائلة على مخيلة مناهضي السلطوية أثناء النصف الأول من العقد , بحيث أن الحركة كانت قادرة فقط على أن تتعافى شيئا ما عندما هدأت حدة الحرب تدريجيا .
قد يقول أحدهم , أن الحرب الشيشانية الثانية قد بدأت في 26 أغسطس آب 1999 عندما بدأ سلاح جو روسيا الاتحادية بقصف غروزني و بقية أجزاء إيشكيريا , و انتهت في 31 أكتوبر تشرين الأول 2007 , عندما نشرت لمواقع الالكترونية لمؤيدي الانفصاليين إعلان دوكو أوماروف أنه قد جرى حل الجمهورية الإيشكيرية و استبدلت بإمارة القوقاز . بالطبع فإن الحرب ما زالت مستمرة و قد وقعت عدة هجمات مسلحة بشكل أسبوعي غالبا , لكن هدف المتمردين لم يعد الاستقلال الوطني لإيشكيريا , بل إقامة دولة ثيوقراطية ( دينية ) لتوحيد كل شمال القوقاز . لقد جرى تهميش المقاومة الشيشانية القومية , و هي لم تعد قوة ذات وزن في الواقع . يمكن رؤية هذه الحرب على أنها استمرار "للحرب الشاملة في شمال القوقاز" , التي بدأت بهجوم المقاتلين الإسلاميين على داغستان في السابع من أغسطس 1999 , رغم أنه قد وقعت هناك هجمات إسلامية مؤثرة قبل ذلك التاريخ , مثل هجوم أمير خطاب على الكتيبة 136 المؤللة في بويناكسك في 22 ديسمبر كانون الأول 1997 . على الأغلب لم يكن الإسلاميون راضين عن اتفاقيات خاسيافيورت لعام 1996 . النزعة الإسلامية هي أساسا إيديولوجيا معادية للقومية , لذلك فإن إقامة دولة قومية لا يمكن أن يكون هدفا للإسلاميين .
لذلك فإن انقلاب 2007 يعني نهاية مرحلة و بداية مرحلة جديدة , مما يجعل الوقت مناسبا لإعطاء ملخصا ما عن نجاحات الأناركيين , أو لنكون أكثر دقة إخفاقاتهم , في النضال ضد الحرب الإمبريالية في شمالي القوقاز في السنوات الثمانية الماضية .
نظرة أناركية للإسلام
إذا كان انتصار الإسلاميين على القوميين سببا للندب و النوح عند الخصوم الليبراليين للحرب , ينظر الأناركيون لهذا القتال الداخلي كمراقبين محايدين . لم يكن الأناركيون يوما مع اختيار "أقل الشرين" بين القوميين و الإسلاميين , أو بين الانفصال و الفيدرالية , أو بين البلشفية , و الفاشية و الرأسمالية أو أية إيديولوجيا سلطوية أخرى أيا تكن . لا تقبل الشيوعية الأناركية بفكرة انتظار "الظروف المواتية" , حتى لو لم يكن من الممكن تحققها في ليلة واحدة , و لا أنه يمكن تحققها عبر أي نوع من جهاز الدولة . هذا لا يعني بالطبع أن الأناركيين يدعمون بقاء الوضع القائم على حاله – هناك دائما بديل , لا مركزي , سيناريو لا يقوم على التراتبية الهرمية لتطور النزاعات الاجتماعية .
من الواضح أن الأفكار الإسلامية فيما يتعلق بالحرية الجنسية و وضع النساء تبدو متخلفة جدا , لكن يجب على المرء أيضا أن يشير إلى أنه بالمقارنة ببقية الحركات السلطوية فإن لدى الإسلاميين بعض الجوانب الجيدة أيضا . يرفض الإسلاميون أية فكرة عن تفوق "شعب" أو "عرق" على آخر , و يقترحون أيضا بعض القيود على الرأسمالية النيو ليبرالية , مثل منع الفائدة على المال . إنهم يشددون على أهمية المسؤولية الاجتماعية , رغم أنهم لا ينتقدون الرأسمالية بهذا المعنى . في لبنان و فلسطين فاز الإسلاميون بثقة المضطهدين من خلال المبادرات الاجتماعية و من خلال موقف مبدئي ضد الفساد . في الشيشان , لعب دعم الإسلاميين الدولي دورا , لكن السبب الرئيسي الحقيقي لانتصار الإسلاميين داخل المقاومة كان هو الأهداف المشتركة للإسلاميين على امتداد كل شمال القوقاز , الأمر الذي وفر فرصة لإقامة حركة أوسع عابرة للحدود بين القوميات . و أيضا في سياق انهيار عام لمجتمع متطور سابقا , كان الإسلام المؤسسة الأقدم التي توفر بنية اجتماعية أولية ما , تماما كما فعلت في أفغانستان في التسعينيات و في الصومال اليوم .
المديح الحالي , و حتى التحول إلى الإسلام هو ظاهرة موجودة بين اليساريين الغربيين ( و ليس بينهم فقط ) , حتى أنه هناك محاولات معاصرة للجمع بين الإسلام و الأناركية* , لكن يمكن للمرء أن يتجرعها فقط مع شيء من الملح . من الواضح أن الإسلام ليس مكافئا للأناركية , الإسلام دين قديم يسمح بطيف واسع من التفسيرات , و الأناركية هي إيديولوجيا حديثة أكثر تحديدا بكثير . لكن الإسلام هو الدين الوحيد , بين الأديان العالمية الرئيسية , الذي قام بتأسيسه رجل سياسي , و هذه الجذور منحت الإسلام نكهة معينة معاصرة مقارنة بالبقية . وذلك أنه أكثر ملائمة لحكم الدولة من بقية الأديان القديمة الأخرى . لو أن إسلاما لا سلطويا ظهر ذات يوم إلى جانب النزعة الإسلامية المعاصرة , فمما لا شكك فيه أن التفسيرات الدينية للأول ستكون مختلفة جدا عن التفسيرات الدينية للأخير .
لكن يجب على الأناركيين ألا ينحدروا إلى مستوى شيطنة النزعة الإسلامية . إن النزعة الإسلامية ليست أكثر خطورة أو وحشية من أية إيديولوجيا سلطوية أخرى . إن تصريحات مثل "النزعة الإسلامية فاشية" , و التي يمكن للمرء أن يسمعها من مصادر متنوعة من السلطات الحكومية إلى بعض الأناركيين سخيفة تماما . من الواضح أن الإسلام المعاصر لم يتطور في الفراغ – فقد تأثر بالفاشية , و الاشتراكية و بقية الإيديولوجيات الغربية الأخرى . لكنه ليس تفرعا لأي منها , إنه إيديولوجيا في حد ذاته , و هو قابل لطيف واسع من البنى الاجتماعية المختلفة , من الملكية المطلقة للعربية السعودية إلى الجمهورية الثيوقراطية في إيران .
لا تتطابق النزعة الإسلامية مع الوهابية . إن المحفز الرئيسي لكل الإسلاميين هي إيران المعاصرة , التي هي شيعية و ليست وهابية . أي أن النزعة الإسلامية هي إيديولوجيا معاصرة ( أو لنكون أكثر دقة , إيديولوجيات معاصرة ) , ليست في تطابق كامل مع أي من الفروع القديمة للدين . الحركة الوهابية التي نشأت في العربية السعودية في القرن 18 , هي بالتأكيد واحدة من مصادر الفكر الإسلامي المعاصر , لكن ليس أقل أهمية إرث الإخوان المسلمين , الذين نشأوا في مصر عام 1928 و تعاليم منظرهم الرئيسي سيد قطب .
لا شك في أننا غالبا ما نواجه الإسلاميين في الأرض المشتركة للنضال , في كثير من مناطق الاتحاد السوفيتي السابق , حيث أنهم القوة الوحيدة التي يمكنها تحدي الاستبداد الفاسد للموظفين الحكوميين . تحت هذه الظروف سيكون من الخطأ الفادح تقديم الإسلاميين على أنهم شر كبير , بما أن أسباب دعم الإسلاميين واضحة . سيكون خطأ فادحا أيضا اقتراح أي شكل من التعاون التكتيكي مع الإسلاميين . على الرغم من نقدهم السطحي للرأسمالية , فإن النزعة الإسلامية المعاصرة هي ليست حتى إقطاعية , بل هي حركة برجوازية بالكامل مع نكهة ثيوقراطية ( دينية ) . إننا لن نكون بحال أفضل لو جرى استبدال الورثة الفاسدين للطبقة الحاكمة القديمة السوفيتية في آسيا الوسطى أو شمال القوقاز بالإسلاميين . إن تاريخ ال 5000 سنة الأخيرة تثبت , أنه لا الدين يمكنه إنقاذ الإنسان من الانحطاط الأخلاقي , ما هي النتيجة الواضحة لإحلال سلطة مكان أخرى .
من كسب الحرب الشيشانية الثانية ؟
لقد اتخذت قرارا واعيا بألا أصم الإسلاميين في شمال القوقاز على أنهم وهابيين , حيث أن هذا سيكون تبسيطا – مثلا يعتبر دوكا أوماروف نفسه من أتباع الإسلام الصوفي , التقليدي في الشيشان . لكن الجزء الوهابي لعب دورا هاما في النزاع , حيث أنه كان العامل الذي تسبب بانشقاق المجتمع الشيشاني أثناء الحرب الثانية .
كان أحمد قاديروف عاملا هاما في نجاح القوى الفيدرالية . كان قاديروف المفتي الرئيسي في إيشكيريا , المدافع عن مصالح المدرسة الصوفية , التقليدية في الشيشان , ضد توسع الوهابية . ابتداءا من أكتوبر تشرين الأول 1998 جرت عدة محاولات لاغتياله في الشيشان , بعدها لم يبق أي شك في حقيقة أن التأثير الوهابي في الشيشان لا يتوافق مع بقائه على قيد الحياة . هكذا حصلت القوى الفيدرالية على حليف قيم جدا , بينما كان ماسخادوف , و بقية السلطات "نصف العلمانية" , يحاول تجنب أي صدام صريح مع الإسلاميين بعد بداية الحرب الثانية , لم يستطع ماسخادوف و المقاومة القومية رفض التعاون العلني مع الإسلاميين , لكن هذا التحالف كان أكثر فائدة بكثير للأخيرين . كان البقاء "بين خطوط النار" ضار بالمقاومة القومية , و لذلك تلاشى تأثيرها بالفعل قبل مقتل ماسخادوف بوقت طويل , في الثامن من مارس آذار 2005 . أثناء نضاله السري شجب ماسخادوف أفعال بيساييف و بقية قادة المقاومة الإسلامية ضد الناس المسالمين , لكنه لم يفعل أي شيء ليتدخل – حتى أن هذا لم يكن ممكنا بالنسبة له . من غير المحتمل أن ماسخادوف كان في وضع يريد فيه أن يقف إلى جانب بيساييف , و كان بيساييف فزاعة مفيدة , يمكن إظهارها لكل العالم : "إذا لم تتفاوضوا معي , فعليكم أن تتحدثوا معه" .
بالنسبة لقاديروف الأب , كان أسهل بكثير أن يقنع القادة الميدانيين بالاستسلام مما كان باستطاعة القوات الفيدرالية , حيث كان هو نفسه مثال حي على الفرص التي يوفرها تغيير الجانب الذي تقف معه مما يسمح بالارتداد عن المواقف السابقة . ألو ألخانوف , الرئيس الشيشاني الذي سيخلف قاديروف الأب , كان الممثل الأخير للمعارضة الأصلية المعادية لدوداييف لعام 1994 الذين تمتعوا بأي موقع مهم في الشيشان . حيث أن قاديروف الابن اصطف إلى جانب ألخانوف الأصغر سنا , فإن كل المراكز القيادية في الجمهورية قد وضعت على الفور في أيدي مقاتلي المقاومة السابقين . هكذا أصبح بمقدور قاديروف الابن أن يسعى وراء هدفه في الحصول على هيمنة كاملة في الجمهورية , و أن يبدأ بإلغاء نفوذ القوى الفيدرالية داخل الجمهورية . إن الإعدام الجريء و الذي مر دون عقاب للقائد السابق للفرقة "الجبلية" موفدافي بايساروف في قلب موسكو عام 2006 و طرد سليم ياماداييف من منصب قائد الفرقة الخاصة في وزارة الدفاع "فوستوك" ( الشرق ) في أبريل نيسان 2008 تظهر أن قاديروف هو في وضع يسمح له بالوصول إلى غايته ( بعد صدور النسخة الأولى من هذا المقال , اغتيل ياماداييف في دبي – أصدرت شرطة الإمارات مذكرة بحث دولية بحق عدد من مساعدي قاديروف المتورطين في عملية الاغتيال , لكن من الواضح أنه لا يوجد ما يخشونه في روسيا ) . بما أن حلفاء قاديروف هم أيضا متورطين في استيلاء عنيف و عدائي على الشركات التي يسيطر عليها رجال الأعمال الشيشان خارج الشيشان , لا يمكن للإنسان أن يصف العلاقة بين قاديروف بالسلطات الفيدرالية بتعابير القرن 21 , بل إنها على الأصح شيء يشبه العلاقة بين ملك و دوق . "لدوق" , الذي هو قاديروف الابن , يسمح له بالتصرف كيفما يشاء في الشيشان , مثل بناء سجون التعذيب الخاصة على ممتلكاته الخاصة . إن نفوذ القوى الفيدرالية في الشيشان هو حتى أضعف مما كان عليه في زمن دوداييف , عندها كانت ما تزال هناك معارضة قادرة على العمل , و في وقت كان دوداييف وحده هو من يسيطر على عاصمة الجمهورية . لم يعط القوميون الشيشان سيادة رسمية وسياسات خارجية مستقلة , لكن بالمقابل فقد حصلوا على مساعدات فيدرالية كبيرة و مقدارا ما من السلطة داخل "جمهوريتهم" , التي لا يحلم بها قادة مناطق أخرى في الفيدرالية الروسية .
الشيشان اليوم هي جمهورية سلطوية متطرفة , و من المستحيل تقدير المستوى الحقيقي من الدعم الذي يملكه قاديروف . حقيقة أن أعدادا من القادة الميدانيين ذوي النفوذ ما زالوا مختبئين في الجمهورية ( أو المناطق المحيطة بها ) تظهر أن المقاومة لم تفقد دعمها تماما . لكن لا شك أن سياسات قاديروف , على الرغم من الكثير من التناقضات , تحظى بدعم جزء كبير من السكان . هذا أولا بسبب التحسن في الظروف الحياتية , إضافة إلى وضع أمني أفضل بكثير مما كان عليه الحال حتى في فترات الاستقلال ( 1991 – 1994 و 1996 – 1999 ) . لكن من أسباب دعم قاديروف الابن أيضا حقيقة أنه قد تمكن من البرهنة على أنه ليس مجرد دمية , و أنه بمعنى من المعاني يواصل مشروعه القومي الأصلي . الشيشان اليوم هي واحدة من أكثر المناطق المتجانسة إثنيا في أوروبا اليوم , و السلطة ( المدنية و العسكرية ) هي بيد الانفصاليين القوميين السابقين بشكل كامل . كل شخص يفهم , أنه عندما تبدأ الدورة القادمة من إضعاف الدولة المركزية في روسيا ( الأمر الذي سيحدث عاجلا أم آجلا دون شك – في 50 , 100 أو 200 سنة ) , عندها لن تتمكن أية قوة من إبقاء الشيشان تحت سلطة موسكو .
من الواضح أن كل هذه المكائد ذات أهمية ثانوية بالنسبة للأناركيين – أخذ الرهائن و المنافسة الواقعية بين القوات الفيدرالية و المقاومة , أي منهما يتمكن من قتل رهائن أكثر , هو فقط أحد تفاصيل المأساة العامة الدموية . كانت المائة ضحية الذين أخذوا رهائن في دوبروفكا و ال 300 في بيسلان هم جزء صغير فقط من الصورة العامة لعشرات آلاف الضحايا الذين قتلوا أو أصبحوا مقعدين . إن الحرب دائما عمل غير مبدئي و دموي , و إذا استطاع شخص ما في بعض الأحيان أن يضع قواعد اللعبة , فإن هذا يحدث فقط عندما يكون الالتزام بالقواعد مفيدا لكل أطراف النزاع . لكن في حالة الحرب الشيشانية الثانية لم يقم أي من الجانبين بمحاولات كهذه , لذلك فإن الجميع يتحمل مسؤولية ما حدث .
في النهاية , من الذي كسب ؟ من الواضح أن المرتدين القوميين هم من كسب – إنهم لم يحصلوا على استقلال رسمي , لكن سلطتهم الحقيقية تتجاوز بشكل هائل سلطة أي سياسي عادي اليوم , فإن أيدي الأخير مقيدة عادة بعدد من الاتفاقيات الدولية . ما من شك أيضا أن السلطات الفيدرالية و زمرة التشكيست ( الخاضعة لتأثير ف . س . ب . ) , التي ركزت كل السلطات في روسيا في أيديها في السنوات الثمانية الأخيرة , قد كسبت أيضا – لقد أجبروا على إعطاء كل السلطات داخل الشيشان للقوميين السابقين , لكن ليس عليهم أن يقلقوا الآن فيما يتعلق بالأثمان البشرية الهائلة "للحفاظ على وحدة البلاد" , و ما ينتج عنها من رأي عام ساخط . و بمعنى ما فقد كسب الإسلاميون أيضا – صحيح أنه ليس لديهم فرصة لتحقيق طموحاتهم السياسية في العقود التالية , لكنهم حققوا سيطرة منفردة عمليا على صراع حرب العصابات في روسيا . من بين كل الفصائل المقاتلة المختلفة , خسر واحد منها دون أي شك – و هي المقاومة القومية . و ماذا عن أولئك الذين لم يشنوا الحرب ؟ إنهم بالتأكيد على الجانب الخاسر – مئات آلاف البشر المعاقين جسديا و نفسيا الذين سينقلون صدمة الحرب إلى جيلين أو ثلاثة .
دروس الثورة الشيشانية
الذي جرى في الشيشان بين عامي 1991 و 1994 كان مثالا آخر على الفشل الأخلاقي لإيديولوجيا التحرر الوطني . لم يكن نظام دوداييف قادرا على إيقاف النهب و التطهير العرقي و العنف الذي مورس على قوزاق التيريك , الذين عاشوا على الأقل منذ القرن 16 في مناطق لم يعش فيها الفايناخ ( الشعب الشيشاني و الأنغوشي ) على الإطلاق قبل خمسينيات القرن العشرين , و على بقية سكان الجمهورية , الذين وجدوا أنفسهم غير محميين بعد انهيار النظام السوفيتي للحكم . لا أريد أن أصف تلك الأحداث على أنها "إبادة جماعية" حيث أنني من معارضي التضخيم اللغوي الذي عانت منه هذه الكلمة في السنوات العشرين الماضية , لكنها حقيقة ثابتة أنه في تلك الفترة أن أي شخص لم ينل دعم بنية اجتماعية قديمة ما ( العائلة , القبيلة , الدين ) , كان يمكن أن يعاني في الشيشان .
من التبسيط وصف تغير النظام في الشيشان عام 1991 على أنه "انقلاب في القصر" . لقد جرت ثورة حقيقية بالفعل في الشيشان , ربما الأكثر جذرية بين كل تلك الثورات التي جرت في الكتلة الشرقية السابقة بين عامي 1989 – 1991 . في أوروبا الوسطى و خاصة في الاتحاد السوفييتي جرى التغيير تحت سيطرة و تلاعب ممثلي الطبقة الحاكمة القديمة نفسها , أو الأنتلجنسيا التي شكلت المعارضة . في الشيشان , كانت الطبقة الأدنى من المجتمع منخرطة بشكل أكبر بكثير من أي مكان آخر . لو أن دوداييف و الحلقة الملتصقة به قد جاؤوا من الطبقة الحاكمة القديمة , فإن المحفز الرئيسي للثورة لم يكن الاستياء في هذه الطبقة , بل بين العناصر الأكثر تهميشا في المجتمع : ضحايا ترحيل 1944 , شباب الريف و الشباب العاطل عن العمل . كان هذا بسبب طبيعة النظام السوفيتي في الشيشان , فبينما جرى الحفاظ على الحصص ( الكوتا ) القومية بحرص في المناصب العليا في الجمهورية , كانت المهن التقنية التي تتطلب مستوى عال من التخصص مغلقة في وجه الشيشان . لذلك , فإلى جانب عدد قليل من ممثلي الطبقة الحاكمة القديمة و الأنتلجنسيا , كانت الغالبية العظمى من الشيشان تعمل إما في الزراعة , أو في المستوى الأدنى من اقتصاد المدن . كان هذا بسبب معدل مرتفع للخصوبة ( الذي كان جزئيا نتيجة للصدمة الجماعية لواقعة الترحيل السابقة ) و الاحتمالات المحدودة , إضافة إلى واقع أنه منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين انخرط عدد متزايد من السكان في القطاعات الهامشية و الإجرامية من الاقتصاد . لم يحصل هؤلاء الناس على أي شيء من السلطة السوفيتية , و كان لديهم كل الأسباب ليكرهوا كل من انضم بنجاح في النظام .
عام 1991 كان عام دفع الحساب , و قد جرى انتهاز الفرصة بحماسة . ليس فقط السكان من الأثنيات الأخرى هربوا من الشيشان , بل معظم الأنتلجنسيا السابقة أيضا . لكن من التبسيط القول أن النزاع كان قوميا بالكامل – فإلى جانب النزاع بين السكان من الأثنية المحلية و الأثنيات الأخرى , كان هناك أيضا نزاع بين البروليتاريا من جهة و الأنتلجنسيا و الطبقة الحاكمة القديمة على الطرف الآخر , و عدا عن هذين النزاعين , نزاع بين سكان الريف و قاطني المدن . حيث أن النظام السوفيتي لم يعط مثيري الثورة المهارات الضرورية لحكم دولة معاصرة فإن ما جرى في الشيشان كان عملية "عكس أو قلب للمعاصرة أو الحداثة" Demodernization مع حلول أشكال اجتماعية أقدم ( مثل الدين و القبيلة ) مكان الأشكال المعاصرة . في عملية التمازج مع الرأسمالية الحديثة , أخذت هذه العملية شكلا فاسدا مشوها . على سبيل المثال , في المجتمع الجبلي القديم , كانت مؤسسة العبودية ( التي بالكاد كانت بالفعل عبودية , لذلك من المخطئ حتى تسميتها هكذا ) الشكل الأول و الأساسي للحماية الاجتماعية للأشخاص غير المحميين , و طريقة لإطعام أولئك من ليس له عائلة أو قبيلة لتعتني بهم . هنا جاءت المصالح الاقتصادية لتلعب دورها , و حولت المؤسسات الإنسانية تقليديا "للعبودية" إلى المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في الجمهورية . بحسب "نوفايا غازيتا" فإن معظم قيادة الجمهورية الإيشكيرية بمن فيهم دوكا أوماروف ( لكن ليس أصلان ماسخادوف ) انخرطوا في هذا العمل .
من الواضح أن سبب حرب 1999 لم يكن "تحرير العبيد" , لكن قبل أي شيء "الحفاظ على وحدة البلاد" . لم يكن سبب حرب 1999 هو المصادر الطبيعية للجمهورية , بما أن كمية النفط و الغاز في الشيشان لن تعوض أبدا عن الفاتورة الباهظة التي تطلبتها الحرب حتى اليوم . لكن لا يجب على المرء أن يتجاهل حقيقة أن تجارة العبيد كانت أحد العوامل المؤثرة في كسب تعاطف الرأي العام الروسي مع الحرب . لام الانفصاليون عادة القوات الروسية الخاصة على إثارة النزاعات بين الفصائل الشيشانية و على انخراطها في تجارة العبيد و هناك بعض الأدلة على ذلك . لكن من الصعب أخذ المزاعم بأن بيساييف كان عميلا لل ف . س . ب . على محمل الجد – مثل نظريات المؤامرة فيما يتعلق بأحداث 11 / 9 , تنكر هذه النظريات تماما إمكانية أن يشكل المسلمون أنفسهم حركات مؤثرة ضد المطامع الإمبريالية .
نظريات عبد الرحمن افتخاروف , العالم السياسي و الكاتب الشيشاني الأكثر أهمية , الذي عاش في الخارج في العهد السوفيتي , باعتبار "ديمقراطية المحاربين" التاريخية المناهضة نسبيا للسلطوية عند الشيشان لم تحظ بنفوذ كاف لتوجه الثورة في اتجاه لاسلطوي . لا يمكن لأي نظام لاسلطوي قديم أن يبقى بينما تحاصره الرأسمالية المعاصرة . لا توجد هناك طرق إلى الماضي . في النهاية , فإن محاولات كهذه إذا جرت فقد تم ذلك بصعوبة بالغة – في الواقع أراد دوداييف أن يكون يلتسين صغير , تماما كما أراد يلتسين أن يكون دوداييف كبير . الهجوم على البرلمان الشيشاني ( من قبل قوات حكومة دوداييف – المترجم ) عام 1992 كرره يلتسين في موسكو بعد عام . في يونيو حزيران 1993 كان دوداييف يقصف بالفعل مبنى البلدية في غروزني و يواجه المعارضة بالدبابات .
أولا , إن مثال الثورة الشيشانية هو برهان جيد ضد الماركسيين ( الشيوعيون اليساريون خاصة ) الذين يعتقدون أن الظروف المادية فقط و التركيبة الطبقية للحركات تحدد مصيرها , إن الشيوعية تبدو محقة لو أن هذه الظروف كانت ملائمة . لا تسير الأمور على هذا الشكل – إن الانعتاق مستحيل دون أن تنتشر الأفكار الاسلطوية إلى عقول أكثر الشعب . إلى جانب الظروف المادية , فإن الأفكار ضرورية أيضا . هذه ليست قضية "تخلف" الشيشان – في الحقيقة في الشيشان السوفيتية كان الإنتاج الصناعي أكثر تطور من الكثير من الجمهوريات الأخرى . لكن في الشيشان السوفيتية , كانت البروليتاريا الروسية الصناعية في موقع متميز مقارنة بالبروليتاريا الشيشانية الريفية و الرثة .
من الواضح أنه لم يقع أي شيء مريع بشكل استثنائي في الشيشان بين 1991 – 1994 , لا شيء يمكنه أن يبرر المجزرة التي تلت . العمليات بعد سقوط الكولونيالية ضد الممثلين السابقين للطبقة صاحبة الامتيازات كانت أكثر وحشية في الجزائر و زنجبار في ستينيات القرن العشرين . ما جرى في الشيشان بين عامي 1991 – 1994 هو تذكير جيد للأناركيين , أنه ليست كل ثورة هي ثورة أناركية , و أنه لا يكفي أن تكون الثورة عنيفة , و لا محصورة بقومية ما أو أن الطبقات الأدنى من المجتمع منخرطة فيها . إلى جانب الخاصتين الثانية و الثالثة , كان من الضروري أيضا أن يحمل جزء هام من السكان الأفكار اللاسلطوية – و إلا فمن المحتمل تكرار قصة الثورة الشيشانية مرة أخرى . النزاعات الدموية بين الفصائل المختلفة من النخبة الجديدة , و اللصوصية و تجارة العبيد التي مرت دون عقاب التي كان ضحاياها عادة من الأقليات الإثنية ( في الحالة الشيشانية قوزاق التيريك و بقية الروس , و النوجيس و آخرون ) و في بعض الأوقات حتى أعضاء الأكثرية الشيشانية .
المقاومة الأناركية ضد الحرب الشيشانية الثانية
على الأرجح أنه حتى دون انفجارات 1999 فإن الحركة المناهضة للحرب كانت لتكون بائسة , لكنها فيما بعد بالكاد كانت موجودة . تطلب الأمر 3 أشهر بعد بداية الحرب لتلملم الحركة المناهضة للحرب ما يكفي من الجرأة كي تخرج إلى الشارع . أول الناس الذين تظاهروا في موسكو في ديسمبر كانون الأول 1999 كانوا هم الأناركيون . من الواضح أن تجمعات أخرى قد جرت في مدن أخرى . بعدها سرعان ما ظهرت مجموعات أخرى أيضا ( الليبراليون و التروتسكيون ) , و أصبحت قضية التعاون مطروحة . في هذا الصدد , تطورت الحركة في موسكو و سانت بطرسبورغ في اتجاهات مختلفة .
في سانت بطرسبورغ اتفقت كل المجموعات المناهضة للحرب ( الأناركيون , الليبراليون و التروتسكيون ) على إقامة تجمع مشترك مناهض للحرب , حيث يشارك كل واحد برموزه السياسية الخاصة . في موسكو لم يرد الليبراليون أن توجد الرموز السياسية في التجمعات , لكن بسبب طبيعة الشعارات ( بدلا من "لا حرب إلا حرب الطبقات" , كان هناك "في سبيل المفاوضات بين بوتين و ماسخادوف" ) , كان لتجمعهم الأسبوعي نكهة ليبرالية .
مسألة اصطحاب الرموز السياسية كانت ذات جوانب متعددة , في الواقع كان هناك في السنوات الأخيرة الكثير من الحالات التي رأى فيها الأناركيون دورهم بين الحركات الاجتماعية في موسكو كمدافعين عن استقلالية الاحتجاجات في مواجهة تطفل الأحزاب السياسية . في وضع كهذا , من المنطقي المطالبة بألا يأتي أي شخص برموزه السياسية , بما في ذلك الأناركيين . لكن عندما تكون الحلول المقترحة نفسها تتشعب ( أو تنحرف – المترجم ) بشكل أساسي وفقا للأنماط الإيديولوجية , كما هو في حالة النزاع في القوقاز , فإن الرموز الأناركية في سياق الفعاليات تساعد على التأكيد على الاختلافات بين الحلول التي يقترحها الأناركيون و تلك التي تقترحها بقية المجموعات السياسية .
التجمعات الأناركية المعارضة للحرب المستقلة في موسكو كانت قد ماتت بالفعل بحلول ربيع عام 2000 , و بدأ عدد صغير من الأناركيين بالانضمام إلى التجمعات الليبرالية الأسبوعية . استنتجت منظمة العمل المستقل في موسكو أن المشاركة في التجمع الأسبوعي هو مجرد عمل رمزي , بما أن الأعداد القليلة في التجمعات لا تتناسب مع الرأي المعادي للحرب المنتشر في سائر المجتمع – في أثناء النصف الأول من العقد , أظهرت استطلاعات الرأي المستقلة أن 30 – 50 % ممن سئلوا كانوا ضد ممارسات بوتين السياسية في شمالي القوقاز . أي أن , مثل هذا التجمع , هو استعراض "للتفوق الأخلاقي" للفرد تجاه المجتمع المحيط , أكثر منه محاولة حقيقية لتغيير الوضع السياسي في شمال القوقاز .
لذلك قررت مجموعة موسكو للعمل المستقل أن تبحث عن وسائل أخرى للمقاومة . في البداية , جمعنا المساعدة الإنسانية و وزعنا الملصقات مع عنوان أناركيي قازان , الذين يقدمون المساعدة و النصح القانوني لأولئك الراغبين في عدم الذهاب إلى الخدمة العسكرية . بعدها , منذ عام 2005 بدأنا مهرجان "يوم الفار من الخدمة العسكرية" .
جرى آخر مهرجان للحركة المناهضة للحرب في خريف عام 2002 ,عندما هاجمت القوات الخاصة محتجزي الرهائن في دوبروفكا بالغاز الذي تسبب بمقتل أكثر من 100 من المحتجزين . يومها , انضمت مجموعة العمل المستقل إلى لجنة موسكو المناهضة للحرب , التي كانت تحت سيطرة الليبراليين المؤيدين للغرب . لكن هذا الصعود كان قصيرا , و كان آخر ضربة ضد "وحدة مناهضي الحرب" عندما قدمت لجنة موسكو المناهضة للحرب منبرا لمرشحين رئاسيين في انتخابات 2004 مثل إيرينا خاكامادا . كان الرأي المعادي للحرب منتشرا على الدوام في المجتمع الروسي أبعد من حدود الأنتلجنسيا الليبرالية , المتعاطفة مع سياسات الولايات المتحدة و النيوليبرالية , لكن المشاركين الليبراليين في اللجنة لم يفهموا ذلك أبدا , و أخيرا اضطرت مجموعة العمل المستقل لمغادرة اللجنة مرة أخرى , هذه المرة لسبب وجيه .
نحن لم نرغب أبدا في التعاون مع الأحزاب الليبرالية , بغض النظر عن محاولاتهم المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتهم لها , لكننا كنا مستعدين للتعاون مع تلك المنظمات غير الحكومية التي لم تكن مجرد واجهة لحزب سياسي ما , حتى لو كان أعضاء تلك المنظمات ليبراليين على الأغلب . لسوء الحظ فإن أعضاء لجنة مناهضة الحرب في موسكو , ككثير من الشخصيات السياسية في روسيا , لم يقدروا أهمية الاستقلالية السياسية لمنظماتهم .
احتفال يوم الفار من الخدمة العسكرية
في 2001 اختارت مجموعة موسكو لمنظمة العمل المستقل النضال ضد الخدمة العسكرية كجزء من تكتيكات الحملة المناهضة للحرب . من الواضح أننا لا ندعم جيشا محترفا بل "حرسا أسود" , و هي ميليشيا طوعية معادية للبرجوازية , كانت الخدمة العسكرية أسهل الطرق لإيجاد أرضية مشتركة بين الطبقة العاملة الروسية و الشيشانية . اسم الاحتفال , الذي نظم سنويا اعتبارا من عام 2005 ( و خارج موسكو منذ عام 2008 ) , و هو "يوم الفار من الخدمة" , كان تحريضا واع , لأن الفرار من الخدمة يصبح خبرا فقط عندما يفر المجندون اليائسون من قطعاتهم مع أسلحتهم النارية و يبدؤون بالقتل عشوائيا . يمكن لنا أن نتفهم يأسهم , رغم أننا نفضل طرق أكثر عقلانية للفرار من الخدمة على أنه الرد ا الوحيد لصحيح على الحرب الإمبريالية . لقد اخترنا لقب "يوم الفار من الخدمة" لكي نعلن موقفنا الأساسي , ولكي نشدد على انعدام الأفق أمام الإصلاحات مثل "جيش محترف" أو "المفاوضات مع ماسخادوف" . فقط بإعلان موقف مبدئي كهذا يمكننا تطوير عنصر سياسي أناركي مستقل ذاتيا في روسيا , بينما فيما عدا ذلك نكون قد ضعنا في الكتلة غير المتبلورة لليبراليين و "اليساريين" ( المشكوك أصلا في "يساريتهم" ) .
كان يوم الفار من الخدمة ناجحا . لم يكن الهدف الأساسي أن نكرس تقليدا لكن بحلول عام 2009 جرى تنظيم النسخة الخامسة في مدينة نيجني نوفغرود ( نظم الاحتفال للمرة الأولى خارج موسكو في عام 2008 في كيروف ) . أصبح يوم الفار من الخدمة أيضا نموذجا لللقاءات الأناركية الكبرى الأخرى التي سرعان ما ستتبعه , نظم لقاء بتروغراد الأسود أول مرة في عام 2004 , و المنتدى التحرري في عام 2006 , و احتفال الهوية الجنسية في عام 2008 . أخيرا , حل هذا النوع من اللقاءات مكان المؤتمرات الرسمية للمنظمات الأناركية على أنه الشكل الرئيسي للقاءات داخل المدن في الحركة . كان هذا تحولا كبيرا في الحركة الأناركية الروسية . من الواضح أن الناس كانوا أكثر أملا بكثير بعد زيارة احتفال يوم الفار من الخدمة من حضور تجمع أسبوعي آخر مناهض للحرب , هكذا , على الأقل في هذه القضية كان التكتيك الجديد ناجحا .
رغم أن أول يوم للفعالية جرى في عام 2004 , و الذي سيعلن بعد سنة على أنه "يوم الفار من الخدمة" , قد نظم في الذكرى السنوية الستين لترحيل الشيشان و الأنغوش , فقد انتقلت الفكرة المناهضة للحرب تدريجيا إلى الظل , و كان الاحتفال في كيروف في عام 2008 حدث معاد للعسكرة عمليا . كانت حدة النزاع تتراجع خلال سنوات مع أخبار أقل عن هجمات جديدة , مما جعل المشكلة أصغر في أذهان الأناركيين و المجتمع ككل . على النقيض , فتحت هزيمة النضال الأناركي المناهض للحرب اتجاهات جديدة للعمل . حيث أن النزاع في شمال القوقاز لم يعد خبرا يوميا , أصبح بمقدور الأناركيين أن ينخرطوا في فعالية أكثر فائدة من الحملة المناهضة للحرب , التي حكم عليها أن تكون هزيمة منذ بداياتها الأولى . هذا فقط لأن "أقلية هامة" من السكان ذات الموقف المناهض للحرب لا يمكن أن تشكل أهمية فعلية , إذا كان هناك نقص في البنى التي يمكن أن تنظم المقاومة .
هزيمة الحملة ضد الحرب الشيشانية الثانية
لا الأناركيين , و لا بقية المجموعات المناهضة للحرب امتلكت مثل هذه البنى . أثناء فترة البريسترويكا أصبح قدر الحركة الأناركية مرتبطا بقدر الحركة الديمقراطية العامة , و لم يكن أي كان مستعدا لمواجهة سرعة خطا و عجرفة خيانة يلتسين . بالنسبة لليبراليين , يمكن للمرء أن يقول أن أفضلهم قد فهم ما الذي يجري بالفعل قبل بداية الحرب الشيشانية الأولى . لكن بعد عدة سنوات كان الليبراليون خلالها يؤسسون قاعدة الدعم للجزء الديمقراطي المزعوم من الطبقة الحاكمة القديمة , كانت الجماهير إما أنها بقيت تلهث وراء هذا الجزء , أو أنها أصبحت لامبالية تماما سياسيا بينما كانت تحاول النجاة أثناء فترة العلاج الاقتصادي بالصدمة في بداية التسعينيات . كان الوقت متأخر جدا لتغيير المسار , و بقي الأناركيون , "اليساريون الديمقراطيون" , و "الليبراليون ذوو الضمير" دون أي دعم جماهيري . أصبحت الأمور واضحة أثناء الحرب الشيشانية الأولى . يومها , على الرغم من الدعاية المناهضة للحرب في وسائل الإعلام الجماهيري التي تملكها الأوليغاركية , و التي أملت بأن تحصل على حصة من يلتسين بابتزازه بالتهديد بالرأي العام , كانت التظاهرات المناهضة للحرب ذات مستوى متوسط . عموما بالكاد كانت هناك أية نجاحات تاريخيا فيما يتعلق بإيقاف الحرب الإمبريالية من خلال جهود شعوب الدول الإمبريالية وحدها . عندما اكتسبت الحركات المناهضة للإمبريالية اليد العليا ( مثلا في فيتنام ) , كانت حركات المغاوير أو حرب العصابات هي التي تعاني أكبر التضحيات .
في الشيشان , كانت الأرجحية غير متوازنة منذ البداية . كان انتصار المقاومة في الحرب الأولى معجزة , ليس لها نظير في التاريخ المعاصر , لذلك من غير المفاجئ أنها لم تتكرر في الحرب الثانية . لقد سجلت أسباب هزيمة المقاومة بالفعل في عام 1996 , عندما فشلت الحكومة الإيشكيرية أثناء مفاوضات خاسافيورت عن أن تحصل على اعتراف بالسيادة من روسيا . أي أنه على الرغم من معجزة الانتصار في القتال على غروزني , فقط في الصراع السياسي تمكنت المقاومة من الحصول على التعادل . من المحتمل أن كلا من ماسخادوف و بيساييف قد أدركا ذلك , لكن الأخير فقط قرر مواصلة الحرب , بينما فهم الأول أن المقاومة كانت قد استنفذت بالفعل كل احتياطياتها بشكل كامل . ربما أمل ماسخادوف أن معجزة ما أخرى ستؤدي إلى أزمة عميقة في روسيا , بحيث أن البلد سينهار و سيصبح الاستقلال القانوني الإيشكيري مع اعتراف الدول الأخرى ممكنا .. لكن معجزة كهذه لم تحدث .
الآن و بسبب نجاح سياسة تحويل النزاع إلى نزاع "محلي" , الذي يعني أنه يخاض غالبا بجيش و بنى عسكرية مؤلفة من السكان المحليين , فإن الخسائر الرئيسية هي في صفوف السكان المحليين , و من بعدهم الجنود المتطوعين ( الجنود المتعاقدين ) و نادرا من سكان بقية المناطق أو من بين المجندين . و حتى أنه من النادر جدا أن يقتل متطوعين من مناطق أخرى . و أيضا بسبب تشديد السيطرة على وسائل الإعلام الجماهيرية , اختفت الحرب عمليا من شاشات التلفزيون , و هي بالنسبة للغالبية العظمى من السكان غير موجودة ببساطة . الفرصة الوحيدة للمقاومة الآن هي في الاعتماد على أزمة عالمية ما , ستؤدي إلى تفكيك روسيا نهائيا و توقف تدفق الأموال من الميزانية الفيدرالية إلى النخبة المحلية . لكن أزمة الطاقة العالمية الحالية تقوي فقط السلطة الفيدرالية في روسيا , بسبب الاحتياطيات الهائلة من النفط و الغاز في روسيا .
إن عناد أناركيي سانت بطرسبورغ الذين نظموا , دون توقف , تجمعات مناهضة للحرب لثمانية سنوات متوالية تستحق الثناء . كانت هناك أوقات لم يكن فيها هناك أكثر من 10 أشخاص في التجمع و بدا أنه استعراض لمازوخية لا جدوى منها , لكن عند نقطة معينة بدأ عدد المتجمهرين بالازدياد , و في الفترة بين 2004 و 2007 كانت دزينات ( أي أعداد معتبرة – المترجم ) من الناس تحضر هذه التجمعات , الذين كان 90 % منهم أناركيون . تمكن أناركيو سانت بطرسبورغ من تخصيص مكان في المدينة , حيث يستطيع أي مواطن محلي أن يأتي أسبوعيا و يتحدث مع الأناركيين , و أقاموا أيضا صحافة أناركية . كان هذا ممكنا فقط بسبب العناد و مستوى ما من التضحية الذاتية أيضا . أكثر من مرة كان على التجمع أن يدافع عن نفسه باللجوء إلى العنف , أولا باستخدام العصي و من ثم بالسكاكين أيضا . في نهاية واحدة من التجمعات الأولى كان على المشاركين في التجمع أن يغادروا روسيا , عندما بدأ جهاز الدولة باستخدام حالات الدفاع عن النفس كذريعة لقمع الحركة ككل .
في النهاية كانت المشاكل القاتلة للحركة المناهضة للحرب في سانت بطرسبورغ ليست بسبب تكتيكاتها , بل بسبب مواقفها , حيث انشقت في النهاية و سرعان ما اختفت المجموعات الأناركية الأقدم في الاتحاد السوفيتي عند هذه النقطة , كانت الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ لسنوات القسم الأكثر نشاطا في اتحاد الحركات الأناركية و الذي كان لبعض الوقت عضوا في أممية الفيدراليات الأناركية – IFA .
في الأساس لم تبدأ تجمعات مناهضة الحرب من قبل الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ بل من قبل "أناركيين غير منتمين" . لكن أعضاء الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ و مواقفهم كانت هي البارزة في التجمعات خاصة مع مرور الوقت . كان موقف الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ على الدوام هو دعم المقاومة ( مع انتقاد هجماتها على المدنيين ) , كما كانت الرابطة تسعى إلى توحيد كل القوى الممكنة المعادية لبوتين , بمقاربة تقول "دعونا نتخلص منهم أولا , بعدها سنحسم الأمور فيما بيننا" . لم تقبل مجموعة العمل المستقل في موسكو أبدا بهذه "الحماسة الدينية للوحدة" , كان موقفنا دائما أن أحدا ما لن يدعمنا ما لم نستطيع أن نقدم بديلا جديا عن النظام القائم . و لو أننا , في بعض الأوقات , قد تعاونا مع بقية المبادرات المناهضة للحرب , فقد كان هذا دائما بشرط أننا سنعرض بشكل صارم بديلا أناركيا للحروب الإمبريالية – و هو تآخي البروليتاريا على كلا الجانبين ضد سادتهم .
كان موقف الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ مبرر جزئيا , على الرغم من كل شيء , حيث أن القوات الفيدرالية كانت هي من بدأ المجزرة عام 1994 . بدأ النزاع الداخلي في الشيشان قبل ذلك الوقت بزمن طويل , لكن عندها فقط قام يلتسين برفع مستوى الحرب إلى مستوى جديد تماما . لكي نقنع الشعب بوجود البديل , يجب أن نقوم بعرضه – لكن عندما ينظر المرء إلى "الجبهة الموحدة" من الجانبين , فالانطباع المعتاد هو أن الناس المنخرطين لا يعرفون ما الذي يريدونه أساسا . اليوم فإن كل المعارضة الروسية تنهار , وحدهم الأناركيون يتقدمون – هذه علامة أننا كنا على حق عندما كنا نصر على الحفاظ على مواقفنا فيما يتعلق بالحرب في الشيشان . لو أننا اندمجنا في أية "جبهة موحدة" في عام 2000 لما كنا ببساطة موجودين اليوم .
الهزيمة ليست نهاية النضال
هكذا رغم أن المجرم الرئيسي عن تصعيد النزاع كانت السلطات الفيدرالية , فإن مجموعة العمل المستقل في موسكو لم تدعم القوميين أبدا , و لا العناصر الإسلامية في المقاومة الشيشانية . لقد اقترحنا دائما بديلا ثالثا – توحيد البروليتاريا على جانبي النزاع , ضد قادتهم . لكن في الممارسة , و منذ بداية الحرب الأولى لم يكن هذا "البديل الثالث" موجود عمليا في المنطقة . كان الناس في الشيشان مشغولين جدا بالقتال في سبيل بقائهم الشخصي ليقاتلوا أيضا ضد الحكومة . بمعنى من المعاني فإن الحركة ضد اختفاء الناس , التي تقوم بها النساء غير المسلحات تشكل اليوم مثل هذه "القوة الثالثة" ( بحسب الأعراف في شمال القوقاز , من المعيب للرجل أن يطلب أي شيء من السلطات دون بندقية آلية في يده ) . كما أن حركة مثل حركة سكان محج قلعة ( عاصمة داغستان ) , الذين , بعد انهيار البنية التحتية للمدينة بسبب فساد السلطات المحلية , أقاموا المتاريس في شتاء عام 2007 – 2008 , بشكل مستقل كما هو واضح عن أي سياسي . لسوء الحظ , رغم أن المرء يرى مثل هذه المبادرات في شمال القوقاز منذ عدة سنوات , فإن الحركة الأناركية في روسيا ليست بالقوة الكافية لتشكل أي تحالف معها . المثال الثالث هو حركة "أمهات بيسلان" , التي نظمها أقارب ضحايا أزمة رهائن 2005 و المجزرة التي تلتها . بسبب الوضع السياسي العام الذي جعل من المستحيل معاقبة الأشخاص الذين أمروا ببدء الهجوم و إطلاق النار على مدرسة تعج بالرهائن بالبازوكا و الدبابات , فقد انحطت هذه الحركة تدريجيا إلى حركة عنصرية جزئيا معادية للأنغوش و غير ضارة بالنسبة للسلطات .
بسبب غياب مثل هذه "القوة الثالثة" , فإن موقف دعم المقاومة مغر جدا بالنسبة للراديكاليين , لأن الشباب الملتحين حاملي البنادق الآلية يبدون أكثر رباطة جأش من النساء العجائز مع صور أبنائهن المفقودين . أخيرا وجد عدد من عناصر الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ لغة مشتركة مع العنصري بوريس ستوماخين المعادي للعرب المعادي للروس الذي ينفذ حاليا حكما بالسجن لخمسة سنوات بسبب أفكاره , و المحكوم بسبب ( من بين أشياء أخرى ) "إهانة الكرامة الإنسانية لمجموعة من البشر بسبب قوميتهم" . و هي جريمة ارتكبها دون شك , لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه يجب إرساله إلى السجن ( برأيي كان يكفي تلقينه درسا ) . موقف العداء للروس ( أو الروسوفوبيك بالروسية ) , إذا لم يكن من الممكن تجنبه , فهو على الأقل نتيجة منطقية لكل من بدأ بدعم المقاومة القومية أو الإسلامية . هكذا ففي نهاية المطاف , ذهب أناركيو سانت بطرسبورغ في اتجاهات مختلفة , و ورث التجمع المناهض للحرب أولئك الذين رفضوا في بداية الأمر الأممية و في وقت لاحق الأناركية نفسها . بعض الرفاق من الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ انتقدنا , قائلين أننا في موسكو "لم نعط ما يكفي من الاهتمام للفكرة المناهضة للحرب" , لكن عوضا عن الاحتجاجات الطقسية حاولنا أن نجد مقاربات جديدة و مبتكرة , طرقا جديدة لنحدث أثرا . لم ننكر أبدا أهمية القضية الشيشانية , لكن وجود المسألة وحده ليس كاف لنعيد تحديد الأولويات . في النهاية و بتعابير النتائج لا يمكن اعتبار مقاربة سانت بطرسبورغ و لا مقاربة موسكو ناجحتين , لكن في موسكو على الأقل كنا قادرين على تأسيس طرق معينة للعمل , ساعدت في النهاية الحركات / أو المجموعات الأناركية المحلية لتبلغ مستوى جديد من التنظيم و الفعل .
إلى جانب مقاربات مجموعة العمل المستقل في موسكو و الرابطة الأناركية في سانت بطرسبورغ كانت هناك أيضا مقاربة ثالثة مناهضة للحرب . الأناركيون السينديكاليون ( النقابيون ) في KRAS-AIT صنعوا ملصقات مناهضة للحرب و انضموا إلى عدد من الفعاليات المناهضة للحرب , لكنهم لم يركزوا أبدا على الأفعال المناهضة للحرب بشكل كامل . فقد فضلوا أن يبحثوا عن النزاعات في أماكن العمل , التي يمكن أن تفتح الطريق أمام حركة اجتماعية كهذه , و ليس فقط تلك التي تتحدى الرأسمالية و بالتالي نتائجها بما في ذلك الحروب الإمبريالية . هذا منطقي إلى حد ما – من الواضح أن الفعاليات المناهضة للحرب بالشكل الذي جرت فيه كانت أعمالا رمزية لتطهير ضمير المرء أكثر منها وسائل حقيقية لإيقاف الحرب . لكن على الطرف الآخر , لا شك أنه مع بداية الألفية الجديدة كانت الحرب الشيشانية المشكلة الأكثر راهنية في المجتمع الروسي , و قررت مجموعة العمل المستقل في موسكو أن السكوت عنها هو جريمة , حتى لو كانت هناك فرصة ضئيلة في التأثير على ما يجري . من خلال تنظيم مظاهرة احتجاجية , كان يمكننا على الأقل تحطيم حالة الصمت الكامل في الرأي العام , و أن نبحث عن العدد القليل من الناس , المستعدين للعمل في وجه كل التناقضات . من السهل أن تكون أناركيا في الأوقات الثورية , لكن تلك الأفعال البطولية للأناركيين في الماضي التي نحسدهم عليها اليوم هي سهلة عندما تشعر أن المجتمع من حولك يدعمها و يقبلها . الثوريون الأكثر أصالة هم أولئك , الذين لا يفقدون روحهم حتى في ظروف العزلة التامة . كنا على وشك أن نفقد أرواحنا , لكننا في نهاية المطاف اجتزنا الاختبار بنجاح .
بيوتر آفوس
المصدر الأصلي //avtonom.org/node/9327
نقلا عن http://www.anrkismo.net/article/16108
نشر المقال لأول مرة في avtonom العدد 30 في ديسمبر كانون الأول 2008 . و صدرت ترجمته الانكليزية في نشرة ألغوا الحدود من الأسفل العدد 35 Abolish the border from below
* هناك محاولات معاصر للدمج بين الإسلام و الأناركية قام بها أساسا لاسلطويون غربيون اعتنقوا الإسلام أو مواطنون في مجتمعات غربية من أصول تعود إلى مجتمعات إسلامية . بيتر لامبورن ويلسون الكاتب و المؤلف الأمريكي الذي تسمى حاليا بحكيم باي تحول في الثمانينيات من القرن العشرين من الغنوصية و التقليدية الجديدة إلى فكر يدمج الأناركية بالصوفية الخارجة على التعاليم الأرثوذوكسية الإسلامية . في 20 يونيو حزيران 2005 أصدر شخص بريطاني تحول إلى الإسلام و تسمى بيعقوب إسلام ما أسماه دستور الأناركي المسلم , و في عام 2009 نشر محمد جان فينسيو كتابا وصف فيه ما أسماه ANARCA – ISLAM أو الإسلام – الأناركي . تعبر هذه المحاولات في تقديري على صعود كل من الأناركية و النزعة الإحيائية للإسلام كفكر مناهض للعولمة و لجوهرها النيوليبرالي .
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟