محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب
(Mohammad Abdelmaguid)
الحوار المتمدن-العدد: 950 - 2004 / 9 / 8 - 09:44
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
لم ينس الرئيس التونسي أنه كان وزيرا للداخلية في حكومة الرئيس مدى الحياة الحبيب بورقيبة، وأنه كان مسئولا عن الأمن والقمع وتفريق المظاهرات وتلميح الوجه المستبد لبورقيبة حتى جثت الفرصة أمامه على ركبتيها لتقنعه باستخدام حقه العربي وإقالة رئيس الدولة وإلا فكيف يكون زين العابدين عربيا ولا يثب على كرسي الحكم بعد أن كان يكيل المديح والثناء لسلفه؟
و"تلك الأيام نداولها بين الناس" ولن يمر وقت طويل حتى يقفز رجل آخر إلى العرش في تونس الخضراء حتى لو كان الرئيس في بروج مشيدة، فقد يكون القادم الجديد من الأسرة أو من أقرب المقربين أو وزيرا للداخلية أو الدفاع.
يجمع الرئيس التونسي التناقضات كلها في قبضة واحدة، فهو رهيف الحس وعاشق للفن، لكنه لا يتوانى عن قمع معارضيه وإذلالهم وجعل كرامتهم لا تساوي ذرة رمل واحدة من شواطئ تونس الساحرة.
وهو مستنير دينيا، ومتابع جيد للكتابات الإسلامية العقلانية، لكنه أتاتوركي النزعة ويكره أن يرى عمامة مكان قبعة أو حجابا يحتل موقع السفور أو دبلوماسيا يرفض معاقرة الخمر أو عجوزا يواظب على أداء صلاة الفجر.
يستقبل المستشار محمد سعيد العشماوي عاشق الحرية والمدافع عن الكرامة والعدالة، لكنه يصم أذنيه عن كل نداءات لجان حقوق الإنسان، أما الرابطة التونسية لحقوق الإنسان فهي خصمه اللدود.
الدكتور منصف المرزوقي رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان سابقا مواطن تونسي يحمل بين جنبيه قلبا يهيم صبابة بالحرية، وبين إصبعه قلما حادا وشرسا في مواجهة الظلم في كل صوره.
وعندما أعلن الدكتور منصف المرزوقي موقفه الصريح والواضح بإدانة الغزو العراقي لدولة الكويت والمطالبة بالانسحاب الفوري وذلك في كلمته الرائعة التي ألقاها في مؤتمر" الكراهية" في أغسطس عام 1990 لم يرق هذا الموقف للرئيس زين العابدين بن علي فأمر كتيبته الإعلامية- وفي مقدمتها اتحاد الكتاب التونسيين صاحب البيان المشهور بتهنئة الطاغية صدام حسين بضم" تراب الكويت للوطن الأم العراق"- بالهجوم الظالم على الدكتور المرزوقي.
وظل الدكتور منصف المرزوقي غير مرضي عنه من الرئيس التونسي خاصة بعدما رشح نفسه في انتخابات الرئاسة أمام منافسه الرئيس زين العابدين بن علي، فاعتبرها الأخير إهانة من الأستاذ الجامعي الذي يريد أن يرتفع بمقامه ليكون في صف الأسياد!
في نهاية ديسمبر الماضي أصدرت محكمة الدرجة الأولى بتونس حكما بالسجن لمدة عام على الدكتور المرزوقي، بتهمة الانتماء إلى المجلس الوطني للدفاع عن الحريات، وكان قد سجن أيضا في عام 94 بسبب معتقداته السياسية، وهي في الواقع تضم شقا داخليا خاصا بنشاطات الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وشقا خارجيا يتعلق بكراهية الدكتور المرزوقي لنظام شيطان بغداد ودعمه لمطالب الكويت وهذا الأمر لا يتساهل فيه مطلقا الرئيس التونسي على الرغم من أن استثمارات الكويت في تونس تستحق أن يبعث من أجلها كل تونسي رسالة شكر للشعب الكويتي، فحدث العكس وتعاطف التونسيون، رئيسا وحكومة وشعبا، مع قيادة جمهورية الخوف العراقية.
اتخذت وزارة الصحة قرارا غبيا بفصل الدكتور المرزوقي كأستاذ في كلية الطب، جامعة سوسة، وهو لا يستطيع منذ بداية التسعينيات أن يسير بمفرده دون أن ترقبه عيون أجهزة المخابرات التونسية التي لا تغيب عنها حركة أولفتة لمثقف أو سياسي أو أكاديمي تونسي، لكنها تغمض العين عندما تخترق أجهزة التصفية الإرهابية الإسرائيلية حرمة الدولة وتقوم باغتيال نشطاء فلسطينيين ومنهم الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية. وكان القضاء التونسي بتوجيهات من الرئيس قد أصدر حكما بسجن المحامي نجيب حسين نائب رئيس رابطة حقوق الإنسان وتم نقله إلى سجن في قابس، وقام قاضي التحقيقات باستجواب صلاح الدين الجرشي النائب الثاني لرابطة حقوق الإنسان ووجه إليه تهمة" تشويش النظام العام"، أي الحديث عن حقوق الإنسان!
وكان المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة حقوق الإنسان قد سلم رسالة للسفير حاتم عطا الله سفير تونس لدى الولايات المتحدة لتسليمها للرئيس زين العابدين بن علي تطالبه بوضع حد للمضايقات البوليسية والقضائية ضد دعاة حقوق الإنسان، وعدم ملاحقتهم، ومنحهم حقوقهم الطبيعية في التنقل والسفر.
ولكن الرئيس التونسي ضرب بعرض الحائط كل النداءات التي وجهتها إليه منظمات حقوق الإنسان بما فيها فرع إيطاليا الذي لم يشر من قريب أو من بعيد إلى حديث الأدميرال فولفيو مارتيني أمام لجنة برلمانية( وكان قد ترأس جهاز الاستخبارات الإيطالية لمدة سبعة أعوام) وقال فيه بأن ايطاليا رتبت نوعا من الانقلاب الأبيض في تونس وذلك بوضع وزير الداخلية زين العابدين بن علي على رأس السلطة قبيل وصول الأصولية الإسلامية إلى الحكم ، تلك الأصولية التي لم يكن الرئيس بورقيبة في شيخوخته قادرا على مجابهتها!
وقال الأدميرال أيضا بأن الأوامر بتنفيذ الانقلاب الأبيض جاءت مباشرة من رئيس الحكومة الإيطالية آنئذ بتينوكراكسي.
لا شك أن هناك غضبا شعبيا عارما من جراء إجراءات القمع التي تمارسها السلطات، خاصة ضد أي صورة من صور التدين ولو كانت حجابا بسيطا أو جرعة صغيرة من الدين في المدرسة أو المسجد أو أي مؤسسة حكومية أخرى.
الغريب أن تونس تشهد تحسنا ملموسا في الوضع المعيشي والاقتصادي بفضل السياسة السياحية الناجحة التي تقوم بها الحكومة، وتمارس تونس إغراءات ناجحة للمغتربين التونسيين سواء في تسهيلات لاستثمار أموالهم في بلدهم الأم أو تبسيط العمليات البيروقراطية للمؤسسات من أجل صالح المواطن.
الوضع الأمني والحصار الحديدي والقمع المتزايد يسبب حرجا شديدا للدول الأوروبية التي تري في تونس نموذجا علمانيا جيدا معاديا للتدين، المعتدل والمتطرف، لكنها تضطر لشد أذن السلطات التونسية عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان. والرئيس زين العابدين بن علي سيد يحكم عبيدا، وزعيم يرى أن السوط والزنزانات الباردة تمثل الطريقة الأكثر نجاحا في التعامل مع شعبه!
هل يثور التونسيون ضد الرئيس ؟
أول مارس 2003
سيختلف معنا الكثيرون ممن يظنون أن الحاكم الفعلي لتونس هي السيدة ليلى بن علي, وهي التي دفعت زوجها ليصبح واحدا من أكثر مستبدي العصر قسوة, بل لذة بالقسوة , ففي سجونه ما لاعين عين ولا أذن سمعت, وتستطيع منظمة العفو الدولية أن تصدر مجلدات كاملة عن انتهاكات حقوق الانسان في تونس الخضراء.
مقر إدارة الأمن الوطني في تونس محاولة ناجحة لمنافسة أكثر سجون العالم العربي رعبا, فالرئيس مدى الحياة زين العابدين بن علي الذي كان رئيسا لجهاز المخابرات قبل أن يغدر بزعيمه الحبيب بورقيبة , على الطريقة العربية, ويستولي على الحكم, ويلقي بالرجل العجوز في مسقط رأسه, يرى أن سجون أبو غريب والرضوانية والجفر وتدمر وتزمامارت يجب أن تكون أقل وحشية وظلما ورعبا من سجون فخامته, لذا ففي مقر إدارة الأمن الوطني يجد التونسي في انتظاره زنزانات قذرة وملطخة بالدماء وحراسا متخصصين في اغتصاب النساء, ولا مانع لديهم من ضربهن أمام أطفالهن أو اسقاط حملهن للضغط على الزوج أو الأخ أو الابن.
سجناء الرأي في تونس ليس لهم حقوق الحيوانات, وهم يعيشون أو يموتون بمعزل عن العالم, وزين العابدين يبصق على تقارير منظمة العفو الدولية, ويهين منظمة حقوق الانسان التونسية التي تٍرأسها لبعض الوقت المناضل الكبير الدكتور منصف المرزوقي.
أشد ما يثير غضب الرئيس أن يتناهى إلى سمعه صوت تونسي يبحث عن الكرامة أو يدافع عن كرامة غيره, فالرئيس يدوس بحذائه على رأس شعب بأكمله, وعملية تجديد البيعة أو الولاية هي مسرحية سخيفة, فالهدف هو أن يبقى مثلما بقي سلفه سنوات طويلة تنتهي بزيارة واحد من اثنين, إما قائد انقلاب عسكري أو ملك الموت يأتيه من حيث لا يدري!
البريد الالكتروني لتونس أو منها مراقب مراقبة صارمة, بل يتحدى بها التونسيون الأردنيين الذين بدورهم يستطيعون فك شفرة أي بريد الكتروني يرسله مواطن غاضب لأحد أفراد عائلته, فتزيد قائمة المترقب وصولهم على الحدود الأردنية واحدا.
ما يميز كلاب السلطة في تونس التي تنهش لحوم المواطنين هي أنها لا تعترف بطول فترة غياب المواطن أو حصوله على جنسية أخرى, وعودته بشوق إلى أرض الوطن حتى لو انتهت نشاطاته السياسية والدينية منذ عقد من الزمان, وسيجد عند عودته قائمة طويلة بالاتهامات القديمة والجديدة, فالأمن التونسي لا يحب المزاح.
تقوم السلطات التونسية باحتجاز فتيات من أقارب ( المشاغبين ), أي بعض القوى اليسارية مع جماعة حركة النهضة لراشد الغنوشي, وفي جمهورية زين العابدين تزر كل وازرة وزر أخرى, ويحمل المسؤولية الأقارب والمعارف والأصدقاء, والتهمة واحدة يعرفها كل كلاب الحراسة في سجون وطننا العربي: التستر على مجرم وتعريض أمن الوطن للخطر!
وقد تقوم السلطات الليبية بتسليم نظيرتها في تونس بعض المواطنين الذين أمنتهم الجماهيرية على أنفسهم وأموالهم وحرماتهم, لكنها على طريقة خيانة الضيوف والغدر بهم أو خطفهم, كما حدث مع الامام موسى الصدر والمعارض منصور الكيخيا الذي قامت مخابرات رسول الصحراء باختطافه في الاسكندرية ونقله وراء شمس طرابلس الغرب , فعلت الأمر نفسه مع سمير قاسمي وعبد الستار قاسمي الشقيقين اللذين كانا يعيشان في المنفى, وبعد فترة تأديب وتعذيب تم نقل أحد الأخوين إلى سجن 9 أبريل بالعاصمة التونسية, ربما للتأكيد على حرية السجين في تونس الخضراء, فهو يستطيع أن يجرب الحياة أو شبه الموت في عدة سجون تونسية امعانا في التكريم.
لا أحد يعرف عدد السجناء في تونس وهم بالطبع عدة آلاف, وأكثرهم من سجناء الرأي, ولا يقدم منهم للمحاكمة إلا القلة, والمحاكم لا تتحقق من مزاعم التعذيب, ولا تستدعي الشهود, وتتلقى الأوامر من السلطة التنفيذية فالحكم يصدر في القصر الجمهوري, وكل أجهزة الدولة ديكورات مؤسساتية لتزيين النظام الارهابي.
لكن مبنى وزارة الداخلية يستطيع أن ينافس السجون والمعتقلات, ففيه تم احتجاز العشرات من الطلاب الذين تظاهروا مطالبين بتحسين أوضاعهم التعليمية, وتلقوا جميعا دروسا في تعلم العبودية, حتى أن الطالب لطفي الهمامي تعرض للتعذيب بربط أعضائه التناسلية وجره منها بحبل, ولم يتم التحقيق مع أي من كلاب السلطة فلديها ضوء أخضر من فخامة الرئيس بأن يعاملوا المواطنين التونسيين معاملتهم لفئران التجارب, وأن يتمنى كل سجين الموت للتخلص من جحيم سجون زين العابدين بن علي.
شبيل جلال شاب تونسي أوقفته الشرطة السرية واصطحبته إلى المقر الرئيسي في المنستير, وتلقى وجبات متنوعة من التعذيب بدأت بالفلقة, والضرب على كل أجزاء الجسم بأسلاك كهربية مضفورة, ثم التعليق بين طاولتين لعدة ساعات مع الركل في البطن, ثم صب الماء البارد ليلا على كامل الجسم مع وضع قميص مبلل فوق الوجه لحجز التنفس..
وأخيرا التعرض لهواء بارد أملا في أن يصاب بمرض رئوي ما بقي له من عمر.
من أسماء بعض كلاب السلطة وزبانية التعذيب الطاهر الأسود, هشام الغالي, الطاهر بوخامة, علي الامام, الهادي العلياني, مبروك العياري.
بعد ذلك قام بالانتقال من سجن منستير إلى سجن قفصة, ثم إلى سجن الناظور ببنزرت , وبعد فترة وجد نفسه في سجن 9 أبريل, ولم يمض وقت طويل حتى تم ترحيله إلى سجن حربوب.
رحلة تسعد السلطة, وجولة سياحية يراها الرئيس ضرورية حتى يعرف كل تونسي أن السجون أكثر عددا من الفنادق في دولة سياحية, وحتى يلعن عندما يختلي بنفسه يوم ولدته أمه وشهد عصر زين العابدين بن علي.
لم تنس السلطات التونسية أن تجرب معه ما قامت به السلطات المغربية في سجن تزمامارت والتي حكى عنها أحمد المرزوقي في وصفه لجحيم الأرض( كتاب الزنزانة رقم 10) بعدما قضى ثمانية عشر عاما في سجون أمير المؤمنين الحسن الثاني, اي ترك السجين المريض أو تقييد غير المريض لأسابيع أو شهور في فراشه فيقضي حاجته على نفسه, ويشم راحتها في النوم واليقظة, وينفر من الاقتراب منه السجانون والزملاء, ويشعر بأنه أقل من حشرة, ويخجل من نفسه, وتلتصق ملابسه ببوله وبرازه لتكون طبقة سميكة لا يقدر إنس أو جان على الاقتراب منها.
بين الرئيس زين العابدين بن علي وبين الاسلام عداء مستحكم, وهو يكره الدين والايمان, وتثير غضبه أي نزعة دينية, ويبدو أنه أقسم بينه وبين نفسه أن لا يعبد تونسي الله على أرض تونس الخضراء, وأنه سيطهر قلوب التونسيين من الوحدانية والايمان والشهادتين والتسبيح بحمد الله, فالسجود في عهده ينبغي أن لا يكون لله عز وجل, ويتعجب الرئيس زين العابدين بن علي في نفسه من أن التونسيين يسجدون لله وليس لزعيمهم, ولو كان الأمر بيده لطلب من وزير الداخلية أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله التونسيين! والتونسي الذي تراقب أجهزة الأمن لعدة أيام ضوء سكنه في صلاة الفجر, تستدعيه إلى المركز الرئيسي, وتحقق معه, فتلك بذرة الايمان التي لا تستقيم مع عهد الرئيس.
أما الدبلوماسي الذي يرفض معاقرة الخمر فإن تقريرا سريا يطير من البعثة التونسية إلى أجهزة الأمن باكتشافها مسؤول دبلوماسي قد يتطرف بعد عدة سنوات أو يتعاطف مع ( النهضة ), أو يعبد أحدا غير الرئيس!
أما السجين منير شقير الذي سلمته مخابرات الفاتح من سبتمبر الليبية إلى مخابرات السابع من نوفمبر التونسية, فقد سلمت معه والدته وزوجته وأولاده الثلاثة, ثم تم فصل الأم عن رضيعها الذي لم يتجاوز الشهور الثلاثة. ويضيق مجال الحديث المسهب عن الجحيم الذي يعيش فيه التونسيون تحت سوط وحذاء واحد من أقسى طغاة العصر. وليس هناك أي أمل قريب لتحرير تونس, فكلاب السلطة يحاصرون كل نسمة هواء, ويحصون كل نبضة قلب, فالرئيس مستعد لابادة رعاياه من أجل البقاء فوق رقابهم!
متى يفرج الرئيس عن الشعب التونسي؟
15.10.2001
في أكتوبر عام ألفين قدم الدكتور منصف المرزوقي في مؤتمر حقوق الإنسان المنعقد بالعاصمة المغربية الرباط ورقة انتقد فيها حكومة الرئيس زين العابدين بن علي.
وعندما عاد إلي تونس الخضراء تم توجيه الاتهام إليه من قبل سلطات الرئيس بأنه حاول تعكير السلام الداخلي والرأي العام وإذاعة إخبار كاذبة عن الوضع في تونس وهي مجموعة التهم التي يحفظها عن ظهر قلب أي ضابط أمن في عالمنا العربي الممتد من سبتة ومليلية إلى طنب الكبرى مرورا بجزيرة حنيش ومن لواء الاسكندرونة إلى زنجبار الواقعة تحت الاحتلال التانجانيقي عمليا في تنزانيا والمرتبطة تاريخيا وفي قلب كل زنجباري بسلطنة عمان.
في جمهورية الرئيس زين العابدين بن علي التي استولى عليها من الرئيس مدى الحياة الحبيب بورقيبة يقبع آلاف من المواطنين في سجون تفتقد لكل صور الآدمية، والقضاء التونسي يرفض في معظم الأحوال مثول شهود الدفاع.
على الرغم من أن قبضة الرئيس كانت شديدة وغليظة على الشعب التونسي منذ انتخابات أكتوبر عام تسعة وتسعين الهزلية والعبثية التي حصل فيها فخامته على تسعة وتسعين بالمائة من الأصوات، لكن الواقع يثبت أن القمع كان قدر شعبنا التونسي من اللحظات الأولى التي استولى فيها زين العابدين على القصر
ومن فيه، ثم على الشعب، ثم على تونس كلها وكانت تونس قد وافقت على بنود حقوق الإنسان التي قدمها الإعلان الدولي في الأمم المتحدة في التاسع من ديسمبر عام ثمانية وتسعين.
وفى الإعلان الخاص بحقوق الإنسان الذي انعقد في العاصمة الكتالانية برشلونة في نوفمبر عام خمسة وتسعين وافقت تونس على احترام حقوق الإنسان.
أما الواقع على الأرض فهو أن حقوق المواطن التونسي المتعلقة بالرأي والضمير والمحاكمة العادلة والعقيدة وممارسة الشعائر الدينية والانتقاد وغيرها أصبحت كالهريسة التونسية تحت حذاء الرئيس زين العابدين بن علي!
إنها جزء من حقوق الإنسان في شمال إفريقيا، فهي في المغرب سجون معتمة ومظلمة أمر الملك الحسن الثاني ببنائها ليؤدب شعبه، ثم تسلمها أمير المؤمنين الصغير محمد السادس بمن فيها من الأبرياء وحافظ عليها كإرث تاريخي للأشراف، ثم أضاف إليها أحمد البخاري.
وفي الجزائر تحت الأقدام العفنة للجنرالات القتلة وفي سكاكين الجماعات الدينية التي تنافس الأمن على قتل الجزائريين وفي صمت بو تفليقة.
أما في ليبيا فحدث ولا حرج فالليبيون كلهم من السلوم مرورا بطبرق والجبل الأخضر وبنغازي ومصراتة ووزليطن وطرابلس والعزيزية وغدامس لا يساوي أي
منهم ثمن سوط للتعذيب في جماهيرية قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة.
نعود إلى تونس....
عندما تمت محاكمة الدكتور منصف المرزوقي في السادس عشر من ديسمبر عام ألفين تم توجيه اتهامات سخيفة له أهمها:
أنه نشر معلومات مغلوطة وكاذبة تشوش على الرأي العام مخالفا بذلك المادة التاسعة والأربعين من قانون الصحافة. وأنه انضم إلى مؤسسة غير معترف بها مخالفا المادة الثلاثين من قانون تأسيس الهيئات وإنشاء المؤسسات.
محاكمة الدكتور المرزوقي حملت كل صور الإرهاب في عهد الرئيس زين العابدين بن علي فالقضاء النزيه(!) فيه يرفض رئيس محكمته إعطاء مهلة للإطلاع على الأوراق، ويدعي بأن المحاضرة التي ألقاها الدكتور المرزوقي في الرباط ضاعت أصولها!
عندما يتقدم المتهم في تونس إلى المحكمة بطلب التحقيق في واقعة التعذيب التي تعرض لها من رجال الرئيس فإن المحكمة ترفض، فالرئيس زين العابدين هو عمليا رئيس المحكمة الدستورية والمحكمة العليا.
إن مواد الدستور التونسي كلها تؤكد على الحرية والكرامة والمحاكمات العادلة وتوفر أقصى درجات الحماية للمتهم، ولكن الممارسات العملية تضرب بعرض الحائط كل هذه السخافات التي لا يعترف بها الرئيس.أما أي صورة من صور التمسك ولو بقشور الإسلام فإن زبانية التعذيب لن يرحموا صاحبها، فالإسلام يجب أن يجتثه فخامة الرئيس من كل صدور المسلمين وقلوبهم وعقولهم، هكذا يظن!
الرئيس قبل الدستور وفوق رقاب الشعب .. دموع التونسيين
12.06.2002
الساذجون فقط هم الذين تصوروا أن الرئيس التونسي يمكن أن يتنازل عن كرسي السلطة مع الولاية الثالثة أو حتى مع الرابعة أو الخامسة، فحلاوة السلطة لا تعادلها نشوة نفسية أو جسدية، فإذا أضفت إليها حبا جما وعشقا جارفا للاستبداد فسيجد المرء أنه أمام نتيجة طبيعية أو حالة عربية تتكرر بصور مختلفة في عالمنا المسكين.
تونس دولة صغيرة تعتمد في اقتصادها على السياحة لكنها تملك جيشا جرارا من رجال الشرطة والأمن يزيد عددهم على مائة وثلاثين ألفا عدا عشرات الآلاف من الخلايا الحزبية المتفرقة في طول البلاد وعرضها والمنبثقة عن سبعة آلاف منظمة حكومية تخضع كلها لسلطة رجل واحد عليه أن يقول للشيء كن فيكون.
والمنتجعات السياحية في جربة وسوسة والحمامات وغيرها تعادلها في البناء الأفقي سجون ومعتقلات يزيد عددها على الألف فتكون ما يمكن أن نطلق عليه حزاما حول عشرة ملايين تونسي خطفهم السيد الرئيس ووضعهم تحت حذائه، وليصرخ أبو القاسم الشابي من قبره:إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، فالشعب التونسي يريد فعلا الحياة الحرة الكريمة، لكن زين العابدين بن علي لم ولن يكترث لكل صيحات وصراخ وعويل ونحيب وأوجاع شعبنا التونسي.
معتقلات تونس حالات خاصة من انتظار أو ترقب الموت، أما بالنسبة لأكثر الذين شاء حظهم العاثر أن يقعوا بين براثن كلاب السلطة فإن الموت رفاهية لا سبيل إلى الفوز بها إلا لهؤلاء الذين رفضت قلوبهم الاستمرار في النبض، فجاء ملك الموت على عجل لقبض أرواحهم رغم انشغاله الشديد في قبض أرواح المعتقلين الأبرياء في سجون الوطن العربي الحبيب الممتد من سجن تزمامارت إلى سجن حضرموت مرورا بوهران والعزيزية الجفرة وبعدة مئات من السجون العراقية.
كيف يمكن أن تكون عربيا وتقيم في مدينة جميلة أو قرية آمنة أو قريبا من شاطئ البحر ولا تصل إلى أنفك رائحة الموت ولا إلى أذنيك صرخات المعذبين؟
إن تقارير أكثر من ثلاثين بعثة مراقبة زارت تونس في السنوات القليلة الماضية، تؤكد أن الرئيس زين العابدين بن علي ماض في وضع القيد في أيدي كل أبناء شعبه رغم صرخات روح الشابي: ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر! وسوء المعاملة في السجون والمعتقلات التونسية تشمل الزنزانات المكتظة ورفض علاج المرضى والإجراءات التأديبية والضرب والصعق والسجن الانفرادي والإهانة والإذلال، وربما ينتهي الأمر إلى الاختفاء القسري وتلك كانت مهمة السيد الرئيس عندما كان وزيرا للداخلية ورئيسا لجهاز القمع البورقيبي قبل أن يغدر برئيسه وينقلب عليه، وإلا فهو يفقد إحدى أهم خصائص ومميزات المسئول العربي، أو الرجل الثاني الذي ينتظر الفرصة لإزاحة الرجل الأول.
تشمل سجون بنزرت وتونس والمهدية وصفاقس أكبر عدد من المعتقلين السياسيين، أي سجناء الرأي وهم الفئة الأكثر إجراما في عيون السلطة وهؤلاء يتعرضون لضغوطات نفسية شديدة ناتجة عن منع الاجتماعات في باحات السجن أو داخل غرف الطعام والحرمان من العلاج أو التلكؤ في إحضار الدواء، ثم تحديد موضوع الحديث لدى أي زيارة من أحد الأقرباء، وكذلك منع المطالعة أو تسلم كتب من الخارج.
معادة النظام للتدين ليس لها مثيل في العالم كله، فأي صورة من صور اللجوء إلى الدين والعبادة والصلاة والحجاب تصيب أجهزة القمع التونسية بهوس جنوني، فليس الأمر متعلقا بمطاردة ( النهضة) أو عفريت راشد الغنوشي، لكنها رغبة أتاتوركية تملك على الرئيس زين العابدين بن علي نهاره وليله بأن ينتزع من قلوب المسلمين في تونس كل صلة بالإسلام الحنيف.
يمعن التونسيون- تجنبا للمثول أمام أجهزة الاستخبارات- في التأكيد على انقطاع صلتهم بالدين، فالدبلوماسي التونسي في الخارج الذي لا يعاقر الخمر يضطر إلى شرب كأس أو اثنين في حفلات الاستقبال خشية أن يبرق أحد عيون النظام في البعثة الدبلوماسية إلى رؤسائه في تونس الخضراء بوشاية عن( بذرة التدين)
في ذلك الدبلوماسي، وهذه تهمة في عهد زين العابدين بن علي قد تزيد عدد المعتقلين واحدا على الفور.
المادة التاسعة والثلاثون التي تحظر على الرئيس التجديد لأكثر من مرة لا تساوي قيمة الحبر أو الورق الذي طبعت عليه، فالرئيس قبل الدستور، والشعب تحت حذائه، والمعتقلات أهم من الخبز، والحرية رفاهية مرفوضة والسلطة مدى الحياة هي القيمة الكبرى التي يؤمن بها السيد الرئيس!
والواقع أن زين العابدين يحكم منذ عام سبعة وثمانين بدون أي مشاركة أو مشاطرة أو منافسة، وذلك عبر آلاف من الخلايا الأخطبوطية لأجهزة استخبارات تعرف دبيب النمل لكنها لا تسمع وقع أقدام أجهزة الاغتيال الصهيونية التي كانت تصفي ضيوف الرئيس من قيادات المقاومة الفلسطينية وهذا أمر طبيعي، فالاستخبارات في معظم بلادنا العربية المنكوبة تستطيع أن تسمع همسات المواطن العربي لزوجته أو عشيقته في الفراش، لكنها تمرر مائة إيلي كوهين دون أن يلفت أحدهم انتباهها، ومن قال بأن جواسيس إسرائيل في العالم العربي خصوم لأنظمة الحكم؟
قد يظن البعض أن القبض على السيدة سهام بن سدرين يمثل فضحا للنظام أو قضية توفيق بن بربك التي أشعلتها الصحافة الفرنسية بعد الإضراب عن الطعام الذي أعلنه الصحفي المفكر التونسي، لكننا نرى أن صوت الدكتور منصف المرزوقي هو الأقوى، بل إن بإمكان الدكتور المرزوقي لو لجأ للطريقة الخومينية في حروب الكاسيتات والبيانات( والآن الفضائيات والانترنيت وغيرها) أن يحقق غرضه في ترشيح نفسه لرئاسة تونس وهو الترشيح الذي جعل الرئيس التونسي يفقد صوابه، فهو لا يرى في تونس كلها شخصا أحق منه في تولي السلطة.
لقد تم إسكات صوت المعارضين البارزين أو نفيهم خارج البلاد أو اعتقالهم، والصحافة التونسية أصبحت متحدثا رسميا باسم رغبات السيد الرئيس، واتحاد الكتاب التونسيين الذي كان له صوت مسموع إبان الغزو العراقي الفاشي لدولة الكويت وأبرق لشيطان بغداد يهنئه على عودة تراب الوطن الكويتي السليب إلى الوطن الأم( يقصد جمهورية الخوف البعثية)، صمت صمت القبور وهو يرى الكلمة المكتوبة والمسموعة والمقروءة تصبح في خدمة القصر.
من منا لا يتذكر السجين السياسي علي بن سالم الذي تم الإفراج عنه، لكن السلطة طاردته في أكل عيشه وصدت في وجهه أبواب الرزق وضغطت عليه نفسيا واقتصاديا بعد أن كادت تهلكه في زنزانتها، فعرض ولديه للبيع، فأعادته أجهزة القمع إلى مكانه الطبيعي.. أي واحد من سجون عهد حركة نوفمبر التصحيحية العظيمة!
لكن كل الدلائل تشير إلى أن بركانا قد ينفجر في أية لحظة، سواء بانقلاب عسكري أو بإزاحة الرئيس، تماما كما فعل هو مع بورقيبة، أو بثورة شعبية، أو بتخلي أجهزة الدعم المالي والمخابراتي الغربية عن فخامته بعد استهلاكه وتحقيق الغرض النهائي من وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى الحكم، وهو الوصول الذي فضحته الصحافة الإيطالية وأكدت على أن أجهزة الاستخبارات في روما هي التي طبخت على نار هادئة انتقال السلطة من المجاهد الأكبر إلى رجلها في تونس.
وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فإننا لا نملك إلا أن نتعاطف مع آلاف المعتقلين في تونس الذين يدفعون ثمنا غاليا للحرية وحب الوطن، لكنهم أيضا عاشقو تونس المنسيون خلف الجدران في عالم من الجبناء ومثقفي السلطة وصحفيي الأمن وكاتبي القصر ولا عقي حذاء الرئيس. ومعذرة لأبي القاسم الشابي فالشعب يريد الحياة ولكن القدر لم يستجب!
خالص العزاء لشعبنا التونسي .. ربع قرن جديد تحت حذاء الرئيس
14.08.2002
لماذا لا يتم الاحتفاظ ببعض الحيوانات المنوية مجمدة للزعماء العرب، ثم استخراج واحدة كل ربع قرن بعد وفاة الزعيم وعمل نسخة من المرحوم حتى نضمن له على الأقل أن يحكم أكثر مما عاش نوح عليه السلام. في هذه الحالة لن يحتاج الرئيس زين العابدين بن علي، مثلا، إلى تعديل الدستور، أو رفع سن الترشيح للرئاسة، أو إصدار قانون يمنع ملاحقة الرؤساء السابقين قضائيا! يمكن أيضا الاحتفاظ بالحيوانات المنوية للزعماء العرب في جامعة الدول لعربية مع وضع نسخة احتياطية في ثلاجة البيت الأبيض مع استثناء الرئيس الفلسطيني تجنبا لغضب السمراء الأنيقة كونداليزا رايس!
عندما قام الجنرال زين العابدين بن علي بالانقلاب( الصحي) على الرئيس مدى الحياة الحبيب بورقيبة، ألقى خطابا حماسيا للأمة مبديا فيه امتعاضه ودهشته من فكرة استمرار رئاسة أي زعيم مدى الحياة! وذاق فخامته لذة السلطة، واستمتع بنشوة الحكم، وعرف أن الأمر أكثر سهولة ويسر مما توقع، فالحزب الحاكم يستطيع بين عشية وضحاها تجنيد المنافقين والمصفقين والجبناء في الشرطة والجيش والإعلام والصحافة واتحادات العمال والفنانين والمثقفين.
ويكفي اعتقال بضعة آلاف واستدعاء مثلهم لمراكز الشرطة وممارسة عمليات تعذيب وقمع وإذلال، وبعد ذلك يضطر الجميع رغم أنوفهم للحديث عن الإنجازات العملاقة لقائد المسيرة.
يقال بأن الرئيس زين العابدين بن علي لا يعرف صديقا، ولا يأمن أحدا، ولا يثق إلا في نفسه رغم أنه أحاط نفسه بمجموعة من المنافقين والوصوليين والانتهازيين ومستشاري السوء. ربما كانت عدم ثقته ناتجة من تجربته مع الحبيب بورقيبة الذي غضب عليه يوما بسبب فشل أمني فأرسله سفيرا في بولندا.
وعندما قام بتعيينه وزيرا في الثاني من أكتوبر عام سبعة وثمانين، قام الجنرال بانقلابه الأمني الصحي على ولي نعمته بعد شهر واحد فقط من توليه أمن الدولة.
قيل الكثير عن الدعم الذي حصل عليه الرئيس التونسي من فرنسا خلال دراسته هناك بعد الاستقلال، وقيل أكثر عن علاقة أجهزة المخابرات الإيطالية بانقلاب السابع من نوفمبر، لكن الأهم الآن أن سجل تونس في مجال حقوق الإنسان يكشف الوجه القبيح للاستبداد في أبشع صوره.
لم تعد مطاردة الجماعات الإسلامية هي الهاجس الأكبر لدى أجهزة القمع التونسية، لكن امتد الاستبداد إلى كل تونسي يشتم منه رائحة معارضة أو عدم رضاء عن الرئيس مدى الحياة.
نشطاء حقوق الإنسان كثيرون في تونس وقد تمكنوا من تسريب أسماء المعتقلين، بل استطاعوا تسريب أسماء ضباط الشرطة الذين مارسوا التعذيب ضد المواطنين.
يأتي في مقدمة هؤلاء رئيس رابطة حقوق الإنسان التونسية سابقا الدكتور منصف المرزوقي، وهو خصم لدود للرئيس ومرشح سابق ضده في الانتخابات، وأستاذ في جامعة سوسة، كلية الطب، ومقيم حاليا في فرنسا بعد عمليات إذلال وقمع من النظام ومحاولات اغتيال فاشلة.
تسعى أجهزة الاستخبارات التونسية إلى تعطيل عمل المحامين، بل اعتبار اعترافات المتهمين في أقسام الشرطة تحت التعذيب صحيحة وغير قابلة للمناقشة.
وعندما كان المتهمان عبد اللطيف بو حجيلة وياسين البنزرتي فاقدي الوعي من جراء التعذيب الوحشي، وانسحب محاموهما، أصدر القضاء الظالم حكما على الأول بالسجن سبعة عشر عاما، وعلى الثاني بأحد عشر عاما! إنها عدالة الرئيس زين العابدين بن علي الذي قرر أن يدوس على كرامة الشعب والدستور والحرية، وأن يجعل كل شيء ملك يمينه.
تغيير الدستور ليسمح للرئيس بالحكم فترتين بعد عام ألفين وأربعة، لا يعني أن فخامته سيعود مواطنا طيبا وديعا عندما يبلغ السابعة والسبعين من عمره، لأن الشعب حينئذ يكون قد اعتاد على الذل والهوان واستأنس بهما ولا يمكن لقوة في تونس أن تزحزح الرئيس عن كرسي الحكم إلا أن يكون ملك الموت قد أبلغ دود الأرض بضيف جديد عزيز، أو يخرج شاب مغامر ومقامر بعد ربع قرن ويزيح الرئيس لأسباب صحية، ثم يقوم بزيارته في مقر إقامته الجبرية وسط حشد من المصورين والإعلاميين الذين سيكتبون عن رقة قلب الرئيس الجديد وإخلاصه لرئيسه العجوز الأب الروحي لتونس الخضراء!
يسمح القانون التونسي بمحاكمة المغتربين الذين يحملون جنسيات أخرى مع جنسيتهم التونسية، ويعطي مساحة كبيرة لأجهزة الأمن بمتابعة ملف المهاجر لسنوات طويلة حتى لو تاب أو تغير فكره، ولعل هذا يذكرنا بأجهزة الاستخبارات الأردنية التي تحتفظ بملفات معارضين وصحفيين والتي أوقفت في إحدى المرات صحفيا سوريا كان يعبر الأراضي الأردنية وواجهته بكتابات له منذ أكثر من عشرة سنوات عندما يعمل في صحيفة خليجية! عندما عاد المواطن التونسي الفرنسي على مهدي ذوقة إلى وطنه في زيارة للأهل، كانت أجهزة الاستخبارات المدربة على معرفة المهاجرين والمغتربين والاحتفاظ بملفاتهم ساخنة وطازجة دائما تستعد لاستقباله بالأحضان، ثم بعد فنجان قهوة اكتشف صاحبنا أنه متهم بنشاطات مضى عليها عقد كامل على الرغم من أن القانون الفرنسي للبلد الذي يحمل جنسيته يسمح بنشاطات سياسية. وتم الحكم عليه بعامين سجنا، وخرج فقط لأن الرئيس جاك شيراك طرح الأمر على الجنرال زين العابدين بن علي.
وأصحاب الفخامة زعماء عالمنا العرب يستجيبون فورا للعفو عن عبيدهم المعتقلين في سجون وطننا العربي الكبير الممتد من جزيرة ليلى إلى جزيرة حنيش، بل إنهم يصغرون وينكمشون أمام طلبات الزعماء الأوربيين من ذوي الدماء الزرقاء.
عندما كانت عائلة الجنرال أوفقير تعاني عذابا ووحدة وقسوة لعشرين عاما في سجون أمير المؤمنين السابق الحسن الثاني، كان الملك يصل إلى أشد حالات النشوة والبهجة وهو يتابع آلام وأوجاع أطفال صغار ارتكبوا جريمة حمل اسم والدهم الجنرال أوفقير. وحاول زعماء عرب ومنهم قادة الجزائر إقناع الملك بالإفراج عنهم وترحيلهم، جاء الرد بالرفض القاطع، ولما زار الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الرباط طرح الأمر على الحسن الثاني فوعده بالإفراج عنهم، ونكث وعده لكن هروب الأطفال واتصالهم بالإذاعة الفرنسية هز الملك وقصره وحكمه وكشف مملكة الصمت المخيفة لصاحب الدروس الحسنية.
واعتقلت السلطات التونسية هارون مبارك طالب القانون وهو قادم من كندا، وتم الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ولكن الرئيس زين العابدين بن علي قرر الإفراج عنه بعد التماسات من المسئولين الكنديين.
أما لطفي فرحات الحامل للجنسية الفرنسية فقد اصطادته المخابرات التونسية لدى عودته لتونس الآمنة، ووضعته في حبس انفرادي، وتعرض لتعذيب وحشي كانت أجهزة أمن الجنرال بن علي تعلق المسكين من قدميه وتضع وجهه في دلو مملوء بمياه قذرة لكي يعترف أن له نشاطات سياسية في فرنسا.
أما علي العريض وصادق شورو من حركة النهضة التي يترأسها راشد الغنوشي فقد قضيا عشر سنوات معزولين تماما عن العالم الخارجي، ومحرومين من أبسط حقوق الإنسان والحيوان. ولشعبنا التونسي نقدم خالص العزاء عن ربع قرن قادم ربما يتعلم فيه التونسيون كيفية الزحف على البطون وتقبيل حذاء الرئيس واعتبار ذلك شرفا لا يحظى بمثله شعب آخر!
الرئيس التونسي لا يعترف بدود الأرض .. هل هناك فارق بين الرعايا والعبيد ؟
13.11.2003
إذا كانت المخابرات الايطالية هي التي أفسحت المجال لزين العابدين بن علي لازاحة الرئيس مدى الحياة الحبيب بورقيبة, فإن هناك قاسما مشتركا جديدا مع ايطاليا وهي
تشابه الحكم السلطوي في تونس مع تكتم النظام الهرمي للمافيا.
فبعد خمسة عشر عاما من استيلائه بالغدر على السلطة, مسح الرئيس بن علي كل الوجوه المعارضة, أو هَجَّرَها خارج الوطن, أو قمَعَها في سجون انفرادية بمعزل عن العالم الخارجي.
والحبيب بورقيبة ليس وحده الرئيس مدى الحياة الذي لم يكن يعترف أن دود الأرض في انتظاره, لكن المستبد زين العابدين بن علي يحلم بنصف قرن آخر فوق رقاب شعبنا التونسي بعدما أخضع المجتمع كله لدولة بوليسية قمعية تبني السجون والمعتقلات, وتتفنن في كل صنوف التعذيب والمهانة, وترى, كعادة زعمائنا, أن الشعب أحقر من الطبقة الحاكمة, وأن العصا والسوط والزنزانات تحت الأرض هي الوسائل المشروعة لاستمرار سيطرة لصوص الوطن على خيراته ومقدراته وأرواح شعبه.
ومع ذلك فإن هذا الشعب البطل يمد الوطن بحركات نضالية رائعة, فبعد المجلس الوطني للحريات الذي كان للدكتور منصف المرزوقي الفضل الأكبر في تأسيسه, نشطت الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الانسان, والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات, وجمعية المحامين الشباب, والاتحاد العام لطلاب تونس.
لكن الرئيس الذي لا يرى في التونسيين غير عبيد يسحقهم متى أراد تحت قدميه ازداد جنونه, وغصت المعتقلات بآلاف المتهمين الأبرياء, وأمر آلة القمع والقهر في حُكمه بمزيد من الاعتقالات والتعذيب والنفي ومصادرة جوازات السفر.
ورد عليه الشعب التونسي باضراب عن الطعام يقوم به صحفيون ومثقفون ومحامون ونشطاء في حقوق الانسان مما جعل أعدادا كبيرة من المثقفين الفرنسيين يتعاطفون مع زملائهم في تونس.
إن شعار ( لا خوف بعد اليوم ) الذي بدأ ضعيفا ثم كبر وتوسع ومارس دوره في تشجيع كل فئات الشعب على تحدي الديكتاتور قد وضع في الواقع عدا تنازليا لمرحلة الطاغية زين العابدين بن علي.
في السجون التونسية تم تسجيل عشر وفيات من جراء التعذيب, وبعد أن تسلم الرئيس طلبا موقعا باسم مئات التونسيين الشجعان برفض تجديده لولاية رابعة أدرك الطاغية الدموي أن الشعب التونسي عصي على العبودية, وأن الاعلاميين والمثقفين المنافقين والأفاقين الذين يهاجمون من على صفحات صحفهم قوى النضال لا يمثلون شعبنا التونسي أو تاريخه المشرق.
تمسك تونس سبعة آلاف منظمة حكومية صغيرة عبارة عن ميليشيات للرقابة على تحركات الشعب, وتحاصر التونسيين أجهزة شرطة وأمن يقدر عددها بمئة وثلاثين ألفا وأكثرهم مدربون على الضرب والتنكيل والانتهاكات والتعذيب وكل منهم يتجسس على الآخر في دائرة تسلطية مخيفة بحيث لا يستطيع أي رجل أمن أن يتردد في استخدام كل مالديه من قسوة وقوة وغلظة للتعامل مع المعارضين والمتظاهرين والمتمردين. الاسلاميون هم الأكثر تعرضا لأنواع من المعاملة الحيوانية من قبل أجهزة النظام الفاسد, فأحكام ظالمة وسريعة تصدر ضدهم, وقيود على حركتهم, وظروف تعف عنها الحشرات يعيشون موتا فيها في زنزانات مفزعة تحت الأرض الخضراء الطيبة, ومخبرون ومرشدون يرتدون الملابس المدنية لمطاردة أي مظهر من مظاهر التدين, فالرئيس يعادي عمليا الدين الاسلامي أكثر مما تعاديه قوى غربية أو صهيونية, وتتغلغل في صفوف أمنه الاستخبارات الاسرائيلية, لكن الصورة القبيحة للنظام تحظى للأسف الشديد بتأييد أمريكي بحكم أنها تحقق ما تطلق عليه واشنطون قوى الارهاب الاسلامي, وأن أجهزة أمن الرئيس مرتع للموساد الذي قام بتصفية قيادات فلسطينية داخل تونس عندما أمر الرئيس رجاله بأن يغمضوا أعينهم. تونس تنتظر على أحر من جمر ثورة أو انقلابا في القصر أو تمردا للجيش أو حركة للأحرار لتحرير هذا البلد المسكين من قبضة الطاغية. فمن ينتصر: سيف المستبد أم روح أبي القاسم الشابي؟
محمد عبد المجيد
#محمد_عبد_المجيد (هاشتاغ)
Mohammad_Abdelmaguid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟