|
معلم في القرية/ 17
محمد علي الشبيبي
الحوار المتمدن-العدد: 3148 - 2010 / 10 / 8 - 14:07
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)
بعضهم هكذا يسميه، بينما يسميه البعض " القفص الذهبي" يبدو إن الذهب عنده فوق كل اعتبار. أهم ما أتمناه أن أعيش حياة هادئة. هذه الشهور التي مرت، منذ زواجي في العطلة بعد امتحان نصف السنة، وحتى صرنا على أبواب الامتحانات النهائية، كنت منصرفا فيها عن كل شيء، التدريس وما يتعلق به، فحياتي الجديدة وما يحتاجه "عش الزوجية" من حاجات، وكونه -وهذا أهم شاغل- جديداً عليّ، ملأ كل فراغ لديّ. بدأ البيت يطرقه زوار من الجيران، ومن المعارف والأصدقاء، منهم بعض المعلمات، اللواتي كنت اُوصل لهن مجلة "فتاة العراق"، صاحبها [هو السيد "قاسم فاضل راجي" تعرفت عليه عن طريق ما قدمته للنشر في مجلته، وقد زارني بعد هذا في النجف. سأتعرض لهذه الزيارة بعد هذا. وقد كان أسم المجلة "المرأة الحديثة" وأبدل هذا ، أو بالعكس لا أتذكر تماماً] أعتمد علي بإيجاد مشاركين –رجال ونساء- أما الرجال فإقبالهم عليها مثلما هم مع سائر المجلات ضعيف جداً. وتقبلتها بعض الشابات من المعلمات، وما أسرع ما قدمن لي نماذج من كتابتهن، رفعتها إلى صاحب المجلة –بعد التعديل- طالباً نشرها تشجيعاً للعنصر النسوي في مزاولة الكتابة والنشر، ومعالجة مشاكل المرأة، خصوصاً وأسم المجلة "فتاة العراق". هؤلاء المعلمات أقبلن حين عاودت المدارس الدوام. وتوثقت بينهن وبين أم بيتي العلاقات، أعجبن بها حين رأينها تزاول العمل البيتي، باهتمام وهي ما تزال في أسبوع العسل وزاد إعجابهن لما فهمن منها إنها أمية، وإنها بدأت تتعلم على يدي، ولم يفتهن أن يلوحن لها بذكر روايتي "رنة الكأس" إن كانت هي بطلة الرواية؟ أو لا. وكأن كل قصة أو رواية يجب أن تخص أنساناً بعينه. ومما جد خلال هذه المدة، أن المعارف بعثت نتائج الامتحانات [ألامتحانات التي سبق وأشرت إليها تحت عنوان "امتحان وامتحان"]، وأشارت في ملاحظة لإدارات المدارس: عدم تكليف المعلم الذي لم يحز على درجة النجاح في درسي العربي والإنكليزي من تدريس المادتين، ودرجة النجاح المشار إليها هي 60% فما فوق. صاحبنا الشيخ كانت درجته دون ألـ 60 وقد ابلغ بالكتاب. وأنا واثق إن رسوبه لم يكن في النحو واللغة. لابد إن ذلك بسبب عدم إطلاعه على أصول التدريس، وقواعد التربية الحديثة، وقد تعرض لهما السؤالان الأخيران من أسئلة الامتحان المذكور. وحادث غريب عرض لي ذات يوم في المدرسة خلال هذه المدة أيضاً. مبكراً حضرت إلى المدرسة، على عادتي يوم مسؤولية المراقبة الأسبوعية على عاتقي. كان الطلبة يفدون إلى المدرسة جماعات، وأنا في وسط الساحة أتفقدهم. في هذه الأثناء دخل رجل أعرف انه ذو مسؤولية في بعض دوائر الناحية، وقف في الساحة، وقبل أن يسلم أخذ يصيح ويسأل "أين هو المدير؟ وأين المعلم ..... أريد أعرف ليش يضرب أبني ..... ثم راح يقذف المعلم بكلمات نابية [سمى المعلم باسمه مشفوعا بكلمة فحش. الواقع إني سمعت الكثير عن سمعة هذا المعلم، وقد طرد من المدرسة إذ عثر على أحد المعلمين –عديمي الضمير- يفعل معه القبيح وفصل من المدرسة. وحسب الأصول الديمقراطية إذ ذاك عاد الفاعل والمفعول به للتدريس والدراسة والله غفور رحيم!]. وبدون تأمل، تقدمت إليه، وأمسكت بيده اللتين يرفعهما مهدداً متوعداً، وصحت فيه بعصبية: - المدرسة مؤسسة علمية، وحكومية، وأنت رجل وقور فما هذا التحدي؟ عيب يا رجل. قلت هذا وأنا أهز يديه وقد تملكني غضب شديد. لكن الرجل تريث قليلاً، ثم قال: لو كان أنت الذي ضربته –على راسي- ولكن فلان؟ ... لا، أبداً. وعدت أهدؤه، وقد تجمهر الطلبة من حولنا. علمت بعد هذا من مدير المدرسة كل شيء عن ماضي هذا المعلم. ترى ما ذنبه؟ أهي جناية أبويه، أم هو المجتمع، الذي يجمع بين النقائض؟ يرتكب أفراده الآثام، والموبقات، التي تحرمها الشرائع والتقاليد، لكنه يهمل الجناة، ويسحق الفريسة المجني عليها، لا يغفر الزلة، ويظل يذكرها، ويمعن في ترديدها ومهاجمة المجني عليه. ناولني المدير ملفة يبدو عليها القِدم. هي ملفة تحقيق في قضية خلقية. بين هذا المعلم الذي كان طالباً إذ ذاك، ومعلم وفراش؟! [أعرف عن هذا الجاني هذا الشذوذ، مذ كنت أنا تلميذاً في المدرسة الأميرية الابتدائية، كان يرتدي العمامة السوداء. وقد فصل منها أيضاً لقضية مشابهة. والمعروف إن الوجاهة والشفاعة أيام العهد الملكي كانت سمة بارزة تستطيع أن تقلب الحق باطلاً وبالعكس، وتغطية مثل هذه الزلة أمر عادي. فهناك فضائح وجرائم كبرى ضاعت، وعاش مرتكبوها بخير. وما يدرينا بالمستقبل؟!] وصدر الأمر بفصل الثلاثة، غير إن هذا الطالب أشترك بامتحان خارجي ودخل دار المعلمين الريفية وعين في هذه المدرسة نفسها؟! ما يدريني، ربما سيكون في المستقبل مديراً لها أيضاً!؟ إن المجتمع يأخذ بطرف، ويغض النظر عن طرف آخر، ولا غرابة. هذا شأن كل مجتمع، تكون فيه المصالح متناقضة، ويمثل الحكم فيه الطبقات ذات الملكية الواسعة. على أية حال، أنا لا أعرف الآن عن سلوكه شيئاً، إن كان يستهويه نفس الشذوذ الذي زاوله مع غيره، ولطخ تأريخ حياته. كل ما أراه الآن منه مظهر لائق واهتمام بالواجب. لم أعنِ بالمظاهر التي أعتادها الناس في قضية الزواج، كل شيء كان في غاية البساطة. حاولت أن أدع الأمر في ظل الخفاء، خشية أن أصطدم بغضب الوالد. حتى أخي الوحيد الذي كان يؤيد رأيي كتمت الموعد عنه، ذلك لأنه كان صريحاً في آرائه، وكان قد ترك الوظيفة من أجل الدراسة في كلية الحقوق [هو أخي الشهيد حسين، كان يشغل عام 1937 وظيفة "مدير مكتبة دار المعلمين العالية" في بغداد، وتلميذاً في كلية الحقوق، وأصدر الوزير الشيخ محمد رضا الشبيبي أمراً يقضي بعدم الجمع بين الوظيفة والدوام في الكلية، فترك الوظيفة]، ولو أعلن مناصرته لي، فإن ما أتوقعه من ثورة الوالد عليّ ستشمله بلا شك، ويحرم من مساعدته. وحين ثارت زوبعة العائلة جميعاً ضدي، كان هو "حسين" الوحيد الذي وقف إلى جانبي. كتب إليّ يهنئني ويتمنى لي السعادة والرفاه. وكتب إلى الوالد، ما يلطف خاطره، ويصحح رأيه في هذا المجال. إن اختيار الزوجة حق شرعي للرجل، له خيرها وعليه عواقب فشلها. ثم حَدَث مزعج آخر، إن موقف والد الزوجة، الرجل البسيط المعقد، إن صح التعبير، هو يريد أن أظل بعيداً عن أهلي، أن تستمر القطيعة والجفاء، حفاظاً على استقلال أبنته، وما يتوقع من شر وحرمان لها، إن عادت المياه إلى مجاريها مع أهلي، حين علم إن شيئاً من هذا حدث، جاء كعاصفة كادت تمحو كل ما أسست وبنيت، لكن زوجتي رفضت أن تنصاع لأمر والدها. فأعلن مقاطعته لنا، بينما صار موقفها هذا سبباً في رضا أبي. أعتبره دليلاً على رجاحة عقلها، وسلامة فكرها وطبعها، فأرسل إليها رسالة يطيب خاطرها، ويفتح لها قلبه وبيته، ويبارك حياتنا الجديدة. هذا ما حصل، وانتهى كل شيء إلى خير. بمناسبة العيد، زارنا الجميع، وعم البيتين الفرح والسلام. وانتهت الامتحانات النهائية فتهيأت للسفر إلى عربستان ثانية.
عودة إلى عربستان "الأهواز"؟ ودعت بيتي الجديد، عش الزوجية، الذي لم أستمتع بحلاوته إلا خمسة شهور، عدت أرتدي اليشماغ والعقال والعباءة، ودخلت المحمرة ثانية، لم امكث أكثر من يومين. لفت أحد الشباب العربي نظري، إلى لافتات شركات النفط، وعناوين بعض الدوائر غير موجودة. سألته عن السبب. أجاب: منذ أشهر حدث هذا، لأن أغلبها بلغة عربية، أو إن أكثرها كذلك. وقصدت إحدى المقاهي لأستمتع بسماع بعض الأغاني العربية والعراقية خاصة، لكني لم أسمع إلا أغاني فارسية وأجنبية أخرى، رجوت صاحب المقهى حين قدم لي الشاي، أن أسمع حضيري أو غيره، فتبسم وردّ عليّ بهدوء: "معَزْبي ، ممنوعة بأمر الحكومة؟!" [يستعمل عرب الأهواز هذه الكلمة –معزبي- مع المخاطب. ربما كانت بدلاً من "سيد" وأمثالها] . وقص عليّ مضيفي زاير عبود، إن رجل الدين هنا أقام مأتم الحسين –على العادة- وأثناء صعود الذاكر "المنبر" دخل رجل شرطة، وتوجه نحو المنبر، وأنزل منه الذاكر وصفعه بيده صفعة قوية، ثم سلمه لأفراد الشرطة الذين كانوا معه، ويبدو انه تعمد المرور من جهة صاحب المجلس وداس رجله؟! كان "الزاير" [يطلقون هذه الكلمة على من يزور منهم الأمام علي أو بقية الأئمة الإثنا عشر] يحدثني وهو يكاد يتفجر من الغيظ، ولكنه يعقب: "والله ما يعديها، رسول الله يشوف ويسمع، النوب لذكر أبا عبد الله؟" وفي الناصرية -ناصرية الأهواز-أثناء ما كنت مع مضيفي "الحاج حسن شماسي" بجولة على النهر، ولدى استراحة قصيرة، مرّ بنا حامل لافتة يعلن فيها عن فلم "گل سفيد، لمحمد عبد الوهاب مصري" أي الوردة البيضاء لمحمد عبد الوهاب، طلبت من مضيفي أن نذهب إلى السينما. حين دخلنا السينما وبدأ العرض فوجئنا بفلم إنكليزي، سألنا أحد موظفي السينما، فأجاب: "بُلغنا بمنع عرض الوردة البيضاء!". الحكومة إذن بصدد تفريس عرب الأهواز"الأحواز". وقد بالغ أحدهم فذكر إن المؤذنين في المحمرة منعوا من إعلان الآذان؟ فاتني أن أنتبه إلى هذا. بعد يومين أيضاً أستطاع الحاج حسن أن يدبر لي أمر السفر إلى "خلف آباد". لكن السيارة التي سافرت بها أصابها عطب، بعد أن قطعت مسافة ساعة. حاول السائق ومساعده أن يصلحا العطب فما تمكنا، فلما مرت بنا سيارة حمل عدت بها إلى الناصرية. عند حدود المدينة نقاط خفر شرطة، يستوفون مقابل وصل ضريبة عن الحمولة تناسب البضاعة. قالوا إن هذه الضريبة للبلدية. ثلاثة قرانات عن كل منّ من الشاي أو السكر ["القران" ثمانية فلوس عراقية، أما "ألمن" فيساوي ربع وزنه]. كانت حمولة هذه السيارة أكثر من ثلاثة عشر مَن سكر وشاي. أستطاع السائق وصاحب البضاعة أن يقنع الشرطي ويدس بيده عن جميع الحمولة ثلاثة قرانات وقليلاً من السكر والشاي، وشربنا الشاي أيضاً بدعوة من أولئك الشرطة! دخلنا مدينة الناصرية بعد الثانية عشر ليلاً، كنت أجهل طرقها، كذلك أسماء شوارعها. أما اللغة الفارسية فلا أعرف غير بضع كلمات. أنزلني السائق في شارع واسع جداً، التعب أرهقني، وتملكني صداع شديد، فرحت حين أقبل شرطيان. قلت، إنهما سيساعداني على الوصول إلى بيت الحاج، أخذا يستفسران مني من أكون؟ شرحت لهما الأمر وما أريد بكلمات فارسية شوهاء، وبدلا من المساعدة بعد تفاهم بينهما جذباني بشراسة، فهمت مجملاً ما فكرا به عني، غريب الزي، أمر مريب، يجب أن نأخذه إلى المخفر حتى الصباح للتحقيق عن هويته؟! رفضت محاولتهما، هما يرطنان بالفارسية، وأنا بالعربية، لا يفهمان عني ولا أفهم عنهما، واشتد الأمر وراحا يجذباني من يدي، وأنا أتشدد في الامتناع. وأخيراً بعد أن أنهكا قواي مرّ صدفة سائق سيارة "المستوفي" [إنه شخصية محترمة مهمته استيفاء واردات أملاك الشيخ خزعل أمير المحمرة السجين، وأعتقد انه مسؤول من قبل الحكومة]، وكان يعرفني، فدخل معهما بجدل بينما أشار أليّ أن اركب، واندفعت سيارته بقوة. ولما وصلنا البيت وجدنا أحد الشرطيين قد ركب على مؤخرة السيارة. ولما أطل الحاج من سطح الدار أعتذر له الشرطي وعاد. فاتني أن أتخلص منهما، بل أجعل منهما دليلاً للوصول لو إني قدمت لهما شيئاً كما فعل سائق سيارة الحمولة. وفي صباح اليوم التالي عاودت السفر إلى خلف آباد بسلام.
أغايي شمشير حياتي حيث أقيم في قرية "الشِكَريات" رتيبة، إنها بالنسبة لي سجن وقيود، كل شيء أقوم به، غريب على طبعي وتفكيري. ما أحدثهم به من أحاديث دينية أزن كل كلمة قبل أن أتفوه بها، كيف لا، والمتفهمون منهم قلة، وحتى هؤلاء القلة قد يفهمون ما أقول خطأ، وخطأ محرجاً. فإذا تناقلوه، تمسك به المتربصون من المعممين، ليحتلوا مكان أبي في عشيرته هذه. نقل أحدهم لأبن أحد رجال الدين من النجف بعض ما رآه لدي. قال: "إن ابن الشيخ محمد عنده مرآة، وماكنة حلاقة، وعطر". وإذا بذلك الشاب يصفق يداً بيد، ويحولق ويستغفر، مستغرباً ما سمع، وإن ذلك من عجائب الزمان، وتحول الناس عن جادة الأيمان! عاد نفس الرجل، وقص عليّ عن ذلك الشاب: "إنه يطيل الصلاة، ويكثر من الأدعية!". ولكن هذا لم يفهم ماذا يقول في صلاته، ولا يعرف من تلك الأدعية شيئاً. إلا إنه لم يذكر انه نقل له عني، مشاهداته أيضاً. كان الشاب من معارفنا وأصدقائنا، ولكنه –كما حدثني هو- اندمج تماماً وتقمص شخصية المعمم المنافق المدلس. حدثني بما علق حين نقل له صاحبي عن بعض ما لدي، وسألته عن صلاته الطويلة، وأدعيته المبهمة. فضحك ضحكة طويلة كصلاته، وقال: "صدقني إني كنت أقرأ مرة من أرجوزة ألفية بن مالك ومرة أشعار غزلية، ومرة أغاني شعبية، ما الحيلة إنهم يقدرون هذه الأمور؟ ويقصد الصلاة والأدعية [جرى بيني وبينه هذا الحديث حين عدنا إلى الوطن. ولكن هذا الشاب بعد وفاة عمه سافر إلى مصر للدراسة على نفقته وتخرج مدرساً، ثم أنخرط في قافلة التقدميين فكان عضواً في حزب "الشعب" وأنتدبه الحزب للسفر إلى كاورباغي للتحقيق في حادث الاعتداء على العمال، وكان مخلصاً في وطنيته إنه "موسى الشيخ صادق الشيخ راضي"]. ذات يوم عصراً كان المجلس منعقداً. وحولي الأعراب على بساطتهم، بعضهم يلف سيجارته، وبعضهم بيده المغزل، وأنا أتحدث لهم بأحاديث من التراث، عن الوفاء، والشجاعة الفذة، وعن الأصنام والعبودية أيضاً. في هذه الأثناء تحولت الأنظار عني مصوبة إلى جهة الطريق، قطعت حديثي ووجهت وجهي أيضاً حيث ينظرون. نهض ابن صاحب الديوان وتوجه نحو القادمَين، فارسان، أحدهما شرطي والثاني ذا هيأة محترمة نوعا ما. تقدم الشرطي، فلما دنا من الديوان، نزل عن فرسه، وقف بين الديوان وصاحبه الفارس الثاني الذي كان يمشي مشياً وئيداً، والسيف ذو الغمد المرصع بالفضة مشدود بالحمائل إلى جانبه. وصاح بصوت متحشرج مبحوح: "أغاي شمشير" أي السيد صاحب السيف. هبَ الجميع لاستقبال صاحب السيف، تقدم بعضهم ساعده على النزول من الفرس. كان عبوساً متجهم الوجه. وسار بخطى ثقيلة فهو يتكلف، بمظهره كل أشكال العجرفة، والتحكم، والغطرسة، والعظمة الفارغة. دارت القهوة وقدم الشاي، وبين الشرطي وبعض وجوه الحاضرين يدور تفاهم، بأصوات هادئة، ويثور أحياناً، أما صاحب السيف فواجم، ولكن يهز رأسه حين يدنو منه الشرطي ويهمس له نتيجة التفاهم. حاولت أن أفهم ما يدور، والغرض الذي يدور عنه التفاهم، فلم أفلح، كل شيء يدور همساً، ولم أسمع علناً غير كلمة "أبداً، أبدا و نا، نا" مع هزة رأس الشرطي معها هزة تفصح عن الانزعاج والغضب. وحين علا صوت الحاج رويشد ضربه صاحب السيف بصفحة السيف بقوة، فكظم المسكين ألمه ولاح ذلك على قسمات وجهه. وفجأة نهض الفارسان في حال غضب وانفعال، وقام الأعراب كلهم، ساد الديوان هرج ومرج، كانوا يتحلقون جماعة جماعة، ينفصل اثنان أو ثلاث من هذه الحلقة وينضمون إلى أخرى، الكل يتشاورون ويتحدثون، بينما وجوههم أحاطوا الفارس، يطيبون خاطره تارة، ويشتدون بالكلام معه تارة، إنهم جميعاً لا يجرأون على مناوءته واحتقاره. وغادر إلى القرية مهدداً متوعداً. وأخيراً فهمت كل شيء، إنه موظف دائرة النفوس، هو يساومهم لغرض تقديم قائمة بأسماء أبنائهم لخدمة العلم ممن بلغ السن القانوني لذلك. وعليهم دفع ألف قران عن كل واحد. ولماذا كل هذا التخوف من الخدمة، قلت لهم محتجاً. أجابوا: "إن الخدمة في الجيش عندنا هي الشقاء والجوع كله!" قلت: "هذا يستوجب أكثر أن لا تدفعوا الرشى لأمثال هذا، هذا المبلغ زودوا به أبناءكم خلال مدة الخدمة". قالوا: إن الواحد يتقاضى أجراً قدره تومان واحد (التومان عشر قرانات إيرانية)، منه زيت مصباحه، وصبغ حذائه، وتلميع أزرار بدلته، وكل ما يتعلق بشؤونه كجندي، أما غذاؤه فما يخصص للخيل والبغال أوفر منه. وبالتالي دفعتهم إلى تحرير عريضة شكوى. وبعد مرور عشرين يوماً ابلغ الموقعون بلزوم الحضور إلى مركز اللواء –ناصرية الأحواز- [يسميها العرب في عربستان "أحواز" من الحوزة والحيازة، بينما يسميها الإيرانيون "أهواز" بالهاء للدلالة على أن الاسم فارسي. ولا غرابة فهم يقلبون الحاء هاء وربما سموها "خوزستان"]، جبن بعضهم وخاف، فشجعته وكان الأمر فعلاً بسيطاً جداً. أجريّ معهم تحقيق حول صحة المدعى، وأحضر صاحب السيف مع عدد آخر ليشخصه المدعون فشخصوه بعينه، حضر بعض الأفراد من القرية المجاورة، وأوضحوا ما فعل معهم وما أخذه منهم، وأخذ نتيجة هذا مخفوراً إلى طهران. وحين عادوا قال أحدهم بعد ما قصوا حكاية صاحب السيف همساً في مسمعي: "أخشى أن يشعروا إنك المحرض فيفعلوا معك ما فعلوه مع الوالد!". نظام إيران تحت حكم الشاه رضا بهلوي [هو شاه إيران، أحتل عرش إيران بعد خلعه أحمد شاه القاجاري عام 1925، وأجبره على التنازل عن العرش لأبنه محمد رضا شاه عام 1941 حيث أبعد عن إيران من قبل قيادة الجيش البريطاني الذي أحتل إيران آنذاك كي لا تغزوها جيوش ألمانيا النازية ثم مات في منفاه عام 1944] ديكتاتوري، إصلاحي، إصلاحاته ليست جذرية، وحظ الأحواز منها عديم جداً. كان موعد عودتي قد أقترب، وغيوم تتلبد في أفق السياسة العالمية، فهتلر يهدد ويتوعد، وربما تنفجر حرب ماحقة. عدت إلى موطني وتلقيت البشارة بوليد منتظر.
يتبـــــــــــــــع
ألناشر محمد علي الشبيبي [email protected]
#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
1- معلم في القرية/ 16
-
استفسار واتهام حول القطع الأثرية
-
معلم في القرية/ 14
-
معلم في القرية/ 13
-
معلم في القرية/ 12
-
معلم في القرية/ 11
-
معلم في القرية/ 10
-
معلم في القرية/ 9
-
معلم في القرية/ 8
-
معلم في القرية /7
-
معلم في القرية /6
-
معلم في القرية /5
-
معلم في القرية /4
-
معلم في القرية /3
-
الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟
-
معلم في القرية /2
-
معلم في القرية/1
-
نداء لتشكيل برلمان ظل عراقي
-
وعي المواطن!؟
-
تصحيح بعض المعلومات في مقالة الأستاذ فائز الحيدر (اتحاد الطل
...
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|