أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي الشهابي - الديموقراطية وديموقراطية الحزب الديني -نموذج الإخوان المسلمين-















المزيد.....



الديموقراطية وديموقراطية الحزب الديني -نموذج الإخوان المسلمين-


علي الشهابي

الحوار المتمدن-العدد: 950 - 2004 / 9 / 8 - 10:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كانت الديكتاتورية ومازالت بنية مجتمعنا ككل، لا السلطة والأحزاب السياسية فحسب. ومن هذه البنية ستولد الديموقراطية وتسود. مما يضمر أنه لا وجود عندنا لأي مجموعة ديموقراطية متبلورة، برغم كل الخطابات الديموقراطية. بل ثمة عناصر ديموقراطية آخذة بالتبلور داخل المجتمع، بالتقاطع والتوازي مع الاصطفاف الجديد في علاقات القوى الاجتماعية والسياسية القديمة. لذا لابد لهذه العناصر وهي تتبلور، وحتى تتبلور، من أن تتحدد. وهي لا تتحدد إلا في خضم التفاعل الاجتماعي والسياسي عبر العمل في الإصلاح والصراع مع الديكتاتورية من جهة، وعبر المواجهة النظرية الشاملة مع الأشكال الديكتاتورية التي باتت تتقنع بالديموقراطية من جهة أخرى. إذ لا يعقل أن تصير كل تعبيرات هذه البنية الديكتاتورية ديموقراطية بين عشية وضحاها. فكل المعارضة في سوريا باتت ديموقراطية، والمشهد السياسي فيها باتت خطاباته الديموقراطية أشبه ما تشبه سوق عكاظ. ولهذا بات من الضروري الملح تحديد مفهوم الديموقراطية حتى نفهم علام نتفق عندما نتفق وعلام نختلف عندما نختلف، طالما أن الاسم دالٌّ يدل على مدلول. وعندما تكثر مدلولات الاسم يكف عن كونه داّلاً، وبالتالي يفقد وظيفته. فوظيفة الاسم التوضيح، وبفقدانه وظيفته يصير عنصر تشويش. وحتى لا يظل مفهوم الديموقراطية بهذا التشويش، المقصود أحياناً، لابد من تحديده.
الديموقراطية شكل محددٌ من أشكال التعامل في كافة مستويات البنية الاجتماعية، وبالتالي فهي كمصطلح تعريف لهذا الشكل في تميزه عن غيره. وهي كأي تعريف يتصف بكونه جامعاً ـ مانعاً، يجمع الجنس المقصود ككل ليستثني جنساً آخر من اشتماله فيه. وعلى أساس هذا المفهوم لماهية التعريف، يمكن القول إن الديموقراطية جمع منسجم لتلاحم مكونين أساسيين قائمين في صلبها وترتكز عليهما، وهما:
1ـ الحرية الفردية بما تتضمنه من حرية السلوك في الحياة الاجتماعية، وحرية التفكير والتعبير بالطريقة التي يراها الفرد مناسبة. وهذا لا ينفي، بقدر ما يتضمن، وجود قيود على هذه الحرية، إلا أن هذه القيود ليست سلطوية بل اجتماعية. ومثال ذلك أننا لا نرى أحداً يتجول في دمشق وهو يلبس المايو، لا لمنع السلطة بل لأن العقلية الاجتماعية تنعكس على الأفراد وفيهم بطريقة تجعل هذا السلوك غير وارد.
2ـ خضوع الأقلية للأغلبية في كل ما هو تنفيذي، بما لا يمس تلك الحرية. مما يعني أن الإجراء الذي تقرره الأغلبية سيتنفذ، شاءت الأقلية أم أبت، ولكن ! إن كان تنفيذه لا يتحقق إلا بمشاركة الأقلية، فهو فرض عينٍ ،أما إن كان إنجازه ممكناً دون هذه المشاركة فهو فرض كفاية.
لاشك في أن مجلدات كتبت وتكتب في موضوع الديموقراطية، إلا أن رزينها لا يتعدى جوهره نطاق هذين العنصرين لأن الديموقراطية هي هذا الجمع الخلاّق بين عنصري الرغبة والإكراه في ظل تعدد الخيارات ومحدوديتها بنفس الوقت. هذا الجمع بهذا الشكل هو الابتكار العقلي، الأمثل إلى الآن، لحل التصادم بين رغبة البعض في شيْ ورغبة الآخرين في غيره أو نقيضه. إنه الأمثل إلى الآن لأنه حل وسط بين نقيضين لا يتصالحان إلا فيه، الديكتاتورية والفوضى: الأولى باعتبارها تحقيقاً دائماً لرغبة مجموعة واحدة بعينها من المجتمع، وبالتالي إرغاماً دائماً لنفس الآخرين، والثانية باعتبارها تجسيداً للحرب الدائمة التي ستنجم عن تصادم المجموعات الذي لا ينتهي، طالما أن الرغبات في ظل تغيرات الحياة لا تنتهي.
هذا الحل الوسط يتسم بما يتسم به كل حلٍ وسط، مرضٍ للكل دون أن ينال الكل كل ما يريد. لكن هذا الحل الوسط ليس بلا إشكالات، بل له إشكالاته الكثيرة، ويتم حلها دوماً بالطريقة التي تحل بها المجتمعات الديموقراطية إشكالاتها. وهذه الطريقة هي المثلى لمجرد أنها الوحيدة التي تمكّن من حل هذه الإشكالات بما يضمن استمرار فاعلية الديموقراطية، طالما أن أي طريقة أخرى ستقود حكماً إلى أحد البديلين المذكورين، الديكتاتورية أو الفوضى. ولهذا يمكن القول بثقة إن الديموقراطية لا إشكالات بنيوية فيها طالما أن بنيتها تطرح هذه الإشكالات وبنفس الوقت تتضمن إمكانية حلها ووسائله. مما يعني أنها مرشحة للتعايش مع البشر، أو تعايشهم معها، حتى تنتهي الديكتاتورية لتنتهي بانتهائها، طالما أن النقيض ينتفي بانتفاء نقيضه.
ولكن إذا كانت الديموقراطية بلا إشكالات فعلية لقدرتها على حل إشكالاتها في إطارها، فهذا لا يعني أن كل ما "هبّ ودبّ" مماّ بات
يسمى ديموقراطية مطلق الحصانة إزاء كل الإشكالات في كل المجتمعات. على العكس فهذه الأشكال بقدر ما تكون مزيفة، أي بعيدة عن الديموقراطية بشكلها المحدد أعلاه، بقدر ما تكون عرضة لإشكالات تنقضها، وخصوصاً في مجتمع تابع كمجتمعنا. لا بل إنها تنتقض ببساطة، ولكن لا لهشاشة الديموقراطية بل لديكتاتورية هذا الشكل من الديموقراطية الذي أخذ العقل الديكتاتوري يتبناه ويسوّقه كديموقراطية ليظهر بمظهر الديموقراطي بعدما باتت الديموقراطية متطلباً أساسياً من متطلبات العصر.
وهذا يعني أن هذه الإشكالات إشكالات ديكتاتوريته التي يسميها هو ديموقراطية، ولا علاقة للديموقراطية بها لأنها تأتيها من الخارج، من هذا العقل غير القابل لأن يصير ديموقراطياً إلا بانكسار بنيته. ولأن بنيته لمّا تنكسر، وريثما تنكسر، فإنه سيظل يقاوم: ففي ظل الوضع العالمي الراهن ومداه المنظور، في ظل هذا الهجوم الضاغط لمناخ ضرورة الديموقراطية، يجد هذا العقل نفسه في موقع يستحيل فيه الدفاع عن الديكتاتورية صراحة، لذا فأفضل وسيلة يحافظ فيها على ذاته وتمكنه من مواصلة سعيه لتطبيق ديكتاتوريته هي تسمية نفسه ديموقراطياً، فسمّاها. وهذه ليست نقطة ضعفه الأبرز، بل أبرز نقطة ضعف أظهرها إلى الآن لأنها تدل على محاولته تقمص شكل عدوه، الديموقراطية.
هذا صحيح بلا شك، لكنه جانب ضئيل من الحقيقة. أما جانبها الأكبر فإن هذا العقل أخذ يسمي نفسه ديموقراطياً لركوب موجة الديموقراطية، لاستغلال هذا المناخ الضاغط باتجاه ضرورة تحقيقها ليخدع ديموقراطيي المجتمع، وبنفس الوقت ليمسك بالسلطة من اليد التي تؤلمها. وتحقيقاً لهذه المهمة المزدوجة، أخذ يعيد تفصيل الديموقراطية بمقص الديكتاتورية، فنراه يتجاهل أهم أسس الديموقراطية، الحرية الشخصية، ليطنب في الحديث عن الديموقراطية عموماً. وبالتالي فهو لم يطرح الديموقراطية بهذا التعميم إلا ليخفي عداءه للحرية الشخصية. وبديهي أن محاربة الحرية الشخصية أشد ديكتاتوريةً من ديكتاتورية السلطة التي يتهمها بالديكتاتورية، وهذه الديكتاتورية الأشد هي ديموقراطيته.
من الطبيعي أن يتهم الديموقراطيون السلطة بالديكتاتورية لأنها فعلاً ديكتاتورية،أما أن تتهمها الأحزاب الدينية هذا الاتهام فغريب عجيب. هذه الأحزاب من الطبيعي أن تتهمها بذر الرماد في العيون لشكلية الإسلام فيها طالما أنها لا تجبر الناس على الصلاة ولا تعاقب على عدم الصيام في الشهر الفضيل، وتسمح بالمطاعم التي تقدم الخمور علناً للمسلمين وغير المسلمين، ناهيك عن الكباريهات والبارات والديسكو. كما أنها لا تعاقب على الزنا، لا بل تصدر تراخيص للعاهرات. كل هذه الأمور من الطبيعي أن تدل على تراخي السلطة وليونتها وقلة حزمها وميوعتها في التعامل مع المواطنين. أما كيف يتم التفاعل الكيميائي لهذه العناصر المائعة في حوجلة هذا العقل، لينتج عنها ومنها قسوة السلطة وديكتاتوريتها، فهذا هو الغريب العجيب عند هذه الأحزاب.
من الطبيعي أن تشخّص هذه الأحزاب مشكلة المجتمع السوري بأن السلطة السياسية فيه تسمح للمواطنين بفعل ما يريدون في الوقت الذي يقوم بعضهم بما يتنافي وأصول الدين. وهي ليس فقط لا تحرّك ساكناً، بل تشجّعهم على ذلك بتوفير أجواء الخلاعة والمجون والاستهتار بالمقدّسات. هذا التشخيص صحيح بالمطلق من وجهة نظر هذه الأحزاب، وهو يعني أن المجتمع السوري لا يعاني من الديكتاتورية بل من نقصها. وعلى أساس هذا النقص، وانطلاقاً من بنيتها الدينية المولّدة بالضرورة لضرورة أسلمة المجتمع، يترتب على هذه الأحزاب توجيه إنذار للسلطة السورية مفاده "إما أن تلغي هذه الأجواء وتقمع بلا هوادة المواطنين الذين يخلّون بسلوكهم وآرائهم بتعاليم الإسلام، أو أن تستعد للأسوأ، مواجهة الثورة". هذا الإنذار للسلطة هو الموقف الطبيعي المنسجم وطبيعة هذه الأحزاب، ويجب أن توجهه للسلطة لسببين متكاملين: أولاً لأنها وحدها القادرة على القمع بحكم كونها سلطة، وثانياً لأن السلطة كسلطة هدف هذه الأحزاب.
صحيح أن قابلية هذه السلطة لتحقيق مطلبهم معدومة لانعدام ما يبرر تجاوبها وإسلاميتهم، لكنه ضروري تكتيكياً للتحريض السياسي ضدها طالما أنهم غير قادرين على تعبئة الجماهير في سوريا وتنظيمهم في مجموعات قتالية ضدها. فهذا الإنذار، من حيث المبدأ، يمكّنهم من التعبئة السياسية والحشد التنظيمي مما يقربهم من المعركة الفاصلة معها، لو أن السمة العامة للمجتمع السوري قابلة للتجاوب ومضمونه. لكنها غير قابلة قط، ولأنها غير قابلة قط فإن هذه الأحزاب تتفاداه في سوريا لتطرحه في السعودية.
فمثل هذا الإنذار، الموجه للسلطة وحدها شكلاً، موجه كإنذار نهائي فعلاً لها ولكل من ولد مسلماً في سوريا كي يبدأ بتطبيق الإسلام، وإلاّ سيتطبق عليه حكم الإسلام، والكل يعلم ماهية هذا الحكم. إنذار صادق كهذا يوجهه الحزب الديني الذي لا يكذب، لأن المتدين فعلاً لا يكذب. أما الإخوان المسلمون في سوريا فلا يوجهونه لأحد، على العكس فقد باتوا يقولون إنهم ديموقراطيون، هذا ما يدّعون. ولكن إن تبين أن هذا الادعاء غير صحيح، فهذا يعني إما وإما: إما أنهم غير متدينين لأنهم يكذبون، وإما أنهم متدينون يكذبون لغاية في نفس يعقوب، ولا مجال لحل وسط.
ولأنه لا مجال لحل وسط على الإخوان المسلمين في سوريا الاختيار بين هذا وذاك، إن ثبت كذب ادّعائهم بالديموقراطية، لا بل سأتهاون معهم أكثر:لامناص لهم من هذا الاختيار إن ثبت أنهم لم يتغيروا قط، إن ثبت أنهم مازالوا نفس الديكتاتوريين بلحمهم وشحمهم.
ولأن الأمر بهذه الدقة وفي غاية الأهمية، لابد من معاينة ادّعائهم بالديموقراطية بمنتهى الدقة والاهتمام.
وقبل أن نعاين هذا الادّعاء، وحتى نعاين هذا الادّعاء، لابد من التأكيد على بداهة أن الكلام لا يتقارع بالكلام، بل محكه الواقع لأن الواقع هو الذي سيتطبق فيه الكلام. وبما أن المجتمع السوري هو المجال الفعلي لتطبيق ديموقراطية الإخوان المسلمين المفترضة، فلابد من معاينة حقائق هذا المجتمع لمعرفة كيفية تطبيق ديموقراطيتهم فيه، وسأبدأ بالطائفية.
سأبدأ بهذه الحقيقة التي لا تشكّل مشكلة فعلية في سوريا الحالية، بل ستصير. وهي لن تصير مجرد مشكلة، بل بؤرة المشاكل ونقطة انعقادها وبنفس الوقت استعصاء حلها. علماً بأنها لا يثيرها ويحولها من مجرد حقيقة واقعية إلى مشكلة فعلية إلاّ المنطق الطائفي، منطق الحكم الديني، لأنه المنطق الوحيد الذي يدفع بها بالاتجاه المعاكس لاتجاهها الحالي. وتجسيداً لكيفية تحولها، والأدق تحويلها، إلى مشكلة من هذا القبيل، سأبدأ بسؤال الإخوان المسلمين هذا السؤال البسيط: هل تعتبرون العلوية والإسماعيلية والدروز مسلمين؟ أتمنى أن يجيبوا على هذا السؤال بلسانهم، وريثما يجيبوا سأتابع بأن هناك احتمالان لا ثالث لهما:
أ ـ إن كان الجواب بالنفي فالمهمة المركزية للإخوان المسلمين، بعد وصولهم للسلطة، ستكون إعادة هذه الطوائف إلى الإسلام، إلى
الصراط المستقيم، وهذه المهمة من البديهي أنها لا يمكن أن تتم بالحوار. فحوار الطوائف والأديان ليس من منطقه توحيد الطوائف
والأديان، أو تحويل المتدينين من دين إلى دين، بل إن منطقه هو حقيقته، "ضحك على اللحى". إنه يموّه المشكلة بدل أن يحلها، وبالتالي:
هل سيظل الإخوان المسلمين ديموقراطيين مع هؤلاء المارقين المرتدين عن الإسلام؟
إنّ تخلّي الإخوان عن إعادة هذه الطوائف إلى الصراط المستقيم تخلٍ عن تطبيق الإسلام، وبالتالي فهم ديموقراطيون وليسوا إسلاميين، وإسلامية حزبهم كذب. أما إن تمسكوا بالشريعة وأصروا على تطبيقها، فإنهم سيكفون عن كونهم ديموقراطيين، وبالتالي فادّعاؤهم بالديموقراطية كذب. فأي الحقيقتين حقيقتهم؟ كذب إسلامهم أم كذب ديموقراطيتهم؟ هذا السؤال يحتاج جواباً منهم، فليتفضلوا.
يظل أمامهم احتمال وحيد، وهو الوحيد المعبّر فعلاً عن حقيقتهم. هذا الاحتمال مع أنه لا يخرجهم من دائرة الكذب، إلاّ أنه يمكّنهم من الإصرار على كونهم ديموقراطيين برغم هذه الحرب الطائفية، أو ربما بفضلها. وهذا الاحتمال هو أن يقولوا "إن هذه الحرب الطائفية هي حرب الديموقراطية الإسلامية، ديموقراطية الله، ضد أعداء الإسلام الديكتاتوريين من العلوية والإسماعيلية والدروز". من حقهم أن يقولوا "هذه هي الديموقراطية الإسلامية التي نريد تطبيقها وليكن الطوفان، طالما أنها ديموقراطية الله" ، ولكن بنفس الوقت من حق المواطنين عليهم ألاّ يكذبوا عليهم بالقول "إننا ديموقراطيون". فهذه الديموقراطية الإسلامية لا علاقة لها بالديموقراطية، بل هي إمعان في الكذب: إنها ديكتاتورية يسمونها زوراً وبهتاناً ديموقراطية.
واضح أن هذا الموقف ليس دفاعاً عن استمرار الطوائف أو تأبيدها، ناهيك عن الطائفية، بل وقوف في الخندق المضاد للطائفية والحرب
الأهلية، وبنفس الوقت دفاع عن حق المتدين في سوريا بعبادة ربه بالطريقة التي تحلو له، طالما أنه ربه وليس رب الإخوان المسلمين. ولأن هذه الديموقراطية الإسلامية هي ديموقراطية الإخوان المسلمين، فإنني أسأل ديموقراطيي سوريا: هل هذه هي الديموقراطية التي تنشدونها لسوريا أو التي على أساسها بات بعضكم يسمّي الإخوان المسلمين ديموقراطيين؟ هذا السؤال يتطلب جواباً ممن بات يسميهم وفاعليةً ديموقراطية ممن ظل لا يسميهم، طالما أن سوريا لن تظل على حالها، بل ستصير إما ديموقراطية الديموقراطيين أو ديموقراطية الإخوان المسلمين.
ب ـ أما إن أجاب الإخوان المسلمون بالإيجاب واعترفوا بهذه الطوائف كمسلمين، وقبل أن أبارك لأفراد هذه الطوائف بنجاحهم في امتحان قبول الإسلام أسأل: ماذا يترتب عليهم باعتبارهم مسلمين في ظل حكم الإخوان المسلمين؟ هل سيرغمهم الإخوان على القيام بكل الفروض التي سيرغمون السنة على القيام بها؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن تكف هذه الطوائف عن كونها طوائف دروز وعلوية وإسماعيلية لها مذاهبها الإسلامية المختلفة عن مذهب السنة، مما يقود أيضاً إلى الحرب الطائفية لأن المتدينين من أفراد هذه الطوائف ليسوا متدينين إلا لاقتناعهم بإسلامية مذهبهم بالشكل الذي هو فيه، لا بالشكل الذي يرى فيه الإخوان الإسلام. ولو لم يكونوا مقتنعين به
عليهم بالاعتراف بهم كمسلمين أولاً ليطالبوهم من ثم بإقامة الفروض بطريقة السنة. فهذا ليس اعترافاً بإسلامية طوائفهم، بل شرك ينصبه الإخوان لهم ليسننوهم. أما غير المتدينين منهم، فهم غير متدينين لأنهم لا قناعة لهم حتى بدينهم، فكيف سيقتنعون بدين غيرهم؟!
إذن لا متدينو هذه الطوائف ولا غير متدينيها سيطبقون إسلام السنة، فماذا ستفعل سلطة الإخوان؟ إن أصرت على الديموقراطية وتركت
لهم الحرية ناقضت إسلامها، وإن أجبرتهم ناقضت الديموقراطية، فأيهما ستنقض؟ بديهي أنها ستنقض الديموقراطية، ولكن إن أصر أحد على أن الإخوان سيتمسكون بالديموقراطية، فمنطق إصراره يعني أن حزب الإخوان لا إسلامي ولا يأبه بالإسلام، بل كل همه استغلال المتدينين السنة ليصوتوا له عندما تضطر السلطة لاتخاذ قرار بإجراء انتخابات ديموقراطية.
إذن فديكتاتورية الإخوان المسلمين، التي ستسمح لأهل الذمة المتدينين بحرية ممارسة طقوسهم، لن تسمح بمثل هذه الحرية للمتدينين المسلمين من غير السنة، وهذا ألطف قمع ممكن. ولو توقف الأمر عند هذا الحد لهانت المشكلة لأننا عشنا حياتنا ممنوعين من ألف حرية وحرية، ولم تخرب الدنيا. لكن المشكلة أنه لن يتوقف، وستبدأ الحرب الطائفية عندما تشرع سلطة الإخوان بإجبارهم على ممارسة الدين بطريقة أهل السنة. وهي ستشرع، لأنها مالم تشرع لن تكون سلطة إسلامية لأن السلطة الإسلامية التي لا تطبق الشريعة الإسلامية ليست إسلامية. لماذا؟ لأن إسلام الحزب الديني ليس بالقلب بل بالفعل، وهذا الفعل هو ضرورة تسيير المجتمع بحسب مقتضيات الشريعة، وإلا ما الداعي أصلاً لتشكيل حزب للإسلام إن لم تقم سلطته بتطبيق شريعة الإسلام؟!
فالحرب الطائفية كامنة في صلب ديموقراطية الإخوان المسلمين، لكنها لا تستغرقها لأن هناك حرباً أخرى أكثر شراسة تقبع في صلبها وتستعر فيها: إنها الحرب على الديموقراطية نفسها، وقبلها ومعها وعبرها على الديموقراطيين، عبر محاربتهم للحرية الفردية وحرية الرأي والتفكير والتعبير.
مما لا شك فيه أن منطق التنديد بديكتاتورية السلطة يضمر أن المجتمع السوري يعاني من ضيق مساحة الحرية لجهة توسيعها، ولولا هذا لما تم التنديد. على هذا الأساس، كل من سيوسع نطاق الحرية الحالي ديموقراطي وكل من سيضيّقه ديكتاتوري، هذه بداهة. ولا أعتقد أن هناك ما هو أكثر بداهة من هذه البداهة التي سأعاين ديموقراطية الإخوان المسلمين على أساسها، وسأبدأ بالأمور الاجتماعية لأنه ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان.
في سوريا الآن مدىً من الحرية الشخصية يتيح للمواطنين فعل ما يريدون في نطاق أمور حياتهم اليومية. فالتي تريد أن تتجلبب تتجلبب، والتي تريد أن تلبس بنطالاً أو فستاناً، طويلاً أو قصيراً، تلبس. ومن تريد ممارسة الرياضة في الهواء الطلق تمارسها. ومن يريد أن يذهب وحده، أو مع عائلته، إلى مطعم يقدم المشروبات الروحية يذهب، ومن يريد الذهاب إلى مطعم يقدم غيرها من المشروبات يذهب. وكذا الأمر فيما يخص الاستجمام، مسابح ومنتجعات وشاليهات، من يريد الاختلاط يمكنه ويمكنه من لا يريد. والمواطنون يحتفلون كما يحلو لهم بالمناسبات الدينية وغير الدينية، كرأس السنة وعيد الحب بالنسبة للشباب. وكذا الأمر فيما يتعلق بالحريات الدينية، من يريد عبادة ربه يعبده بالطريقة التي يريد، ومن لا يريد أن يعبده لا يعبده، والسلطة لا تحاسبه لأنها ليست ربه، بل تتركه لربه ليحاسبه في الحياة الدنيا أو الآخرة كما يريد.
هذا المقدار من الحرية الفردية المتاح على الصعيد الاجتماعي، هل سيحافظ عليه ـ لا أقول سيوسعه ـ حكم الإخوان؟ إن حافظوا عليه
كانت ديموقراطيتهم في هذا المجال كديموقراطية السلطة، وإن ضيّقوه كانت ديكتاتورية السلطة أكثر ديموقراطية من ديموقراطيتهم. فهل
سيوسّعونه أم يضيّقونه؟
لن يجرؤ أحد في كل سوريا على القول "إنهم سيحافظون عليه، ناهيك عن توسيعه" لأن الكل يعلم أنهم لن يسمحوا بمثل هذه الحريات، فهذه ليست حريات أصلاً في شرعهم، بل خلاعة ومجون، والإسلام ليس ديناً للخلاعة والمجون. وهي ليست من قيمنا أو ثقافتنا العربية الإسلامية، بل تصدير غربي لبلادنا كجزء من خطته لإفساد المسلمين من الداخل، ولو لم يجد عندنا هؤلاء المنحلين لما نجحت خطته، ولما وصلت الأمة إلى هذه الحال. فالكل يعلم أنهم سيلغون هذه الحريات، سيسوقون الناس إلى المساجد ويفرضون الجلباب على النساء في كل المناطق التي يسيطرون عليها. ولأنهم يعتبرون السنة مطوبين لهم في دائرة الطابو، أما باقي الطوائف فمتنازع عليها، فإنهم سيتصرفون معهم وفيهم تصرف المالك بملكه، سيتعاملون معهم في مناطقهم على الأقل بطريقة السلطة السعودية: تدخل بيوت المسيحيين في أعياد الميلاد ورأس السنة وغيرها من المناسبات لتفتيش الهويات، للتأكد من عدم وجود مسلمين ومسلمات يرقصون معهم ويشربون الخمر. لا بل إنهم في سوريا سيدخلون كل بيت تأتيهم معلومات أنه تسهر فيه العائلات، ليتحققوا من مدى مطابقة هذه السهرات لقيم الإسلام.
أما على صعيد حرية التفكير والاعتقاد، فمن البديهي أن تتجلى هذه الحرية من خلال حرية التعبير. وإذا كان المواطن لا يمتلك حريته في السلوك الاجتماعي بما يخالف رؤيتهم للدين، فكيف سيكون حراً في الفروض، في أن يصلي ويصوم أم لا؟! وإن لم يكن حراً باختيار ممارسة هذه الطقوس، فكيف سيكون حراً في التعبير عن رأيه بما يخالف الدين؟ فمالم يصلّ ويصم فهو كافر، والكافر لابد أن يتحاكم. وإن صلى وصام كي لا يتحاكم، صار مسلماً، والمسلم لا يجوز أن يفكر ـ فكيف يتكلم ـ بما يخالف الإسلام. وبالتالي إن عبر عن رأيه بما يخالف الإسلام أو رؤيتهم للإسلام، صار واضحاً أنه ليس مسلماً بل كافراَ يتقنع بالإسلام. وإلاّ سيتساءلون باستنكار، واستنكارهم في مكانه، كيف يصلي ويصوم ويعبد ربه ظاهراً بما يتوافق مع الإسلام وبنفس الوقت يتحدث ويكتب بما يخالف الإسلام؟! هذا التناقض يعني أنه يظهر غير ما يبطن، وبالتالي فهو كافر في هيئة مسلم، لذا إما أن يتوب أو ينطبق عليه ما على الكافر.
فالإخوان المسلمون لا يمكن أن يسمحوا بحرية التفكير إن استطاعوا، فكيف بالتعبير؟! إن أقصى ما تسمح به سلطتهم هو حرية الرأي السياسي، بشرط ألا ترى فيه ما يؤدي إلى خدمة أعداء الإسلام. فبعد خمسة وعشرين عاماً من الحرية الإسلامية على صعيدي التفكير والتعبير في إيران، صادقت المحكمة العليا منذ شهرين على إعدام المفكر هاشم آغاجاري بتهمة الإساءة للإسلام. وبعدها تفضل السيد المرشد الأعلى وطالبها بإعادة النظر في قرارها.فهنيئاً للسيد آغاجاري كرم أخلاق المرشد الأعلى، كريم الأخلاق فعلاً بهذا الموقف. أما شحيحها فعلاً، هذا إن كان عنده مثقال ذرة منها، فهو هذه السلطة الدينية التي تحاكم كاتباً لمجرد أنه كتب. فكيف أخلاقها وهي تحكمه أولاً وتصر على صحة حكمها بالمصادقة عليه ثانياً؟! وأستطرد لأقول إنها قد تعيد النظر لتحكمه على الأرجح مؤبداً.
ثارت ثائرة الكتّاب والصحفيين عندنا في سوريا وهم ينددون برواية سلمان رشدي “آيات شيطانية “، فقام الدكتور صادق جلال العظم
بالتعبير عن رأي مخالف في سلسلة مقالات كتبها دفاعاً عن حرية سلمان رشدي وحقه بكتابة ما يريد. وبنفس الوقت عبّر عن إعجابه
الشديد بهذه الرواية. أين المشكلة؟ هل خربت الدنيا لأنه كتب ما كتب، ولو لم يكتب لكانت عامرة؟! هذا المناخ الذي تختلف فيه رؤية الناس وسلوكها ومواقفها مناخ البشر، أما مناخ القطيع فأن يسلك كله نفس السلوك، وسلطة الإخوان ستلغي حكماً مناخ البشر، فهل ستسمح لأحد بكتابة ما كتب أم ستعدمه إن كتب؟
إذا كان حكم الإخوان سيضيّق نطاق الحريات الحالي في سوريا، وهو سيضيقه، فكيف يجرؤ حزبهم على اتهام السلطة بالديكتاتورية، بله التنديد بديكتاتوريتها؟! هذا الموقف الغريب للإخوان أخرج المسيح عن طوره، فصاح غاضباً بوجه حزبهم "كيف ترى القشة في عين أخيك، ولا ترى العود الذي في عينك؟!". وإذا كان الإخوان غافلين عن العود الذي في عينهم، فهذا مفهوم باعتباره شائع، أما كيف بات بعض الديموقراطيين غافلين عنه، فهذا غير مفهوم. ولكن ..هل كلاهما غافل؟
لا علاقة للغفلة قط في هذا الموضوع، بل كلاهما يدّعيها لأسبابه. فالإخوان لهم أسباب وجيهة باصطناعها والأحزاب الديموقراطية لها أسباب قد تكون أوجه، وسأبدأ بالإخوان:
سبق وقلت إن ما ينسجم وطبيعتهم بالمطلق هو توجيه إنذار نهائي للسلطة شكلاً، وللمجتمع ككل فعلاً، لكنهم لا يوجهونه. وهذا ليس مردّه جهلهم بفن السياسة، بل لأنهم سيكشفون به عن وجههم الحقيقي. والغالبية العظمى من المجتمع السوري سترفض هذا الوجه، وبالتالي ستقف ضدهم ليستفيد من هذا الموقف أعداؤهم، السلطة والديموقراطيون. وبالتالي فهذا الإنذار، كتكتيك مباشر وصريح وواضح، خاطئ بالمطلق لأنه يوحد أعداءهم ضدهم. أما بادعاء الديموقراطية فإنهم يوسّعون الشرخ القائم في صفوف أعدائهم. فالإخوان ضد الطرفين، ولا يستطيعون مواجهتهما معاً، وليس من مصلحتهم مواجهتهما معاً أصلاً. وبنفس الوقت فهم أعجز من مواجهة الديموقراطيين وفرض معاييرهم على المجتمع ككل في ظل وجود السلطة. لذا فأفضل وسيلة لتحقيق هدفهم هي تأجيل الصراع مع الديموقراطيين باعتبارهم العدو الثانوي الآن والاستفادة منهم في الصراع ضد العدو الرئيسي، السلطة. وبعد الوصول للسلطة يصير الديموقراطيون أعداءهم الرئيسيين، والقضاء عليهم في منتهى السهولة، وخصوصاً بعدما يتسلح الإخوان بسلطة الدولة. هذا هو تكتيكهم الذي يمكن تكثيفه بعبارة واحدة "إنهم ديموقراطيون لمرة واحدة "، حتى يصلوا إلى السلطة، ليقوموا بعدها بالعمل على تحقيق مشروعهم
الذي لا يتحقق إلا على جثة الديموقراطية والديموقراطيين.
هذا الإخفاء للوجه الحقيقي بارتداء القناع الديموقراطي سبق وسميته باسمه الحقيقي، الكذب. لكنّ الإخوان يرفضون هذه التسمية حتى بينهم وبين أنفسهم، وليس فقط أمام الملأ. لا بل يسخرون من سذاجتها لعلمهم أن المسلم الحقيقي كأي عاقل، والعاقل ليست مهمته كشف خططه لأعدائه لأنه صادق، فهذه سذاجة وليست صدقاً.
إن هذا الذي أسميه كذباً يسمونه مكراً، والمكر واجب مع الأعداء، حتى أن الله نفسه ليس ماكراً فقط، بل خير الماكرين “ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين “، سورة الأنفال. ولأن الإخوان يعتبرون كل من لا يطبق الشريعة الإسلامية في سوريا، باستثناء أهل الذمة، إما عدواً لهم أو ضالاً لابد من " توفير" أجواء إسلامية تساعده على الهداية، أي منع كل الأجواء غير المتناسبة ومفهومهم للدين، لذا يتعاملون معهما بمكر. وبما أن الغالبية العظمى من المجتمع السوري لا تطبق الشريعة الإسلامية بالشكل الذي يفهمها به الإخوان، لذا فإنهم يتعاملون معها بمكر. لا بل إنهم يعتبرون أنفسهم كلما كانوا أكثر مكراً في التعامل معها كلما كانوا أصدق إسلاماً، لأنهم بهذا المكر إنما يتقربون من الله عبر محاولة التشبه بإحدى صفاته، المكر.
هذه هي أسباب الإخوان، أما أسباب الأحزاب السياسية الديموقراطية في التعامي عن حقيقة ديكتاتورية الإخوان وسعيها لتسويقهم كديموقراطيين فقد تكون أوجه. فهذه الأحزاب كلها أصولها إما شيوعية أو اشتراكية قومية. وقد أسقطت الحياة هذه البرامج، وبإسقاطها لها من البديهي أن تسقط معها هذه الأحزاب لأن علاقة الأحزاب ببرامجها علاقة حامل ـ محمول، كلٌ منهما حامل للآخر ومحمول به، وسقوط أحدهما سقوطٌ للآخر.
ولكن في السياسة، كما في الحياة، لا يمكن أن تتزامن الوفاة مع شهادة الوفاة ومراسم التشييع، بل لابد من فاصل بينهما. ونحن نعيش الآن هذا الفاصل، وفي هذا الفاصل نرى مفارقة: بدل أن تقوم كوادر هذه الأحزاب بتغسيلها وتكفينها استعداداً لدفنها، إكراماً لهذه الأحزاب وتكريماً لتاريخها، نراها تسخر منها بمحاولة إيقافها على أقدامها كأن شيئاً لم يكن. هذا أحد جوانب المفارقة، أما الجانب الآخر الذي يبدو أنها لن تكتمل إلا فيه، فهو ربط مؤسسي هذه الأحزاب لمصيرهم بهذه الأحزاب. فهم لن يعلنوا وفاة أحزابهم قط، وبالتالي لن تندفن هذه الأحزاب رسمياً إلا مع مؤسسيها. لكن الميت ميتٌ سواء دفن أم لا، وهذه الأحزاب ميتة لأنها ليس من منطقها أن تستوقف الشباب، ناهيك عن استقطابهم.
في ظل هذه الحال تشعر قيادتها بضآلة تأثيرها ونفوذها في المجتمع، وخصوصاً أنها مدركة لعجزها عن تفعيل أحزابها طالما أن بوصلتها تعطلت وما عادت تشير إلى أي اتجاه في هذا العالم الجديد، إذ لا الشيوعية تنفع في استقطاب المجتمع ولا القومية ولا محاربة إسرائيل وأمريكا. وبنفس الوقت فهي ترى أن الحياة لم تسقط الإخوان المسلمين كما أسقطتها، على العكس فقد بدت الحياة كما لو أنها بإسقاطها لها عززتهم، عبر تعزيز النفس الديني في المجتمع. ولهذا، لشعورها بضعفها وبقوة الإخوان، فإنها تسمي الإخوان ديموقراطيين حتى تضخّم المعارضة الديموقراطية إعلامياً في مواجهة السلطة، إذ لا يعقل أن يكون تاريخ السلطة بكل هذه الديكتاتورية والديموقراطيون بهذا الهزال.
إن هذا الذي تراه هذه الأحزاب لامعقولاً هو المعقول الوحيد لأنه واقعيٌ، طالما أن مجتمعنا ما كان يمكن أن تتولد فيه أي حركة ديموقراطية في ظل الحرب الباردة، كما سبق وأوضحت في غير مكان. فهزال الديموقراطيين في مجتمعنا هو المعقول، وقوّتهم هي اللامعقول لأن الديموقراطية مازالت غضة في مجتمعنا، لم تنبت فيه إلا منذ أمد قصير. هذه الحقيقة تخدم الديموقراطية لأنها في الوقت الذي تؤشر فيه إلى جسامة مهمات الديموقراطيين، تدل على ضرورة فاعليتهم طالما أن الديموقراطية، كغيرها، لا تقوى إلا بالعمل. وطالما أنه لا يجبر السلطة على التنازل أمام الديموقراطيين إلا قوتهم. أما تزييف الحقيقة بالقول إن كل المجتمع ديموقراطي إلا السلطة، فهذا عدا عن خطئه المنطقي، لأنه يعني أن السلطة معلّقة في الهواء، إنما يضر بقضية الديموقراطية لأنه يعني أن الديموقراطية راسخة
والديموقراطيين أقوياء، والمشكلة بالتالي ليست بقلة عملهم.
أما السبب الثاني فهو أن تبنّي هذه الأحزاب للديموقراطية جاء ردة فعل على ماضيها الديكتاتوري أكثر من كونه خياراً مدروساً. ومن طبيعة ردة الفعل أنها من جنس الفعل، فبعدما كانت هذه الأحزاب تستخف بالديموقراطية صارت تبالغ فيها. والمضحك أنها سرعان ما صارت تعلّم الناس أصول الديموقراطية. وأعتقد أن هذا لا يتفسر إلا برفضها التخلي عن دورها الطليعي في تثقيف الجماهير وقيادتها على طريق الحتمية التاريخية، حتمية الديموقراطية. هذا جانب من الحقيقة، أما جانبها المكمّل فإنها صارت تبالغ في حديثها عن الديموقراطية، لا في ديموقراطيتها، تكفيراً عن ماضيها الديكتاتوري.
ليس هناك ما يدعوها لهذا التكفير لأن هذه الأحزاب لم تخطئ، بل تلك كانت طبيعة مرحلتها. وإن كان لابد من الإصرار على خطئها، فإنه كخطأ كل العلماء الذين سبقوا نيوتن لعدم اكتشافهم قانون الجاذبية قبله. هذه الأحزاب وأشلاءها، جرّاء شعورهم بالذنب، صاروا يلتمسون الأعذار لديكتاتورية الإخوان المسلمين. صاروا يطرحون الأمور بالطريقة التالية: ألم نكن نحن الشيوعيين ديكتاتوريين في المعسكر السوفييتي؟! ألم نكن نحن القوميين ديكتاتوريين في مصر وسوريا والعراق؟! وكذا حال الإخوان المسلمين. نحن تغيرنا وهم تغيروا، أين الغريب في الموضوع؟! كيف نعطي لأنفسنا حق التغير بالاتجاه الديموقراطي ونحرم غيرنا منه؟!
هذا صحيح بالمطلق إن تغيرت هذه الأحزاب وتغير حزب الإخوان. هذه الأحزاب تغيرت فعلاً، أما حزب الإخوان فلم يتغير قط. هذه الأحزاب انتقلت من الديكتاتورية إلى الهلامية، وتظنها ديموقراطية: إنها تعتقد أن الديكتاتوري صلب، وبالتالي فالديموقراطي مائع، بلا لون أو طعم أو رائحة. الديكتاتوري صلب من الخارج، ووجهه الآخر هلامي. أما الديموقراطي فنقيضهما، مرن في التعامل مع الأمور وصارم في تحديد المفاهيم وفي التعامل معها. وهلامية هذه الأحزاب تتجلى بميوعة مفهومها للديموقراطية. ومع هذا، فهذا تغير عند هذه الأحزاب وفيها. أما حزب الإخوان فما الذي تغيّر فيه؟ هل كف عن كونه حزباً يعمل من أجل تطبيق الإسلام؟! لم يتغير فيه أي شئ سوى أنه كان يقاتل ضد السلطة العلوية وصار يمكر الآن بالقول إنه ديموقراطي ومستعد لتبادل السلطة بعد وصوله المفترض.
أي سلطة هذه التي سيتبادلها ومع من وفي أي مناخ؟ ألا تحتاج الانتخابات مجتمعاً مستقراً تجري فيه ليكون المواطن حراً بانتخاب من
يريد؟ هل ستسمح سلطته بوجود أحزاب غير دينية؟ إذا كان إعلان عدم التدين غير مسموح للفرد الواحد، فكيف سيسمح بوجود حزب غير متدين ينافسه في الانتخابات؟! فحتى يكون صادقاً باستعداده لتبادل السلطة، عليه توفير مقدمات هذا التبادل ومستلزماته، عليه أن يعلن أنه لن يجبر أحداً على تطبيق إسلامه سواء ولد مسلماً أو غير مسلم. فهل أعلن حزب الإخوان هذا الإعلان حتى تقولوا إنه تغيّر؟ إن حزب الإخوان لم ولن يعلن هذا الإعلان لأنه بهذا الإعلان يكف عن كونه حزباً للإسلام.
الفرق بين هذه الأحزاب وحزب الإخوان أنها كانت تنظر إلى المجتمع من منظور دنيوي، وتبينت نظرتها خاطئة، لذا يمكن تغيير هذه
النظرة بنظرة دنيوية أخرى، وليس في هذا أدنى تناقض. أما حزب الإخوان، لأنه يعتبر نفسه وسيلة الله في تطبيق دينه على الأرض، فلا يمكن أن يتغير إلا إذا وسّع حدود الدين لتتوافق ورغبات البشر. هذا ما يفعله المتدينون العاديون بدرجات مختلفة، أما الحزب الديني فلا يمكنه إلا أن يحصر البشر ضمن الحدود الضيقة لمفهومه للدين، ولولا شعوره بضرورة هذا الحصر لما تشكل كحزب ديني. ولهذا فالحزب الديني لا يتغير إلا ببطء شديد، أما الأفراد فيتغيرون ببساطة. لكن الأفراد ليسوا موضوع هذا النقاش.
يتبع "الديموقراطية وأيديولوجيا الديموقراطية دمشق 4 تموز 2004



#علي_الشهابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جرأة التفكير وديبلوماسية المفكر
- سوريا إلى أين ورقة عمل-القسم الثاني
- الأصلاح في سوريا


المزيد.....




- ثبت تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات وعرب سات
- تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 Toyor Aljanah نايل سات وعرب ...
- اللواء باقري: القوة البحرية هي المحرك الأساس للوحدة بين ايرا ...
- الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
- المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
- أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال ...
- كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة ...
- قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ ...
- قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان ...
- قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي الشهابي - الديموقراطية وديموقراطية الحزب الديني -نموذج الإخوان المسلمين-