كاتب عراقي مقيم في الدانمارك
إن الأخطاء الجسيمة ، على صعيد الفكر والتطبيق ، أدت الى تخلف مزمن في كل
الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد السوفيتي. ولذا كانت
ديمقراطية ( الجلاسنوست) ، اي الكلام بصوت عالٍ وصريح ، لممارسة (
البيروسترويكا ) ، أي مرحلة البناء .
والتكلم بصوت عال قد طال بالفعل كل شيء حتى التاريخ ومنعطفاته المليئة
بالمآسي.وأنتقدت الوقائع والأحداث المريبة منذ قيام الثورة البلشفية،حيث
مقتل
القيصر(نقولا الثاني)وزوجته وبناته الأربعة وولي عهده بعد خلعه في تموز
1917
ونقله الى بلدة ( اكاترينبورغ) شرق جبال الأورال ، وقتله بعد اجتماع رجال
الحزب الشيوعي الذين قرروا قتل الأسرة المالكة السابقة في ليلة 16 تموز
1918 ،
ولذلك أوقظ القيصر وأ سرته وأخذوا الى سرداب الدار التي أعتقلوا فيها
وأطلقت
عليهم النار فسقطوا أمواتاً ونقلت جثثهم بعد ايام الى ظاهر المدينة فسكب
عليها
النفط وأحرقت.
نعم لقد انتقدت كل هذه الوقائع بتفاصيلها ... مروراً بمجازر
ستالين...وروؤساء
الكرملين الآخرين. ولم تنجو العقائد من(الجلاسنوست)،ونسفت(الحتمية
التأريخية )
التي تبدأ بسيطرة الإقطاع كشيء حتمي وطبيعي ثم تظهر(البروليتاريا)كقوة
حراك
إجتماعي عبر(صراع طبقي) يتصادم فيه رأس المال والعمل على ادوات الإنتاج !!
والتي عبر عنها(ماركس) بأنها : شئ طبيعي لازم للمجتمع الإقطاعي عند تحوله
الى
الشيوعية العالمية !!.
وإيمان(ماركس)بالحتمية التأريخية نابع من إهتمامه بظاهرة تحول المجتمع
الأوروبي
من(إقطاعي الى
رأسمالي)؛حيث لم يستطع(ماركس)الا تلمس(العوامل الداخلية المنظورة) اما
العوامل
الأخرى، والتي هي بلا شك الأساس الطبيعي لهذه النقلة العلمية في اوروبا ،
فقد
أغفل عنها بتعمد.
ولذا كان الخطأ كبيراً وجسيماً عندما ركنت (العوامل الأساسية المسببة
للتطور
التكنلوجي في اوروبا) ، والتي أسماها الأستاذ منير شفيق في كتابه(الإسلام
في
معركة الحضارة) : (بالعوامل الخارجية ... التي ادت الى ان تتطور وسائل
الإنتاج
في اوروبا، فلولا التوسع الأوروبي الخارجي وسيطرته على ثروات الشعوب وإ
ستغلال
مقدرات 80 في المائة من موارد العالم لما إنتقل من
مرحلة الإقطاع الى مرحلة الرأ سمالية ) .
وهكذا فإن(ماركس) قد أخطأ خطأً فاحشاً عندما عمم ( قانون السببية ) على
الظواهر
الإجتماعية المتناقضة والتي آمن بتطورها الى حالة جديدة وهي
(البروليتاريا) .
في حين ان هناك قوانين علمية أخرى لم يفهمها( ماركس) لها تأثير اكبر، لذلك
فإن
الإتجاه الحديث في (علم الإجتماع) يدعو الى دراسة ( الظواهر والأحداث )
بكل
تفاصيلها وملابساتها الحقيقية للوصول الى أ سبابها الواقعية.
على صعيد آخر فإن بعض المهتمين(بعلم الإجتماع) دعوا الى ضرورة إعادة كتابة
كثير
من نظريات ومبادئ هذا العلم،والبحث عن قوى حراك جديدة للمجتمع بديلة عن
العمال
و(ديكتاتورية البروليتاريا) المزعومة .فالعمال بلا شك قوة كبيرة لكنها
ليست
الوحيدة في العمل السياسي والتغيير المطلوب، لأن هناك شرائح عديدة
،وقوىاجتماعية لايستهان بها في التحرك الثوري الصحيح،ومثقفون وشباب ساهموا
في
صنع أحداث تأريخية هامة.
بلحاظ ان الاتحاد السوفيتي اصطدم بهذه الحقيقة عند تطبيقه(للفكر
الماركسي)بشأن(صراع الطبقات). ولم يجد أمامه إلا طريقة خرافية للتخلص من
هذا(المأزق الفكري)،وذلك بتحويل المجتمع الى(عمالي نظرياً) ،
فالفلاح،والمخترع،والمثقف يعتبرون عمالاً حكوميين يعطون بقدر ما ينتجون .
وهذا
بالتأكيد قفز على الواقع ، وتزوير للحقائق والقوانين الطبيعية ، لأن
المجتمع
كتلة حية تساهم فيها شرائح بشرية متباينة الثقافات للوصول الى افضل
النتائج في
عملية البناء وصنع الحضارة والتقدم.
من هذه الزاوية بالذات كتب(لينين) كتابه (ماالعمل...؟) ليجيب من خلاله على
تناقضات مخيفة ظهرت في (الفكر الماركسي)،وليوفق قليلاً بين النتائج
ومقدماتها،وبين النظرية والتطبيق بشكل مؤقت وآني. ولاننسى في هذا المجال
(فريدريك أنجلس)الذي وصف(برنامج البيان الشيوعي) : ( بالشائخ ) بعد مضي
خمسة
عشر سنة على كتابته لأنه أحس بأن هناك خطأ ما في الفكر، أدت إفرازاته الى
عدم إ
شباع حاجات أساسية في المجتمع ، تلك الحاجات التي ظلت تتدهور في الاتحاد
السوفيتي وساهمت في زيادة الامتعاض في نفوس الناس بشكل خطير،حيث انفجرت
الأوضاع
أول مرة بشكل (ثورة فلاحين)أدت الى سحقهم بقسوة من قبل(ستالين)،الذي يرى
بأن
النظرية الماركسية يجب فرضها بالقوة وبأي ثمن لتسود دكتاتورية العمال دون
إعتبار لوجهات نظر الرأي الآخر المعارض. وبسحق الفلاحين لم تمت إختلاجات
النفوس
المحرومة،وتطلعها لظروف أكثر واقعية وأكثر إهتماماً بمشاعر الإنسان
ومتطلباته
الأساسية .
وهكذا فإن التغيير السريع في البنى السياسية والإقتصادية التحتية الاتحاد
السوفيتي أخيراً لم يكن آنياً ولا عفوياً ، بل تفاعلت عوامل تاريخية
ونفسية
كثيرة في إحداثه ، حيث سفّهت أفكار ومبادئ ومعالم هامة ،كانت تعتبر الى حد
قريب
تقاليد وتراث مقدس لايمكن مسها عبر عقود طويلة.