|
اليوم الكئيب الذي يفلت من السنوات الاربعين
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 3146 - 2010 / 10 / 6 - 15:05
المحور:
سيرة ذاتية
كنت اعتقد ان هذا الصباح سيكون عاديا ، شنطة المدرسة جاهزة والملابس مكوية والحذاء يلمع ، هذا هو الطقس المدرسي اليومي ، ووالدتي تعتبر هذا التجهيز والاستعداد ليس طقساً امومياً فقط ، بل جزءاً من الانتصار ، فحين تكون المنافسة بين ابناء الاغنياء وابناء الفقراء حادة لابد ان تكون التجهيزات كاملة ، خاصة نحن في مدرسة تطل منها ساحات الاستعراض وتحاول تكبير صور الفقر وتسليط الاضواء على الملابس والاحذية التي تتمسك ببقايا الالوان او تتشبث الخيوط مع بعضها البعض خوفاً من التفسخ والاهتراء الكامل .
نهضت من النوم واذ بأمي قد ربطت جبينها بمنديل اسود وكنا نعرف ان امي حين يؤلمها راسها تربط جبينها ، وكان لها طريقة في الشد ، تبقى تشد المنديل حتى تصبح عيناها اشبه بالنساء الصينيات او اليابانيات .
امي لم تحضر طعام الفطور وهذا يخالف برنامجها اليومي الذي يبدا بالتحضير للفطور ، ووالدي يجلس قرب الراديو ويدخن بشراهة وهذا يخالف يومه ، فهو يسافر يوميا الى مدينة حيفا حيث يعمل ، وجدتي الحازمة الصلبة كالصخرة تبكي بصمت ، ستي شو في ؟؟ سالت جدتي فوالدتي تنظر الي انا واخوتي كانها لا ترانا !
اجابت جدتي وهي تمسح دموعها – جمال عبد الناصر مات ! كنت اعرف ان اسم جمال عبد الناصر يشكل قيمة كبيرة في بيتنا وصورته معلقة في غرفة الضيوف ، وايضاً له صورة مع اولاده الثلاثة ، وعندما كنت اتامل الصورة اكتشفت ان هناك بعض الشبه بين وجه جمال عبد الناصر ووجه خالي اللاجىء في احد المخيمات في لبنان ، ولا ادري لماذا كنت اربط بينهما ، يمكن لأن جدتي كانت تتكلم عن جمال عبد الناصر بلغة المنقذ والقوي والقادر على تحقيق المعجزات ، وحتى يرجع خالي الغائب الى حضن امه لابد من معجزة ، وقد تاتي المعجزة على يد جمال عبد الناصر .
ارتديت ملابسي على عجل ، لم تنظر امي الي كالعادة ولم تهتم بتمشيط شعري او النظر الى اظافري وجواربي البيضاء ، خرجت من البيت متوجه الى المدرسة في منطقة العين في مدينة الناصرة ، في الطريق واثناء المشي للوصول الى المدرسة ، رايت عشرات الرجال يقفون امام المحلات والدكاكين وعلى الارصفة ، هدوء يتخلله بعض الزفرات او شتيمة تخرج من فم احد الرجال تريد تلخيص فكرة العجز امام الموت ، ودخان السجائرحلقات تتغلغل بالوجوه العابسة ، التي تنطق بتقاسيم الاستغراب والشك وعدم التصديق .
وصلت ساحة (العين) واذ بجميع طلاب المدارس يقفون هناك ، يغطون (عين العذراء) والشارع الرئيسي والاشجار والبيوت والدكاكين ، وفجأة يبرز احد الطلاب الكبار ويقول :
كل واحد يروح على البيت ويشلح اواعي المدرسة ويلبس اسود بدنا نعمل كمان ساعتين جنازة رمزية ... ولا واحد يروح على المدرسة ولا واحد يرد على حدا.. ما بدنا نتعلم ..عبد الناصر مات واخذ يبكي ، من بعيد رايت مديرة المدرسة وبعض المعلمين ، لأول مرة لا ارى العصا بيد المديرة ، ثم رايتها تدخل المدرسة وتغلق البوابة الحديدية .
رجعت الى البيت كي ارتدي الملابس السوداء وجدت الجارات يبكين واحدى النساء تقف في الوسط وترقص رقصة الموت وتغني بصوت حزين وتعدد صفات عبد الناصر .
فتشت في الخزانة عن قميص اسود ، لم اجد الا قميص اخي الذي يصغرني بعدة سنوات ، اغلقت ازراره بالقوة ، رجعت الى ساحة العين واذ ببحر من البشر يموج بالسواد ونعش رمزي يحمله بعض الشباب ولم تعد المسيرة طلابية فقط ، بل اختلطت السنوات والاعمار ، رجالاً ونساءاً ، شباباً وشيوخاً ، كيف اتوا ومن اين ؟ لا اعرف ، قامتي الصغيرة تزاحم الكبار وتحاول الوصول الى قرب النعش ، سرنا ببطء ،والنعش يتوسط الجنازة والجنازة تقطع الشوارع والطرقات ، وخلال القطع ينضم العشرات .
تمر هذه الايام ذكرى اربعين سنة على هذا اليوم الكئيب الحزين ومازال الحدث يخرج من البوم الذاكرة مجللاً بالمشاعر الحزينة ، وكلما كبرت سنة اتساءل بيني وبين نفسي كيف استطاع هذا الموت ان يدفع الطلاب والشباب والشيوخ والنساء الى رفضه والخروج في حالة هستيرية باكية متحدية البعد الجغرافي حاملة وجه القائد ؟ كنا نشعر ان هذا الموت فيه موتاً للكثير من القضايا والهمم .
ما زالت صورة جمال عبد الناصر معلقة مكانها ، كلما مسحت امي عنها الغبار تردد " الله يرحمك يا ابو خالد " ، واذا ارادت ان تعبر عن قرفها من وضع العرب ، تتنهد وتشير للصورة ( بس لوكان جمال عبد الناصر موجود ) ، توفي خالي الذي كان يشبهه ودفن في الغربة وتوفيت جدتي التي كانت تحلم بعودة ابنها ، اربعون عاما مرت كانها البارحة ، اتخيل لو يموت اليوم احد الرؤساء العرب هل ستغلق المدارس وتقوم الجنازات الرمزية ويفيض النهر البشري ؟ لا والف لا ...
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بكم تباع كيلو الأنوثة ؟؟
-
بعد الموائد العامرة مشاعر متضاربة
-
ارزة وزيتونة في حبة قطايف
-
قانون الجرافات فوق المواطن
-
الثعلب على موائد رمضان
-
-بيل غيتس- امام موائد الرحمن
-
باب الحارة يؤدي الى الكازينو
-
الموت في اسرائيل
-
في زمن الشعير نلجأ الى الحمير
-
باب توبة العملاء من البلاستيك
-
شعوب رهينة لمزاج الحكام
-
احسد شاليط
-
ابشر أيها الفلسطيني ، وصلت القصيدة
-
واكا.. واكا في الحديقة الخلفية للثورة الفلسطينية
-
فضائيات تبث من تحت التنورة
-
دهشة ستذهب مع الريح
-
نتكلم من داخل برميل القمامة
-
حكاية راس بصل فلسطيني
-
ام الشهيد كعامود النار
-
القضاء المصري يغازل العيون الاسرائيلية
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|