|
جكه ر خوين مبتسما ً
باقر جاسم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3143 - 2010 / 10 / 3 - 18:26
المحور:
الادب والفن
جـﮕـه ر خوين مبتسما ً جـﮕـه ر خوين يروي ملحمة الخروج من العماء
لا شك أن القراءة النقدية للنصب و التماثيل تتطلب وعيا ً فنيا ً بطبيعة فن النحت من حيث هو فن تشكيلي مكاني ذو ثلاثة أبعاد. و هو فن يتميز بالتعامل مع المعادن و الحجر و الخشب و المواد المختلفة الأخرى من خلال طرق تنفيذ مختلفة. ففي حالة كون المنحوتة من الحجر يستعمل النحات الإزميل لينجز التمثال المطلوب، كما في تماثيل ميكائيل أنجلو و رودان و مختار من مصر. و قد عرف أنجلو بمقولته الشهيرة: أنا أرى صورة مجسمة للتمثال الذي أريد أن أنجزه كامنة في الصخر الغفل، و أن دوري ينحصر في إزالة الزوائد التي تتراكم على التمثال ليظهر في صورته النهائية. و في حال التعامل مع المعادن يستعمل الفنان طريقة صب المعدن المصهور كما في نصب الحرية في بغداد و بانوراما الحرية في دهوك. و قبل الشروع في عملية صب المعدن المصهور، يتوجب على الفنان أن يقوم بعمل قالب سالب للنصب أو التمثال، و بعد صب المعدن، وهو النحاس في الغالب، في القالب تكون المصبوبة المعدنية هي النسخة الموجبة التي أراد الفنان أن يجسد رؤيته الفنية من خلالها. و لو تفحصنا تمثال الشاعر الكوردي المعروف (جـﮕـه ر خوين)، الموجود في مدخل فرع اتحاد الأدباء الكورد في دهوك، لاقتضى منا الأمر إضاءة سريعة عن شخصية صاحب التمثال. فنحن نعرف أن اسمه الحقيقي شيخ موس، و أما اسم جـﮕـه ر خوين، و هو يعني (الحشا الدامي)، فما هو إلا لقب و تعبير شعري باذخ يلخص دورة حياة هذا الشاعر الكبير. و التمثال موجود في مدخل فرع اتحاد الأدباء الكورد في دهوك، و هو موقع ضيق و لا يتناسب مع القيمة الفنية و الفكرية لهذا العمل النحتي الكبير (أنظر الصور الملحقة). و في رأي أن التمثال أقرب إلى فن النحت البارز، الريليف، لأن له واجهة يمكن أن تعد بمثابة البوابة الأساسية للتلقي في حين أننا لا نجد قيمة فنية ما للجهة الخلفية للتمثال. لذلك يمكن النظر إلى التمثال في زوايا محصور في الواجهة فقط. و سنرى كيف أن هذا الصنيع الفني يناسب تماما ً المغزى الشامل للتمثال. و لكننا نلاحظ الآن أن التمثال يفرض علينا طاقته التعبيرية الفعالة منذ اللحظة الأولى. فنحن قبل أن نعرف أية معلومات عن الفنان الكوردي الإيراني هادي ضياء الدين الذي أبدع هذا التمثال، و عن شخصية الشاعر السوردي السوري جـﮕـه ر خوين (1903-1984)، نقع تحت سطوة البث الإيحائي القوي لهذه المنحوتة الجميلة. فنحن إزاء تمثال يجسد إنسانا ً في لحظة التحول من وجود كمي يتسم العماء و الشواش الذي تمثله الصخور التي ينبثق منها هذا الإنسان إلى لحظة الوجود الإنساني النوعي الحقيقي المتعين. فهي إذن لحظة حاسمة و مصيرية، و هي لحظة صيرورة تعبر عن حالة الانتقال من حالة مادة الصخر الغفل إلى الكيان الإنساني المعروف كما في الجدول الآتي:
العماء/ الشواش (الصخر الغفل) لحظة التحول الإنسان (الكيان المميز)
و يوحي هذا الجدول بأن الفنان قد استطاع أن يعبر في تمثاله هذا، و كما نعلم فإن التمثال مما ينتسب إلى فن مكاني هو النحت، عما هو زماني لأنه جسد لحظة صيرورة و تحول لها بعدها الزماني الصريح إذ أمسكت لحظة الصيرورة و التحول هذه بالماضي ممثلا ً بالصخر الغفل، و بلحظة التحول (الآن)، و أشارت ضمنا ً إلى المستقبل حين تكتمل لحظة الصرورة. و لعل التعبير بفن مكاني يتخذ الكتلة مادة له هو النحت عما هو زماني يمثل مزية فنية و جمالية من أهم مزايا هذا التمثال. و هنا نستعيد ما قلناه سابقا ً عن تناسب كون التمثال أقرب إلى فن النحت البارز لنقول أننا إذ نواجه التمثال فإنما نندمج في اللحظة المستقبلية للتمثال، أما خلفية التمثال المحجوبة عنا فهي تمثل الماضي الذي لا رجعة إليه. و لكن ذلك لا يستنفذ كل الطاقة الفنية و التعبيرية له. إذ يظهر تعبير عجيب هو مزيج من ابتسامة و ألم و أمل و معاناة و تأمل و نظرة إلى الأفق على وجه جـﮕـه ر خوين ليوحي هذا التعبير المركب بأن هذه الصيرورة على صعوبتها الوجودية فإنها ستؤتي نتائجها المرجوة ولو بعد حين، لكن، يبدو جـﮕـه ر خوين و هو في لحظة نضال هائلة لاستكمال تحوله العظيم ليكون إشارة إلى حضور الألم في تجربة فريدة من نوعها. و الحقيقة إن الطاقة التعبيرية لوجه تمثال جـﮕـه ر خوين تتكامل مع ما يوحي به التمثال كله من معان. و لكن طاقة الوجه التعبيرية تتفوق على تلك الطاقة التعبيرية في ابتسامة الموناليزا الشهيرة و تختلف عنها في المعنى و الدلالة و السياق. و من المهم في هذا السياق أن نلاحظ أن رأس التمثال، و الرأس كما نعلم يمثل رمز الفكر و الوعي، هو ما يبرز أولا ً من الصخر، ثم تليه اليد التي تمثل رمز العمل الذي رفع الإنسان فوق بقية الحيوانات و منحه جوهره الإنساني. و يمكن لنا أن نفسر هذا التلازم بين الرأس و اليد على أنه يعني أن الفكر و العمل يتلازمان في هذه المنحوتة ليعبرا عن رؤيا فكرية لها علاقة وثيقة بالفكر السياسي اليساري الذي اعتنقه جـﮕـه ر خوين في مرحلة نضاله السياسي و الاجتماعي و الفكري. و لو عدنا إلى السياق الواقعي لإبداع هذا التمثال لرأينا أن مبدعه فنان كورديً إيراني، و الشخص الممثل في المنحوتة هو الشاعر الكوردي السوري جـﮕـه ر خوين الذي ارتبط اسمه بالنضال من أجل القضية الكوردية، و التمثال موجود في دهوك من كوردستان العراق، و هذا يعبر عن حقيقة أن قراءتنا النقدية لا تبتعد الحقيقة حين ترى فيه تمثالا ً تتعدد في الدلالات فهي قد تعبر عن حالة تاريخية مرتبطة بشخصية جـﮕـه ر خوين و نضاله السياسي و الاجتماعي، و قد تعبر عن صيرورة الوجود الكوردي و الانتقال من لحظة الوجود بالقوة إلى لحظة الوجود بالفعل، و الانتقال من لحظة الافتقار إلى كيان و صورة إلى لحظة تشكل الكيان و الصورة، أعني الإشارة مسألة صعود الأمة الكوردية المرتبطة بالجبال و الصخور من حالة الإقصاء السياسي إلى حالة الوجود المتعين و الفاعل. و لكن من المؤكد أن دلالات تمثال جـﮕـه ر خوين تتصاعد للتجاوز المسألة الكوردية، فالتمثال تعبير مجازي عن نضال الإنسان في كل زمان و مكان من أجل غد ٍ أفضل. و هو أيضا ً يستحضر قصص الخلق جميعا ً بوصفه يحكي قصة خلق جديديو و على نحو مغاير لما سبقه من قصص، لذلك يمكن أن نتحدث عن جوانب سردية ضمنية تمثل سر شعرية هذا التمثال. و هو بهذا المعنى الفكري و الجمالي يستحق أن يفرد له موقع خاص به في مكان عام، مع ضرورة وضع تنويه عن الفنان الذي أبدعه و عن شخصية جـﮕـه ر خوين حتى يتاح لكل من يزور دهوك و كوردستان أن يطلع على هذا الإنجاز الفني الرائع. أليس كذلك؟
#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علامة الاستفهام
-
أقنعة المسرح
-
نحو مركز عربي لدراسات الأدب النسوي
-
أسئلة الوجود و فضاء المتحف
-
الشعر و طبقات المعنى: - أهاجي الممدوح- إنموذجا ً
-
أنا الحرية: البنية و التأويل في ( الكرسي )
-
الفدرالية و أزمة الحكم في العراق
-
روح هجرتها الموسيقى
-
لطفية الدليمي: هجرة الإبداع
-
الميثوبي و السرد الغنائي
-
بين مربدين
-
كان شامخا ً مثل نخلة عراقية
-
أدلجة سوسور: قراءتا بلومفيلد و تشومسكي لمحاضرات سوسور
-
ما تستحقه الكلمات
-
نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
-
هدف الرغبة الغامض البعيد: علم اللغة
-
نزع الميثولوجيا عن اللسانيات الاجتماعية
-
من الذي سيكون سيدا ً تأسيس السلطة العلمية في علم اللغة
-
الأيديولوجيا و العلم و اللغة
-
أبواب
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|