أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سامح سعيد عبود - النظام العالمي والإمبراطورية الغامضة















المزيد.....


النظام العالمي والإمبراطورية الغامضة


سامح سعيد عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3139 - 2010 / 9 / 29 - 19:07
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


تحليل النظام العالمى أو نظرية الأنساق الدولية، تصف الواقع العالمى فى القرون الخمسة الماضية، على نحو أكثر دقة مما تصفه نظريات التبعية، إذ تؤكد على أن وحدة التحليل الاجتماعى الأساسية ينبغى أن تكون النظام العالمى ككل، وليس الدولة القومية كما تذهب إلى ذلك نظرية التبعية، فالعالم نظام واحد مكون من دول، ومن مؤسسات عابرة القومية كالشركات متعدية الجنسية، والمنظمات الدولية المختلفة الحكومية وغير الحكومية، و من ثم لا يجوز محاولة فهم العالم انطلاقا من مفهوم الدولة القومية دون النظر للمؤسسات الدولية، وتشير النظرية إلى أن التقسيم الدولى للعمل، يقسم العالم إلى البلاد الأساسية، والبلاد شبه الهامشية، والبلاد الهامشية، وبتعبير آخر بلاد مركزية وبلاد شبة محيطية وبلاد محيطية، تركز البلاد المركزية الأساسية على الإنتاج الذى يتطلب العمالة عالية المهارة و من ثم عالية الإنتاجية، وعلى المشاريع كثيفة رأسالمال، التى تنتج قيمة مضافة أعلى، أما بقية العالم فيركز على الإنتاج الذى يتطلب العمالة منخفضة المهارة، ومنخفضة الإنتاجية، وعلى المشاريع متدنية رأسالمال، التى تنتج قيمة مضافة أدنى، وهذا يعزز باستمرار هيمنة البلدان الأساسية المركزية على البلاد المحيطية وشبةالمحيطية، والفوارق فى المستويات المعيشية بينهم، ومع ذلك، فإن هذا النظام يتميز بالحركية إذ يسمح بحركة البلاد ما بين المركز والمحيط وشبه المحيط، إذ يمكن للدول أن تكسب أو تخسر وضعها فى المركز، أو شبه المحيط، أو المحيط، مع مرور الوقت، فبعض البلدان أصبحت مهيمنة فى العالم ثم مهيمن عليها أو العكس، طوال القرون القليلة الماضية، وقد مر بوضع الهيمنة على العالم كل من هولندا، و أسبانيا، والمملكة المتحدة ومؤخرا الولايات المتحدة، وربما الصين فى المستقبل القريب، وقد انتقلت اليابان من المحيط فى القرن التاسع عشر، إلى المركز فى القرن العشرين، جدير بالذكر الإشارة إلى أن الدول شبه المحيطية هى التي تقع بين المركز والمحيط الخارجي، و تستفيد من هامش العلاقات الدولية من خلال تبادل غير متكافئ مع دول المحيط.
تم تطوير النسخة الأكثر شهرة من النظرية على يد ايمانويل والرشتاين في عقدى السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، وقد فحص فالرشتاين صعود النظام العالمي فى القرن 15، عندما كان الاقتصاد الإقطاعي الأوروبي يعاني من الأزمة، وكيفية تحوله للرأسمالية، وكيف استفاد من بعض المزايا، وسيطر على معظم الاقتصاد العالمي، عبر تنمية الاقتصاد، وانتشار التصنيع والرأسمالية، مما أدى بشكل غير مباشر إلى التنمية غير المتكافئة فى العالم.
قد تعرضت نظرية النظام العالمي إلى انتقادات مختلفة، ولا سيما لكونها تركز على الاقتصاد، وليس بما فيه الكفاية على نظم الحكم والثقافة، ومن ناحية أخرى فإن فالرشتاين انتقد نظريات التنمية بسبب تركيزها على الدولة القومية كوحدة للتحليل فقط، وبسبب افتراضها أنه لا يوجد سوى طريق واحد للتنمية التطورية لجميع البلدان، و عدم مبالاتها بالهياكل عبر الوطنية التي تعيق التنمية المحلية والوطنية، فى حين ينتقده دعاة استقلال الدول لعدم اتخاذه الدولة كوحدة أساسية للتحليل، كما يوجه الماركسيون التقليدون الاتهام له بعدم إعطاءه الوزن الكافي لمفهوم الطبقة الاجتماعية، كما يعيب عليه الوضعيون التعميم، والافتقار إلى البيانات الكمية، وأخيرا انتقاده لعدم وضوح الحدود الفاصلة بين الدول والشركات والمؤسسات الدولية.
عندما نفهم العالم كوحدة للتحليل، يمكنا أن نزيل الغموض من حول مصطلح الإمبريالية، والذى عند ترجمته إلى معناه باللغة العربية يكون "الإمبراطورية"، و من هنا يمكن أن نفهم الإمبراطورية " الإمبريالية " بأنها توسع فى هيمنة إحدى مؤسسات السلطة فى المجتمع البشرى، تلك المؤسسات التى تسيطر على إحدى أو كل مصادر السلطة المادية، وهى الثروة المادية والعنف المادى والعنف المعنوى ووسائل المعرفة، فمن يسيطر على مصادر واسعة للسلطة المادية يصبح إمبراطورية قد تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.
الإمبراطورية هى إمكانية قائمة و كامنة لدى كل مؤسسات السلطة المختلفة إلا أنها تصبح واقعا ماديا ملموسا عندما تستطيع بعض هذه المؤسسات أن توسع من سيطرتها على مصادر السلطة المادية سواء أكانت الثروة أو العنف أو المعرفة، لتحقق تضخمها الذى يمنحها صفة الإمبراطورية تمييزا لها عن المؤسسات الأخرى التى فشلت فى تحقيق هذا التوسع، و عملية التحول لإمبراطورية غالبا ما تكون بالاستيلاء على ما تحوزه المؤسسات الأخرى المنافسة لها من مصادر للسلطة المادية، و التى تفترسها المؤسسات المنتصرة لتصبح جزءا من الإمبراطورية.
الإمبراطورية هى نتيجة لصراع بين متنافسين لديهم نفس الإمكانية فى التحول لإمبراطورية، و عبر الصراع فيما بينهم، فأن بعضهم يحقق انتصارا ليصبح إمبراطورية، والآخر تلحق به الهزيمة، فيموت أو يتم ابتلاعه من المنتصر، و هذا يحتمل كافة أشكال الصراع من الحروب والمؤامرات والغزو ..الخ، هكذا تحولت مؤسسة سلطة سياسية كانت مجرد دولة مدينة كروما إلى دولة إمبراطورية هائلة حول البحر المتوسط، وهكذا أسست جيوش المغول والعرب والترك إمبراطورياتها، وليست عملية التحول لإمبراطورية قاصرة على الدول باعتبارها مؤسسات السلطة السياسية العامة التى تحتكر العنف فى المجتمع البشرى، إلا أن المؤسسات الرأسمالية باعتبارها مؤسسات سلطة اقتصادية فيما يتعلق بالإنتاج المادى، والمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية أيضا فى مجال ممارسة سلطتها المعرفية عبر تشكيل الوعى الاجتماعى تتحول لإمبراطوريات، فكما لدينا إمبراطوريات الكوكا كولا والماكروسوفت كإمبراطوريات اقتصادية، فلدينا إمبراطوريات الCNN و رويتر كإمبراطوريات إعلامية.
الإمبراطورية هى ميل غريزى لدى كل مؤسسات السلطة البشرية، و من ثم فهى ميل غريزى أيضا للمشروع الرأسمالى الذى لا يهدف سوى للربح على حساب قوة العمل، وعلى حساب المشاريع الرأسمالية المنافسة له، و هذا الميل الغريزى لا يمكن فصله عن المشروع الرأسمالى الذى يتصف به، كما لا يمكن فصل الجوع كغريزة عن الكائن الحى، ومن ثم فلا يمكن فصل الميل الغريزى نحو التحول لإمبراطورية عن أى مؤسسة رأسمالية سياسية أو اقتصادية، فمن هذا الفصل تحديدا ينبع الاستخدام الزائف لمصطلح الإمبريالية، و من ثم التحدث عن الإمبريالية كما لو كانت شيئا مختلفا عن الرأسمالية كنمط إنتاج و كحضارة، فنحن لا نقول جوع الأسد أكل الغزال، ولكن نقول الأسد أكل الغزال بسبب جوعه، ولذا لا يصح التعاطف مع أسد جائع لم يجد غزالا ليأكله.
الفصل ما بين الإمبراطورية كميل غريزى للرأسمالية، والرأسمالية كنمط إنتاج، يخلق سلسلة من الأوهام حول إمكانية وجود رأسمالية بدون إمبريالية، أو أن الإمبريالية ظاهرة مستقلة عن الرأسمالية، أو أن الإمبريالية هى مجرد المرحلة الأعلى فى التطور الرأسمالى كما افترض لينين، أو أن الإمبريالية هى مجرد غزو واحتلال عسكرى بهدف الهيمنة على المستعمرات ونهبها، والحقيقة أن الميل الإمبراطوري للرأسمالية كحضارة أدى لصراعات حادة بدءا من الحروب العسكرية إلى الحروب التجارية، داخل كل مجتمع محلى، وعلى النطاق العالمى أيضا، على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بين مؤسسات السلطة الرأسمالية المختلفة والمتنافسه، سواء أكانت دول أو جيوش أو مشاريع رأسمالية، وعبر هذا الصراع بين المتنافسين تم ابتلاع المهزومين الضعفاء و الأكثر تخلفا، و تم توسيع مجال سيطرة المنتصرين الأقوياء و الأكثر تقدما، مشكلين فى النهاية إمبراطورياتهم، وانتهى هذا الصراع فى لحظة منه إلى تحول الرأسمالية من مجرد نمط إنتاج محصور فى بعض مدن غرب أوروبا إلى حضارة واحدة عالمية عبر الكوكب بأسره، و لأول مرة فى التاريخ اندمج كل البشر فى نظام عالمى واحد يتم فيه انتزاع فائض القيمة من قوة العمل على نطاق عالمى، وهذا هو أحد أهم إنجازات الرأسمالية تقدما، والذى ما كان ليحدث لولا ميلها الإمبراطوري تحديدا.
الميل الإمبراطوري للمؤسسات الرأسمالية المختلفة يخلق صراعات ثانوية فيما بين مؤسسات السلطة، فيتنافس أصحاب مصانع النسيج فى انجلترا فيما بينهم كما يتنافسون مع أصحاب مصانع النسيج فى مصر من أجل الحصول على قسم أكبر من السوق، ويستخدم أصحاب مصانع النسيج دولهم لكى تدعمهم فى تلك المنافسة، فتمارس الغزو العسكرى من أجل الأسواق والمواد الخام، وتفرض الحماية الجمركية لأسواقها القومية، وغيرها من الأساليب، وينتهى الأمر بخروج بعض أصحاب مصانع النسيج من حلبة المنافسة، وفى نفس الوقت تتضخم ثروات البعض الآخر، ولو تأملنا النتيجة سوف نجد أن من يستمر وتضخم ثروته هو الأكثر استخداما لقوى إنتاج أكثر تقدما، فى حين يخرج من حلبة السباق الأقل تقدما فى قوى الإنتاج.
أن الصراع الجوهرى القائم هو بين هؤلاء الرأسماليين وبين العمال فى كلا البلدين، ذلك أن أرباح كل هؤلاء الرأسماليين بصرف النظر عن جنسياتهم و بلدانهم، وبصرف النظر عن تخلفهم وتقدمهم تأتى من انتزاع فائض القيمة من العمال بصرف النظر عن جنسياتهم، وهذا هو جوهر الاستغلال الرأسمالى، وليس على العمال فى أى بلد الانحياز لطرف ضد طرف آخر فى هذه الصراعات الثانوية، فمصلحتهم المؤكدة هى فى التخلص منهم جميعا، والصراع الذى يجب أن يعنيهم بحق هو الصراع الأساسى فيما بينهم وبين مؤسسات السلطة التى تقهرهم وتستغلهم، لا الصراعات بين المتنافسين على التهامهم.
الفصل الزائف ما بين الإمبراطورية والرأسمالية هو الذى أدخل سلسلة من المفاهيم البرجوازية فى الحركة العمالية العالمية، مثل مفاهيم التحرر الوطنى، والتنمية المستقلة، و أكذوبة البرجوازيات الوطنية المعادية للإمبريالية، تلك البرجوازيات المحلية التى يفترض أصحاب تلك المفاهيم أنه يجب أن تتحالف معها الطبقة العاملة المحلية كمرحلة أولى فى طريق تحررها، والخدعة الجلية فى تلك الترسانة من المفاهيم، هو أن تلك البرجوازيات الوطنية المحلية والموصوفة أيضا لدى البعض بالتقدمية، رغم تخلفها وضعفها وعجزها عن التطور غالبا، تريد الاستقواء بطبقتها العاملة المحلية فى مواجهة منافسيها من الرأسماليين الأجانب لا غير، على أساس عشائرى، ومن ثم خلقت هذه المفاهيم، وروجت لها كى تنفرد وحدها باستغلال وقهر الطبقة العاملة المحلية، فاستطاعت أن تخدع العمال باسم الوطنية والقومية والدين والطائفة والعرق وغيرها، ليكونوا مجرد وقود فى حروبها ضد منافسيها، و بالتالى تأجيل أو طمس أو تشوية الصراع الطبقى، ومن المؤكد أن من يحمل هذه المفاهيم، و يروج لها بين العمال، إنما يعبر عن مصالح البرجوازيات والبيروقراطيات المحلية لا مصلحة الطبقة العاملة.
مثل هذه المفاهيم تتجاهل أن أى مطعم صغير فى أى بلدة لديه نفس الميل الغريزى الإمبراطورى الذى لسلسلة مطاعم ماكدونالدز، إلا أن المطعم الصغير عاجز فقط عن إشباع غريزته فى التوسع على حساب أصحاب المطاعم الأخرى المنافسين، و عاجز بسبب تخلفه و صغره وضعفه عن منافسة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، و هى مشكلة تخص صاحب المطعم فقط، لا مشكلة العامل فى المطعم، الذى قد يفضل العمل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز لو اتيحت له الفرصة لما قد يحصل عليه من شروط عمل أفضل لديها، فهو فى كل الأحوال يتم استغلاله وقهره، إلا أن شروط العمل تختلف من صاحب عمل لصاحب عمل آخر، وهذا هو محل تفضيلات العامل لو اتيحت له فرصة اختيار العمل الذى يرغبه، و هذا أيضا محل تفضيلات المستهلك الذى قد يفضل الأكل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز طالما كانت تبيع له بضائع أرخص وأفضل مما تبيعه المطاعم المحلية.
مثل هذه المفاهيم العشائرية تتجاهل ما عانته الطبقات العاملة المحلية على يد برجوازيتها أو بيروقراطيتها المحلية فى عهد الاستقلال الوطنى ما بعد الحرب العالمية الثانية من نهب واستغلال وقهر، فاق بمراحل ما عانته تلك الطبقات تحت سلطة الدول الاستعمارية المباشرة، فقد تحول ضباط الصف الوطنيين فى جيوش الاحتلال البلجيكى والأنجليزى والفرنسى على الترتيب "موبوتو وعيدى أمين وبوكاسا" إلى رموز للثراء الفاحش وسط مظاهر بؤس شعوبهم المدقع، بسبب توليهم للسلطة الوطنية المستقلة فى الكونغو وأوغندا وأفريقيا الوسطى، و قتل ونكل البعثيون بالملايين من العراقيين و السوريين أكثر بكثير مما قتل ونكل الانجليز والفرنسيين على الترتيب من العراقيين و السوريين فى العراق وسوريا فى فترة احتلالهما لتلك البلاد، و حادثة دنشواى وما تلاها من محاكمات واعدامات ظالمة ارتكبتها سلطة الاحتلال الانجليزى لمصر، تتضاءل أمام ما تعرض له خميس والبقرى من محاكمة واعدام، و أمام ما تعرض له الألاف من المعتقلين السياسين دون محاكمات من تعذيب وقتل فى عهد السلطة الوطنية الناصرية.
أصحاب هذه المفاهيم يبرزون فحسب ما فعله الاستعماريون فقط من استرقاق للزنوج وإبادة للهنود الحمر، ونهب للثروات الطبيعية لشعوب المستعمرات، ومن مذابح تعرض لها أبناء المستعمرات، وغيرها من الجرائم فى إطار عملية التوسع الرأسمالى، فى حين يتجاهلون بفظاظة أن ما عاناه هؤلاء عانته أيضا فى نفس الوقت البروليتاريا فى البلاد الاستعمارية، حيث يذكر مورس دوب "إن هذه الفترة تعد من أسوء الفترات التى عانى منها العمال الذين كانوا لا يكادون يجدون ما يسترون به عوراتهم، وكانوا يعيشون فى حالة بؤس مخيف" ،وذكر أيضا "ثمة مؤامراة دبجها القانون منذ 1563 حتى عام 1824، ودبرتها العناصر صاحبة المصلحة فى نجاحها، تهدف إلى بخس العمال الأنجليز أجورهم، و ربطهم بالأرض، وحرمانهم من الأمل والهبوط بهم إلى درجة من الفقر لا منجاة منها... فقد شغل القانون الإنجليزى والقائمون عليه لأكثر من قرنين من الزمان بالهبوط بمستوى العامل الإنجليزى إلى أدنى حد للكفاف، والقضاء على كل المحاولات المنظمة للتعبير عن السخط، ومضاعفة العقوبات التى تفرض عليه عندما يفكر فى حقوقه الطبيعية" " ويضيف"ولم تفرض تلك اللوائح عقوبات على أى محاولة من جانب العمال أو الصناع لتحسين شروط العمل فحسب، بل فرضت عقوبات صارمة على العامل الذى يقبل أن يتقاضى أجرا أعلى عما حددته اللائحة" وهو ما وصفه أنجلز أيضا على نحو مفصل فى كتابه حالة الطبقة العاملة فى انجلترا 1844، حيث كان العمال الانجليز وفقا لوصفه فى منتصف القرن التاسع عشر "لا يرتدون سوى الملابس القديمة، و لا يأكلون سوى البطاطس، ولا يعيشون سوى فى الأكواخ القذرة المزدحمة". و هو ما تحدث عنه ماركس على نحو أكثر تفصيلا فى كتاب رأس المال، ليأتى منتسبين له زورا تفوح منهم روائح عنصرية عشائرية، ويتحدثون عن صراع موهوم بين القوميات والأديان والطوائف والأعراق والثقافات.
حقا كانت بريطانيا العظمى الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس، وسيدة العالم بلا منازع من القرن الثامن عشر، وإلى منتصف القرن العشرين، ولكن هذا الذى يعتبره البعض مدعاة لفخر كل بريطانى، قد تأتى لها بسبب الثورة الصناعية التى انطلقت على أرضها، و أنه بنى على معاناة مريرة لا حد لها تجرعتها البروليتاريا البريطانية التى شهدت ألوانا بشعة من القهر والاستغلال، حتى بداية القرن العشرين، بسبب ممارسات كل من الرأسمالية الإنجليزية التى فرضت على نساء البروليتاريا وأطفالها، العمل لأكثر من ست عشر ساعة فى اليوم، وبأجور متدنية لا تكفى سوى لاستمرارهم فى الوجود، ودولة تلك الرأسمالية الوحشية، التى أصدرت فى مواجهة البروليتاريا البريطانية، قوانين إعدام قادة الإضرابات والنقابات، وجمعت فائض سكانها الزائدون عن الحاجة، ورحلتهم قسرا لبلاد العالم الجديد، وحشدتهم جبرا فى حروبها من أجل فتح الأسواق لرأسماليها، وجندتهم قسرا فى المستعمرات، هى دولة كانت تنكل بالمتشردين والمتعطلين عن العمل من مواطنيها، وهى نفسها التى وضعت القوانين التى أرغمتهم على التشرد والبطالة، تماما مثلما كانت تتاجر فى العبيد المخطوفين من سواحل أفريقيا.
تراهم يتحدثون بإعجاب عن محمد على باشا بانى مصر الحديثة، وإبنه إبراهيم باشا الذى استرد لها مجد الفراعنة العسكري ببناء إمبراطورية لم تجربها مصر منذ عهد الرعامسة، دون اعتبار لوجهة نظر الفلاح المصرى الذى جر بالعنف لخوض حروب الباشا، لصالح السلطان العثمانى أو ضده، فقتل أو جرح أو نجى أو أضطر للهرب من الجندية فشردت اسرته، لينال المجد كله، والثروة بأسرها، محمد على وأسرته، فى حين ظل الفلاح المصرى بائسا مقهورا كما كان حاله عبر العصور، ذلك الفلاح الذى تم جر ابنه وحفيده مرة أخرى لحفر قناة السويس بالسخرة أيضا، فى عهد سعيد باشا، وفى حروب الخديوى إسماعيل مرة ثالثة، ليحصد غيره المجد والثروة.
لا شك أن ما حققته الطبقة العاملة فى القرن العشرين، وخصوصا فى أوروبا وأمريكا الشمالية من مكاسب و حقوق وحريات، ما كان ليتم لولا النضال البطولى للطبقة العاملة هناك ضد رأسماليتها المحلية، فحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن للعمال حق الانتخاب والترشيح فى البلاد الرأسمالية، و كان العمال و مازالوا يساقون فى الحروب بين الدول الرأسمالية المتنافسة على مناطق النفوذ، مخدوعين أحيانا إلا أنهم مضطرون غالبا. كما أن جيوش الاحتلال نفسها كانت تضم الكثير من المجندين من شعوب المستعمرات، الهنود فى الجيش الانجليزى، المغاربة فى الجيش الفرنسي، وما حصل عليه العمال فى البلاد المتقدمة من بعض الترف فى فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية لا يساوى سوى ثمن رخيص جدا فى مقابل ما قدموه من تضحيات هائلة لصالح رأسمالى بلادهم.
هذه الرؤية أكثر تمسكا بحقيقة الطابع العالمى لرأسالمال كنمط إنتاج، وبأن العمال لا وطن لهم سوى حيث يعملون، ويحصلون على معاشهم، فهى تنظر للعالم من وجهة نظر البروليتاريا المجردة من كل مصادر السلطة المادية، لا من وجهة نظر البرجوازيين الذين يحوزون على مصادر تلك السلطة.

الهوامش


مورس دوب تعريب د. رؤوف عباس كتاب دراسات فى تطور الرأسمالية دار الكتاب الجامعىص39
Centuries,vol 11,398
مورس دوب مصدر سابق ص 253



#سامح_سعيد_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التبعية وأوهام التحرر منها
- تنمية اقتصادية لصالح من
- معوقات العمل الجماعى العام
- الأناركية والدارونية
- استبيان رأى عن اللاسلطوية
- المول وثقافة الاستهلاك
- ‎‎تقدم علمى تأخر فكرى (9) السببية بين العقل الخرافى والعقل ا ...
- تقدم علمى .. تأخر فكرى(8) احتقار العلم وتقديس الخرافة
- تقدم علمى تأخر فكرى(7) عدم اليقين
- تقدم علمى ..تأخر فكرى(6) هل نحن حقا مجرد موجات
- تقدم علمى تأخر فكرى (5) أوهام تستند على أوهام
- تقدم علمى ..تأخر فكرى (4) الدجل بعلم الفلك
- تقدم علمى .. تأخر فكرى (4) أسلمة ومسحنة وهودنة العلم
- تقدم علمى تأخر فكرى .. (3) أنيس منصور ومصطفى محمود
- تقدم علمى ..تأخر فكرى (2)جهل مع فيض المعرفة اللامتناهى
- تقدم علمى.. تأخر فكرى (1)إستخدام العلم لإثبات الخرافة
- رحلة الكون عبر الزمان(32) جهاز الاشارات الثانى أو اللغة أو ا ...
- رحلة الكون عبر الزمان(31) الانعكاس النفسى عند الكائنات الحيه
- رحلة الكون عبر الزمان(30) الاحساس فى الكائنات الحية
- رحلة الكون عبر الزمان(29) الأدلة العلمية على تطور الكائنات ا ...


المزيد.....




- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل / آدم بوث
- الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها ... / غازي الصوراني
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟ / محمد حسام
- طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و ... / شادي الشماوي
- النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا ... / حسام عامر
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ... / أزيكي عمر
- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سامح سعيد عبود - النظام العالمي والإمبراطورية الغامضة