|
يسار عيّ على الطريقة العربية!
مرزوق الحلبي
الحوار المتمدن-العدد: 3139 - 2010 / 9 / 29 - 17:09
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أعرف أحد القيادة السياسيين في بلادنا يصرّ منذ خمسين عاما ونيّف على فرضية أن أمريكا هي أصل الشرّ في العالم بما في ذلك نضوب العين القريبة وتراجع محصول العنب في هذا الموسم أو ذاك! وهذا يكفي ـ من ناحيته طبعا ـ ليتربع على مرتفع منّا يعلّمنا كيف أن كل موقف سياسي واجتماعي وأدبي وأخلاقي، مهما يكن شأنه، ينبغي أن ينطلق من فرضيته آنفة الذكر. وهو، ونحن معه، على هذه الحال لا نقتنع بما يقول ولا هو يُقنعنا أو يملّ هو من محاولاته. هذه ليست صورة كاريكاتورية أو خيالية وإن بدت، بل نموذج قائم من "مثقفين" حقبة زهوّ الشيوعية يصرّون على أنهم "اليسار" في أبهى تجلياته. وقد يستعينون باقتباس مُفترض مقتطع من ماركس أو أنجلز أو لينين لإضفاء بُعد نظري على ما يزعمون. يبدو بالنسبة لهم، أن لا الحرب الباردة انتهت ولا العولمة بدأت ولا البروليتاريا تقلّصت إلى نِسب لم يتصورها الثلاثة المقتبسون. "يسار" محدود في نقطة واحدة وحيدة وهي أن أمريكا أصل كل قهر وظلم وعنف وطغيان، وأن كل موقف ينبغي أن يبدأ وينتهي بها. لا شيء في الوجود غير هذه الأمريكا. فتراهم يحفظون أشعار أحمد فؤاد نجم عنها ويشيرون إلى ما كتبه نوعم حومسكي عن إمبرياليتها. فما كتبوا إلا وكانت في حبرهم وأوراقهم. وما اعتلوا منبرا إلا وكانت على ألسنتهم موضعا للذم والقدح حتى لو كانت الندوة بشأن الطيور المهاجرة. أمريكا وحيدة على مهدافهم بإدارتها وسياساتها وتاريخها وجرائمها. فهي الشهادة أنهم "يسار" بأربع وعشرين قيراط. تسألهم عن انشقاق الصف الفلسطيني فيلعنونها. تسألهم عن استبداد نجاد وتزوير الانتخابات التشريعية يقولون لك "هم الأمريكان"! وتسألهم عن آلاف السجناء السياسيين في سوريا ونظام المخابرات فيها فيقصون لك حكايا الـ"سي. أي. إيه". تسأل عن "مقاومة" تحصد العراقيين أنفسهم والصوماليين في قبورهم والأفغان في مدارسهم واللبنانيين في طرقاتهم، فيطلقون أحاديث المؤامرة والدسائس الأمريكية. وظنوا أنهم بهذا إنما يحفظون لأنفسهم منزلة "اليسار" بامتياز! لكنهم وفي الوقت نفسه، يستبدون إذا قادوا حزبا أو حركة وتربعوا على قمة مركز قوة مهما يكن وضيعا، ولم يعترفوا بالحريات والحقوق إلا إذا كانت أمريكا إياها مُطالبة بِها. فإذا اختلفت معهم في جزئية ألقوا عليك الحرمان وإذ واجهتهم بأسئلتك حيال مواقفهم أعلنوا عليك الحرب، وإذا جرؤت واستأنفت على "يساريتهم" صكوا بيانا يعلنون فيها خيانتك أو خروجك عن طورك! "يسار" تقلّص اجتهاده العقلي إلى حدود الرأسمالية الأمريكية وانحشر هناك، أو بقي في تلك الأنحاء "يبرعط" بينما العالم تجاوز ذاته وانتقل إلى نواح جديدة تتطلب من أي يسار الاجتهاد والتطوّر للحاق بسيرورة العولمة وتحولات وما بعد الكولونيالية وعجائب "الهويتي" وما بعد القومي والثقافي والاقتصادي وتفانين الافتراضي والمحلوي ومفاعيل الإرهاب وسقوط دولة العقد الاجتماعي وما إلى ذلك من تحولات قلبت تلك الحقائق واليقينيات التي تيسرت لهم وللعالم وأدرجتها ضمن الأرشيفات والكنوز الوطنية والإنسانية. وعلى مقاسات اجتهاده العقلي تفصّلت منظومته الأخلاقية. يسار يقدّس القوة إذا ما صبت في هواه ويبغضها إذا نا وقعت عليه كأن نظرية دكتاتورية البروليتاريا لا تزال تجري في العروق. يسار يدين بالعنف ويفهمه ويقبله عنصرا بنيويا في السياسة إذا كانت أمريكا هدفا له. فما تسمع صوتهم ضد الإرهاب في العراق ولا الصومال ولا لبنان لأن أمريكا هدفا من أهدافه. وما نسمعهم يتحدثون عن قمع للحريات في إيران أو سوريا أو غيرهما لأنه الأنظمة في هذه المواقع تدّعي المواجهة مع أمريكا أو هي في صدام حقيقي معها. يسار يُؤجّل كل شيء لأن المعركة مع أمريكا هي الأساس ولا يجوز الالتهاء عنها بشؤون صغيرة مثل الحريات السياسية أو الشخصية أو مسائل التعددية والاختلاف وقضايا المرأة والجندر والمثليين والمثليات جنسيا! "يسار" عربي معطوب من الجذر لا يزال يعتقد أن هناك مركزا واحدا للظلم والشر ـ كما اعتقد بوش بوجود محور كهذا! ـ وإن بناء العالم وإصلاحه أو بناء مجتمع أو دولة أو ضمان الحريات والكرامة الإنسانية في أصقاع الدنيا أو مجرّد إفساح المجال لرفيق معارض، يتطلب أولا إزالة هذا المركز "الشرّير" من الوجود. يسار دوغمائي قضى عمره في الإتيان بردود الأفعال على المركز الأمريكي ويتفنن في توصيف سياساته ولم يفطن إلى احتياجات الناس اليومية التي طالبته بحلول معقولة عوضا عن أوتوبيا متخيّلة، عن أجر معقول وبيت معقول وتعليم معقول وإمكانية معقولة للبوح والحديث الحرّ. فانقلب هذا "اليسار" على "الجماهير" متهما إياها بأنها تعاني من "الوعي الزائف" ولا بدّ لها في نهاية المطاف من الإدراك واكتساب "وعي طبقي" هو البوصلة إلى عالم ينتفي فيه القهر والظلم. "يسار" له جيش من محترفي تسجيل الوعود بكذا... بينما العالم قد تحرّك بفعل الجدلية التاريخية والتناقضات التي أعجبت فيها أجيال هذا "اليسار" إلى أمكنة تستدعي إنتاج لغة جديدة للإدراك، لغة لم تتيسّر لهذا "اليسار" العيّ! [email protected]
#مرزوق_الحلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذكرى 11 سبتمبر:الإرهاب الإسلاموي حين يكون بديلا للسياسة!
-
نظريات وحقيقة بسيطة!
-
هدايا من باريس
-
وحده المزيّن!
-
بوابات فاس
-
عن المسألة الإيرانية: كيفما اتفق وليس أبعد من ذلك
-
عن أسر الإسلام والتمثيل به!
-
لو أني عرفت!
-
سنوات
-
عن محاكم التفتيش العربية
-
تعب من الذاكرة
-
أحاديث في الحالة السورية!
-
الإرهاب في مومباي: نهاية دولة العقد الاجتماعي!
-
-الصحوة الإسلامية- كطور من أطوار الهوية
-
العرب والتأثير على النُخب في إسرائيل!
-
الحرية من الدين الآن!
-
قوميون بعمامة!
-
الدولة الشعب المجتمع وضمور الدلالات!
-
لبنان عشية الاستحقاق الرئاسي: جدلية التسميات المضلّلة!
-
الأصولية هنا الآن!
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|