|
من الأمن الجماعي إلى الأمن الإنساني: تحول اهتمام المجتمع الدولي من الدولة إلى الفرد
مروة نظير
الحوار المتمدن-العدد: 3138 - 2010 / 9 / 28 - 14:15
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
جاءت أولى إرهاصات فكرة تحقيق الأمن للدول بشكل جماعي مع معاهدة وستفاليا التي عقدت في عام 1648، إذ وضعت هذه المعاهدة القواعد والأسس لتحقيق الأمن للدول الأعضاء في المجتمع الدولي على أساس جماعي، ومن ثم اتخذت العلاقات الدولية بعدها توجها نحو التعاون والمشاركة بدلاً من السيطرة والإخضاع، ومن أهم القواعد التي أرستها المعاهدة في هذا السياق: اجتماع الدول للتشاور وحل مشاكلها على أساس المصلحة المشتركة. إقرار المساواة بين الدول. إرساء العلاقات بين الدول على أساس ثابت بإقامة سفارات دائمة لديها. اعتماد فكرة التوازن الدولي كأساس للحفاظ على السلم وردع المعتدي. إقرار فكرة سيادة الدولة في الداخل وتجاه الدول الخارجية. ومع ما يراه البعض من أن أفكار الأمن الجماعي تبلورت من خلال عدة صيغ لتنظيم المجتمع الدولي في أعقاب الحروب الأوروبية بدءاً من معاهدة "وستفاليا" العام 1648، مروراً بمعاهدة "أوتراخت" العام 1713، وصولاً إلى معاهدة "فيينا" العام 1815، عقب هزيمة نابليون بونابرت، إلا أنه يمكن الدفع بأن دعوات تأسيس نظام دولي للأمن الجماعي جاءت قبل قرنين من الزمن على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، عندما اقترح إنشاء فديرالية تضم دول العالم، حيث تتكتل غالبية الدول الأعضاء لمعاقبة أية دولة تعتدي على دولة أخرى. وهذا يعني أن الدول الأعضاء في منظومة الأمن الجماعي ستتعاون مع بعضها البعض ضد أية دولة تسعى لتحقيق مصالح ضيقة تضر بمصالح الجماعة الدولية ككل. ومن ثم يقوم نظام الأمن الجماعي من الناحية النظرية على فكرة محورية قوامها عدم السماح بالإخلال بالوضع القائم في النظام الدولي بطريقة غير مشروعة، وذلك من خلال تكوين قوة دولية متفوقة تتمكن من إحباط العدوان أو ردعه. ومنذ بدايات القرن العشرين، استقر في العلاقات الدولية وجود مفهوم "الأمن الجماعي"، ويقصد به في هذا الصدد: العمل الجماعي من أجل المحافظة على السلم والأمن الدوليين من خلال أجهزة تعمل على تحقيق هذا الهدف. وعلى الرغم من تعدد التعريفات التي تتناول هذا المفهوم واختلافها فيما بينها، فمن الممكن تحديد مجموعة من النقاط الأساسية التي تلتقي حولها غالبية هذه التعريفات ومن ثم فهي تشكل الملامح الأساسية للمفهوم، أو بعبارة أخرى العناصر اللازم توافرها في نظام الأمن الجماعي لكي يكون مثاليا، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه العناصر تعد بالنسبة لغالبية الفقهاء وحدة متكاملة أو مترابطة بحيث إذا غاب أي منها يفسد النظام ككل ويصبح عديم الفعالية، وهذه العناصر هي: 1) تحريم استخدام القوة في العلاقات بين الدول: ويأتي هذا العنصر استنادا إلى القناعة بأن الحد من استخدام القوة المسلحة أو العسكرية في العلاقات الدولية عبر تجريم ذلك الاستخدام، سوف يؤدي إلى التقليل من الحروب. ومع القناعة بأن تحريم استخدام القوة العسكرية لا يترتب عليه بالضرورة التزام كل الدول بالامتناع عن استخدامها، فإن نظام الأمن الجماعي يرى أنه من الأفضل أن تكون كل الدول الأعضاء في نظام ما للأمن الجماعي مسلحة، وذلك حتى تكون قادرة على مواجهة أية هجمات محتملة والحفاظ على الأمن والاستقرار. وبصفة عامة، يمكن القول أن هناك اعتراف بل وقبول عام بين الدول بأهمية تحريم استخدام القوة، إلا أن كل الدول تقبل كذلك بأن هناك حالات معينة (تتضمن الدفاع الفردي والجماعي عن النفس) تعد استثناءا مقبولا على هذا المبدأ. 2) الضمان الجماعي للأمن: تستوجب "جماعية" ضمان الأمن في إطار نظام ما للأمن الجماعي أن تقدم كل الدول الأعضاء في هذا النظام المساعدة إلى الدولة أو الدول التي تتعرض للهجوم. ولا يفترض أن تدعي أي دولة عضو في النظام الحياد في هذه الحالة كما أنه من غير المقبول أن تقوم أي دولة بدعم الدولة المعتدية سواء كانت إحدى الدول الأعضاء في النظام أو من غير الأعضاء فيه. ويرى البعض أن هذا العنصر يفترض (من الناحية النظرية) عدم زيادة تسلح الدول الأعضاء في نظام ما للأمن الجماعي عن مستوى معين، بحيث لا يمكن لأي من هذه الدول منفردة صد أي هجوم تتعرض إليه. 3) استخدام القوة كرادع وكعقاب في الوقت ذاته: ويقصد بذلك أنه إذا ما تم تطبيق العنصرين السابقين فمن المفترض تحقيق الردع نظرياً على الأقل، بحيث لن تتجه أي دولة للمخاطرة بالاعتداء على إحدى الدول الأعضاء في نظام الأمن الجماعي وإلا سيكون عليها مواجهة كل الدول الأعضاء في هذا النظام. ولكن إذا ما تجاسرت أية دولة على الاعتداء باستعمال القوة ضد أي من أعضاء النظام، فإن القوات المشتركة لكل الدول الأخرى يجب أَن تواجه هذا الاعتداء وتدحره. 4) تلقائية العمل الجماعي: ويقصد بذلك وجوب يجب أن تتسم الضمانات الجماعية للأمن في إطار نظام الأمن الجماعي بالتلقائية والإطلاق، بمعنى ضرورة أن تنطلق وتتمدد آلية الأمن الجماعي بشكل تلقائي عند الحاجة إليها. بحيث تكون استجابة هذه الآلية للتهديدات الأمنية لأي من أعضاء النظام سريعة أو بالأحرى فورية ونزيهة. 5) أولوية عضوية نظام الأمن الجماعي على ما عداها من تحالفات:يجب أن يكون نظام الأمن الجماعي فوق أي تحالفات أخرى أو خاصة بين أعضائه؛ فهو لا يعترف بوجود أصدقاء أَو خصوم في إطار هذا النظام. فإذا كانت الدولة القائمة بالاعتداء هي إحدى الدول الأعضاء في النظام، فإن النظام وبغض النظر عن هوية الدولة القائمة بالاعتداء أو المتعرضة له، يجب أن يتسم بالحياد وعدم التحيز لصالح أو ضد أي من الأعضاء ويكون تركيزه فقط على مواجهة العمل العدواني. وعلى هذا الأساس فإن نظام الأمن الجماعي، يختلف عن نظام الدفاع المشترك الذي تتبناه بعض المنظمات مثل (حلف شمال الأطلسي) الناتو، التي تعنى فقط بالدفاع عن أعضائه في مواجهة الأعداء الخارجيين، لكنها لا تقوم أبدا بعمل ضد أحد أعضائها. 6) التوافق على معنى الاعتداء أو العدوان: يفترض هذا العنصر أن تقبل كل الدول الأعضاء في نظام الأمن الجماعي بتعريف موحد لمفهوم الاعتداء أو "العدوان"، بحيث يمكن بموجب هذا التعريف تحديد الأعمال العدائية فور حدوثها. علاوة على ذلك، يستوجب هذا المكون من مكونات نظام الأمن الجماعي وجود إجراءات محددة للقيام بعملية تحديد العدوان أو الأعمال العدائية فضلا عن وجود مؤسسة نزيهة ترتضيها أو تأتمنها جميع الدول الأعضاء في النظام تتولى مهمة اتخاذ القرار النهائي في هذا الصدد. 7) ديمومة وعمومية النظام:يجب أن يتسم نظام الأمن الجماعي بأن يكون دائما، مجردا وعاما ومناسبا، وذلك حتى يمكنه أن يتحول إلى مؤسسة لحماية الأمن الدولي ضد كل الأخطار المحتملة ضد كل الأعضاء فيه. ويمكن القول أن هذا المكون من مكونات نظام الأمن الجماعي يرتبط أو بالأحرى يترتب على خاصيتي الأوتوماتيكية والحياد اللذين يجب أن يتسم بهما نظام الأمن الجماعي. بعبارة أخرى نظام الأمن الجماعي لا يمكن أن يكون ذو طبيعة متغيرة أو مترددا.
تطبيقات فكرة الأمن الجماعي في التنظيم الدولي: يكتسب مفهوم الأمن الجماعي أهمية خاصة في إطار المنظومة القانونية الدولية، ومن ثم فهو من أكثر جوانبها عرضة للتأثر بالتغيرات في هيكل النظام السياسي الدولي وهذا ما ظهر بشكل جلي في التطبيقات المختلفة للمفهوم والتي اختلفت وتطورت مع التغيرات في هيكل النظام العالمي. وقد جاءت أولى تطبيقات فكرة الأمن الجماعي في العلاقات الدولية من خلال تجربة عصبة الأمم، فقد كانت هي الفكرة التي استند إليها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في تصوره لعالم يسوده السلام، وتنتظم علاقاته من خلال عصبة الأمم. وفي ظل عصبة الأمم، جاءت الترتيبات المتعلقة بالأمن الجماعي متماشية مع طبيعة النظام الدولي في ذلك الحين والتى كانت الحرب مشرعة فى إطارها باعتبارها إحدى طرق إدارة العلاقات الدولية ومن ثم فلم ينص عهد العصبة على تحريم الحرب بشكل قطعي وإنما اكتفى بوضع بعض القيود لتضييق نطاقها. وقد اتجه عهد العصبة إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين من خلال بعض الوسائل التي يمكن إجمالها في اتجاهين: أ) العمل على منع الحروب: وذلك من خلال مجموعة من الآليات من قبيل حل المنازعات بالوسائل السلمية، الضمان المتبادل، تخفيض التسليح، فضلا عن ربط المعاهدات الدولية بعهد العصبة. ب) إجراءات مواجهة العدوان: وتتضمن الإجرات التى أقرها عهد العصبة فى هذا السياق الجزاء الاقتصادي، الجزاء العسكري، إلى جانب الطرد من العضوية.
ولكن نظام عصبة الأمم فشل في تحقيق الأمن الجماعي وهو ما يرجع إلى مجموعة من الأسباب أهمها أن العصبة كانت تعتمد بشكل أساسي على إجماع الدول الأعضاء للموافقة على قراراتها وتوصياتها الهادفة إلى تحقيق الأمن الجماعي وهو ما لم يمكن تحقيقه بسبب المشاحنات والتوترات السياسية بين الدول الأعضاء، فضلا عن نظام العصبة ذاته والذي عانى مجموعة من المثالب لاسيما في ظل سيطرة النزعة الأوروبية على عضوية العصبة وغياب القوى العظمى عنها (إذ لم ينضم الاتحاد السوفيتي إلا في عام 1934، في حين لم تنضم الولايات المتحدة على الإطلاق)، وفتح الباب أمام الانسحاب من عضوية العصبة الأمر الذي أضعف كثيرا من روح التنظيم الدولي وقيامه على أساس وجود الجماعة وتكاتفها، إلى جانب افتقار العصبة إلى قوة عسكرية خاصة بها.
وقد تمت صياغة نظام الأمن الجماعي فى إطار منظومة الأمم المتحدة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وما شهدته هذه المرحلة من تفاؤل بطبيعة الدور الذي من الممكن أن تلعبه المنظمة الدولية. ومن ثم فقد حاول ميثاق الأمم المتحدة أن يضع تحت تصرف مجلس الأمن الدولي بصفته الجهاز المسئول عن الإدارة المشتركة لنظام الأمن الجماعي الوسائل والإمكانيات والأطر المؤسسية الكفيلة بإدارة العمليات العسكرية الميدانية على نحو يكفل تحقيقها للنتائج المرجوة منها. وكان من أهم ما تضمنه الميثاق فى هذا الإطار ما نصت عليه المادة 43 من تعهد جميع الدول الأعضاء بأن "يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقا لاتفاق أو اتفاقيات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي ومن ذلك حق المرور"، كما أوكل الميثاق مهمة بحث الترتيبات المتعلقة بعدد هذه القوات وأنواعها وأماكنها ونوع المساعدات والتسهيلات التي تقدم إلى "لجنة أركان الحرب" التى تتكون من رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي؛ أي أن هذه اللجنة أضحت هي المسئولة تحت إشراف مجلس الأمن عن التوجيه الاستراتيجي لهذه القوات. بعبارة أخرى، حاول واضعو ميثاق الأمم المتحدة عند صياغته تجنب العديد من المثالب التى اعتورت التنظيم الدولي في تجربة عصبة الأمم لاسيما فيما يتعلق بفكرة الأمن الجماعي، ومن ثم نص ميثاق الأمم المتحدة على امتناع جميع أعضاء المنظمة عن استخدام أو التهديد باستخدام القوة فى علاقاتهم الدولية، كذلك أناط الميثاق بمجلس الأمن الدولي مهمة تولي تبعات اختلال الأمن والسلم الدوليين وذلك وفقا لأحكام الفصل السابع من الميثاق والتى تجيز له استخدام القوة عند الضرورة لإعادة السلم والأمن الدوليين إلى نصابهما. أي أن نظام الأمن الجماعي في إطار نظام هيئة الأمم المتحدة يقوم على دعامتين رئيسيتين، هما: أ) حظر استخدام القوة فى العلاقات الدولية أو التهديد بها: وعلى الرغم من عدم الاتفاق على مفهوم القوة التى تشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين فهناك ما يشبه الاتفاق على أن المقصود بذلك هو القوة المسلحة على الرغم من وجود بعض الاتجاهات الفقهية التى تؤكد أن ذلك يشمل كذلك مختلف أشكال القسر والضغط السياسي والاقتصادي. وتجدر الإشارة فى هذا السياق أيضا أن الميثاق حدد بعض الاستثناءات أباح فيها استخدام القوة في العلاقات الدولية وهي حالات الدفاع عن النفس وتطبيق تدابير الأمن الجماعي وفقا لنصوص الفصل السابع من الميثاق. ب) وجود تدابير جماعية يمكن اللجوء إليها فى حالة حدوث العدوان: إذ يتمتع مجلس الأمن الدولي باعتباره الجهاز التنفيذي بالحق في اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لحفظ لسلم والأمن الدوليين ويجب على الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة قبول قرارات المجلس وتنفيذها كما أن عليها الامتناع عن تقديم المساعدة لأية دول يقوم المجلس باتخاذ تدابير ضدها.
إلا أن ظروف الحرب الباردة وما شهدته من تحول الحلفاء المنتصرين فى الحرب العالمية الثانية إلى متنافسين فى الحرب الباردة أدت إلى منع الأمم المتحدة عن الوصول لهدفها فى تحقيق الأمن الجماعي، خاصة مع تحول مجلس الأمن الدولي إلى إحدى أدوات الصراع بين قطبي الحرب الباردة وعجزه عن التصرف فى النزاعات العديدة التى شهدها المجتمع الدولي بسبب إسراف أعضائه الدائمين فى استخدام حق النقض "الفيتو"، ومن ثم فقد كان إعمال نظام الأمن الجماعي في مرحلة الحرب الباردة رهنا بمعطياتها التى فرضت العديد من القيود وحددت من فرص تفعيل هذا النظام في ظل حالة الاستقطاب التى سيطرت على أجواء العلاقات الدولية في ذلك الحين. إذ تعقدت مهمة "لجنة أركان الحرب" فلم تتمكن الدول الأعضاء من الاتفاق على كيفية وضع المادة 43 موضع التطبيق، بل إن اللجنة ذاتها تجمدت تماما وأضحت دون دور أو وظيفة تمارسها. وعليه، فقد نظام الأمن الجماعي في الأمم المتحدة أحد أركانه الرئيسية بعد أن حرم من الأداة التي تكفل له مواجهة العدوان على أسس وقواعد ثابتة ومؤسسية. وفي الواقع، انطوى نظام الأمن الجماعي في إطار الأمم المتحدة على العديد من الثغرات، فالعديد من القواعد المرجعية التى يستند إليها والتي تحكم آلياته تفتقر إلى الوضوح ومن ثم تخضع لتفسيرات شتى ومتباينة. كما كانت فعالية دور الأمم المتحدة فى مجال الأمن الجماعي رهنا بإرادة الدول الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن الدولي ولا تتجاوز نطاق الاشتباكات بين الدول الصغيرة، على نحو دعا البعض للتساؤل عن جدوى نظام الأمن الجماعي في ظل الأمم المتحدة ما دام هذا النظام عاجزا عن الحيلولة دون قيام خطر الحرب بين الدول الكبرى، بل لقد أثبتت التجربة عدم فعاليته في بعض حالات العدوان الذي تقوم به دول صغيرة بمساندة إحدى الدول الكبرى. ولعل هذا هو ما دفع العديد من البلدان في هذه الفترة إلى إنشاء منظمات للأمن الجماعي في مواجهة منظور الأمن القومي، وهذا ليس بهدف تعزيز أمنها العسكري فحسب بل الاقتصادي والثقافي أيضا، ومن بينها الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وحلفي الناتو ووارسو ..وغيرها. كما يلاحظ أن الدول الكبرى اختارت الخروج على الإطار المعياري (القانوني) لنظام الأمن الجماعي في بعض المناسبات، مثل ما حدث إبان أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، ورغم ذلك فإن هذه الدول كانت تسعى إلى تبرير أفعالها من خلال إحدى الطرق التالية: تأكيد أن أفعالها تأتي في سياق الإطار القانوني لمؤسسة الأمن الجماعي. توسيع نطاق تفسير الإطار القانوني بحيث يشمل الأفعال التي تم إتيانها من قبل هذه الدولة. إدعاء وجود أساس قانوني يفسر أفعالها. أو قد تلجأ في بعض الأحيان إلى الاعتراف بكل أمانة أن فعلها يعد حالة استثنائية ولا تعد سابقة يمكن الارتكان إليها في المستقبل. ومن ثم فإن الأساس القانوني لنظام الأمن الجماعي إما أن يتم التأكيد عليه أو إعادة صياغته عبر هذه الادعاءات واستجابة الدول والفاعلين الآخرين لها.
ومن الملاحظ أنه كانت هناك بعض المحاولات لمعالجة المثالب التى ظهرت في نظام الأمن الجماعي إبان مرحلة الحرب الباردة، حيث طرأت على نظام الأمم المتحدة ومؤسساتها العاملة مجموعة من التطورات الأساسية في مجال الأمن الجماعي على نحو أدى إلى تأكيد سلطاتها في هذا المجال ويتضمن ذلك: اللجوء إلى الخيار العسكري التوافقي متمثلا في صورة عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. اللجوء إلى المحاكمات الجنائية الدولية، والتي أثارت جدلا عميقا لاسيما من الناحية القانونية خاصة عند مناقشة ما إذا كانت هذه المحاكمات يمكنها الإسهام في تحقيق السلام العالمي وما إذا كان مجلس الأمن الدولي يملك صلاحية إنشائها.
ويرى البعض أن عجز الأمم المتحدة عن تطبيق نظام الأمن الجماعي كان السبب وراء ابتكار نظام جديد لمواجهة الأزمات والصراعات المسلحة أطلق عليه "عمليات حفظ السلام". وقصد بذلك التدابير التى اتخذتها الأمم المتحدة فى محاولة تهدئة الصراعات والنزاعات السياسية الحادة، وكان من أبرز صورها: قوات حفظ السلام، والمراقبون الدوليون العسكريون، ومهمات المساعي الحميدة، بالإضافة إلى ممثلي الأمين العام فى كل نزاع على حدة.
انتهاء الحرب الباردة والتحول نحو مفهوم الأمن الإنساني: وهناك ما يمكن اعتباره اتفاقا على أن الأمن الجماعي قد شهد تطورا جديدا مع التغير في هيكل النظام الدولي بانتهاء نظام الحرب الباردة، مع بروز مصادر جديدة وغير تقليدية لتهديد السلم والأمن الدوليين؛ فلم تعد الحروب التقليدية بين الدول هي المصدر الأساسي لتهديد السلم الدولي، بل ظهرت مجموعات جديدة من المشكلات والأزمات الدولية الخطيرة مثل الحروب الأهلية التي ترتكز على أسس عرقية ولغوية ودينية والتي قد تتضمن في أحيان كثيرة أعمال إبادة جماعية، كما حدث في حروب البلقان ورواندا وبوروندي في التسعينيات. كما إن انسحاب القوتين العظمتين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي) من سباق الصراع على النفوذ في مناطق عديدة أدى إلى زعزعة الاستقرار في بعض هذه المناطق بعد أن ترك ساحتها لصراعات القوى المحلية والإقليمية، الأمر الذي أدى إلى ظهور أزمات من نوع جديد كان يصعب تصور وجودها خلال مرحلة الخرب الباردة. فضلا عن أن تفكك الاتحاد السوفيتي ومن بعده جمهورية يوجوسلافيا الاتحادية قد أدى إلى تفجر مشكلات القوميات والصراعات العرقية واللغوية الطائفية، ليس فقط في دول المعسكر الشرقي (الاشتراكي)، بل في أنحاء عديدة من أوروبا والعالم، كما برزت المخاطر المرتبطة باحتمالات استخدام أسلحة الدمار الشامل الموجودة في الدول السوفيتية السابقة من قبل بعض الفاعلين من غير الدول لاسيما الجماعات التي يصنفها البعض على إنها إرهابية. إضافة إلى مخاطر انهيار الدول وما لها من تداعيات على غياب الأمن الشخصي للأفراد وكذلك انتهاكات النظم الحاكمة لحقوق مواطنيها. يضاف إلى ذلك القضايا المرتبطة بالفقر والأمراض معدية، والخلايا الإرهابية والتي صارت تشكل التهديد الأخطر لبقاء العالم ولأمن أفراده. بعبارة أخرى، يمكن القول أن نظام الأمن الجماعي يواجه في الوقت الحاضر مجموعة من التهديدات تتجاوز حدود المعنى التقليدي للعدوان الذي تمارسه الدول. ويمكن إجمال هذه التهديدات ستة فئات، هي: 1. النزاع بين الدول 2. الفقر والأمراض المعدية والأخطار البيئية 3. العنف الداخلي، بما في ذلك الحروب الأهلية، الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، وفشل أو انهيار الدول 4. أسلحة الدمار الشامل، ويتضمن ذلك الأسلحة الإشعاعية والبيولوجية والكيميائية فضلا عن الأسلحة النووية 5. الإرهاب 6. الجريمة المنظمة العالمية
وقد ترتب على ذلك الحاجة إلى بلورة مفهوم جديد أوسع نطاقا من مفهوم الأمن الجماعي هو "الأمن الإنساني"، وهو مفهوم يتخذ من الفرد وحدته الأساسية في التحليل انطلاقًا من أن أمن الدولة رغم أهميته لم يعد ضامنًا أو كفيلا بتحقيق أمن الأفراد، والأكثر من ذلك إنه فى أحيان كثيرة تفقد الدولة الشرعية فتتحول ضد أمن مواطنيها. ومن هذا المنطلق، جاء بروز مفهوم الأمن الإنساني في محاولة لإدماج الشق أو البعد الفردي ضمن مفهوم الأمن، وذلك من خلال التركيز على تحقيق أمن الأفراد داخل وعبر الحدود بدلا من التركيز على أمن الحدود ذاته، وتجدر الإشارة إلى أن بداية الجدل حول مفهوم الأمن الإنساني إلى عام 1994، وذلك مع صدور تقرير التنمية البشرية لهذا العام، إذ طرح التقرير مفهوم الأمن الإنساني Human Security باعتباره أحد أولويات الأجندة الأمنية في القرن الحادي والعشرين، إذ يشمل حماية الأفراد من كل ما يهدد أمنهم. كما ظهر المفهوم بشكل أكثر تفصيلا في دراسة ضمن تقرير التنمية البشرية لعام 1999 بعنوان:"عولمة ذات وجه إنساني" حيث حدد سبعة عناصر تشكل المخاطر التي تهدد الأمن الإنساني في عصر العولمة وهي: عدم الاستقرار المالي، وغياب الأمن الوظيفي، وغياب الأمن الصحي، وغياب الأمن الثقافي، وغياب الأمن الشخصي، وغياب الأمن البيئي، وغياب الأمن السياسي والمجتمعي. ورغم ملائمة مفهوم الأمن الإنساني بهذا المعنى لطبيعة العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلا أنه يواجه العديد من المشكلات النظرية والمنهجية، فما جدوى معالجة هذه التهديدات في إطار الأمن الإنساني إذا كان غالبيتها يعالج ضمن سياسات التنمية، وما التبرير الفلسفي لمثل هذا التكرار؟ ويُرد على ذلك بأن ذلك يرتبط بالصفة الحرجة لهذه التهديدات والتي تأتي من عمقها فضلا عن انتشارها الناتج عن ذيوعها على مستوى واسع وتكرارها عبر الزمان والمكان لتصبح ظاهرة عالمية وليس حالة فردية. ومن ناحية أخرى، قامت بعض الدول (منها اليابان وكندا) بالإعلان عن تبني أطروحات أخرى لمفهوم "الأمن الإنساني". فمن جانبها ركزت كندا في تعاطيها مع المفهوم على البعد السياسي من خلال التركيز على حماية الأفراد أثناء النزاعات المسلحة والحروب، دون التركيز على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للمفهوم، إذ ترى أن هذا يدخل المفهوم ضمن دراسات التنمية وهو الأمر الذي من شأنه إيجاد خلط بين مفهوم الأمن الإنساني ومفهوم التنمية البشرية. وتتفق اليابان مع كندا في عدم إدراج الكوارث الطبيعية ضمن مفهومها للأمن الإنساني. إذ يحكم كل من اليابان وكندا في هذا الصدد منطق يقوم على عدم إدراج الكوارث الطبيعية ضمن عناصر أو مكونات مفهوم الأمن الإنساني باعتبار أن الكوارث الطبيعية ليست من صنع الإنسان، ومن ثم لا تدرج ضمن مكونات مفهومهما للأمن الإنساني، أي أن العبرة وفقًا للرؤية الكندية بمصدر الضرر وليس بمن يقع عليه الضرر. أما الاتحاد الأوروبي فقد طرح رؤية معدلة لمفهوم التدخل الدولي الإنساني من خلال الإعلان عن وجود مسئولية تاريخية للاتحاد الأوروبي في المساهمة في خلق عالم أكثر أمنا من خلال العمل على تحقيق أمن الأفراد في مختلف أنحاء العالم، وفى هذا الصدد، تم تشكيل لجنة من الخبراء والسياسيين من دول الاتحاد الأوروبي لدراسة طبيعة الدور الذي يمكن للاتحاد الأوروبي لتحقيق هذا الهدف ووضعت اللجنة تقريرًا بعنوان إستراتيجية أوروبية لتحقيق الأمن الإنساني تمت من خلاله بلورة دور أمنى جديد للاتحاد الأوروبي يقوم على إمكانية نشر القوات لتحقيق الأمن الإنساني. وبصفة عامة، يمكن القول أنه على الرغم من صعوبة التوصل إلى اتفاق حول مفهوم محدد وواضح للأمن الإنساني، فلا يمكن إنكار إن هذا المفهوم يقوم بالأساس على مواجهة التهديدات غير العسكرية، وأنه يهدف في الأساس إلى حماية الأفراد والشعوب وليس مؤسسات الدول، ولكن يجب ألا يفسر ذلك على أنه يهدف لاستبعاد الأمن بمعناه التقليدي لأنه يهدف بالأساس لتوسيع رقعة التهديدات التي تحيق بالفرد ومجتمعه. ويرى كثيرون أن التهديدات المطروحة في إطار مفهوم الأمن الإنساني تترابط وتتعقد العلاقات فيما بينها على نحو غير مسبوق. وهي قد تكون موجهة للأمن الإنساني أو إلى أمن الدول، وهذا ما يترتب عليه إعادة النظر في ترتيبات منظومة الأمن الجماعي بحيث تعطى أهمية خاصة للإجراءات الوقائية؛ ففي حين أن التهديدات "الكلاسيكية" للسلم والأمن الدوليين يمكن مجابهتها بالوسائل القمعية المعتادة، فإن الأخطار أو التهديدات الجديدة للسلم لايمكن التعامل معها وفق هذه الإمكانيات. فالفقر والتهديدات البيئية والمرض لايكمن التخلص منها أو تحسين وضعها عبر نشر قوة عسكرية. ولا يمكن منعها من قبل إحدى مؤسسات أو أعضاء المجتمع الدولي، ولكن يمكن التعامل معها فقط من خلال التنسيق بين المؤسسات والآليات المختلفة في المجتمع الدولي. ولكن لا يزال هذا الرأي محل جدل كبير؛ إذ يرى بعض النقاد أن الأمن الخارجي لبعض البلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية أَو ألمانيا الاتحادية لا يمكن أن يطاله تهديد إلا بشكل غير مباشر من قبل الفقر وعدم التقدم في دول الجنوب، ومن ثم فإنه من الخطأ وضع مثل هذه التهديدات على نفس درجة أهمية تهديدات أخرى مثل الحروب بين الدول والحروب الأهلية والإرهاب. كما إن النظر للفقر والمرض والتهديدات البيئية باعتبارها تهديدات للأمن والسلم الدوليين يستتبع بالضرورة إعادة النظر في سلطات مجلس الأمن الدولى ذات الصلة لاسيما الصلاحيات الممنوحة له بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فعلى سبيل المثال، في حالة وجود انتهاكات للبيئة في دولة ما أو في حالة الرفض الدائم من قبل حكومة دولة ما مكافحة الفقر باستخدام وسائل مناسبة وفعالة، يصبح من حق المجلس اتخاذ إجراءات غير عسكرية أو حتى عسكرية ضد الدولة المعنية. في حين يرى آخرون أن مجلس الأمن غير كاف وحده للتعامل مع تطورات النظام الدولي والمصادر الجديدة التي تهدد السلم والأمن الدوليين، فمثلا لا يكمن للمجلس أن يتخذ قرارات ملزمة في حالة وجود تلوث بيئي أو مجاعة، كما لا يمكنه يتخذ قرارات قابلة للتنفيذ لمنع إقامة مفاعلات نووية، وليس بإمكانه كذلك أن يتخذ قرارا بإسقاط ديون الدول النامية الأكثر فقرا أو فرض رسوم على التجارة الدولية لمواجهة كارثة طبيعية أو بيئية.
#مروة_نظير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جنود حفظ السلام وإشكالية الحماية/ المسئولية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|