|
مقالات في الذات والآخر: الخيال الذي نعتقده واقعا
مروان دويري
الحوار المتمدن-العدد: 3138 - 2010 / 9 / 28 - 08:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*تبدو للوهلة الأولى العلاقة بين الفرد والآخر أنها علاقة بسيطة لكنها من بين العلاقات الأكثر تعقيدا. سأحاول في سلسلة مقالات مؤلفة من سبع حلقات شرح هذه العلاقة المتشابكة بين الفرد والآخر القريب، مثل الأهل أو الأولاد أو الزوج/الزوجة أو الأصدقاء، أو بين الفرد والآخر الغريب المنتمي إلى الحمولة أو الطائفة أو القومية الأخرى. ومن ثم إعطاء توجيه لكيفية إحداث تغيير في قراءة الذات والآخر بشكل يمكننا من الوصول إلى الارتياح من جهة والنجاعة من جهة أخرى. علما بأن التشابك بين الذات والآخر والتشوه الحاصل خلال هذا التشابك هو أمر لا بد منه إلا أنه يمكن تخفيفه وجعله أكثر اعتدالا*
فهم الذات عملية صعبة المنال إذ ان بعض مضامينها تبقى في اللاوعي من جهة وتختلط بالآخر من جهة أخرى.
*مضامين الذات البعيدة عن وعينا: حين يُطلب من شخص ما تعريف نفسه فيقول أنا كذا (كريم وصادق مثلا) ولست كذا (لست كافرا وجاهلا مثلا). هذا هو تعريفه لنفسه أمام الآخر والذي لا يطابق حتما تعريفه لنفسه أمام نفسه، إلا أن كلا التعريفين يقعان في دائرة الوعي الذي يقع عادة تحت طائلة المراقبة التي تقوم بها دفاعاتنا النفسية والتي تعمل على إبقاء جوانب أخرى من النفس بعيدة عن وعينا. مثلا، لدى معظم الناس توجد جوانب أنانية إلا أن الناس تميل إلى إنكارها بل تغطيتها أو تبررها بدوافع أخلاقية أخرى. الوالدان اللذان يحلمان بأن يصبح ابنهما طبيبا ليتفاخرا أمام الناس، يقومان بالضغط عليه لدراسة الطب والإقلاع عن اهتمامه بمواضيع أخرى بحجة أن ذلك من أجله ولمصلحته. في كثير من الحالات تكون وراء مثل هذا الموقف أنانية الوالدين وليس مصلحة الإبن، إلا أنها تبقى مكبوتة في أعماق نفسيهما بعيدة عن وعيهما لذلك لا يدرجانها ضمن وصفهما لذاتهما أمام الآخرين أو حتى أمام نفسيهما. هناك رجال متعصبون على زوجاتهم وبناتهم ويرون بأن كل محادثة مع رجل "يكون الشيطان ثالثهما". في كثير من الأحيان يكون التعصب ليس جزءا من منظومة أخلاقية أو دينية بل انعكاسا لمضامين ذواتهم. في مثل هذه الحالات يكون هؤلاء الرجال ممن يستحضرون "الشيطان" في كل علاقة يقيمونها مع زميلاتهم أو قريباتهم وبالتالي يسقطون مشاعرهم وأفكارهم هذه على نسائهم وبناتهم معتقدين أنهن يشعرن ويفكرن مثله وأن الرجال الذين يتحدثن معهم هم أيضا مثله. غالبا ما ينكر هؤلاء الرجال وجود نواياهم الجنسية في نفوسهم فتبقى خارج دائرة وعيهم أو على الأقل خارج دائرة اعترافهم لما هم عليه.
المرأة التي تضاجع رجلا وهميا: عمليات الإسقاط تصل أحيانا إلى حدود مرضيـّة. لقد قمت بمعالجة امرأة تقيم علاقة مع رجل وهمي يظهر في حياتها ليمارس معها الجنس ويحرّضها على زوجها وعائلتها. وجود هذا الرجل وما يقوم به كلها أوهام تعتقدها هذه المرأة بأنها حقيقة وبالتالي تشعر بخوف شديد وشعور بالذنب على ما تعتقد أنها تقترفه. في تحليل حالة هذه المرأة تبين أنها تربت على قيم متزمتة تتعارض تماما مع طبيعتها البشرية لذلك أختلقت هذه الشخصية الوهمية دون وعي لتسقط عليها رغباتها الجنسية من جهة وغضبها على زوجها وأهلها من جهة أخرى. فبدل أن تعي أنها هي صاحبة الرغبات الجنسية وصاحبة الغضب المحرمين تماما على منظومتها القيمية، قامت بنسب هذه الرغبات والغضب إلى شخصية وهمية أبعدت عنها المسؤولية لكنها ولدت لديها الخوف والشعور بالذنب. هذه هي طبيعة معظم الاعراض النفسية فهي تأتي لحل صراع نفسي إلا أن هذا الحل يصبح مشكلة معقدة تتطلب تحليلا وعودة لفهم الذات والآخر بشكل أكثر واقعية. حالة هذه المرأة تشبه تماما حالات كثيرة ممن يسقطون رغباتهم غير المقبولة على كيانات وهمية أخرى كالجن أو إبليس الذي يوسوس لهم بفعل ما لا يعترفون بأنهم يريدون فعله. هكذا يحررون أنفسهم من المسؤولية ويسقطونها على هذه الكيانات الشريرة. غياب بعض صفات الفرد عن وعيه لا تقتصر فقط على الصفات السلبية بل هناك أناس لا يعون وجود جوانب إيجابية أيضا في ذواتهم. كثيرون ممن نشأوا في أجواء ناقدة وقامعة كفوا عن إدراك إيجابياتهم وانشغلوا بسلبياتهم وبالتالي بقيت إيجابياتهم بعيدة عن وعيهم. بعض من يتوجهون لعيادتي يستغربون حين أنقل لهم تقييما إيجابيا عنهم مثل "يبدو أنك إنسان طيب" أو "أداؤك في الفحص النفسي يدل على أنك إنسان ذكي". يستغربون لأنهم اعتادوا أن يسمعوا أنهم سيئون وأغبياء مما جعلهم يصدقون ما يقال عنهم وكفوا عن إدراك هذه الصفات الإيجابية فيهم.
*مضامين الذات تشمل الآخر: تطور بناء الشخصية يجري من خلال تفاعل معطيات الطفل الوراثية مع شخصيات وسلوكيات الآخرين من حوله خاصة الوالدين وفيما بعد شخصيات اقتداء أخرى. لذلك فإن شخصية الإنسان الراشد تشمل مركبات من شخصيات الآخرين الذين تأثر بهم وبالتالي تشمل أنماط تفكيرهم وقيمهم وسلوكياتهم التي تم تذويتها (جعلها جزءا من الذات). أحيانا لا يصعب ملاحظة سلوك معين لشخص ما يشبه إلى حد كبير سلوك أحد والديه، أو نلاحظ تطابقا كبيرا في مواقف وأنماط تفكير شخص ما مع مواقف وأنماط تفكير أشخاص هامين في حياته مثل أخيه الأكبر. هناك نظريات تدعي بحق بأن بداخل كل شخص توجد أجزاء من شخصيات أمه وأبيه وأشخاص آخرين قام بتذويتهم دون وعي خلال سيرورة بناء شخصيته. ليس أن الفرد يذوّت أجزاء من شخصيات الآخرين بل ان قراءته لنفسه تتأثر بشكل كبير بما سمعه من الآخرين عن نفسه. هنالك نظريات تدعي أن الآخرين، خاصة الأهل، هم بمثابة مرآة نـَعرف أنفسنا من خلالها. وبالتالي فصورة الذات التي نعرفها عن أنفسنا هي ليست تصويرا فوتوغرافيا لما نحن عليه بل هي صورة ساهم برسمها الآخرون من خلال تعاملهم معنا ومن خلال الأوصاف التي أطلقوها علينا.
*ضرورة فهم الذات:إذًا إن صورة الذات التي يحملها الفرد عن نفسه هي صورة تتجاهل بعض جوانب الذات التي تبقى مكبوتة في اللاوعي من جهة وتتأثر إلى حد كبير بتجربتنا المتراكمة مع الآخرين وبقراءتهم لنا والتي هي قراءة ذاتية وتكون أحيانا مشوهة. حين يصل الكبت والتشويه في صورة الذات إلى حد المبالغة والقطيعة مع الذات الحقيقية (كما في حالة المرأة المذكورة سابقا)، عندها يمكن للفرد أن يعاني من أزمات نفسية كالقلق والاكتئاب أو اعراض جسدية مصدرها نفسي. في هذه الحالة يتركز جزء هام من العلاج النفسي على إعادة "ترتيب الأوراق" ومساعدة الفرد على فهم التشويه الحاصل في قراءته لنفسه. ينتهي مثل هذا العلاج بقراءة جديدة للذات والآخر. مثل هذه العلاج يتم من خلال جلسات (عادة أسبوعية) يجري خلالها مسح مجدد لحياة الشخص منذ طفولته لفهم كيفية حدوث عملية التشوه للذات والخلط بالآخر، ولإدراك الخلل في قراءة الذات والآخر، والتحرر من قراءة الآخرين له، وبالتالي تكوين صورة جديدة للذات والآخر أقرب إلى الواقع الموضوعي تمكنه من التكيف من جديد واستعادة سعادته المفقودة.
*مناقشة بعض التشويهات الشائعة في قراءة الذات:هذه نماذج لقراءات خاطئة عن الذات والتي تتميز إما بالتعميم أو بالتطرف والتي تضر بصاحبها. * لا أشعر بالرضى عن نفسي إلا إذا كنت كاملا في كل شيء: كما يقال "الكمال لله" أما من يطلب من نفسه الكمال فيلقي على عاتقه مهمة مستحيلة تكون نتيجتها الإحباط واليأس والكف عن محاولة التقدم. أما إذا قبل المرء نفسه بما فيها نواقصه وعيوبه فإنه يستطيع عندها تعلم الدروس من أخطائه وبالتالي مواصلة التقدم والتطور. لذلك فإن تغيير الذات يبدأ بقبولها وليس برفضها لأن رفضها يدفعها إلى دائرة اللاوعي فنفقد القدرة على التغيير. * كل حياتي هي فشل بفشل: كثيرون هم من يقرؤون أنفسهم خطأ على أنهم فشل بفشل إما نتيجة كثرة النقد الذي تلقوه خلال حياتهم فكفوا عن إدراك نجاحاتهم، أو نتيجة ميلهم للكمال الذي لا يمكن أن يتحقق مهما حققوا من نجاحات. جميع هؤلاء تكون لديهم نجاحات في مجالات عديدة لكنهم للأسف لا يدركونها. أعرف أكاديميين بارعين ورجال أعمال ناجحين وفنانين موهوبين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم فاشلون. ومن جهة أخرى أعرف الكثير من الفاشلين حقا في مجالات هامة في حياتهم التعليمية أو المهنية أو الاجتماعية ويتحلون بثقة واعتزاز بأنفسهم. إذًا القضية هي في كيفية قراءة الشخص لنفسه. هذه القراءة التي يمكن العمل على تغييرها في إطار الاستشارة النفسية. * كل ما أقوم به هو خير ولا أتلقى إلا الشر من الآخرين: هذا التقسيم إلى أسود وأبيض هو تقسيم غير واقعي يجب إعادة النظر فيه من جديد، لأنه يودي بصاحبه إلى الغضب على الغير أو إلى الاكتئاب واليأس. لا توجد ملائكة على الأرض، بل بشر يعملون من أجل مصالحهم ضمن إطار أخلاقي وقيمي. ففي كل فرد يمكن أن نقرأ الشر والخير وفي كثير من الأحيان يكون القيام بالخير هو خدمة للذات، وكثير من الأحيان يكون ما وراء الشر الذي يقوم به الغير نوايا حسنة. هذه القراءة المركبة للواقع والتي ندرك من خلالها النقائض والتنوع بداخل الأشياء هي الأقرب للواقع وتساعدنا على التكيف بشكل أفضل (سأفصل هذه النقطة أكثر في المقال الأخير). * لكي أكون سعيدا يجب أن أحظى دائما بحب وتقدير الجميع: كثيرون تنقلب حياتهم ويتأرقون حين يكون أحد غير راض منهم. هذه نظرة طفولية لا تدرك بان لا أحد يحظى بحب الجميع دائما، ومن يحاول تحقيق ذلك إنما يُبطل نفسه ليتلاءم مع توقعات الآخرين التي هي مختلفة من شخص لآخر فيصبح كالحرباءة، يتلون بحسب الأشخاص الذين يتعامل معهم وبالتالي لا يحظى إلا بتقدير من بعض الناس ولبعض الوقت. أما لو عمل المرء على خلق توازن ما بين رضاه عن نفسه وبين رضى الآخرين عنه فيربح في هذه الحالة نفسه أولا وأناسا من حوله يحبونه ويقدرونه أيضا. المقال القادم حول التشويه في فهم الآخر.
#مروان_دويري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الحب والأنانية: حب الآخرين يبدأ بحب الذات (3)
-
حقا تحركت الخارطة السياسية يمينا؟ وما هو دورنا؟
-
الاستقلال القومي والعدالة الاجتماعية في عصر العولمة: إسقاطات
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|