هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 3136 - 2010 / 9 / 26 - 21:27
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
اصغر محكوم بالسجن المؤبد في فرنسا . باتريك ديلس.
حصل على براءته بعد 15 عاما قضاها مسجونا.
هل الاعتراف دائما سيد الادلة ؟.
"جاء اعترافي فقط كي تتركني الشرطة بهدوء". باتريك ديلس
"لو لم تلغ عقوبة الاعدام من القانون الفرنسي لما ترددت بطلب الحكم بها على المتهم". المحامي العام في مرافعته امام محكمة جنايات الاحداث في موسال.
" انا في غاية السعادة من القرار الذي تم صدوره ببراءتي. لابد لي من وقت طويل لاستيعاب الوضع. لا يستطيع احد ان يعيد لي الخمسة عشر سنة التي ضاعت من عمري في السجن" باتريك ديلس. بعد الحكم ببراءته في 24 افريل 2002.
تعويض لم يدفع مثيل له في فرنسا لأي محكوم تمت تبرئته ( 1146046 يورو).
ضحية "العدالة" في القضية التي سنعرضها فقد 15 عاما من حريته نتيجة خطأ قضائي( هذا في دولة تعمل لان يكون قضاؤها قريبا من الكمال, فما بالنا بالقضاء الصوري الذي لا يملك حتى استقلاله؟ !!!) بكل ما تحمله هذه السنوات الطويلة, في حياة حدث بريء لم يكن بعد قد خرج كاملا من الطفولة الغضة, من اثار مأساوية جسدية ومعنوية لا يمكن لشيء محوها.
بقي باتريك ديلس 15 عاما مجرما خطيرا في نظر الراي العام. تناقلت كل وسائل الاعلام اخبار جريمته وذهبت بها كل مذهب في طول البلاد وعرضها. مجرم في عيون اقاربه واصدقائه ومعارفه. أية معاناة !!!. اية اهانة استمرت طوال هذه المدة لكرامة انساء بريء ولعائلته!!!. أية اهانة تلحق بعدالة جعلت هدفها الاول الانصاف وإقامة العدالة !!!.
المحامي العام صرح بانه كان سوف لا يتردد لحظة واحدة بطلب انزال عقوبة الاعدام بباتريك لو لم تلغ من القانون الفرنسي.( الغيت عقوبة الاعدام في فرنسا عام 1981). كان سيرتكب خطأ لا ندري مدى ثقله على ضميره طيلة حياته. خطأ ليس اقل ثقلا على ضمائر القضاة وهيأة المحلفين. خطأ لم يتسبب به اهل الضحيتين ومع ذلك فان فظاعة نتائجه كانت سوف لا تكون اقل ثقلا عليهم من النتائج التي خلفها قتل طفليهما. كان سيترتب على الدعوى قتل بريء على ذمة العدالة و بقاء المجرم طليقا. تعذيب ضمير خلّص الجميع منه قرار الغاء عقوبة الاعدام.
لو لم تلغ هذه العقوبة لارتكبت "العدالة" جريمة قتل , بإجراءات قانونية, ومرافعات مدوية باسم المجتمع, وحكم اعدام باسم الشعب. جريمة لا تقل بشاعة عن الجريمة المنسوبة لهذا البريء.
الغاء عقوبة الاعدام هو ما أنقذ حياة باتريك. نزاهة القضاء كانت سوف لا تنقذها. لان هذه النزاهة لم تجد نفسها الا بعد 15 عاما من الإجراءات والمراجعات والسير البطيء لالة ثقيلة لا تعرف في سيرها العواطف والأحاسيس الانسانية. 15 عاما لا كتشاف الحقيقة. 15 عاما لتبرئة بريء . 15 عاما لتعيد اليه حريته المنتهكة المعتدى عليها في كل لحظة من دهر مديد ثقيل !!!.
في مقالات سابقة خصصناها لإلغاء عقوبة الاعدام قدمنا امثلة على اخطاء للقضاء تسببت بقتل ابرياء, ثم اعيد, بعد فوات الاوان, الاعتبار لذكرى من امكن اكتشاف براءته. ونعرض في السطور القادمة قضية الحدث باتريك ديلس الذي انقذ الغاء عقوبة الاعدام حياته. علّ في ذلك ما يدفع اعداء الالغاء الى التفكير مليا في الاسباب الموجبة الوجيهة لهذا الالغاء, التي لا تعود فقط للخطأ القضائي, وانما لأسباب ذكرنا أهمها في مقالنا السابق "عقوبة الاعدام ضرورة ام ثار وانتقام".
ان يقتل مجرم بريئا فهذا ليس مستغربا. ان يُقتل بريء, نتيجة خطأ قضائي, على يد العدالة وباسمها, هذا هو المستغرب. ان يُردّ على القتل الاجرامي بقتل "عادل" هذا ما لم تعد تقبله غالبية الانسانية, ولا تقره أو تبرره فلسفة العقوبة وأهدافها.
وقائع دعوى باتريك ديلس:
عثرت الشرطة في 28 سبتمبر 1989 على الطفلين, الكسندر بيكرش و سيريل بينيك, البالغ عمر كل منهما , مقتولين بطريقة بشعة قرب السكة الحديدية للقطارات, راساهما محطمتان بضربات حجر.. مكان الجريمة Montigny-lès-Metz ضاحية مدينة Metz . كانت الجثتان مطروحتين على الظهر احداهما بجانب الاخرى. زمان الوفاة الساعة الخامسة والنصف مساء. هزت الجريمة عنيفا الرأي العام واعتبرت من الجرائم الوحشية الرهيبة
حسب ملاحظات الشرطة تم دق رأسي الطفلين بحجرين. وتطايرت دماء وأجزاء من الدماغ على الحجارة حولهما. كما شوهدت اثار دماء ليد يبدو ان صاحبها حاول مسحها على عربة القطار الواقفة في المكان قرب الجثتين. كان بنطلون احدهما ولباسه الداخلي قد انزلا الى الاسفل.
بعد معاينة المكان وتسجيل الملاحظات الاولى لخص المحقوقون بان الامر متعلق بجريمة قتل مزدوجة. حسب تقرير الطبيب الشرعي سبب الوفاة ضرب عنيف متواصل على الراس. ساعة الوفاة السابعة والنصف مساء. ورغم ملاحظة تنزيل بنطلون أحدهما فانه تبين عدم الاعتداء الجنسي على أي من الطفلين.
بدا المحققون عملهم فورا حول الجوار. وتم استجواب حوال 500 شخص , كان من بينهم عائلة باتريك ديلس . استجوب المحقوقون هذا الاخير مرتين ولم يجدوا اي شيء ضده. وعليه استُبعد من كل شبهة.
دار الاشتباه حول شخصين تم ايقافهما واستجوابهما من قبل المحققين, احدهما هنري لوكلار, عمره 38 عاما, يعمل في نقل البضائع. صرح هذا الاخير في 10 ديسمبر 1986 خلال احتفاظ الشرطة بهgarde à vue معترفا بارتكاب الجريمة بقوله:
"نزلت المنحدر حيث كان الطفلان المذكوران, بين الساعة السادسة او السابعة مساء , وسالتهما ماذا تفعلان هنا؟ اجابا نتسلى برمي الحجارة. هربا. تابعت احدهما الذي اعرفه والذي هرب عبر عربتي القطار المتوقفتين. امسكت به قرب العربة الاولى. وذهبت في اثر الطفل الاخر بين العربة الثانية والثالثة. وامسكت به قرب العربة السادسة من السكة الثالثة. صفعتهما. غضبت. ودفعتهما, ثم امسكت كل منها بيد. لم يقاوما ولم يصرخا.
عثر الكسندر وسقط على الارض حيث اصطدم رأسه بسكة القطار, وقع على ظهره. حاول الاخر الهروب. وعند تراجعه للخلف سقط بدوره على ظهره. كان الطفلان في هذه اللحظة على ظهريهما بجانب بعضهما. اخذت حجرا بحجم قبضة اليد وضربت جبهة كل منهما ضربة واحدة."
اعتبرت الشرطة هذا الاعتراف, رغم خطورته وخطورة المعترف, بانه اعتراف كاذب. تم اخلاء سبيل المشتبه فيه, واستبُعد من التحقيق.
في 12 فيفري 1987 استجوب المحققون كلود كاربات, يعمل هو أيضا بنقل البضائع, عمره 18 عاما محكوم سابقا بجنح اخلال بالحياء. واثناء استجوابه قدم اعترفا ذكر فيه ان اداة الجريمة التي ارتكبها هي عصا, في حين ان تلك الاداة هي حجرين. وقد ترك المشتبه به و استبعد من التحقيق.
(اعترافات كاذبة !!!. لم يتساءل القضاء عميقا عن سبب اعتراف شخص بجريمة لم يرتكبها خلال فترة احتجاز الشرطة له والتحقيق معه. وان جرت حديثا تشريعات لإصلاح التوقيف في مراكز الشرطة للتحقيق garde à vue وحضور المحامي .. وان تجري اليوم مطالبات من بعض كبار القضاة والحقوقيين بالغاء التحقيق في فترة احتجاز الموقوف في مراكز الشرطة. كما نتساءل نحن ان كان هذا ما يحدث في مراكز شرطة تحت رقابة صارمة من حيث الاجراءات ومراقبة من قضاة النيابة, وتأهيل طويل في مجال التحقيق .. ماذا يجري عندنا لإصلاح نظام التوقيف في مراكز الشرطة حيث لا يخضع الشرطي الا لردود افعاله ومزاجه, لانتزاع اعترافات بطرق دامية, دون اية رقابة ودون اية مسؤولية؟).
المشتبه فيه الذي تركزت التهمة حوله:
دارت الشكوك حول باتريك ديلس اثر شهادة زوجين, في شهر افريل 1987, اشارا فيها الى وجود باتريك ديلس قرب مكان الجريمة وقت وقوعها. وعليه, اوقف المشتبه به وتم التحفظ عليه في 28 افريل. انكر المذكورتواجده في موقع الجريمة. في 30 افريل صرح باتريك عند استجوابه للمرة الثالثة بانه كان قد كذب على المحققين وانه فعلا هو من ارتكب الجريمة.
المشتبه فيه باتريك ديلس حدث في سن المراهقة, يبلغ من العمر ستة عشر عاما. تربى في وسط بروتستانتي. خجول, متحفظ, منطو على نفسه, تصرفاته غير انفعالية, لا يعاني من اضطرابات عقلية ولا تبدو عليه خطورة اجرامية. حسب الطبيب النفسي الذي اشرف عليه.
عمله حينها متدرب على اصول الطبخ. هوايته جمع الطوابع. متعلق بأسرته وخاصة بأمه. وصفته اسرته بانه هادئ الطباع لم يكن عنيفا في اي تصرف له.
اعتراف باتريك ديلس:
عدت مع والديّ الى المنزل في 28 سبتمبر 1986 حوالي الساعة السادسة والنصف مساء, بعد ان قضت يومي في الريف. خرجت للبحث عن طوابع قد تكون في رسائل ملقاة في القمامة. خلال ذلك لمحت الطفلين واقتربت منهما لسبب لا يمكن شرحه. اخذ ت حجرا وضربتهما الواحد بعد الاخر. " اجهل السبب الذي دفعني لصعود المنحدر من السكة الحديدية ثم متابعة الطفلين وقتلهما. لقد احسست باني اتصرف كما لو لم اكن انا. اندم على ما فعلت".
ادهشت المحققين التفاصيل الدقيقة التي قدمها باتريك. استدعى مفتش الشرطة اثر هذا الاعتراف ام المشتبه به فكرر باتريك امامها اعترافه بتفاصيله للمرة الثانية.
صرح الاطباء النفسيون الذين عاينوا باتريك بانهم لا يشكون مطلقا بإجراميتة.
امام هذه الاعترافات قرر مفتش الشرطة دون تردد احالة باتريك امام قاضي التحقيق . في 30 افريل كرر باتريك اعترافه امام قاضية التحقيق بحضور المفتش . لم يكن مصحوبا بمحام.
تأكيد الاعترافات أمام قاضي التحقيق :
عمد قاضي التحقيق الى اعاد تمثيل الجريمة. وتم اخفاء وجه المشتبه فيه بقناع لاتقاء عدسات المصورين الصحفيين. والبس صدرية واقية من الرصاص لتأمين حمايته. وطلب منه وضع دميتين مغطاتين تمثلان الجثتين في مكان الجريمة. فاضطرب المشتبه فيه, ولم يلفت هذا اهتمام القاضية. وضع الدميتين مكان الجثتين دون خطأ واشار الى الحجرين الذين تم استعمالهما في ارتكاب الجريمة. ولكن كان هناك لحظة تردد كما روت قاضية التحقيق : اعادت تمثيل الجريمة, فثبت الاشتباه بباتريك . و بدأت التهمة تقترب منه. وبعد استماع القاضية له بعد تمثيل الجريمة قال المشتبه فيه " دخلت في دوامة وكنت مشدودا ولم استطع التراجع".
بعد استجوابه الثاني استنتجت قاضية التحقيق ان الإثباتات ضد باتريك كافية لتوقيفه بجريمة القتل العمد. وادع سجن ماتزـ كيليه مدة عامين قبل المحاكمة عام 1989. كان خلالهما معزولا ممنوعا من زيارة والديه. أوضحت قاضية التحقيق بهذا الصدد: " كنت دائما على اعتقاد بان والدته كانت على علم بما ارتكبه ابنها. ولم امنحها حق زيارته".
في 30 ماي 1987 كتب باتريك رسالة لمحاميه اعلن فيها للمرة الاولى بانه بريء من الجريمة المنسوبة اليه " لم اقتل الكسندر وسويل" موقعا رسالته بعبارة: " البريء غير المفهوم". اعترفت حتى تتركني الشرطة بهدوء". اعلن ذلك أمام القاضي في 17 جويليه 1987 . ولكنه لم يبين كيف استطاع ان يعطي تفصيلات دقيقة عن مكان واداة الجريمة. وقد صرح القاضي المذكور : أدعى باتريك براءته. ولكن امامه طريق طويل وشاق لإثبات ذلك".
المحاكمة الأولى:
كانت الجلسة الاولى امام محكمة جنايات الاحداث في موسال غير علنية, بسبب سنه وقت ارتكاب الجريمة المنسوبة اليه. في 27 جانفي 1989 بعد جلسات استغرقت 3 ايام حكمت المحكمة على باتريك ديلس بالسجن المؤبد. فاصبح اصغر محكوم بالمؤبد سنا بفرنسا. ولم تأخذ المحكمة بعذر الحداثة الذي يمكن ان يخفف الحكم. وبالعكس فان المحامي العام في مرافعته اعلن بقوة: " لو لم تلغ عقوبة الاعدام
من القانون الفرنسي لم ترددت بطلب الحكم بها على المتهم".
تعرف باتريك في السجن على سجين اكبر منه سنا ,استطاع ان يساعده على الخروج من عزلته وعن صمته, شجع باتريك , بعد ان وثق هذا الاخير به, على اعلان براءته بصوت عال وان يعمل كل ما بوسعه لإثباتها امام الجميع. (في 19 افريل 2002 نقلت جريدة لموند عن باتريك قوله : " شخص لا أنساه ابدا. استطاع ان يحمل الي ما لم يستطع أحد حمله. خلال 15 عاما كنت معزولا تماما, كنت مهملا. كان من المستحيل فهم ما حدث... استمع الرجل لي وتحدث الي طويلا. اعاد لي الثقة... كنت بحاجة لان افهم ما جرى وان احاول ان افهمه للغير ..).
في السنة الثالثة من سجنه قدم محاميه عام 1990 طلبه الاول للمراجعة لدى لجنة المراجعة الجنائية commission de révision . وقد رد طلبه لعدم وجود عناصر جديدة يمكنها ان تولد الشك في اجرامية المحكوم عليه.
في 6 ماي 1994 تقدم باتريك الى الرئيس فرنسوا ميتران بطلب عفو رئاسي لكن طلبه رفض .
(نرى ضرورة الاشارة الى انه قبل عام 2000 لم يكن بالإمكان استئناف قرارات محكمة الجنايات فهي تصدر بالدرجة النهائية , اي غير قابلة للاستئناف. وهذا استنادا الى مقولة ان محكمة الجنايات cour d’assises المكونة من محلفين وقضاة مهنيين تصدر قراراتها باسم الشعب. والشعب لا يخطئ. مقولة غير واقعية لان هيئة المحلفين مثلها مثل القضاة المهنيين يمكن ان تخطئ اذا توفرت اسباب الخطأ, ويمكن بالتالي ان تدين بريئا).
انضم الى محامي الدفاع عن باتريك ديلس الاستاذ جان مارك فلوران من قدماء المتمرين عند المحامي جاك فرجاس. وقدم في 27 مارس 1998 عريضة جديدة للمراجعة. استنادا الى عنصر جديد هو وجود فرنسيس هولم في مكان الجريمة يوم ارتكابها. فإقحام هذا الاخير في القضية يلقي شكا كبيرا على جرمية باتريك. فرنسيس هولم مجرم معروف ذو سوابق عديدة.
عريضة المحامي فلوران استندت على تقرير محقق كان قد حقق في جرائم القتل التي ارتكبها فرنسيس حتى سجنه عام 1992. يسجل التقرير المذكور تصريحا للقاتل المعتاد جاء فيه:
"قمت بنزهة على الدراجة بمحاذاة سكة القطار في شرق فرنسا ... ذهبت غير بعيد عن المكان المذكور ثم رجعت بعد عدة دقائق, فرأيت جثتي الطفلين قرب عربات القطار غير بعيد عن موضع القمامة وعن الجسر ... رأيت في المكان رجال اطفاء وشرطة."
لم يصل هذا التقرير المحرر عام 1992 الى علم المحامي فلوران الا عام 1997 اي بعد 5 سنوات بعد تاريخ توقيف باتريك.
عام 1998 رات لجنة المراجعة وجود عنصر هام وخطير فيما جاء بتصريح فرنسيس فقررت فورا فتح تحقيق اضافي. اسندت مهمة التحقيق لقاض من اعضائها. اجري القاضي المذكور 3 جلسات استجواب لفرنسيس. في الجلسة الاولى, 30 حزيران 1998, صرح هذا الاخير بانه مر على دراجته بالقرب من مكان الجريمة يوم ارتكابها حوالي الساعة الثالثة والنصف او الرابعة بعد الظهر, وانه كان ضمن مجموعة دراجين يبلغ عددهم حوالي 15 فردا. ولدى عبورهم النفق القت مجموعة من الاطفال الحجارة عليهم وجرحوا اثنين منهم. خلال عودتهم على نفس الطريق حوالي الساعة الخامسة والنصف زوالا لاحظ وجود رجال درك ورجال اطفاء. مضيفا, توقفت وسألت عما يحدث فاخبرني ضابط من رجال الاطفاء بانه يعتقد بوجود جثتين لطفلين تم قتلهما.
بعد التدقيق بأقواله فيما يتعلق بالوقت الذي مر فيه الدراجون قرب مكان الجريمة, تبين ان جولتهم كانت قد انتهت الساعة 12 ونصف ظهرا. وعليه فان مرور فرنسيس بالمكان اخر النهار عند العثور على الجثتين لم يكن مصحوبا بدراجين.
في استجوابه الثاني في 16 تموز 1998 , اعترف فرنسيس بانه لم يقل الحقيقة كاملة فيما يتعلق بالوقت. لأنه في ذلك اليوم ذهب الى منزل جدته في Vaux على دراجته حوالي الساعة الواحدة والنصف زوالا للتنزه.
في استجوابه للمرة الثالثة في 21 افريل 1999 , كرر فرنسيس هولم اقواله التي جاءت في جلستي الاستجواب السابقتين.
قررت لجنة المراجعة في جوان 1999 تحويل ملف باتريك ديلس لمحكمة النقض التي اجتمعت في هيئة مراجعة. ورغم وجود عناصر جديدة في ملف باتريك اعلن المحامي العام في مرافعته امام المحكمة بانه ضد مراجعة دعوى هذا الاخير, ومع ذلك طلب بانه " لتجنب الخطأ يجب محاولة كل ما هو انساني وعلمي ممكن ".
بعد اعادة الاستماع الى فرنسيس هولم في 17 اوت 1999 تم توقيفه , بناء على طلب وكيل الجمهورية لدى محكمة نانسي. وقد اكد المذكور تصريحاته السابقة. وعندما سأله المحقق هل كان قادر على قتل الطفلين الذين رميا الدراجين بالحجارة؟. اجاب بدم بارد "نعم ".
اكد فرنسيس للمحققين بانه شاهد القاتل. وانه يدعى هنري لوكلار: " اردت ان اعرف بمن يمكن ان يكون قد الحق هذا الرجل اذى ..فجأة وعن بعد حولي 100 متر رأيت ملابس على جانب المنحدر رأيت ذلك من الجانب المقابل. اقتربت. وهناك اكتشفت طفلين ملقيين على الارض بجانب بعضهما الشيء الذي ارعبني. ومع ذلك اقتربت من احدهما, لا اعلم ايهما, ادرته لأنه كان يرقد على بطنه , كان ميتا, وبه جروح في الراس المغطى بالدماء".
لم يجزم المحققون ان كان فرنسيس يقول الحقيقة أم يكذب. وهل رأى فعلا القاتل. في شهادته امام محكمة جنايات ليون صرح احد المحققين الذين حققا مع فرنسيس بان هذا الاخير كان ينسب دائما الجرائم التي يرتكبها بنفسه الى اخرين.
أمرت محكمة المراجعة فتح تحقيق اضافي. جاء في قرارها ان " وجود فرنسيس هولم في مكان الجريمة في 28 سبتمبر 1986 يعتبر عنصرا لم يكن معروفا يوم المحاكمة". واُعتبرت اقوال فرنسيس خطيرة . وعليه فان "التحقيقات ضرورية لإظهار الحقيقة". عينت المحكمة احد قضاتها لمباشرة التحقيق.
في 28 نوفمبر 2000 بناء على انابة قضائية commission rogatoire تم توقيف فرنسيس من قبل الشرطة القضائية بهدف الوصول الى الشاهد الذي قال بانه راه يوم الجريمة.
كشف التحقيق الجديد ان فرنسيس يعمل في مشروع بناء يقع على بعد 400 متر من مكان الجريمة. شهد العديد من العمال في المشروع المذكور بانه طرأ تغير على سلوك فرنسيس طوال شهر سبتمبر. وانه اصبح عنيفا مع بعض زملائه.
كما تبين من التحقيق ان فرنسيس يعرف معرفة كبيرة المكان الذي وقعت فيه الجريمة. وبناء على طلب المحققين رسم مخططا دقيقا وكاملا للمكان.
تم التأكد من ان فرنسيس لم يذهب, كما ادعى في اقواله السابقة, الى الطبيب يوم الجريمة. وعن اثار الجرح في قدمه اليمنى اجاب ان سبب ذلك كان منجلا, وقد حدث قبل وقت من تاريخ وقوع الجريمة.
كان فرنسيس هولم قد اوقف عام 1992 . وادين لارتكابه 5 جرائم قتل منذ عام 1984 , جرائم طرق ارتكابها مشابهة لتلك التي تم فيها قتل الطفلين في 28 سبتمبر 1986 . وثبت ان رغم انكاره ارتكاب جريمة قتل الطفلين فانه كان يومها في المكان الذي وقعت فيه.
في 31 افريل 2001 بعد دراسة عريضة المراجعة التي تقدم بها محامي باتريك نطقت محكمة المراجعة بإلغاء عقوبة باتريك وامرت بإعادة المحاكمة من قبل محكمة جنايات الاحداث في مارن. مع ابقائه في السجن.
وذكرت ان من اساب المراجعة ايضا ان " في الجرائم التي ارتكبها فرنسيس قبل توقيفه عام 1992 عناصر مشابهة للجريمة التي ادين فيها باتريك ديلس".
المحاكمة الثانية:
في 2006/06/20 بدأت محاكمة باتريك ديلس للمرة الثانية امام محكمة جنايات الاحداث في مارن. جرت المحاكمة في جلسات مغلقة بسبب سن المتهم عند ارتكاب الجريمة المنسوبة اليه. وقد بدا لمحامي باتريك انها دعوى الامل الكبير, لما كشفت عنه التحقيقات مع فرنسيس هولم .
كان هذا الاخير قد ادين مرتين بالسجن المؤبد. وقد تعود الوقوف في قفص الاتهام ولكنه هذه المرة يمثل كشاهد في قضية باتريك. وكان مصير هذا الاخير معلق على شهادة المجرم المعتاد.
لم يقدم فرنسيس للمحكمة اية اعترافات جديدة, وانما على العكس اكد أقواله السابقة, ونكر بانه هو مرتكب الجريمة التي يحاكم بها باتريك, وتوجه نحو اهل الضحيتين قائلا: " اككد لكم, كرجل, باني لم اقتل ابنيكما". ثم توجه نحو باتريك قائلا : " اتمنى لك الخروج. لا اعتقد بانك مجرم".
في اليوم الاخير من المحاكمة فاجأ المحامي العام الجميع بانه يؤسس على اقتناعه الشخصي conviction intime بإعلانه ان باتريك ديلس بريء ويجب الافراج عنه. في نهاية دفاعه اعلن احد محامي باتريك: " بينت بان اعترافات باتريك كانت مفبركة وان المشرف على التحقيق كان قد كذب وغش". مضيفا " انه متأكد من اصدار حكم ببراءة موكله". كما اكد المحامي فلوران قناعاته بتورط فرنسيس هولم.
اما باتريك نفسه فقد صرح امام هيئة المحلفين " هذه الدعوى جعلتني اعي فداحة الجريمة. واني اتفهم الم اهل الضحيتين . اعلم باني لست دائما مُقنع فيما أقدمه, ولكني متأكد من انني بريء".
بعد تسعة ايام من الجلسات, و 6 ساعات من المداولات, ورغم مطالبة المحامي العام بتبرئة باتريك والافراج عنه, ومرافعة محامي هذا الاخير بوجود فرنسيس هولم في مكان الجريمة, اصدرت محكمة الاحداث في مارن حكمها بادنة باتريك والحكم عليه بالسجن لمدة 25 سنة. اسس 9 من المحلفين على "الاقتناع الشخصي" . صدر الحكم بالأغلبية المطلقة.
لم يسجل تاريخ القضاء الفرنسي منذ عام 1945 ان دعوى مراجعة واحدة انتهت الى الادانة. مما دفع محامي الدفاع فلوران الى القول " باتريك ديلس اصبح لغزا".
في مقال سابق متعلق بقضية عمر رداد, اشرنا الى ان الشك لم يفسر لصالح المتهم, في هذه القضية أيضا لم يفسر الشك لصالح باتريك ديلس. الشك الذي ولّده وجود مجرم صاحب اسبقيات في مكان الجريمة يوم وقوعها.
وجه محاميا باتريك اللوم للمحامي العام الذي اهمل خلال مرافعته عمدا اية اشارة الى وجود فرنسيس هولم, واكتفى بإظهار قناعته الشخصية ببراءة باتريك و الافراج عنه. ولكنه لم يؤسس على وجود العناصر التي كشف عنها التحقيق الاضافي الذي أمرت به محكمة المراجعة. فاعلن فلوران ان المحامي العام قد " ذهب بأكثر مما كان يأمله الدفاع نفسه, ولكنه لم يشرح براءة باتريك بوجود مجرم معتاد هو فرنسيس هولم , وانما بناء على ملف القضية لعام 1989" الذي بموجب العناصر التي يحتويها تم الحكم على باتريك في العام المذكور. بناء على هذه العناصر ذاتها طالب المحامي العام محكمة جنايات موسال, قبل 12 عاما, بالحكم على باتريك بالسجن المؤبد.
في حين ان محكمة المراجعة اعترفت رسميا بوجود فرنسيس في مكان الجريمة يوم وقوعها. فمن غير المفهوم عدم اشارة المحامي العام لدى محكمة جنايات الاحداث في مرافعته لهذا العنصر الجديد في القضية.
المحاكمة الثالثة:
قرر باتريك استئناف الحكم في 2001/07/02 . فعينت محكمة النقض محكمة جنايات الاحداث في رون Rhône في ليون لمحاكمته للمرة الثالثة. ورفضت غرفة التحقيق في محكمة استئناف ليون طلب محاميه بان يحاكم موكله طليقا.
بدأت محاكمة باتريك الثالثة في 8 افريل 2002. صرح في بدايتها محامي الدفاع برنار بيكر بقوله يجب ان تكون هذه الدعوى دعوى تبرئة باتريك : " هل من العدل ان يقضي شاب بريء 15 عاما من عمره في السجن من اجل لا شيء؟".
كانت المحاكمة بالنسبة لباتريك, الذي دخل المحكمة اكثرثقة بنفسه,, بادية على وجهه اعوامه 31 , اخر فرصة واخر امل. فقد اجاب على اسئلة رئيسة المحكمة بما يؤكد هذه الثقة قائلا: " أنا بريء في كياني, في قلبي. حتى ولو لم يكن في مقدرتي التعبير عن ذلك. 15 عاما تفصلني عن الوقائع المنسوبة لي, سأكون صريحا بقدر ما استطيع". كان باتريك يبدو في الجلسة وكانه شخص لغز.
استجوبته المحكمة عن مكانه ساعة وقوع الجريمة. وحول اعترافاته التي كان يصر على تأكيدها في كل مرة يُسأل عنها. روى كيف ان احد مفتشي الشرطة القضائية اقترح عليه الاعتراف لان ذلك اكثر فائدة له :" قال لي لنفترض يا صغيري انك اجتزت سكة الحديد ورأيت الطفلين وسخرا منك. أخذت حجرا وضربت به راس احدهما وضربت راس الاخر بحجر آخر, هذا سيناريو ليس أكثر. يمكن عندها ان نفهمك, انه حادث عرضي, ليس خطيرا. كل شيء قابل للتفسير ..". وقد ابدت رئيسة المحكمة استغرابها قائلة له ولكن الفرصة اتيحت لك عدة مرات للتراجع عن اعترافاتك ولكنك لم تفعل. حتى انك اكدت هذه الاعترافات امام امك. فأجاب بانه حين كرر اعترافه امام امه لم يكن وحيدا معها.
كل الشهادات التي تتالت امام هياة المحكمة لم تسمح بالتأكيد على وجود فرنسيس في مكان الجريمة ساعة وقوعها. ثم جاءت شهادة مفتش الشرطة القضائية برنار بارليه الذي قاد التحقيق في القضية عام 1989 ليؤكد امام المحكمة بان باتريك هو الفاعل. مقدما: كيف ان الشبهات بدأت تحوم حول عائلة باتريك ديلس التي تسكن جوار عائلة الضحية, وانه حسب الاشاعات, هناك خلافات قائمة بين الاسرتين. وخلال استجواب والد ووالدة باتريك ظهرت تناقضات فيما يتعلق بيوم ارتكاب الجريمة. واضاف بعد اعترافات باتريك الخطيرة خلال توقيفه تأكدت باني قبضت على المجرم.
كما ان قاضية التحقيق التي اكد باتريك اعترافاته أمامها قالت بانها اصيبت بقشعريرة في الظهر عندما روى لها تفاصيل عملية كسر راسي الطفلين بحجرين. التفتت عندها رئيسة المحكمة الى باتريك سائلة كيف يمكنك ادعاء كسر راسي الطفلين ؟. هذا ما أراده مني المفتش فارله, هذا غباء, هذا شيء شرير, ولكني أطعته.
في 15 افريل استمعت المحكمة لشهادة جان فرنسوا ابكرال الذي كان قد حقق مع فرنسيس هولم عام 1992 فأشار الى التشابه بين الجرائم التي ارتكبها هذا الاخير مع الجريمة في الدعوى الحالية.
اما الشهادتان اللتان كان لهما اثرهما الكبير فهي شهادتي صيادين كانا يوم وقوع الجريمة قرب المكان حين رايا فرنسي هولم, الذي طلب منهما اصطحابه معهما في سيارتهما في 28 سبتمبر 1989 :" عندما اخذنا فرنسيس الذي كان مقرفص على الحشيش, لا اتذكر الساعة ولكن كان ذلك قبل حلول الظلام. رايته كما أراكم الان. صعد السيارة عرفت وجهه بنظارتيه, كان على وجهه دم". قال لهما بانه سقط على الحجارة وجرح. ولكنه كان دم ناشف وليس ناتج عن جرح مفتوح. كان مرتعبا يرتجف.
عندما سئل الشاهدان عن سبب تأخرهما بشهادتهما الى اليوم. اجاب احدهما: في اليوم التالي سمعنا في نشرة الاخبار المتلفزة عن الجريمة. لقد خفنا كثيرا. وقد اقنعتنا اخت جواهم كادات بعدم الشهادة أمام الشرطة تجنبا للمشاكل وسوء العواقب. ولكن بعد الادانة الثانية لباتريك قررنا الادلاء بشهادتنا والتحدث للشرطة عن كل ما راينا.
في 25 افريل 2002 تحدث المحامي العام امام محكمة جنايات أحداث ليون, لمدة 3 ساعات ونصف دون ان يطلب شيئا, لا ادانة, ولا عقوبة , ولا براءة. ولخص بعد ذلك بقوله: " اذا كان الشك يجب ان يأخذ به, واذا كان احد غير باتريك ديلس يجب البحث عنه. ليعلم باتريك بان اعترافاته سمحت للقاتل الافلات من العدالة. الجريمة لم تسقط بعد بالتقادم. ليس الوقت متأخرا للبحث عن القاتل. لكن الوقت الضائع طويل بالنسبة لأهل الضحيتين والمجتمع. الوقت الذي انتصر فيه الظلم بفضل تامرك. اذا استفدت من الشك, أومن العفو, فلتعلم بانك اخذت يوما مكان القاتل. لا يجب أن تأتي لتدعي بانك ضحية, فانت لم تكن الا ضحية نفسك بما فعلته انت بنفسك".
اما مرافعة محامي الدفاع فلوران فقد ركزت على تواجد فرنسيس في مكان الجريمة يوم ارتكابها: " لديكم جميعا الان كل العناصر الموضوعية للفهم اخيرا انه يوجد شبح فرنسيس هولم, وهو العنصر الاساسي في الدعوى, العنصر الذي كان مجهولا عام 1989 . العنصر الذي يسمح اليوم باستبعاد نهائي لجرمية باتريك. ما هي الاحتمالية الاحصائية بان فرنسيس الحاضر يوم وقوع الجريمة في مكان الجريمة, الذي رأى الاطفال, الذي يملك دافعا (الانتقام من فعل قذفه بالحجارة). الذي ارتكب جرائم قتل سابقة. الذي يعرف المنطقة معرفة دقيقة. الذي تمت رؤيته ذلك اليوم والدم على وجهه. الا يكون هو مرتكب هذه الجريمة التي تشبه في طريقة ارتكابها جرائمه الاخرى. ماذا يجب اكثر من هذا لإقناعكم؟. ماذا تريدون اكثر من ذلك لتعترف العدالة بهذا الوضوح؟.
قبل الانسحاب للمداولة سألت رئيسة المحكمة باتريك اذا يريد قول شيء فأجاب:" اود محاولة الاقناع بان مكاني ووضعي بعيد عن ان يكون واضحا. انا منهك جدا, مستهلك, ارغب بكل بساطة ان استطيع العيش الهادئ بعد 15 عاما. سمعت كل شيء واشياء تقال جزافا حول الطريقة التي تحدثت فيها عن براءتي. لم يقل لي أحد ما هي الطريقة التي يمكن ان نعبر فيها عن البراءة". متوجها الى أهل الضحيتين: " أنا بريء. لم انتزع حياة طفليكما".
بعد 3 ساعات ونصف من المداولات في 24 افريل 2002 اصدرت محكمة جنايات الاحداث في رون حكمها بتبرئة باتريك ديلس.
عند مغادرته السجن محاطا بمحامييه صرح باتريك للصحفيين : " عندما سمعت الحكم لم افهم ما حدث لي, بدأت استوعب ذلك فيما بعد, في الغرفة المجاورة... لم اصدق هذه التبرئة لم افهم, فانا متعب جدا مستهلك. لدي رغبة قوية بان اعود لوالديّ, لأصدقائي, لمحاميي, واستعيد شيئا من حياة الالفة".
لقد تقرر لباتريك تعويضا لم يدفع مثيله سابقا لبراءة, بلغ 1146046 يورو . صرح باتريك بهذا الصدد:" يورو واحد او مليار يورو لا يعوض فترة حياتي في صبايا ولا الم اهلي ". مضيفا " لا شيء يعيد لي سنواتي الخمسة عشر".
مرجع: Grandes erreurs judiciaires. PRAT. 2006
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟