|
الإصلاح الإسلامي: من -الدين الصلب- إلى -الدين اللين-
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3136 - 2010 / 9 / 26 - 18:19
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في تصوره المهيمن، الإسلام "دين صلب". نعطي لهذه العبارة معنى يفيد أن علاقة كل من الدولة والأمة والعلم والأخلاق والقانون بالدين علاقة ضرورية تنبع من مفهوم الدين ذاته، وليست تاريخية أو عارضة. ندافع، بالمقابل، عن تصور "لين" للإسلام، تترتب علاقته بالميادين الخمسة المذكورة على الاستقلال المتبادل، الأمر الذي من شأنه أن يتيح تطور هذه الميادين، ويفتح آفاق تحرر أوسع لمجتمعاتنا، ويكون أيضا أساس استقلال الإسلام ذاته واستقراره. ونرى أن هذا الترتيب هو جوهر عملية إصلاحية واسعة، تعطي معنى لاختلاجاتنا الدينية والسيكولوجية والسياسية الجارية منذ أكثر من جيل، ويعول عليها للخروج من حالة الاختناق الذاتي التي نعيشها منذ أكثر من جيل أيضا. تنال العلاقة بين الديني والسياسي اهتماما واسعا. العلمانية هي الاسم المكرس للفصل بين الدين والدولة الذي يوسعه بعضنا ليجعله فصلا بين الدين والسياسة. لا مسوغ لهذا التوسيع. المهم في الأمر هو الفصل بين الدين والسيادة، بما هذه هي الولاية العامة واحتكار العنف. أي بين الدين والدولة كمقر حصري للسيادة. تبقى ولاية الدين خاصة، محصورة بالمؤمنين الراغبين، ومفصولة عن الإكراه. والأساس في هذا الترتيب أنه ليس هناك تصور متسق للإسلام يضمن حرية الاعتقاد، وهي مقوم ذاتي للدين، دون فصله عن السيادة والدولة. لا ريب أنه تقف دون ذلك مشكلات تتصل بجوانب من الشريعة، الحدود بخاصة، كانت مدخل الفقهاء إلى القول بوجوب الدولة والحاكم. لكن لذلك هذه قضية أساسية في أي تصور للإصلاح الإسلامي. الميدان الثاني هو ميدان العلم. يمنح إسلاميون متنوعون الدين ورجاله سيادة معرفية تُحكِّمه في معارف متحصلة من علوم تجريبية، مثل نظرية التطور وما يتصل بأصل الكون. على أن هذه الصيغة القبْلية للسيادة المعرفية الدينية تعادي منهجيا الإنسانيات والعلوم الاجتماعية بخاصة. هناك أيضا صيغة بعدية، تتمثل في عقيدة "الإعجاز العلمي". تظهر نظرية علمية أولا، وتفوز بالشرعية في مجالها، ثم يأتي إسلاميون لا دراية لهم بالمجال العلمي المعني، فيجدون لها أصلا في المتون الدينية الإسلامية. ليس لهذه العقيدة فاعلية تنبؤية، وهي لم تحرض يوما على أبحاث تجريبية. كل ما هنالك أنه تجري إعادة قراءة نصوص مقدسة بحيث تبدو اكتشافاتٌ علمية مضمرةً فيها. لكن هذا يضع الدين في موقع التابع المنفعل للتطور العلمي، الحائز وحده على زمام المبادرة والاكتشاف. وهو أيضا يفسد الوجداني الديني لأنه يتطفل على عمليات لا فضل له فيها. بل إن العقيدة تلك تستتبع الدين لما هو دنيوي وتاريخي ونسبي، فتلحق به الضرر فوق إضرارها بتطور العلوم نفسه. العلم لا يتطور إن لم يكن سيد نفسه. والنقطة الأساسية هنا أن الدين والعلم لا يتنافسان على المنزلة الأبستمولوجية نفسها، الأمر الذي إذ يحول دون استتباع الدين للعلم، يحول أيضا دون استتباع العلم للدين. الميدان الثالث هو ميدان الأخلاق. يتعلق الأمر هنا بالعلاقة بين القيم الأخلاقية والأوامر والنواهي الدينية. نسلم بعدم التطابق. هناك محرمات دينية، لا يكتمل إيمان المؤمن دون الامتثال لها، لكن عدم الامتثال ليس انتهاكا أخلاقيا. وبالعكس، يعترض الضمير الأخلاقي الحديث، وهو مؤسس على الإنسانية وعلى الحرية، على إلزامات دينية متنوعة. من جهته، التفكير الإسلامي المعاصر لا يرفض استقلال الأخلاق عن الدين، بل يبدو أنه لا يتصور أخلاقية غير دينية. والانحياز المهمين في المجال الإسلامي هو أن لا أخلاق خارج الدين، الأمر الذي يعززه افتقار حداثتنا الواقعية إلى نظام معياري فعال. لكن هذا يؤدي إلى تصور بالغ المحافظة والجمود للأخلاق، هو ما تصدر عنه تلك الأحكام الشائعة عن الانحلال الغربي، وهو في جذر التوجس مما يمثله الإسلاميون من خطر على الحريات الاجتماعية في بلداننا ذاتها. هنا أيضا ليس للدين والأخلاق المكانة "الأكسيولوحية" (القيمية) نفسها. من شأن ألإقرار بهذا أن يضمن علاقات تعايش سلمي بين الدين وأخلاقية الضمير الفردي. لكن هل هذا ممكن دون إعادة بناء الدين على الأخلاق، على ما ينسب إلى كانت أنه فعل في السياق المسيحي الأوربي؟ الميدان الرابع هو ميدان الحقوق. أي استقلال ميدان الحقوق والقوانين عن الشريعة والفقه. يعتقد عبد الكريم سروش، المفكر الإسلامي الليبرالي الإيراني المعاصر، أن الإنسان المحق (المعرف بحقوقه) هو ما يميز العالم الحديث عن العالم ما قبل الحديث الذي تميز بالإنسان المكلف. هذا الأخير "عبد الله"، يقوم بواجباته الدينية، ويحظى بالثواب الإلهي، أو يجحد فيعاقب، لكن النظام القانوني ليس مبنيا على حقوقه. وتبدو فكرة حقوق الإنسان في الإسلام، وقد صدر لها ميثاق في ثمانينات القرن العشرين، توفيقا شكليا بين الإنسان المحق والإنسان المكلف. ومعلوم أنها ظلت معدومة التأثير على الحياة الواقعية. الميدان الخامس هو الأمة وهويتها، أو سلطة تعريف الأمة. الأمة اليوم غير إسلامية في أي من بلداننا إلا بمعنى وصفي. هذا بفعل تغير تاريخي أساسي، تحول الإسلام بمحصلته إلى طائفة اليوم في أي من بلداننا، ولم يعد "الأمة". ولا يبدو أن لدى الإسلاميين مفهوم متسق يجمع بين مفهوم "الأمة الإسلامية" وبين المساواة بين السكان، مما لا يستقيم اجتماع سياسي حديث بدونه. ويتمثل التحول التاريخي المشار إليه في تكون مجال عالمي واحد، لا يزال يحوز طاقات تطورية وإنسانية كبيرة، وإن يكن اليوم في أزمة. وفي هذا السياق يحتاج الفكر الإسلامي إلى تطوير مفهوم حول العالم كمصلحة عامة. الفصل بين الأمة الدينية والأمة السياسية ينفتح على صيغة دستورية من الإسلام السياسي من نوع حزب العدالة والتنمية التركي. الإسلام هنا منسوب إلى الأمة السياسية السيدة ومكون لشخصيتها، وليس العكس. إن الإصرار على تعريف إسلامي للأمة بالمقابل يؤسس لأن تكون السلطة السياسية بيد ممثلي الإسلام المفترضين، أي الإسلاميين. انكسار التطابق بين الإسلام وكل من الدولة والأمة والعلم والأخلاق والحق محقق في جميع بلداننا. ما ليس محققا هو دولة مواطنة تقيم ولايتها العامة واحتكارها للعنف على المساواة بين السكان، وهو علوم تتطور وتحرص على استقلالها وسيادتها، وهو أخلاقية متسقة تؤسس على حرية الأفراد صيغ انضباط جديدة والتزامات جديدة، وهو نظام حقوقي يجمع بين العدالة الجوهرية وبين عمومية قواعده، وهو أخيرا أمة متضامنة متآخية. من هنا حالة الفوضى العامة والاضطراب الشامل الذي نعيشه اليوم. السيادة الدينية متراجعة (وقد يكون منبع العنف الديني تراجعها وليس صعودها)، دون أن تتكون سيادة جديدة على أي من المستويات التي ذكرنا. نقدر أن الأمر يمر عبر إدراج منازعة السيادة الدينية في أفق إيجابي، متمحور حول الإنسان واستقلال عقله وضميره وإرادته.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خسر العلمانيون، وفازت العلمانية!
-
هل المثقفون مسؤولون عن نوعية تلقي أعمالهم؟
-
-النظرية الثقافوية في التاريخ- ووكلاؤها العامون
-
الغيلان الثلاث وأزمة الثقافة العربية: مقالة غير عقلانية
-
ياسين الحاج صالح في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول : الي
...
-
إسرائيل ك-لاعدل- جوهري مستمر
-
الدولة، الدولة أيضا، الدولة دوما
-
في -السياسة الطبيعية- والمشكلات غير السياسية
-
أهي نهاية الحداثة السياسية العربية؟
-
في الخروج من بنية مغلقة لا مخرج منها
-
التدين الإسلامي والحاجة إلى أخلاقية عامة
-
في شأن النقاب وحركة التنقّب الاجتماعي
-
-المسألة النِّقابية- وعبء المرأة المسلمة
-
في تاريخية الإسلام المعاصر وحداثته - إلى روح نصر حامد أبو زي
...
-
هوامش مناورة.. الولاء كنظام وكعلاقة سياسي
-
في الواقع لا في النص: أيّ يسار، أين، وأية سياسات يسارية؟
-
أربع صيغ للنزعة المحافظة... ثلاث منها عالمة
-
من نقد الثقافوية إلى نقد الثقافة.. والدين
-
هل أوضاعنا جامدة بالفعل، لا تغيير فيها؟
-
في معنى أزمة الثقافة ووجوهها وحصائلها
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|