|
القوش كجبلها سوف تبقى شامخة عبر الزمن .. ولكن ؟
حبيب تومي
الحوار المتمدن-العدد: 3136 - 2010 / 9 / 26 - 13:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
القوش تبقى القبلة التي تتجه نحوها بوصلة حياتي في حلي وترحالي ، في البعد المكاني عبر الشريط الزماني لعمري ، الذي مهما طال امده ، سيكون لحظة من الزمن الأبدي ، وفي مخيلتي دائماً اختصر الوطن العراقي في نقطة واحدة عزيزة الى قلبي وهي القوش ، فوطني العراقي يتجسد في القوش وسوف أذهب ابعد واقول : إن كان عودة للحياة مرة اخرى وسُئلت عن المكان الذي افضله للعيش فسوف اختار القوش لقضاء العمر الجديد . وحينما تشدني وشائج الحنين الى الوطن وترشدني البوصلة الى هذه النقطة ، فكلما اقترب من القوش يداهمني سرعة خفقان القلب ، وكأنما ارى المدينة لأول مرة ، فينتصب امامي جبلها الشامخ الذي يحتضنها بحنان وتبدو وكأنها الشبل الرابض الواثق من قوته ، وعبر تقلبات الزمن بقيت القوش مع قرينها الجبل وكأنهما صنوان لا يفترقان ، إنهما معاً عبر الزمن في الشدائد والمصائب والمحن ، فهامته تبقى شامخة تعانق اعنان السماء ومعه القوش ، هكذا كانت بالأمس وهكذا هي اليوم ، وهكذا كانت القوش عبر الآلاف السنين وسوف تبقى هكذا الى ابد الآبدين . كم يسعدني ان اسرح في ازقة القوش القديمة ، وتتدفق الذكريات من الزمن الجميل ، الذي انسل امامنا كشعاع ضوء عابر ، وأتساءل وأقول كم من الشموس غربت وكم من المراكب ابحرت من موانئ حياة هذه المدينة والتي ابحرت ولن تعود . واليوم وانا في هذا العمر حينما اقطع هذه الأزقة وألمح عيون فتاة جميلة اعلم ان هذه العيون لم تعد تقصدني ، وفي بقية البيوت القديمة لم يعد فيها من اعرفهم ، ولا هم يعرفون من انا ، إنني غريب في مدينتي ، وفي البيوت الجديدة الجميلة اراها مقفلة ، وحينما ارمي بسؤالي لأحدهم : اين من كان يقطن هذه الدار يعود الصدى ليخبرني : إن من جئت تطلبهم بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا ..... انا لم انسى مدينتي ، فهل يا ترى تنساني هذه المدينة التي هي حزء من كياني ، فيبدو ان الشمس التي كانت تشرق لي إنها تشرق اليوم على جيل جديد ، لا تشده أزقة القوش ودروبها التاريخية ، ولم يعد يرضى بهذه الحياة فهو يطمح ان يطير بعيداً كالطيور المهاجرة التي تحن لموطنها الأول فتقفل راجعة ، مرددة لحن : ما احلى الرجوع اليه . شبابنا يطيرون بعيداً لكن دون عودة . إن عبق الأزقة هذه وأنا امر امام الكنيسة لألوج القوناخ وأعرج الى مرقد النبي ناحوم لأنسل الى قنطرة محلة اودو وألف وأدور في هذه الأزقة التي لم تمتد اليها يد التعمير ، فأشعر فيها بنكهة التاريخ وعطر الأرض الطيبة ، وفي الليالي الصيفية القمراء من على سطح بيت عمي كيكا أتفرج على مهرجان الجمال والتأمل على مسرح السماء الصافية المرصعة بالنجوم التي يتوسطها بمهابة القمر وهو في صورة البدر التمام . حينما اكتب عن القوش تداهمني الحيرة من اي باب الوج الى هذه الدوحة هل ابدأ من تاريخها السحيق الذي يرجّح الثقات انه يعود الى العصور الحجرية ؟ ام اكتفي بتاريخها المكتوب في العصور التاريخية من السوبارتيين والآشوريين والكلدانيين ، لننتقل الى العهود الفرثية والسلوقية والساسانية والفتح الأسلامي والعهد العثماني والى اليوم ، ام اكتب عن ايمانها المسيحي منذ القرون الأولى للمسيحية ، ام الى يوم توجه نحوها الراهب ميخا النوهدري في القرن الرابع ويشيد فيها مدرسته العتيدة التي لا زالت شاخصة الى اليوم ، ام الى ديرها العتيد دير الربان هرمز ، ام اقول : انها كانت مقراً للبطاركة العظام من النساطرة الكلدان كما يظهر من اختامهم التي كانت تذيل بها قراراتهم . هل اعرج الى مبنى ناحوم الألقوشي ليتجلى التاريخ امامي من جموع اليهود الذين يتقاطرون الى هذا المرقد من مدن وقرى بعيدة ، وهل ابقى في المدارس والكنائس ام اتجه الى الحقول وأرى امامي السنابل تتمايل وتتراقص على انغام النسيم في فصل الربيع لتنبعث براعم الأمل والحياة وتجددها ، وكما كان يحتفل بها اسلافنا من الكلدانيين والآشوريين والسريان وجميع الأقوام الذين قطنوا هذه الديار . سابقى في طرق ومنعطفات ولحظات من الزمن قد تحتاج مساحتها الكتابية الى مجلدات ، ولهذا سأعزف عن الأستمرار في تلك الدروب ، لكي اكتب عما آل اليه الحال اليوم في هذه المدينة العريقة . عبر الزمن تواترت على المدينة مظالم ونكبات وأمراض ومحن وغزوات .. الخ ، لكن اليوم يتسلل الى اوصال القوش مرض خبيث ليس له علاج ، إنه سرطان الهجرة الذي اصاب الكيان العراقي بشكل عام ، لكن هذا المرض تفشى بشكل مريع بين المكونات الصغيرة منهم الكلدانيون والاشوريون والسريان والأزيدية والصابئة المندائيين ، وفي القوش تسلل المرض في اوصالها وبات يهدد كيانها التاريخي ، فالوجود الديمغرافي للألآقشة يسير باتجاه واحد دون ان يكون له بديل ، إنها عوائل بكاملها تنطلق من القوش دون رجعة ، وهنالك من ينتظر معاملات جواز سفر ، وآخرين ينتظرون بيع ممتلكاتهم وبيوتهم ، والقائمة تطول ، الأسباب كثيرة والنتيجة واحدة ، الصديق (ع) يقول ان ابنه راح مع الزوعا بأمل ان يحصل على وظيفة وحينما ياس التحق مع البارتي ، وحينما لم يجد وظيفة توكل على الله وانطلق الى ارض الله الواسعة ، والصديق (س) يقول ان ابنه الكبير حينما تزوج ولم يجد له مسكناً ولم يعد لنا متر مربع واحد على هذه الأرض ولم يبق امام ابني سوى السفر وانا سالتحق به ، وسنذهب الى البلد الذي يمنحنا متر مربع من الأرض . تحضرني الذاكرة لابن عمي أمجد وهو خريج كلية الزراعة ، وحينما هُدد في بغداد ، سافر الى القوش طالباً الملاذ الامن واسباب المعيشة ، ووجد امامه ابواب موصدة ، وانتقل الى عين سفني ليعمل في اعمال البناء ثم مشغل مولدة ، وهو يسكن مع عائلته الصغيرة في بيت حقير اقرب الى الصريفة ، وشاهدته يوماً مع طفليه وهو يظهر في قناة عشتار الفضائية التابعة للمجلس الشعبي ، وهو يحمل بيده كيس فيه بطانية وهو يقدم آيات الشكر والأمتنان لهذه ((((( المكرمة ))))) من المجلس الشعبي ، وحينما خابرته استعلم منه إن كان ثمة مساعدات اخرى فأفاد ان المساعدة لم تزد عما شاهدته بيدي من الأغطية . ولم يبق امام ابن عمي سوى ان يأخذ عائلته ويتجه نحو تركيا ليتحلق بركب من ركب تلك الموجة . هذا هو واقع الحياة فأسباب الهجرة عديدة لا يمكن ان نلم بكل جوانبها بمقال واحد لكن النتيجة واحدة . كان الصديق آنو جوهر عبدوكا قد اشار الى ناقوس الخطر وشخص القوش ، ورد عليه الأخ رعد دكالي نافياً تلك المعلومات ، وكان الأخ رعد منطلقاً من محبته لالقوش ولبقائها ، لكن الواقع الموضوعي يشير بجلاء الى الحالة التي لا نريدها لكنها حقيقة مرّة لا مجال للتهرب منها . ويبقى السؤال : الى اين تصل المعادلة ومتى يتوقف جسم القوش من النزيف الدموغرافي الخطير ؟ لحد الآن لا تلوح في الأفق علامات ودلائل لوقوف او تقليل النزيف ، وبالعودة الى الوضع العراقي العام سوف نجد ان هذا الوطن المنكوب لا زال يعاني من التشرذم وعدم التوافق ، وحالة من التناكف من اجل الهيمنة على مقاليد الأمور ، وآخر ما يفكر به جميع القوائم الفائزة هو مصلحة الوطن ، فمصالح احزابهم في البداية ومن ثم مصالحهم الشخصية وآخر شئ هو مصلحة الوطن العراقي . ولاشك ان القوش جزء من هذا الواقع المؤلم ، فإن استقرت امور الوطن العراقي فإن لألقوش نصيب في هذا الأستقرار ، وحينها سيكون واقع القوش جزءاً من الواقع العراقي . وفوق ذلك ثمة ألاقشة مخلصين تبقى مصلحة مدينتهم فوق مصالحهم ، وهم باقين في هذه الديار ، إن بقاء القوش هو اساس مكين للحفاظ على الوجود المسيحي في الوطن العراقي ، لقد ظلت القوش قلعة حصينة للمسيحية ولشعبنا الكلداني بالذات وحينما قصدها الأخوة الأثوريون في عام 1933 كان الألاقشة يقفون بشرف معهم ولم يهز موقفهم المشرف كل الأخطار المحدقة بهم . إن القوش وجبلها الشامخ وبهمة شبابها وبحكمة كبارها ومفكريها ورؤسائها الروحانيين ، وبمحبة اولادها المنتشرين في ارجاء المعمورة ، ستبقى القوش صامدة وشامخة كجبلها وستبقى القوش ( يما دمثواثا) الى الأبد . هذا ما انا واثق منه ، ومن يحب القوش ومن هو مخلص لها من اشخاص ومنظمات وأحزاب ،ان يعمل من اجل بقاء هذه الدوحة الكلدانيـــة العظيمة محتفظة بخصوصيتها وبتراثها وبتاريخها وبلغتها ، وأنا واثق من اخلاص الجميع لها ، لكن الأمر يحتاج الى تضافر الجهود ، وتضافر الجهود يحتاج الى التفاهم والى نبذ الأنانية ، والى التصرف بحكمة مع جميع الجهات في المنطقة إن كانت عربية او كردية أو تركمانية او أيزيدية او شبكية او آشورية او سريانية .
#حبيب_تومي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكلدانيون والمندائيون اصول تاريخية مشتركة وقومية كلدانية وا
...
-
الكوتا لا تحمل صيغة قومية بل دينية مسيحية وتطبيقها كان مجحفا
...
-
اين يقف اقليم كوردستان من مشروع تكريم توما توماس ؟
-
نهج الحركة الديمقراطية الآشورية يهدف إخضاع الكلدان وليس شراك
...
-
الأستاذ هوشيار الزيباري هل يفعلها القادة العرب ويجتمعون في ا
...
-
مغالطات ترجمة الكوتا المسيحية على انها قومية
-
نقل طاقم حكومة اقليم كوردستان الى بغداد لتتولى امور العراق
-
اين يقف كلدانيو اميركا من الفعل السياسي والقومي الكلداني ؟
-
الحزب الآشوري والأسلوب الدكتاتوري بل الديمقراطية مع الشعب ال
...
-
السيد وزير شؤون الشهداء والمؤنفلين لا نقبل بتهميش شعبنا الكل
...
-
دماء شهداء الشعبين الكوردي والكلداني تمتزج في صوريا الكلداني
...
-
ماذا بعد المؤتمر الثاني للحزب الديمقراطي الكلداني ؟
-
الى منظمة الأقليات العراقية ..نرفض إجحافكم بحق شعبنا الكلدان
...
-
القيادة الكوردية وتعقيدات المشهد الجيوسياسي الى اين ؟
-
وداعاً ايها المناضل العراقي الكلداني حكمت حكيم
-
لماذا الغضب من منافحة الأتحاد العالمي للكتاب والأدباء الكلدا
...
-
لكي لا يتخذ شعار الوحدة القومية ذريعة للانقضاض على الفكر الق
...
-
من يحق له التحدث باسم الكلدان ؟
-
طلبة بغديدا في القلب والبركة بوحدتهم وقوة إرادتهم ولا لتسييس
...
-
مطلوب اعتذار بول بريمر لشعبنا الكلداني
المزيد.....
-
الكرملين يكشف السبب وراء إطلاق الصاروخ الباليستي الجديد على
...
-
روسيا تقصف أوكرانيا بصاروخ MIRV لأول مرة.. تحذير -نووي- لأمر
...
-
هل تجاوز بوعلام صنصال الخطوط الحمر للجزائر؟
-
الشرطة البرازيلية توجه اتهاما من -العيار الثقيل- ضد جايير بو
...
-
دوار الحركة: ما هي أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟
-
الناتو يبحث قصف روسيا لأوكرانيا بصاروخ فرط صوتي قادر على حمل
...
-
عرض جوي مذهل أثناء حفل افتتاح معرض للأسلحة في كوريا الشمالية
...
-
إخلاء مطار بريطاني بعد ساعات من العثور على -طرد مشبوه- خارج
...
-
ما مواصفات الأسلاف السوفيتية لصاروخ -أوريشنيك- الباليستي الر
...
-
خطأ شائع في محلات الحلاقة قد يصيب الرجال بعدوى فطرية
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|