|
حرائق النفط نزوات لشذاذ الأفاق
أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 948 - 2004 / 9 / 6 - 10:18
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
انبثقت اشراقة عصر الشرق الجديد أوائل القرن العشرين مع بداية اكتشاف البترول في منطقة الخليج العربي، أو بالأحرى توهجت تلك الاشراقة مع بداية تدفق هذا السائل السحري من أول بئر نفطي في منطقة مسجد سليمان بإيران في السادس والعشرين من أيار/ مايو سنة 1908، وتنامى التطلع الأجنبي للهيمنة على صحاري الشرق القاحلة بعد أن تبين إنها أغنى مناطق العالم نفطياً، وأرخصها كلفة، فرائحة البترول أخذت تنفذ الى كل مكان في أرجاء المعمورة عبقة بأريج الذهب الأسود الممزوج بالدولار، أخاذ الألباب، ومؤجج الغرائز والأطماع الغير محدودة، ليغدو هذا الشرق المحظوظ بما تغدق به مكامن هذه الأرض من ثروات طبيعية منكوداً بسبب الشهية الاستعمارية والتوسع السياسي، تلك الأفاق المشرعة بهواجس الهيمنة الذي جعلته تحت طائلة الاهتمامات والطموحات الدولية والستراتيجيات لتأمين المصالح العليا، وقد تعاظمت هواجس الاستحواذ عبر الزمن لتحيل هذه البقعة الجاثمة فوق بركة النفط الى دويلات مشتتة، ومنطقة مستهدفة على مر الزمن، تكابد لأن الحظ صيرها غاية لتطلعات بسط النفوذ الدولي. عرفت مادة الإسفلت في بلاد الرافدين منذ الأزل، وهي أحدى مشتقات البترول التي كانت أرض النهرين تنز بها الى سطح الأرض عطاءاً، واستخدمت هذه المادة في مجالات شتى وعلى رأسها البناء، وتكلل نجاح الإنكليز المهوسين بالبحث عن البترول باكتشاف بابا كركر كأول بئر عراقي نفطي في مدينة كركوك سنة 1927، ومنذ تاريخ بداية الإنتاج من هذا الحقل النفطي العملاق، شعت في الأفق شعلة الحياة التي لا زالت نارها الأزلية واقدةً، وبريق شعاعها المتلألأ يشيح العتمة عن ربوع العراق، ويمنحه الأمل بتجدد الحياة وتخطي كل الصعاب والظروف الاستثنائية. ومن ثم بدأت تزداد الآبار المكتشفة جنوب العراق رويداً رويداً، وبالتحديد في منطقتي الزبير والرملية بين عامي 1948- 1952، وفي توالي السنين تضاعف إنتاجها بشكل كبير، مثلما تضاعفت أعداد الآبار النفطية لتشمل ربوع العراق من أقصاه الى أقصاه، وأخر الدراسات تفيد بأن العراق يعد ثاني اكبر احتياطيات للطاقة في العالم بعد السعودية، ولأجل مواكبة تطور الإنتاج النفطي الذي شهد طفرات عالية، تنامت الحاجة الى مد الكثير من أنابيب النفط الناقلة الى المواني والمصافي والخزانات، وقد وصف جان جاك بيريبي أنابيب النفط الناقلة بداية عهد اكتشاف النفط العراقي على قلتها في كتابه الخليج العربي بأنها كالأفعى ممتدة في الصحراء. لا شك أن التطور الهائل الذي حصل في مجال الإنتاج النفطي العراقي منذ اكتشافه ولحد الآن، جعل هذه الأفعى تتكاثر وتتناسل مزهوة بدفء حضارة العراق ومدنيته العامرة، لتغدو شبكات من الأفاعي الوديعة التي تفترش كل الأرض العراقية، من شماله الى جنوبه، ومن شرقه الى غربه، عروق تنبض بإكسير التحضر والمدنية في جسد العراق الحي، تمتد في الجبال والوديان والسهول والاهوار والصحراء، وكثيراً ما تقترب من القرى والتجمعات السكانية، وفي أماكن عديدة تحاذي المدن الكبيرة، فهي نبض اقتصاد البلد، الناقل لمكامن ثراءه المكنوز. على مر تاريخ العراق المعاصر حاقت بالعراق ظروف سياسية غير مستقرة في فترات مختلفة، نتيجة احتدام الصراع السياسي بين فئات وتيارات وقوى وأحزاب سياسية، تمثل مصالح البعض من مكونات الشعب العراقي من جهة، وبين أنظمة الحكم التسلطية والرجعية والديكتاتورية في العهود المتعاقبة من جهة أخرى، وفي مختلف مناطق العراق، وبرز الصراع المسلح كشكل من أشكال ذلك الاحتدام، وقد حصلت على سبيل المثال لا الحصر مواجهات مسلحة مع الاشوريين 1933، و مع اليزيديين في جبل سنجار أواخر 1935، ومع عشائر الجنوب في الناصرية 1935، ومع عشائر الفرات الأوسط 1936، وخلال حركة مايس 1941، غير أن المواجهات المسلحة مع الشعب الكردي كانت أكثرها وأطولها احتداما، وتوسعت بداية الثمانينات، ومن ثم بعد الانتفاضة بكل لافت للنظر بعد أن قامت العديد من قوى المعارضة بتشكيل فصائل مسلحة لها في كردستان، شاركت الى جنب القوى الكردية في الصراع المسلح ضد النظام الديكتاتوري البائد. لكننا على مر هذا الزمن الطويل لم نعهد عراقياً ناوء السلطة بالسلاح سواء كان عربياً أم كردياً أم تركمانياً أم آشورياً أم يزيدياً قد فكر يوماً ما المساس في تخريب ثروات العراق والعراقيين النفطية أو منشأتها أو أنابيبها الناقلة، في المراحل المختلفة، سواء أ كان العراق تحت الوصاية أو الانتداب أو تابعاً ومكبلاً بالمعاهدات أو مستقلاً في الحكم الوطني أو الرجعي أو الديكتاتوري. وعلى وجه التحديد لم يقم أبناء العراق من الأكراد بذلك الفعل التخريبي أطلاقاً، وهم المهيئون والقادرون على القيام بذلك، منذ بدء المواجهات المسلحة مع السلطات المتعاقبة، رغم احتدام الصراع المسلح طوال عقود الدولة العراقية، ورغم كل الويلات والمآسي التي حصدها الشعب الكردي على مر ذلك الزمن، وبالأخص في العشرين سنة الأخيرة، وقد بدأ الصراع المسلح بين السلطة والشعب الكردي بداية عهد الإنتاج الفعلي للنفط العراقي، في المواجهة مع البارزانيين في آب 1935 الذي انتهى في آذار من السنة التالية، وبقي على طول الوقت محتدماً ما عدا بعض الفترات التي تخللتها هدنة المفاوضات والاتفاقيات، ولغاية سقوط النظام الجائر في نيسان 2003. ما أن شعر النظام البائس بدنو نهايته حتى استشاط في منهجية تدمير وتخريب وحرق مؤسسات الدولة وبناها التحتية، فقد تعاضد المهزومين ومناصريهم في تنفيذ ذلك على أتم وجه مع قوات الاحتلال، وبلمحة بصر ما عادت هنالك دولة، وأصبح البلد كومة أشلاء متناثرة، وما أن راحت خيوط اليأس تنسج واقعاً مريراً في عقول المهزومين حتى بدأت بوادر التخريب وحرائق الخائبين ومن يعاضدهم في الجرم الوافدين من خارج الحدود، تطال منشأت القطاع النفطي وأنابيب نقل النفط، وصار التفريط بثروات العراق، وإشاعة حياة اللااستقرار، والتفجيرات والمفخخات، والاختطافات سمة مميزة للنشاط الملثم الذي لا أفق له، والمشكوك في نواياه. ما يؤلم حقاً أن تستشري حرائق أنابيب النفط بهذا الكم الهائل، لتعم فيما بعد أباره أيضاً، وما يفت القلب ويقطع نياطه حينما يجري تكرار أعادة مناظر هذا الفعل اللامسؤول على شاشات القنوات الفضائية في كل النشرات الإخبارية، حصل أم لم يحصل، فطواقمها المنتشرة جاهزة لتلاقف هذا المشهد الرعوي، وبالسرعة التي وفرها التطور التقني لمجال الاتصالات يلج أروقتها محروساً بالفكر البدوي، وفي مختبرات الاستنساخ والتناسل الصحفي المعهودة يؤطر بالغايات الضيقة، ويدمج بالصور السابقة، وعند دورة رأس الساعات، يتعالي صوت مذيع، في البدء يمط القامة مبتسماً، يهدر مزهواً بالسبق الصحفي الذي درج عند قراءته على التأتأة تارة، وعلى كز الأسنان تارة أخرى، يصطنع مهارات لفظية تعطي للخبر بريقاً، يريد أن يظهر للملأ بطولات يحسبها مجداً، تضاف على يديه الى أكوام دفاتر تاريخ يزخر معظمها بالزيف، لا يدري أنه قد سفح مهنية الإعلام غدراً، كما العراق الذبيح، حينما هرج بالصوت رياءاً، (لقد بدأت سياسة الأرض المحروقة على أرض العراق). لقد تجلى فقدان الأمن والأمان، أحد معطيات الاحتلال، في أحد مرافق الدولة الحيوية، ذلك فيما نشرته الصحافة، عن مصادر موثوقة في وزارة النفط العراقية، من أن مجهولين تمكنوا من سرقة أقراص مدمجة ووثائق، تحتوي على معلومات ثمينة تخص أغلب قطاعات الوزارة، وان العمليات التخريبية ضد أنابيب خطوط نقل النفط قد جرت بمهنية عالية، وأن بعض التفجيرات طالت أنابيب مدفونة تحت سطح الأرض، لا يمكن تنفيذها إلا من امتلك خرائط دقيقة عن مسار خطوط الأنابيب، ويبدو عند التأمل برواء في ما تقدم، بأن الحرائق التي تطال قطاع النفط العراقي، هي لعبة كبيرة ومنظمة، تدلل على الإفلاس السياسي، وهنالك احتمال كبير أن يكون للأصابع الخارجية دوراً كبيراً في استعار هذه النيران والأدخنة المتطايرة، وكأن الخراب والدمار الذي حاق بالعراق لا يكفيهم، فلجأ رهط المهزومين والمفلسين على التوحد مع الإرهاب العالمي، لتهويل شعب متعب ومثخن بالجراح. سيظل العراق متوهجاً شامخاً في ليل العرب الداجي، رغم كل عناء المكابدات، وكل الخسائر وتبديد الثروات، والحرائق المشتعلة، والرماد المتناثر في ربوع البلد. سيظل فيض مياه الرافدين دجلة والفرات ينساب متدفقاً يغسل أدران الاحتلال، وبقايا مخلفات حرائق شذاذ الأفاق من على ترابك الطاهر يا عراق.
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرحى لضجيج الانفعالات والجدال والنقاش داخل أروقة المؤتمر الو
...
-
تأملات لجذوة نصر الرئيس الفنزويلي أوغو تشافيز
-
العراق والانتخابات الأمريكية القادمة
-
سلاماً لشهداء العراق الأبرار
-
انتخابات مندوبي المؤتمر الوطني.. ديمقراطية العجالة
-
البيان التأسيسي للمركز الوطني لتطوير الحوار الديمقراطي في با
...
-
ملتقى العمل الديمقراطي المشترك في بابل يحتفي بذكرى ثورة 14 ت
...
-
المُسّْتَبِِدُ
-
أقلام تنبض بالوفاء... أحمد الناصري وجمعة الحلفي في ذكرى صديق
...
-
الإرهاب ينتهك قدسية نضال العراقيين في إنهاء الاحتلال
-
الوطنية على المحك في فهم ما بين سطور خطابين
-
ننشد العدالة.. ولن نفزع مهما كثر عدد المدافعين عن جلادنا
-
مقاربات بين احتلالين... ما أشبه اليوم بالبارحة
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق 10- 10 صحافة العراق خلال
...
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق 10- 9 حركة الجهاد ج2
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق 10- 8 حركة الجهاد ج1
-
اضاءات على معاناة الشاعر والانسان موفق محمد
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 7
-
وقائع ندوة الملتقى الديمقراطي المشترك عن الديمقراطية في مدين
...
-
( 10 -6 ) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
المزيد.....
-
بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
-
بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف
-
-وسط حصار خانق-.. مدير مستشفى -كمال عدوان- يطلق نداء استغاثة
...
-
رسائل روسية.. أوروبا في مرمى صاروخ - أوريشنيك-
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 80 صاورخا على المناطق الشم
...
-
مروحية تنقذ رجلا عالقا على حافة جرف في سان فرانسيسكو
-
أردوغان: أزمة أوكرانيا كشفت أهمية الطاقة
-
تظاهرة مليونية بصنعاء دعما لغزة ولبنان
-
-بينها اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة والصاروخية -..-حزب ال
...
-
بريطانيا.. تحذير من دخول مواجهة مع روسيا
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|