نقطة حبر -1- الثلاث ساعات التي توقفت فيها الحياة

فينوس فائق

الحوار المتمدن-العدد: 3133 - 2010 / 9 / 23 - 19:25
المحور: المجتمع المدني
    

لإعتقادي الراسخ أن جزأ لا بأس به من حياة الإنسان يضيع أثناء النوم، فمنذ صغري و أنا أكره النوم الكثير، هذا الوقت الذي من الممكن أن نستثمرها في نشاطات حياتية أفضل. تذكرت هذا عندما إنقطع التيار الكهربائي فجأة، وهي المرة الأولى التي تنقطع فيها الكهرباء في بلد المهجر الذي أقضي فيه سنوات الغربة، على الأقل منذ إقامتي فيه منذ ما يقارب الأربعة عشر عاماً، حينها إكتشفت أن إنقطاع التيار الكهربائي يضيع علينا وقتاً إضافة على الوقت الذي نهدره في النوم، كما يحدث في العراق.. فقد إنقطع التيار الكهربائي ليلة 25 على 26 من أوغست 2010 في ثلث مناطق المدينة التي أقيم فيها، بحيث تحول الحدث في اليوم التالي إلى حديث الناس في الشارع و المقاهي و أمام مواقف الحافلات و حتى أثناء العبور و أثناء الصعود و النزول في مصعد البناية التي أقيم فيها، و نشر خبر إنقطاع التيار الكهربائي، المثير لدهشة الأوروبيين في الصفحة الأولى من الجريدة المحلية و تناولتها الإذاغة المحلية بكثير من الإهتمام.. و حسب مصادر في المدينة ربما كان على الشركة العامة لتوزيع الكهرباء أن تدفع غرامة للشركات و المؤسسات الكبرى التي تقدم خدماتها على مدار 24 ساعة وحتى للمقاهي الليلية و الفنادق عن الأضرار التي لحقت بهم جراء إنقطاع الكهرباء.
في الليلة التالية و بينما كنت أتابع برنامج (محيبس) في ليلة من ليالي رمضان على شاشة تلفزيون الشرقية، و بينما كانت المذيعة الحسناء تشجع مشاهدي القناة على الإتصال للفوز بجائزة البرنامج التي كانت تقدم بالدولار، فإذا بفتاة تتصل و تطالب المشاركة بالبرنامج، كان على الفتاة المتصلة أن تختار من بين الأيدي الستة على الشاشة إضافة إلى يدي المذيعة الحسناء لكي تعثر على المحبس و تفوز بالجائزة المالية، لكن المفاجأة الكبيرة عندما كانت الفتاة تختار الأيدي على التوالي لكي تفتح حيث تطلب من مقدمة البرنامج أن تخبرها إن كان المحبس بداخلها أم لا، فتبين أن تيار الكهرباء مقطوع لديها، ز تشارك و هي تجلس تحت نور فانوس ربما أو شمعة.. و المدهش أن المتصلة كانت في غاية السعادة و هي تتصل و خصوصاً عندما فازت بمبلغ الجائزة و الذي كان بالدولار..
أحسست بألم في مكان ما في جسدي و أنا أتابع مشهد المتصلة وهي تشارك في البرنامج بالموبايل الذي ربما كان سينقطع شحنه لو كانت المكالمة طالت أكثر بينها و بين مقدمة البرنامج.. فالغريب أن العراقيين داخل العراق مازالوا يمتلكون كما هائلاً من العزيمة و الفخر ببلدهم، رغم أن فساد السياسيين بدأ ينهش حياتهم و يتسرب الفقر و القهر و الصراعات الحزبية و الطائفية إلى أطباق الطعام و أسرة النوم.. ففي أكثر البلدان الفقيرة في العالم مثلها مثل البلدان الغنية و التي تتفشى فيها ظاهرة الفساد، تكون الخدمات المقدمة للفرد في المجتمع أسوءها و أقلها على الإطلاق..
في نفس الليلة التي شاهدت فيها برنامج المحيبس، كانت الهند تطلق قطاراً سريعاً في الذكرى المئوية للأم تيريزا كلكوتا (الطوباوية) التي كانت تدعوا إلى مساواة البشرية عن طريق الدعاية و التوعية و رفض الصراعات الطبقية، و أسمت القطار بـ (الأم إيكس بريس).. رغم كل ما تعانيه الهند من فقر و مشاكل أخرى إلا أن الإنسان له قيمة من نوع آخر، هذه القيمة التي تختفي يوما بعد يوم في عراق كان يوما من الأيام من البلدان التي تؤمها الأساتذة و العلماء من كافة أرجاء العالم، و اليوم أخذ الإرهاب و الفساد شيئاً فشيئاً ينال من إنسانية الإنسان العراقي..
الطامة الكبرى أن من يحكمون العراق و لطالما بيوتهم مضاءة ليلاً، و دافئة في الشتاء و مراوحها و أجهزة التبريد فيها لا تتوقف في الصيف، فليس هناك ما يؤرق منامهم سوى كرسي الحكم و النفوذ و السلطة التي عادوا من أجلها إلى بلدهم العراق..
فربما القانون في بلد القانون يجبر مؤسسة توزيع الكهرباء على تعويض الشركات و الفنادق و المؤسسات التي تكون خدماتها على مدار 24 ساعة على الضرر الذي ألحق بهم، و ربما قيمة الإنسان تأتي لديهم في المقام الأول بحيث أن أي خلل يتم معالجته من أجل الفوز بلقب المواطن الذي يمنحهم صوته بصدق حتى يحصل على أكثر الخدمات.. لكن ما الذي سيعوض الإنسان العراقي الذي تضيع أيامه إما في النوم أو في مشاهدة مناظر الموت على مدار الساعة أو أمام الشموع و الركض وراء تأمين إحتياجات الفوانيس من نفط و لوازم أخرى و رغم هذا كله يتسارع بشكل مذهل على صناديق الإقتراع لكي يصوت لمرشحه الذي لا يعرف ماذا سيقدم له سوى الكلام و الخطابات..

نقطة حبر: مقالة أسبوعية تنشر في جريدة (صوت الأهالي) في بغداد

#فينوس_فائق (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات