|
مجتمعنا في غزة و فقدان التسامح الاجتماعي
فاطمه قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3131 - 2010 / 9 / 21 - 07:24
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
الكثيرون المهتمين بعلم الاجتماع، و علم النفس الاجتماعي، و علم الاجتماع السياسي، حذروا من عدم التركيز دائماً على العناوين السياسية للانقسام الفلسطيني الذي يتواصل في عامه الرابع، فهذا الانقسام بعنوانه السياسي له انعكاسات حادة على السلوك الاجتماعي، و نشوء خالات هجينة غريبة جداً عن شعبنا، و عن قيمه و مخزونه التراثي و الحضاري، هذا المخزون الذي جعله يصمد في أصعب الظروف، و يتعاضد و يتكاتف في مواجهة المحن بكل أنواعها، و يكفي أن نذكر على سبيل المثال هذا النموذج من التسامح الاجتماعي الذي كان يسود بين الناس، و هذا التعاون الذي لفت نظر الكثير من الهيئات الدولية التي كانت تعمل بين صفوف شعبنا في محطاته النضالية الرئيسية، و خاصة في مرحلة الانتفاضة الأولى، حيث قيم الآثار، و الإحساس العميق بالآخر، و القدرة على استيعاب المشاكل و المشاجرات الصغيرة التي تحدث بشكل عارض، و اتساع رقعة المجاملات الاجتماعية، و أخذ الخاطر، لدرجة أن لجان الإصلاح هي التي كانت حاضرة في صفوف الناس، بلغتهم تخاطبهم، و عبر تقاليدهم و موروثاتهم الأخلاقية السمحة تجد دائماً طريقاً لإصلاح ذات البين مهما كانت الخلافات.
في قطاع غزة، هذا الموضوع أكثر أهمية على درجة الخصوص، لماذا؟ لأن قطاع غزة 362 كيلومتراً مربعاً، يحذف منها مساحة الحزام الأمني الذي تفرضه إسرائيل على امتداد الحدود، فتصبح المسافة أكثر ضيقاً، فإذا خسرنا أكثر من مليون و نصف المليون من السكان في هذه المساحة الضيقة، فإن الواقع يصبح قاسياً بكل المعايير، فكيف إذا أضيف إلى ذلك كله الحصار الخانق، و انعدام فرص العمل، صعوبات السفر، و نتائج الحرب الإسرائيلية التدميرية قبل عام و نصف، و الاعتداءات الإسرائيلية اليومية، و فقدان الأفق السياسي؟
و هنا يأتي الانقسام ليلعب دوراً مأساوياً، و خاصة حين نركز على العنوان السياسي، ولا نلتفت إلى التداعيات الأخرى و تأثيرها الحاسم على نسيجنا الاجتماعي.
فمن جهة أولى: فإن الانقسام بطبيعته يغرق في لغة الخصومة و التراشق و قسوة الاتهامات، و لغة التراشق الاتهامية هذه، تؤدي بوعي أو بدون وعي إلى تدمير الثوابت و الحصانات، فإن المتراشقين يجردون خصومهم من أي حق، و من أي حصانة، و يصفونه بصفات قبيحة و مهينة، و ترسم لهم صورة أخلاقية و إنسانية متدنية، و حين يريد الأذى من وراء هذا الانقسام، فإنه يبحث عما يبرر به نفسه، فيلجا المتراشقون إلى إلصاق تهم جزافية بخصومهم مثل العمالة، و الخيانة، أو التكفير و الطعن في العقيدة، أو استخدام ضغط الاتهامات السلوكية، و سرعة الحكم على الناس من خلال المظاهر، أو من خلال العناوين الحزبية، أو إعطاء المصطلحات السياسية و الأيديولوجية معاني زائفة غير معانيها الأصلية، كاتهام كل شخص يختلف عنا في المظهر بأنه علماني مع تزيف معنى العلمانية بأنها الكفر أو الإلحاد أو عدم السوية الأخلاقية، مع أن الأمر ليس كذلك مطلقاً، فالعلمانية تعني فصل الدين عن الدولة فقط، لأن الدين لله و الوطن للجميع، و الدولة هي دولة مواطنين متساوين في الحقوق وليست دولة مؤمنين ، يتبادلون الاتهامات الدينية.
و من جهة ثانية: فإذا الشعب يكتسب صفة أنه شعب من خلال مجموعة القيم و المبادئ و الروابط و المعايير التي يحتكم إليها، و يقول علماء الاجتماع إن قبيلة صغيرة من عشرة ألاف شخص على سبيل المثال يمكن اعتبارها شعباً، لسدة الروابط و القواعد و المعايير المأخوذ بها، بينما ملايين من البشر قد لا يكتسبون صفة الشعب لنه لا يجمع بينهم قيم و روابط و معايير على هذا المستوى.
و استمرار العزف على وتر الانقسام، و التراشق، و ادعاء أن طرفا أفضل من الآخر، و حرمانه من أي حق أو صواب، وإنما يتم تحطيم هذه الروابط، و تسود ثقافة التخريب الأعمى، بل تسود الاعتقادات المتدنية عند بعض شرائح المجتمع أن لها حقوقاً لا تحق للآخرين، و هذا حين يترسب في الوعي الجمعي فإنه يخلق تشوهاته واسعة النطاق في النسيج الاجتماعي و النفسي و السلوكي، تمتد أضراره إلى سنين قادمة.
و من جهة ثالثة: فإن أجواء الانقسام، و ثقافة الانقسام، و لغة الانقسام اليومية، تكرس ظاهرة خطيرة للغاية، و هي ظاهرة الانطواء و الانغلاق على معايير الخلاص الفردي، و النجاة الفردية، وبروز من يبالغون في إثارة الفتن و الخصومات بصفتهم الأكثر انتماء للحزب رغم انعدام كفاءاتهم الشخصية في كثير من الأحيان، و هذا يخلق على المدى الطويل ثقافة سوداء مؤداها أن الشخص يبرز حين يكون أكثر إيذاء للآخرين، و أكثر إيذاءً لمن حوله، دون أن ينتمي إليهم بصفتهم شعبه و شركاءه في الوطن حتى و لو كان مختلفين عنه سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً.
في نموذج مثل قطاع غزة، الذي ينظر إليه دولياً على انه مشكلة متفاقمة في حد ذاتها، فغن المسئولية يجب أن تكون عالية جداً، بحيث لا تنساق وراء التداعيات السلبية، حتى لا تتحول إلى ثقافة شعبية واسعة و هجينة تأكل الأخضر و اليابس.
أنظروا إلى حجم المشاحنات و الخناقات و المشاكل، و نسب الطلاق العالية لأتفه الأسباب، و المبالغة في طلب الحقوق من الآخر دون هذا التسامح الذي دعا إليه ديننا الحنيف و تحتاج إليه ظروفنا الخاصة التي نعيشها.
أين ذهبت ثقافة العمل التطوعي؟ التي بسبب غيابها فإن شوارعنا متسخة، و أحيائنا مليئة بالإهمال و الفوضى، و على أين وصل علاء الأسعار الذي ليس له متفق و لا حدود؟ و انظروا إلى الفوضى المرورية في هذا القطاع المكتظ؟ و كيف يتقابل العرس و المأتم في شارع واحد على بعد خطوات؟ و كيف يتجر صاحب كل حق في الآخر حتى يطبق عليه الخناق، فالزوجة يأخذها أهلها من بيت زوجها و يتركون أطفالها لخلاف بسيط، و يشترطون لعودتها شروطاً يعرفون أنها مستحيلة، و قد يتضارب صبيان جاران في بناية واحدة، فيطلب الأهل ألاف مؤلفة مما يحول الصبيين الصغيرين إلى عدوين، و يحولهما في المستقبل إلى خارجين عن المجتمع، و الأمثلة لا تعد و لا تحصى، و السبب أن الانقسام و تداعياته و ثقافته و لغته، تصب على جراح الأوضاع السياسية و الاقتصادية و المعيشية ناراً، فتكثر الإيذاءات، و تستعصي الجراح على الشفاء.
إن التسامح الاجتماعي هو من أكبر الفضائل، و القران العظيم جعل من التسامح بين الناس قضية مركزية ملحة، فهذا القران الكريم يحدد لنا حقوقنا، و لكنه يحيلنا إلى اختبار العفو و الصلح و التسامح بصفته أن يحظى من الله بجائزة كبرى، فهل هناك أعظم من أن يلقى الإنسان أجر تسامحه و عفوه و إصلاحه من الله رب العالمين.
و نحن نقترب من بداية عام دراسي جديد سواء على مستوى التعليم الأساسي أو الجامعي، فإن الجهود يجب أن تتركز حول مواجهة هذه السلوكيات الهجينة في حياتنا، التي نماها الانقسام، و خرجنها التراشق السلبي، و كرسها ادعاء كل طرف أنه على حق بالمطلق و أن خصومه أو منافسيه على خطأ و على ضلال.
أتمنى أن تبذل الهيئات المدرسية و الجامعية جهوداً كبيرة للسيطرة على تراكم الأحقاد الاجتماعية، و أن يصار إلى ضبط لغة التراشق حتى لا تغزوا مدارسنا و جامعاتنا، و أن نحاول إيجاد واحات و لو صغيرة خالية من جرثومة الانقسام و خطابة الهابط و تداعياته التدميرية.
#فاطمه_قاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجزرة صبرا وشاتيلا ذاكرة القضية التي لا تنطفئ
-
بعيداً عن السياسة،
-
أنت والنورس
-
مزايدة رخيصة ؟
-
المصالحة الفلسطينية هل هي إرادة واعية أم مجاملة
-
نعم..... للمفاوضات المباشرة
-
حفلة سمر للخامس من حزيران
-
غزة تحلم في الليل وتصدم في الفجر
-
الكل بدأ يراجع حساباته
-
عائدون ... إننا عائدون
-
ثنائي الانقسام والحصار ينتج نفسه رغم انف الجميع
-
النقاط على الحروف
-
نحن والانقسام
-
جولة مع الأمل
-
الأرض هي القضية وهي جوهر الصراع
-
القمة العربية طموح و تحدّي
-
القدس فوق عرش الإشتباك
-
المرأة الفلسطينية في يومها العالمي
-
لا تسقطوا في الفخ الإسرائيلي
-
قمة طرابلس أمل بانجازات مهمة
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|