|
خسر العلمانيون، وفازت العلمانية!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3129 - 2010 / 9 / 19 - 15:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا يخفي إسلاميون عرب متنوعون ابتهاجا حذرا بنتائج الاستفتاء التركي الأخير على إصلاحات دستورية تخفف من سطوة الجيش على الحياة السياسية. وبالمثل لا يخفي علمانيون متنوعون ابتئاسا حذرا بدوره من نتائج الاستفتاء الذي تحقق فيه فوز أكبر من المتوقع لتوجهات حزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد منذ 8 سنوات. ومصدر حذر الإسلاميين هو أن الحزب التركي ليس إسلاميا نمطيا: ليس مندرجا في النظام العلماني التركي فحسب، بل هو مجاهر في التزام العلمانية والحرص عليها. لا يبدو أن هؤلاء الإسلاميون إسلاميين. والسبب نفسه وراء اكتئاب العلمانيين، أو قل عدم اندفاعهم الجَذِل لتأكيد ما كانوا يعرفونه دوما: أن الإسلاميين هم الإسلاميون، معادون للعلمانية وللديمقراطية والحداثة. ليس فقط أن الحزب التركي لا يوفر أي سبب للجزم بأن الإسلاميين هم الإسلاميون، بل إنه يوفر أسبابا للاعتقاد بأن الإسلاميين ليسوا الإسلاميين، وأنهم في الواقع مختلفون ومتنوعون، يشبهون مجتمعاتهم وبيئاتهم أكثر مما يشبهون أصلا عقديا مشتركا ينتسبون إليه. لولا العلمانية لتمت أفراح الإسلاميين، ولولا الإسلامية لتمت أفراح العلمانيين. والحال أن ثمة مشتركا "أبستمولوجيا" يجمع الطرفين: افتراض أن العلاقة بين الدين والعلمانية محكومة دوما وحتما بمحصلة صفرية، في السياق الإسلامي بخاصة. وبهذا لا تثقل موازين العلمانية إلا إذا خفت موازين الدين، ولا يرتفع لواء الدين إلى بتنكيس راية العلمانية. وفي الحالة القصوى لا تكتمل العلمانية بغير اندثار الدين، والعكس بالعكس. ويصدر افتراض المحصلة الصفرية بين الإسلام والعلمانية عن تصور العلاقة بينهما كعلاقة صراع وجودي، لا تحتمل تعايشا سلميا أو حسن جوار. لكن هذا التصور بالذات يقود إلى تديين العلمانية، أي جعلها عقيدة مطلقة على نحو ما يبدو أن علمانيين عربا وأتراكا يعتقدون، وعلى أدلجة الدين على ما يفعل عموم الإسلاميين العرب، أي تحويله إلى قوة تعبئة سياسية دنيوية. ومن تلقائه يجنح الصراع الوجودي إلى التحول إلى صراع مطلق، أي بالفعل إلى صراع عدمي، حياة أحد المتجابهين مرهونة فيه بموت الآخر. ولعل قيمة التجربة التركية تتمثل في تقويضها هذه المسلمة الثاوية تحت تفكير الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء. لقد انتصر حزب إسلامي والعلمانية التركية معا. أو لنقل إن فوز حزب العدالة والتنمية في الاستفتاء الأخير، بعد غير فوز سابق في الانتخابات التشريعية، هو أولا وقبل كل شيء انتصار للعلمانية التركية ومؤشر على نضجها واتساع طاقتها الاستيعابية. لا يقتصر الأمر على أنه لم يسجل أي تراجع في علمانية الدولة والقوانين والتعليم، بل إنه يبدو لأول مرة أن المعسكر العلماني مضطر لأول مرة إلى الوقوف على رجليه الخاصتين، متحررا من الاعتماد المفرط على العسكر. وإنه لمن سخرية التاريخ أن يسجل الفصل بين العلمانية والعسكر، أي استقلالها وإنقاذ كرامتها، باسم إسلاميين. هذا فوق تقدم لا يجادل فيه أحد للديمقراطية والحريات العامة، وتراجع لا جدال فيه أيضا للفساد، فضلا عن نجاح محقق في بلورة سياسات إقليمية ودولية أكثر فاعلية دون أن تكون اقل عقلانية. التجربة التركية الحالية ثمينة من حيث أنها تنفي علاقة التنافي المحتوم بين الإسلام والعلمانية. وليس قبل تثبيت هذه النقطة يمكننا، ويتعين علينا، التساؤل عن سر هذا اللعبة التي يفوز فيها الطرفان معا. يقتضي الأمر هنا الذهاب إلى ما وراء اليافطات الإيديولوجية والعناوين المتداولة في الأخبار والتعليقات السريعة. لعله بفضل خيارين تاريخيين كبيرين تحول الإسلام التركي إلى "إسلام لين" (بينما يغلب "الإسلام الصلب" في البلدان العربية، أعني الذي يعتبر نفسه دينا ودولة وعلما وأخلاقا وقانونا وأمة). أول الخيارين هو إنهاء الخلافة وفرض ضرب قسري من التحديث تمثل في التحول من الأبجدية العربية إلى اللاتينية وحظر الطرابيش والحجاب.. ما مثّل تغيرا نوعيا في "العالم السيميائي للشعب" على قول المرحوم محمد أركون. استطاع "الغازي" مصطفى كمال تحقيق ذلك لأنه انتزع شرعية لا جدال فيها بفعل صونه وحدة تركيا وانتصاره على قوى الحلفاء الذين كانوا بصدد تمزيق البلاد وتقاسمها. ولقد وظف الرأسمال الرمزي الهائل المتولد عن هذا الانتصار في مشروع كبير للهندسة الاجتماعية، غير وجه تركيا ووجهتها. الخيار الثاني، وقد ترتب على سابقه، هو الانحياز إلى القوى الغربية في الحرب الباردة، والانضمام إلى حلف الأطلسي (المنتصر في نهاية هذه الحرب)، وما أفضى إليه ذلك من خفض عتبة تماهي النخب التركية بالغرب المتفوق. ولعل المثال السلبي، العربي الإيراني، الجار والقريب ثقافيا، قد قوّى قلب النخب السياسية التركية في الثبات على هذا الخيار. في المحصلة، تطور الإسلام التركي إلى صيغة لينة، إسلام دستوري إن صح التعبير، يبدو أنه يبني على تلك الخيارات ولا يطرح على نفسه مراجعة أساسية لها. غاية ما يظهر أن الإسلامية الدستورية التركية تتطلع إليه هو تقييد إفراطات مؤسسية وقانونية وإيديولوجية اقترنت بتلك الخيارات، دون انجذاب إلى ثوابت "الإسلام الصلب" مثل تطبيق الشريعة والدولة الإسلامية والأمة الإسلامية. في الوقت نفسه يبدو أن العلمانية في تركيا تتحول إلى العلمانية اللينة أو الدستورية، القائمة على اعتبارات الملاءمة والنجوع والتوازن الاجتماعي لا على اعتبارات عقدية تجعلها ضربا من دين الدولة (التمييز بين علمانية صلبة وعلمانية لينة للدكتور عادل ضاهر في كتابه "الأسس الفلسفية للعلمانية"، وقد بنيت التمييز بين إسلام صلب وإسلام لين على غراره). فيما يظهر أن المعسكر العلماني التركي لا يزال يعتنق علمانية صلبة، مطلقة وغير ديمقراطية، الأمر الذي قد يفسر إخفاقاته طوال عقد مضى في بيئة محلية يبدو أنها تنحاز أكثر وأكثر نحو صيغ لينة ودستورية للعلمانية. لقد فازت العلمانية وخسر العلمانيون. ووراء فوز الإسلام والعلمانية معا تحول في طبيعيتهما باتجاه نمو وظائفهما التواصلية على حساب وظيفة الهوية التفاصلية: التماثل مع الذات والتغاير مع الغير. ولقد فاز الإسلاميون، وخسر "الإسلام"، هذا المطلق، الصلب، الاستبعادي. ولعل في هذا ما يلقي ضوءا على كل من الإسلام والعلمانية والعلاقة بينهما في الإطار العربي. الأصل في العلاقة الصفرية هنا هو هيمنة التصور الصلب والمناضل للعلمانية (ينحاز له الدكتور ضاهر)، وكذلك التصور الصلب للإسلام، هذا الذي يدرج الدولة والأمة والمعرفة والأخلاقية والحق في صلب الدين، وأحيانا التصور الأصلب، السلفي الجهادي، الذي لا يرتضي بأقل من أسلمة شاملة جذرية. بين إسلام مطلق وصلب وعلمانية صلبة يمتنع أن تقوم غير علاقة صراع وجودي، أي عدمي. فإن كنا نروم تغيير هذه العلاقة، على ما نفترض، فلا مناص من تحول المبدئين باتجاهات دستورية ولينة واستيعابية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل المثقفون مسؤولون عن نوعية تلقي أعمالهم؟
-
-النظرية الثقافوية في التاريخ- ووكلاؤها العامون
-
الغيلان الثلاث وأزمة الثقافة العربية: مقالة غير عقلانية
-
ياسين الحاج صالح في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول : الي
...
-
إسرائيل ك-لاعدل- جوهري مستمر
-
الدولة، الدولة أيضا، الدولة دوما
-
في -السياسة الطبيعية- والمشكلات غير السياسية
-
أهي نهاية الحداثة السياسية العربية؟
-
في الخروج من بنية مغلقة لا مخرج منها
-
التدين الإسلامي والحاجة إلى أخلاقية عامة
-
في شأن النقاب وحركة التنقّب الاجتماعي
-
-المسألة النِّقابية- وعبء المرأة المسلمة
-
في تاريخية الإسلام المعاصر وحداثته - إلى روح نصر حامد أبو زي
...
-
هوامش مناورة.. الولاء كنظام وكعلاقة سياسي
-
في الواقع لا في النص: أيّ يسار، أين، وأية سياسات يسارية؟
-
أربع صيغ للنزعة المحافظة... ثلاث منها عالمة
-
من نقد الثقافوية إلى نقد الثقافة.. والدين
-
هل أوضاعنا جامدة بالفعل، لا تغيير فيها؟
-
في معنى أزمة الثقافة ووجوهها وحصائلها
-
محمد عابد الجابري ونهاية الموجة التراثية
المزيد.....
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|