|
العلامه ومرجعيتها الفلسفيه عند اليونان
سامى الحصناوى
الحوار المتمدن-العدد: 3128 - 2010 / 9 / 18 - 22:43
المحور:
الادب والفن
منذ أن غادر الإنسان كهفه باحثا عن الحقيقة في صراعه مع الوجود، كان ميالا للسؤال عن الأشياء وكينونتها والكون وظواهره، وفي حيرته هذه كانت تعتمل داخله سيرورة المعرفة، تحاوره للخروج من مازق السؤال فان "الإنسان كائن رمزي بكل المعاني التي يمكن إن تحيل عليها كلمة رمز، فهو يختلف عن كل الموجودات الأخرى من حيث قدرته على التخلص من المعطى المباشر، وقدرته على الفعل وتحويله وإعادة صياغته وفق غايات جديدة"( )، وفي ظل هذه القدرة وغياب منطق العقلانية واستفحال صراع الوجود كان عليه الولوج الى عوالم جديدة ليكون منسجما مع رغباته ومحيطه الصعب ومعرفته الوليدة، مما حتم عليه صياغة أساليب تعبيرية مبتكرة أدت الى بروز مرحلة جديدة في فهمه ووعيه الوليد، فرقص وغنى، وبكى وضحك، وفكر وتساءل، وكان عليه ان يعرف كيف يتعلم أكثر للحفاظ على مكاسبه هذه وان يدعم علاقاته الناشئة، فكشف بفطرته علاقته مع الأشياء مع الظواهر مع الآخرين فكانت (العلامة) أي التواصل مع أبناء جنسه ومحيطه والتي من خلالها استطاع ان يكشف الأشياء وما وراءها في مخيلته او التي يحس بوجودها او يصوغها ميتافيزيقيا لا التي يراها امام عينيه فقط، وهذا ما جعله يشعر بظلها او بدائلها او من يعوض عنها في غيابها او حضورها، ورغم هذا التقدم الحاصل في فهم الإنسان والنزعة لهذا التواصل ظل قاصرا في (انطولوجيته)* أي بمعنى العلاقة الدقيقة الشائكة بينه وبين محيطه المعقد انه بحاجة الى فلسفة ما كي يصل الى المعرفة الكاملة ولا يبقى أسير تساؤلاته وحيرته فكانت "الفلسفة محاولة الإنسان فهم ذاته فهما عميقا لا سطحيا .. وتصبوا الى مفتاح يحل اللغز الإنساني"( )، هذا التزاوج بين الوعي المعرفي الوليد ومحاولته حل اللغز والولوج الى عوالم جديدة، حتمت عليه المضي نحو اكتشاف ذاته أكثر ومعرفة مديات علاقاته بظواهر الكون، فظهر صراع فلسفي فلسفي بين الرمز كونه مدركاً طبيعياً لكل الموجودات ومنها البشر وحتمية الوصول له وفهمه في ان واحد، هذه الازدواجية لم تكن إلا سيرورة لعقدة البشر في خلق المشكلة وحلها فقد "يظهر تاريخ الرمزية بان كل شيء يمكن ان يتخذ أهمية رمزية لمدركات الطبيعة (كالحجر، النبات، الحيوان، البشر، الجبال، الشمس، القمر)، الحقيقة ان الكون كله هو رمز كامن، الانسان بميله الى صناعة الرمز يحول المدركات او الأشكال بلا وعي منه الى رموز ويعبر عنها في دينه وفنه البصري"( )، ان المشكلة التي حصلت في وعي الانسان ومحيطه المعقد، جعلت الاشتباك قائماً ولا يتوقف بينه وبين المزيد من المعرفة ومن ثم فهمه للعلامات التي تحدد علاقاته الاجتماعية وعناصر إنتاجه وسلوكه ونمط عيشه" والحاصل ان السلوك السيميائي هو نتاج عوالم التجريد والتعميم والرمز، ولا يمكن ان يفهم ويستوعب ويؤول الا باعتباره مسمارا داخل عجلة تجريدية لا تتوقف عن الدوران والحركة"( )، هذه السيرورة المعقدة في السلوك السيميائي(الفطري) قد مهد للإنسان ان يجعل التوازن قائما بين فهمه الواعي المستجد وبين الحضارة ومتطلباتها، ومن هنا فقد بدا الانسان بالولوج الى عالم سيميائي متشعب ولكنه واضح وميزته القوة، فالعلامة في الفهم الفلسفي قدرتها على تغير نفسها باضطراد وبالتالي تغير معناها الدلالي بشكل لا منتهي "فالقوة تعني تغير الموقع"( ).وعبر مسارات العلامة او الإشارة تاريخيا فرضت تواجدها من خلال حتمية أهميتها للبشرية فانتقلت "من الشكلية القديمة والايديولوجيات الدينية في العصور الوسطى الى العلم الحديث عبر المنطق واللغويات وكيف خرجت من المفهوم الثابت لإنتاج شكلي للمعنى الواحد- شكل القياس اليوناني أي الاعتراف بوجود ممارسات دالة مختلفة لها أنظمتها الخاصة التي تحكم علاقة نوعية بين الرمز والواقع"( )، ومن خلال هذه المسيرة حاول رجال هذه الحضارات الوصول بقصد او بدونه من مفهوم العلامة ودلالاتها البسيط الى ترسيخ المفهوم المعاصر لها بكل تعقيداته وإشكالاته.حيث مر الفكر الفلسفي اليوناني في فترة خصوبته عند القرن الخامس ق.م، واسس نظريات في الفن واللغة والسياسة والاقتصاد، متطابقا مع التنوع الفكري المعقد لمجموعة من الفلاسفة اليونان، فمن فكر الفيثاغورسيين المعقد الى جدل السوفسطائيين الى صرامة (سقراط) ونظريات (افلاطون) في المثل وجمهوريته المثالية وتنظيرات (ارسطو) في الفن والشعر والخطابه، الى ما ورائية الرواقيين وعشرات الفلاسفة والمدارس المتباينة المناهج، فان "العقلانية الاغريقية من افلاطون الى ارسطو وكل من يدور في فلكها قد ابتنت على مبدأ مفاده ان المعرفة هي امساك بالسبب، ان تعريف الله انطلاقا من هذا الرابط معناه تحديد سبب يقصي كل سبب اخر، فلكي تكون قادراً على منح العالم تعريفا سببيا يجب بالضرورة ان نستحضر فكره وجود سلسلة وحيدة الاتجاه"( )، كما هو الحال في العصر الحديث وصراع المذاهب فيه، كان الفكر اليوناني يشهد صراعا بين المادة والفكر او المادة والصورة المثالية او بين الواقع والخيال، فقد ترتب عليه اختلاف الرؤيا المنهجية لفكرة الإدراك الحسي للانسان وصورة الخيال في ذهن المتلقي في الوقت نفسه، أي أتعيش في عالم الوهم والتخيلات ام تبقى في الأرض مدركا سحرها وشرها فهناك "رسم مشهور لرؤفائيل، نرى فيه افلاطون يشير بالبنان الى السماء بينما يشير (ارسطو) الى ادنى الى الأرض، المغزى هنا واضح: ان الاتجاه الافلاطوني في التفكير هو الابتعاد عن العيني او الملموس والاقتراب من مجال الصورة او المثل المجردة بينما يظل "ارسطو" على صلة بوقائع التجربة رافضا الخوض في منطقة النظر الذي لا يخضع لرقابة"( )، وهذا يقود الى صراع ثان بين المنطق والتشكيك المجرد، او بين نظريتين كلتاهما ينظر الى الحياة والأشياء بإبعاد غير متساوية بالرغم من الادعاء الوصول الى الحقيقة لا غير، ومن هنا فقد بدا الفلاسفة بإيصال أفكارهم وقناعاتهم من خلال: الحوارات والجدليات والأدلة والبراهين ومن خلال اللغة "والإيمان بالكلمة والشك فيها يكون المشكلة التي رآها التنوير الاغريقي في العلاقة بين الكلمة والشيء وبذلك تغير دور الكلمة، من تقديم الشيء الى استبداله بها"( ).هذا التقديم والتأخير في دلالة الكلمة من تقديمها للشيء أي استبدالها او تغير في لفظها او معناها، تكون الحس الدلالي اليوناني ورأى مفهوم (العلامة) على أنها وضوح للمعنى مضافا اليه تغييره وقت الاحتياج، هذا التكوين العلاماتي للكلمة وما تنتجه من معنى دلالي صوري في ذاكرة المرسل وتلقيه بفهم ثابت او متغير، كان حافزه أهناك تغيير دلالي في اللفظ يفهمه المتلقي على أساس ازدواجية المعنى له، ام هو خاضع لايقونية ثابتة المحتوى لا لبس فيها "فالنظرية المواضعاتية تعتد بالاستعمال اللغوي غير الملتبس الذي يمكن بلوغه بالتواضع والممارسة كمصدرين وحيدين لمعنى الكلمات، بينما ترى النظرية الأخرى ان هناك تواضعا طبيعيا بين الكلمة والموضوع الذي يصفه مفهوم (الصحة) الناتجة عن التطابق مع الشيء الخارجي"( )، ومن هنا تبرز أهمية الكلمة في التفكير الدلالي عند اليونان في إشارتها الى معنى ايقوني ومتغير دلالي، على أساس التفكير المنطقي لرؤية الأشياء من منطلق فلسفي شامل "فنجد مصطلح سيميوطيقيا في اللغة الافلاطونية الى جانب grammatike الذي يعني تعلم القراءة والكتابة، ومندمجاً مع الفلسفة او فن التفكير، ويبدو ان السيميوطيقا اليونانية لم يكن هدفها الا تصنيف علامات الفكر لتوجيهها في منطق فلسفي شامل"( ) وهذه إشارة واضحة الى اتساع عمل العلامة باتجاهات عدة وأنماط مختلفة. -العلامة عند الفيثاغوريين كان الفكر الفلسفي الإغريقي وما زال مثار جدل لا ينقطع، لغناه وتشعبه الفكري المعقد، فليس هناك اتجاه محدد لمدرسة، او فكر فلسفي، تتشابه فيه الاتجاهات والأفكار فالجميع ينظر بمغالاة لقيمة إنتاجه الفلسفي على الصعيد المادي او الروحي او الرؤية الميتافيزيقية للكون والعلة والسببية، ولعل ابرز هذه التناقضات متمثلة في المدرسة الفيثاغورية، إذ كان هدفهم تقشف الروح والجسد معا، لان الجسد هو مصدر الشقاء والروح فانه "بعد الموت تهبط النفس الى الجحيم تتطهر بالعذاب ثم تعود الى الارض تتقمص جسما بشريا او حيوانا او نباتا"( )، ففكرة التناسخ هذه هي معنى تحريم النفس وانفصالها عن الجسد وبقائها بعد فنائه، وهذا قاد الى تبني لمفهوم العددية في النظرية الفيثاغورية وارتباطه بالقيم المنطقية لمعنى الوجود والتسلسل الزمني والمكاني لمعنى الأشياء في هذا الكون الساخط "فالإعداد كانت ترد في ذهن (فيثاغورس)* على هيئة أشكال، وارجح الظن انه تصور العالم مؤلفا من ذرات، والاجسام تشكيلات من ذريرات رتبت على اشكال مختلفة"( )، فمن جوهر العدد خلق الانسان ومنه يعود منسوخا من جديد، ومن هذه النظرية الحسابية لكونية العقل ثم الجسد، جاء مفهوم (العلامة ودلالتها عند الفيثاغوريين)، فالارقام تنتج ارقاما ونتائج مغايرة، ومن ثم فان الدال مع المدلول ينتج نمطا اخر للمعنى ولا تقف ساكنة عند رقم او نتيجة واحدة او معنى واحد لا يتبدل فان "ما يطرا على معاني الالفاظ من تغيرات كثيرا ما يكون كبير الفائدة حدا والتامل العاطفي والوجداني عند فيثاغورس كان يفهم بمعناه العقلي ويتمثل في المعرفة الرياضية"( )، ان المتغير موجود ومرغوب بين اللفظ ومعناه، وعليه فان التعبير الدلالي وارد وان اللفظ لا يعطي معناه الصريح المباشر، وعليه فان الفيثاغورية تؤمن بان الصورة الذهنية قد لا تكون مشتركة بين المرسل والمتلقي او ربما تتطابق ضمن فكرة العدد اللا منتهي. العلامة عند السوفسطائيين كان سلاح السوفساطئيين هو الكلمة والجملة وصياغتها في منطق يغلب عليه الشكل الزخرفي بعيدا عن المضمون، ساعين الى التزويق اللفظي، لذا فقد اعطوا مسافة بين اللفظ ومعناه، بعيدا عن التطابق المعنياتى المباشر او المتغير المعقول، فجعلوا تلك المسافة متوارية بين المادة والادراك الذهني او الصوري، غائبة عن تحديد واضح للفظة ومدلولها "ولم يكن ليتم لهم غرضهم بغير النظر في الالفاظ ودلالتها والقضايا وانواعها والحجج وشروطها والمغالطة واساليبها"( )، وفي مثل هذه الحالة كانت (العلامة) تبتعد كثيرا عن ايقونيتها وتقترب من فضاءات التشويش في مدركاتها، وبذلك يقف الاخر في حيرة المعنى، هذه الضبابية في الفكر السوفسطائي، وتغليبهم الشكل على المضمون جعل من مفهوم العلامة عدم رضوخها لمنطق العلاقة التوافقية العقلانية بين الدال والمدلول فقد جاءت مشوشة في صياغتها للمعنى "وكثيرا ما يلجا السوفسطائيون إلى المفارقات اللفظية وكغيرهم يستخدمون اللغة للايحاء والاقناع، ولكنهم لا يتقيدون كغيرهم بالقيم الموضوعية من خلقية واجتماعية، ولهذا يجب ان نبحث عن المضمون"( )، هذه الضبابية في المعنى الدلالي لا ينظر اليه كعلامة تحتاج الى تاويل بقدر ما هو غياب عن حقيقة الثوابت بين (العلامة ودلاتها) لان العلامة، ترتبط تلقائيا بالرمز او الشفرة، فيعني انها ذات خلفية قائمة على فكر تاويلي مقصود يعطي اكثر من طريق في فهم المعنى ولكنهم جعلوها عكس ذلك في نمط تفكيرهم فان "انطباعي الشخصي قد يكون ان الارض مسطحة ولكن الحقيقة هي انها مستديرة"( )، هذه المغالطة للعلاقات في فهم المعنى قد جعلوها نقطة ارتكاز ثابت في منظورهم المشوش، بل اكثر من ذلك فقد اتجهوا نحو محاججة غير عقلانية في ازدواجية الانطباع الدلالي الممزوج بفلسفة لفظية محيرة في "كل من افعال التفكير يجب ان يكون هناك مصطلحان بالضرورة، انني انظر الان الى هذا المكتب وافكر في هذا المكتب، هناك (الانا) التي تفكر، وهناك المكتب المفكر فيه، (انا) فاعل الفكر والمكتب هو موضوع الفكر، بصفة عامه الفاعل هو الذي يفكر والموضوع هو ما يجري التفكير فيه"( )، هذه الازدواجية في المعنى حتمت ازدواجية اخرى في التلقي، وبات الامر لا يعني رمزية الاشياء بقدر ما يكون حيرة الرمز نفسه .
العلامة عند سقراط* كان سقراط ميالا الى الابتعاد عن المراوغة اللفظية في طروحاته الاخلاقية فقد كان يؤمن بمبدا الحد بين الحقيقة والاشياء أي ان اللفظ يعطي معناه الواضح الصريح مبتعدا عن فكر السوفسطائيين الخالي من قيم الحقيقة والمعنى وبذلك فان العلامة تعني التطابق الحسي والفكري بين الدال والمدلول في انتاجه الدلالي فكان " يرى ان لكل شيء طبيعة او ماهية هي حقيقته يكتشفها العقل وراء الاعراض المحسوسة ويعبر عنها بالحد، وان غاية العلم ادراك الماهيات"( )، ومن ذلك فان (سقراط)، لا يخرج عن التكوين المادي للعلامة ضمن ايقونيتها حتى في ادراكها الحسي والمادي او في صورتها المتخيلة "عندما نكون واعين مباشرة بوجود أي شيء جزئي، انسان، شجرة او بيتا او نجما، فان هذا الوعي يسمى ادراكا حسيا، وعندما نغلق اعيننا فاننا نكون صورة ذهنية لمثل هذا الشيء، هذا الوعي يسمى صورة خيالية او تمثيلا"( ) ، وفي كلتا الحالتين فان العلامة عند سقراط ثبوتية تنبع من الحقيقة وتبتعد عن فكرة النوع الثاني منها أي بمعنى ان التأويل هو مرادف للخداع، ومن ثم فان فلسفته صادقة وهو يدرك ان الاتجاه لا يمكن ان يتفرع الى وجهات عدة، ويعطينا (سقراط) اكبر ثبوتية للعلامة عندما يرفض الصيغ الازدواجية وعلاقتها بالحقيقة بقوله: "لا استطيع ان أدرج صفة البياض في فكرتي العامة عن الجياد، وذلك لأنه بالرغم من إن بعض الجياد بيضاء فان بعضها الاخر ليست بيضاء لكنني استطيع ان أدرج صفة الفقاريه لان جميع الجياد تشترك في كونها حيوانات فقرية"( )، ومن هذا المنطلق حدد (سقراط) منطقه في سكونية العلامة ضمن فهمها الايقوني الثابت ووحده اللفظ وصياغة المعنى ومن ثم فان الدلالة تعنى ذلك المعنى لا غير. العلامة عند افلاطون* إن أهم الخصائص التي رافقت الفلسفة اليونانية، هي التفريق بين العقل والمادة أي بين الإدراك الذهني والأشياء، هذه التفرقة كانت تعني استقلالية التفكير العقلاني عن الارتباط القسري بالمادة او الصورة المدركة التي إمام العين، على أن هذه التفرقة لا تعني السكونية في التفكير والحراك الذهني للوصول الى معنى الأشياء، لان الفكر الفلسفي اليوناني كان قائما على السببية وتعليلاتها و(افلاطون) كان ميالا الى المحاورات والجدليات لإثبات فلسفته والإقناع بها فقد كانت "الطريقة التي اتبعها افلاطون في دراساته، هي طريقة الحوار والنقاش الجدلي والمثل الخرافي، والحوار كما لا يخفى طريقة الحركة والحياة، والنقاش الجدلي الذي يعالج الأمور طردا و عكسا، طريقة الوضوح والإيضاح، والمثل الخرافي تعبير شعري عن الحقائق المجردة يقرب المعاني الى الأذهان"( ).ان(افلاطون) يرفض التناقض بين الفكرة والمادة او بين الإدراك الذهني وتصوره المادي على اساس تناقضات حسية مشوشة، فهو يؤمن بطبيعة العلاقة بين هذه المكونات على اساس ان الكلمة هي مفتاح المعنى والعلاقة بينهما قائمة على اساس حميمي متفاعل، ومن هنا فان العلامة عند (افلاطون) هي علاقة طبيعية بين الدال والمدلول أي بين اللفظ ومعناه، وربما "كانت أقدم مناقشة لوظيفة العلامة اللغوية ومعناها، هي التي أوردها افلاطون في حواريته (كراتيلوس)، حيث يبرز الصلة او الرابطة بين صوت اللفظ ومعناه باعتباره نتيجة عوامل الطبيعة في مقابل عوامل العرف"( )، لذا فان الظاهرة الافلاطونية تقترب من ايقونية التماثل الصوتي اللغوي للكلمة باتجاه معناه الواضح، أي ان كل لفظ او صوت يرمز الى معنى وينشا ما يسمى بالمناسبة الطبيعية بين الأصوات ودلالاتها، وافلاطون "باصراره على وجود العلاقة الحميمة بين الكلمة وما تدل عليه، فقد كان مأخوذا بسحر الكلمة مغتبطا بشفافيتها انطلاقا من اعتقاده ان اللغة ظاهرة طبيعية"( )، وبالرغم من أن الكثيرين شككوا بطروحات (افلاطون) واستمراريته بها، ربما سبب تطور معالم اللغة وتشابك الالفاظ او تطور ذهنه المعرفي "وكان اتجاه افلاطون نحو العلاقة الطبيعية الذاتية مدعيا ان تلك الصلة الطبيعية كانت واضحة سهلة التفسير في بدء نشأتها ثم تطورت الألفاظ ولم يعد من اليسير ان نتبين بوضوح تلك الصلة او نجد لها تعليلا وتفسيرا"( )، ولا يوحي هذا التشكيك بقدر من الاهمية لان (افلاطون) في كل أطروحاته لاسيما في نظرية (المثل) و (الكهف) واستمرارية خضوعهما الى الربط بين الإدراك الذهني والحسي أو عملية التصور الذهني لا على أساس المعنى فحسب، بل وصف هذا المعنى "لان كلمة (موجود) لا يكون لها معنى إلا إذا نسبت الى وصف لا الى اسم وبهذا نتخلص من الوجود على اعتبار ان شيء من الأشياء التي يدركها العقل في الموضوعات التي يتعلق بها إدراكه"( )، وعليه فان الخلاصة تتجه الى مفهوم العلامة ودلالتها الطبيعية بين اللفظ ومعناه أي بين الدال والمدلول لإنتاج معنى ذاتي طبيعي. العلامة عند (أرسطو)* الملاحظ في فلسفة اللغة عند أرسطو، هو ارتباط المعنى بالمرجعية النفسية، لصاحب المعنى، ومن ثم فان الكلمة توازي الحالةالمنطقيه في أحوالها وعلتها، لذا: "ينبغي ان نضع أولا ما الاسم وما الكلمة، ثم نضع بعد ذلك ماالايجاب و ما السلب وما الحكم وما القول، فنقول ان ما يخرج بالصوت (دال) على الاثار التي في النفس وما يكتب دال على ما يخرج بالصوت"( )، فارسطو غير (افلاطون) في مفهوم العلاقة بين اللفظ ومعناه فـ(افلاطون) يعتقد بالعلاقة الطبيعية بين الكلمة وما تدل عليه أي ارتباط الصورة الصوتية بصورة خارجية قادرة على فرز المعنى الدلالي من دون عناء، اما (ارسطو) فان العلاقة لديه باتت عرفية بين اللفظ ومعناه، ورفض فكره الطبيعة بينهما فهو "يتزعم فريقا اخر يرى ان الصلة بين اللفظ والدلالة لا تعدو ان تكون صلة اصطلاحية عرفية تواضع عليها الناس"( )، ويشرح (ارسطو) ذلك بعدم تساوي المدلولات المنتجة من اللفظ بسياق واحد ومن ثم فان المعنى متغير عرفيا من خلال احالته من سياقه اللفظي فكما "ان الكتاب ليس واحداً بعينه للجميع لذلك ليس ما يخرج بالصوت واحداً بعينه لهم"( )، ويؤكد (ارسطو) هذه الحقيقة بجملة بسيطة في كتابه (العبارة) بقوله "وليس كل قوم بجازم"( )، وينفرد (ارسطو) في موضوع العلامة ودلالتها عن كل الفلاسفة بربط الحالة بالقيمة الدلالية المنتجة، أي وجود فرض الحالة المعنوية في اللفظ ومن ثم المعنى العام أي احالة العلامة الى مسببات تكوينها قبل احالتها الى معناها الدلالي الاخير وهكذا "يختلف تعريف الجدلي وعالم الطبيعة لاحوال النفس كالغضب مثلا، فالجدلي يعرفها بانها الرغبة في الاعتداء وعند عالم الطبيعة، هي غليان الدم المحيط بالقلب فاحدهما ينظر الى (الهيولي)* والثاني الى الصورة او المعنى لان المعنى هو صورة الشيء الا ان هذا المعنى اذا اردنا وجوده فيجب ان يتحقق في هيولي معينة"( )، وهذا اشبه بالعلامة الاشارية عند (بيرس) الذي يحدد بين العلامة ورمزها (دخان يعني ناراً) او تقترب من الرمزية في العلاقة العرفية بين الدال والمدلول (الطير الابيض يعني حمامه السلام)، ولقد احال (ارسطو) دلالة علامته الاشارية او الرمزية الى اختلاف تسلم المعنى من اللفظ في الاولى وفي الثانية الطبيعة الايحائية لمعنى الكلمة وصياغتها ونمطيتها واسلوبها فلو "قلنا ان من العلامة ان انسانا ما مريض لانه مصاب بحمى او ان امراة ولدت لانها ذات لبن فتلك علاقة ضرورية"( )، واذا كان (ارسطو) قد اشار بوضوح الى اشارية وعرفية العلاقة بين الدال والمدلول أي بين اللفظ ومعناه، فانه لم ينس ولو بالاشارة الى ايقونية العلامة كمفهوم ملازم سنته طبيعة اللسان واللفظ والغاية الفطرية في الانسان، فارسطو يمزج بين المادة والصورة على اعتبار ان الاثنين يكونان بالفطرة والطبيعة معنى العلامة ودلالتها، ويركز (ارسطو) على المزاوجة بين الحالة ومسبباتها ثم احالتها الى وجودها الدلالي المنطقي و"الدليل على ذلك ان اللسان لا يدرك الطعم اذ كان شديد اليبوسة، او شديد الرطوبة ومن هذه الحالة الاخيرة يحدث التماس من الرطوبة الاولية"( )، وبذلك يكون ارسطو مهيمنا في فكرة العلامي ودلالاتها في عصره اليوناني المعقد. العلامة عند الرواقيين* جمعت الفلسفة الرواقية مختلف اتجاهات المعرفة واعقدها تصورا وتركيزها على الفضيلة ومنطق الاخلاق، واحالته الى الفهم الفلسفي فان"للمذهب اراء منطقية وما ورائية، ولكن الاخلاق هدفه الاسمى وليس للموضوعات الاخرى من قيمة الا بقدر ما تتعلق باخلاق"( )، لقد برع الرواقيون في اكتشاف السبل للوصول لغايتهم عبر جملة من التنظيرات، من ابرزها (الكلمة) واللغة بشكل عام و (العلامة ودلالتها) بشكل خاص، فقد "ادرج الرواقيون المنطق داخل (اسم اللغة- علم الكلام) واشاروا الى ان الكلمات والجمل هي الامارات"( )، هذا التركيز الطبيعي على اللغة والعلامة حفزهم على انشاء منظومة علاماتية خاصة بهم "الا ان فكرة انشاء مذهب خاص بالعلامات تتشكل مع الرواقيين. واستعمل (جالينس)** عبارة [سيميوطيكي] ومنذ ذلك الحين كلما تطرق باحث في تاريخ الفكر الغربي الى فكرة علم سيميائي... إلا وعرفه على انه (نظرية العلامات)"( )، وهذا ما دفعهم الى تقسيم (العلامة) الى نمط ثلاثي الترتيب هو (المشار اليه- التصور الذهني- اللفظ)، وعلى هذا فانهم سبقوا (بيرس) في ثلاثيته المعروفة، ومهدوا الطريق الى المحدثين في صياغة نظريات مستقلة في التنظير السيميائي وقد كان (للكلمة) في تقسيمهم الثلاثي المعبر الدلالي للمعنى وإيصاله وتواصله من خلال احتوائها مضمون الفكرة الدالة على ذلك المعنى، ولكن هذه الكلمة ليس بالضرورة تحاكي معنى مباشرا او متفقا عليه او طبيعيا سواء كان في الإرسال او الاستقبال بل قد يظهر تأويليا يصل الى حد الرمز او التشفير كما عند (بيرس) فهم "عندما يتحدثون عن العلامة، يبدو انهم يشيرون الى شيء واضح بصفة مباشرة يؤدي الى استنتاج وجود شيء غير واضح مباشرة"( ). وحدد الرواقيون المعاني وفق مسبباتها الجدلية، ومن ثم فقد كانت العلامة نتيجة منطقية بوجود حالة منطقية بجانبها حيث "النور مشرق النهار طالع"( ) وأطلق الرواقييون على هذه العلامة (الشرطية) وثمة علامة تقترب جدا من ايقونية العلاقة بين اللفظ والمعنى على أساس علاقة التزامية بين الدال والمدلول اذ "يرى الرواقييون ان بين العلامة وبين الشيء الذي ومن وظيفتها ان تدل عليه علاقة التزام، فالدلالة بطبيعتها تكشف عن المدلول عليه"( )، وبهذا فقد غطى الرواقييون مجمل عمل العلامة، من دون تواجد نظرية مبوبة واضحة كما فعل (سوسيرا و بيرس).
#سامى_الحصناوى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علامات الاداء ومنظومه الديكور المسرحي في المونودراما
-
علامات الاداء ومنظومة الزي في المونودراما
-
سيكولوجيه تقنيات الممثل في المونودراما
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|