أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - تقي الوزان - تداعيات منكوبة















المزيد.....

تداعيات منكوبة


تقي الوزان

الحوار المتمدن-العدد: 3127 - 2010 / 9 / 17 - 18:36
المحور: سيرة ذاتية
    



تداعيات منكوبة
تقي الوزان

" وقع ", لن أوقع . أربعة اشهر من التعذيب , وهم يعرفون انك لا تمتلك أي شئ قد يؤذيهم , كانوا يريدونك فقط أن لا تكون خارج إرادتهم . من من العراقيين لم يؤمر بهذا الأمر ؟! ومن من الأصدقاء والأقرباء والأهل , وكل من يودك , لم يطلب منك أن توقع ؟! هل الجميع على خطأ وأنت وحدك الصحيح ؟! بدأت اشك بقدرتي على التمييز , رغم معرفتي بان البعض يريدني بهذا التوقيع أن لا اذكّرهم بضعفهم . تركوني الواحد بعد الآخر , واخذوا يتجنبون السلام عند ملاقاتي, يتركون مقاعدهم ويذهبون عندما اجلس في المقهى , صاحب المقهى اخذ يتثاقل من جلوسي , بعد أيام فاتحني بعدم رغبته بقدومي , وأراد أن يخفف من تأثير طلبه فأضاف : ان المقهى تفرغ بسببك . نعم , انه صادق , اعرفه طيب القلب, ومسئول عن عائلة , كان يفرح عندما اترك عنده صحيفة " طريق الشعب" أو " الفكر الجديد " , يتبرع في جميع المناسبات . . تغير الحال , وان قدمت مرة أخرى سيطردني , ليس بسبب فراغ المقهى فقط , بل بلّغوه , النظام لن يتساهل مع أي فرد يعمل في حزب آخر غير حزب السلطة . اشعر بالوحدة , ليس بسبب وجودي وحيدا في الزنزانة , بل بسبب الأجواء التي تحيطني قبل توقيفي . الزنزانة منحتني الحماية من نظرات الآخرين , والعذاب من البقاء في البيت تلاحقني نظرات شقيقتي الصغرى – وهي أكثر إيلاما من غرز الابر في حدقات العيون – بعد ان انفصل عنها خطيبها , وأدركت أن لا يتقدم احد إليها بعد الآن بسبب كوني شيوعي , حتى أمي حذرتني من البعثيين بتكرار ممل , وصرخت بها في احد المرات: نعرف هذا جيدا . وسألتني : ماذا تنتظرون ؟! لم اعرف بماذا أجيبها .

أصبحت أدرك لغة الجسد والعيون أكثر من أي شئ . عباس زوج شقيقتي الكبرى اعتقد إني لم أره عندما غير طريقه في بداية الزقاق , عرفت من زوجته انه سجل بعثيا . عباس مدرس , ورفيق جيد , ومن عائلة معروفة بسمعتها الطيبة , واحد أسباب اقترانه بشقيقتي لأنها رفيقة أيضا , وأرادت بكلامها أن تبرأ ذمتها وتقنعني كي يتخلصوا من تبعية عنادي . المعلم عبد الزهرة عازف العود الجميل , يسمعنا عند كل جلسة سمر أغنية " عد وآني اعد ونشوف ياهو أكثر هموم " , تسمر عندما قابلته , سقطت الدموع من عينيه , لم يقل كلمة واحدة . عرفت انه وقّع في السيارة قبل وصوله إلى مديرية الأمن , كان مرعوبا من صور التعذيب التي أشاعوها . لكل واحد حكاية مؤلمة في فلك التوقيع , احمد كان يضحك بارتباك , أزاح هما عنه , أدركت انه سجل بعثيا , ولو كان التعهد فقط لما فارقه القلق . إلا انه والحق يقال لم يشي او يؤذي احد مثل بعض الآخرين , الذين افرغوا نار حقدهم برفاق الأمس وعوائل المطاردين والمختفين عن أعين السلطة .

كنت أجهد نفسي متخطيا الخوف والقلق كي تبدو هيئتي طبيعية , كنت محاطا بآلاف النظرات والحركات التي تجعلني أسير بلا هداية , كدت أن أتشرنق في الكابوس . الزنزانة منحتني الهدوء , وإعادة ترتيب الأشياء . سكين حسين سرهيد
تمزق أحشائي , وأكثر إيلاما من وسائل تعذيبهم التي استمرت طيلة هذه الفترة , حسين سرهيد مهندس زراعي نزق , يحاول البروز ويدعي دائما إمكانيات اكبر من حجمه الضخم , ضخامة يتفاخر بها بأبهة , كان يتصيدني بعد كل استدعاء للأمن أو للمنظمة الحزبية – وكأنه على موعد معي – ويقول : والله بس أنت رجال , كلنه سقطونه سياسيا بس أنت بقيت. كان في رنة صوته سخرية ووعيد مرعب بالانتقام , كان يعتقد كلما طالت فترة الامتناع سيكون الجرح أعمق واشد إيلاما , وهو يدرك إما التوقيع أو الموت . خدم البعث بشكل مذل , وكلف باخس الأعمال , والجميع يخجلون من ضآلته .

كنت وحدي أواجه مصير وجودي , لا رفاق , ولا أصدقاء, ولا أهل, ولا أي خيط بالمجتمع , كنت أخشى ضميري أكثر منك , أنت صديقي وتستطيع أن تدرك تغير الواقع, لكنه كان يحاكمني بقياسات لم أدرك صلاحياتها لغاية هذه اللحظة , حكّمت عقلي , وتركته يتخبط في ظلمات بئر عميق , أشبه بهاوية الموت لا تعرف أي شئ بعدها . تركوني يومين , كنت أتمنى أن لا اخرج من التوقيف, تخلصت من حالة اللا عبور, علي أن أجهد نفسي لمواجهة العيش بدون كرامة , أصبحت واحدا من القطيع . المهم , لم أخن , ولم اجبن , وما فائدة البقاء وحيدا؟؟؟ اليوم أدركت لماذا استشهد صباح وعبد الحسن وعدنان , كانت صورة امجد أكثر ما تخيفني , عندما وجدوه وقد تجمد وهو جالس في المرافق الصحية بعد أن وقع التعهد بعدة أيام . عباس حوّل حياة عائلته إلى جحيم , أدمن على الكحول , استنجدت بي زوجته كي أساعده على تجاوز المحنة , كان بيتهم بائسا بعكس ما كان سابقا , وجوع عيون طفليه تعلقت بعلبة الحلويات التي حملتها لهم , لم افهم منه إلا كلمة رددها كثيرا " دير بالك تخسر الجوكر " . استمر على الشرب إلى أن وافاه الأجل , بعد ان " خسرت الجوكر " بفترة قصيرة .

تركوني يومين , كي أتشرب ذل التوقيع , أطلقوا سراحي بعدها وأرسلوني مع أحقر شرطي امن عرفته في حياتي ليوصلني إلى البيت , طلبت منهم أن اذهب وحدي, لم يقبلوا , تركوني معه لنجتاز سوية سوق المدينة الذي يقع بيتنا عند نهايته – يمكن الوصول إلى البيت من خلف السوق ويكون اقرب - , اخذ هذا الأجرب يلقي بالتحية للجميع حتى مع الذين لا علاقة له بهم . كان تلميذا عندي في متوسطة الوحدة , انتقل مع عائلته الفقيرة من الريف الى مدينتنا الصغيرة وهو لا يزال طفلا , كانوا ثلاثة أطفال ووالدتهم وشقيقها , عطف عليهم احد الإقطاعيين واسكنهم خربة بجانب قصره مقابل خدمتهم له والاعتناء بحديقته . ورغم ان العائلة انجرفت بالكامل مع احتياجات فاشية النظام, إلا انه كانت لديه نزعات انتقامية أعمق من دونية النظام .

أنت تذكر, كان شرطي الأمن لا يستطيع أن يكشف عن نفسه , فسوف يحتقر من الجميع بما فيهم أهله , هذا لم يكن بعيدا , بل في زمن عبد الرحمن عارف الذي حكم العراق قبل البعثيين , وبعد البعث أصبح شرطي الأمن أهم وظيفة حكومية , أهم من المعلم والمدير والضابط وأستاذ الجامعة , واهم من الكوادر البعثية ذاتها , والبعثي الذي لم يتجسس او يؤذي الآخرين لن يجد له طريقا للتقدم في صفوف الحزب . أصر الأجرب بمسك يدي للجلوس وشرب الشاي في مقهى تتوسط السوق , ويجلس فيها الكثير من المعارف , دفعت يده بقوة , ونظرت في عينيه , تقدمت منه , كان الشرر يتطاير من عيني , تراجع , ودخل المقهى . الجالسون في باب المقهى أداروا وجوههم, احدهم تظاهر بعدم رؤيتنا , وآخر شعر بمرارة التنكيل وكأنه موجه إليه , الثالث خاف أن انتقم من الأجرب في تلك اللحظة ويطلب للشهادة .

كم فرحت عندما سحبوا مواليدنا للاحتياط , فرزونا عن الآخرين , وقذفوا بنا إلى السواتر الأمامية مع إيران . وقد لا تصدق إني هربت في هجوم الفكة عام 1982 إلى القطعات الإيرانية , ودخلت الأسر لعشر سنوات , ورغم كل قساوتها كانت اخف علي من البقاء تحت رحمة تلك الوحوش الكاسرة . وعندما عدت , كانت قد تغيرت أمور كثيرة , تفكك النظام وتفكك الكثير من أجهزته القمعية , وأصبح النظام أشبه بالمافيات التي تدير السلطة الباطشة في أماكن تواجدها , والشعب لا يرجى منه أي تحرك جديد بعد الفتك به على اثر فشل الانتفاضة , وبداية الحصار الذي هشم ما لم يتمكن النظام من تهشيمه . وختم كلامه , بضرورة التريث بإعادة أي شخص إلى التنظيم .

كان ذلك في بداية الشهر السادس من عام 2003 ولم يمضي على قدومي غير يومين , أي بعد إزاحة النظام الصدامي بشهرين , كان يعتقد إني من المشرفين على إعادة التنظيم , وسألته برجاء : إن لم تكن أنت من ضمن التنظيم , فكيف يتسنى لنا نحن الذين تركنا المدينة كل هذه السنين ان نعرف من الذي انهار وتعاون مع النظام ونكل بالرفاق وعوائلهم , وبين من حافظ على شرف العهد ودفع كل هذا الثمن الرهيب , ولم يتحول إلى شرطي امن للنظام ؟! أجابني بعد تأمل , بأنه يستطيع أن يساعد , ولكنه لا يستطيع أن يعمل في التنظيم . طرق الباب , ودخل اثنان بعد أن فتحه ابن أخي , قمت لاستقبالهم والترحيب بهم . لم اعرف الأول , ولم يساعدني سليم الذي تأفف ولا ابن أخي , احتضنني , وبنواح اخبرني رزاق بنفسه ,أبعدته , أردت أن أراه , يا ألهي , تكسرت الكلمات , اختنقت بالعبرات , كم تغير وهزل ؟ لا توجد شعرة سوداء واحدة في رأسه ووجهه , احتضنته بشدة , أشم فيه رائحة العمر الذي تجاوز الخمسين , كان شاعرا مرهفا , ولا يطيق أية خشونة أو إساءة , يا ألهي كيف استطاع أن يعيش كل هذه الفترة ؟ كان يختض مع نشيجه , اختلطت دموعنا , كان يلوذ بمحّنتي , قبلني , أراد تقبيل يدي, سحبتها وقبلت يديه , يا ألهي كم أودعت فينا من جبروت حبك , سحقت تحت وطأة نبله , لم اعد أحس بشئ غير تلاحم الوجدان . انتشلني صوت سليم وهو يصرخ : دا اكَلك اطلع , يبدو انه كررها عليه أكثر من مرّة ولم ننتبه , كان ابن أخي يضحك ويسحب بسليم ويحاول أن يقنعه : جاي بس يسلم ويطلع , كان الثاني حسين سرهيد وهو مرتبك ويقول : يابه بس اسلم عليه والله , هذا أخوية . حسين بمجرد ان شاهد سليم قال له : والله بطل . إلا أن سليم فقد أعصابه , ولم يميز بين انكساره, ونذالته السابقة , وأصر على طرده , كان المنظر مضحكا , حسين بجسمه الضخم الذي يعادل أربعة أضعاف سليم , وسليم كنا نسميه في طفولتنا لغاية تخرجه من الجامعة سليم المعطوش , و"المعطوش" تعني في لغة هواة الطيور, الطير الذي يبقى حجمه صغيرا رغم تقدمه في العمر . لقد تحول حسين إلى حشرة صغيرة أمام إصرار سليم , وسألني بتوسل : ترضه هيج أيصير واني جاي اسلم عليك ؟ لم أجبه , وأخرجه سليم بالدفعات .




#تقي_الوزان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألانصار بين كاردو كامو وصبيح مرّبى
- المحنة ودراسة السينما في اليمن
- وجبة غذاء في احد مقرات الأنصار
- حكاية نصفها أنصارية
- الدوامة العراقية والحمل الكاذب
- الحاج بابنَّكَ ونقاء الضمير المهني
- حكمت حكيم والألوان الباهرة للراية الوطنية
- ابو شروق وتداعيات الزمن المنكوب
- حكاية أنصارية
- لكي يكون الواقع هدفنا
- تسمية الاشياء بأسمائها ضرورة لابد منها
- اليسار بين التهويم والنحت في الصخر
- الاحزاب ليست جمعيات استهلاكية
- بين بشتاشان ودموية النظام
- الحزب الشيوعي والهموم النقدية
- الحزب الشيوعي ليس قبيلة ماركسية
- لكي لانبرر الخسارة, او الانسياق وراء جلد الذات
- بين زمنين
- الشيوعيون وفرح اعلان قائمتهم
- من الذي يؤمن بالدستور والعراق الفيدرالي ؟


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف حاملة الطائرات الأمريكية ترومان وقطع ...
- الضفة الغربية.. توسع استيطاني إسرائيلي غير مسبوق
- الرسوم الجمركية.. سلاح ترامب ضد كندا
- إسرائيل تلغي جميع الرسوم الجمركية على المنتجات الأمريكية قبي ...
- -البنتاغون- لـCNN: إرسال طائرات إضافية إلى الشرق الأوسط
- موسكو لواشنطن.. قوات كييف تقصف محطات الطاقة الروسية
- الجيش الإسرائيلي يصدر أوامر إخلاء جديدة في رفح
- تصعيد روسي في خاركيف: هجمات جديدة تخلّف إصابات ودمارًا واسعً ...
- -صدمة الأربعاء-.. ترقب عالمي لرسوم ترامب الجمركية
- بيليفيلد يطيح بباير ليفركوزن من نصف نهائي كأس ألمانيا


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - تقي الوزان - تداعيات منكوبة