|
«حلّ» المشكلة الكرديّة أم رسوخ القوميّة الكرديّة؟
بدرخان علي
الحوار المتمدن-العدد: 3127 - 2010 / 9 / 17 - 09:41
المحور:
القضية الكردية
ثبت عصيان «المشكلة» الكرديّة على «الحلّ» بمعْنَيَين متضادين: حلّ وانحلال. فلا استطاعت الدولة التركية، بكامل جبروتها وثقلها العسكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ والإيديولوجيّ، فضلاً عن الدعم الغربيّ السّخي، محو القوميّة الكرديّة كما كان مرسوماً في إيديولوجيا رجال الدولة من العسكر والعلمانييّن والسّاسة، وفي أذهان النّخب الثقافيّة المتنوّعة، ولا انحلّ الكرد من الوجود على الأرض بصفتهم قوماً متمايزاً «متخلّفاً» في ترسيمة «الشعوب اللاتاريخيّة» كما توهّم القيّمون على شؤون القوميّات في المنطقة. وفوق كلّ هذا لم تنحلّ كذلك إيديولوجيا القوميّة الكرديّة (التي طالما اتهمت بافتعال مسائلَ بائدة من مخلّفات التاريخ) من تلقاء ذاتها أو بفعل التقادم الزمنيّ و «التاريخيّ»، وهو ما كان رهاناً قويّاً وراسخاً لدى مجمل القومييّن الأتراك، وقوميّين آخرين في المنطقة، من ذوي النزعة التاريخانيّة والدّاروينية الاجتماعيّة...
ومنذ سنين قليلة تلوحُ في أفق السياسة الداخليّة التركيّة، وتبعاً لمبادرات عدة، علامات انفتاح على «المشكلة الكردية». وأيّاً تكن الدوافع التركيّة المحضة خلف تلك التوجهات الحكوميّة المعلنة، فإنها تبقى تشكّل نموذجاً متطوّراً من دينامية الحياة السياسيّة التركيّة التي تخلّت شيئاً فشيئاً عن إسار القيود الحديديّة التي كبّلت الجمهورية التركية الحديثة، نموذج الدولة الحديثة المتميّز في المنطقة. ومن غير الإطناب كثيراً، وهو رائجٌ، في مديح فرادة التجربة التركيّة في تدبير السياسة وإدارة المجتمع طوال قرنٍ، ينبغي على المراقبين للحالة التركيّة الجديدة، المتوثّبة بقِوى دفع داخليّة وخارجيّة، التوقّف مليّاً عند تناقضات الحداثة، المُفارِقة والمشوّهة من جوانب عدّة. وهي في نطاق الرؤية هنا عميقة وباعثة على كثيرٍ من التحفّظ والارتياب. من جانب آخر تحتّم تطوّرات المسألة الكرديّة، على الدّارِسين لمسارات تطوّر الهويّات في المنطقة، التزوّد بما يفصح عنه الواقع الحقيقيّ خلافاً للإيديولوجيّات، بل تكذيباً لها. نعني هنا رسوخ القوميّة الكرديّة من خلال المثال التركيّ. فمن يرجع إلى المصادر يرى كيف أنّ القومييّن الأتراك، من جماعة الاتحاد والترقّي وسلالتها، توهّموا اصطناع أمّة (تركيّة) متجانسة، بلا «شوائب» عرقيّة، وفق إرادة القوّة والسياسات القوميّة الفاشيّة التي لم توفّر أقسى الوسائل والأدوات الممكنة. إلاّ أنها منيت بهزيمة سياسيّة (وإيديولوجيّة) كبرى طاولت المفاهيم الأساسيّة التي قامت عليها الإيديولوجيا التكوينيّة لسياستها المعاصرة، إنّما لم يأت هذا من غير تضحيات كرديّة هائلة وباهظة. والحقّ أنه كان عسيراً الحديث عن وجود شعب كرديّ في تركيا اليوم لولا تلك التضحيات، بصرف النظر عن تقويمها.
وفي المحصلة، يتبيّن أنّ الهويّة الكردية، التي تعرّضت لمحاولات محو ضارية وعلى كل المستويات، تشهد انبعاثاً ونهوضاً اجتماعيّاً ديموقراطيّ المحتوى وإنسانيّ المسحة بصورة عامة، وهذا صار من ثوابت السياسة في المنطقة. وبالتأكيد تجوز المجادلة مطوّلاً في شأن تباينات جليّة في طبقات القوميّة الكرديّة ومكوّناتها المجتمعيّة، كما يمكن استجلاء فوارق سوسيولوجيّة جمّة في البناء القوميّ الكرديّ وبيئاته الكثيرة على نحوٍ يجوّز للبعض التشكيك في شيء اسمه «القوميّة الكرديّة» من الأساس. بيدَ أنّ صورة القومية الكرديّة، الموجودة بالفعل والمتعيَّنة سياسيّاً، على هذا النحو الخاصّ، تبدو سمة موضوعيّة لها كهويّة اجتماعيّة تبلورت خارج نطاق الدولة-الأمّة، وخارج سلطة مركزيّة موحّدة للثقافة واللّغة، وخارج «السوق» كبيئة حاضنة لنشوء القوميّات في غير مكان من المعمورة. فمن وجهٍ، تقدّم الحالة الكرديّة تصديقاً للمقولة الكلاسيكيّة الأثيرة عن نشوء الأمم: الدولة هي التي تصنع الأمّة وليس العكس؛ إذ إنّ من المجازفة القول بوجود «أمّة كرديّة»، إلاّ بالاعتبارات السياسيّة الحركيّة والدعويّة، والأجدى القول بشعب كرديّ (أو شعوبٍ كرديّة؟) يجمعه القمع والمحو والإنكار بما يوحّده في عين مراقب خارجيّ. ومن وجهٍ آخر يخطّئ المثالُ الكرديّ «القاعدة» الموصوفة أعلاه؛ فها هنا يمكن الاستدلال على نشوء قوميّة (أو مشروع أمّة؟) من خارج رحم «الدولة»، وعلى رغم أنف «دولٍ» أخرى، وعلى رغم هيمنة ثقافيّة وسياسيّة لقوميّات أخرى. أي أن السياسة هنا تنوب عن الدولة الغائبة وتقوم بعملها، وبالتضاد مع دولٍ موجودة بكثافة وعنف.
فالقومية الكرديّة، وهي بنت الأزمنة الحديثة بالطبع، مثل سائر القوميّات على وجه البسيطة، مبنيّة على جملة عناصر معاصرة وحديثة. وفي حين لا تنفع النبرة العالية للخطاب القوميّ الكرديّ، وهو نضاليّ وسياسويّ للغاية، في توكيد قِدَم القوميّة الكرديّة وأزليّتها أو البحث عن «رسالة خالدة» لها أو جذور «تاريخيّة» من العصور السحيقة للإمبراطوريات الزائلة. لكن هذا التحليل لا ينتقص من شرعيّة الحقوق والمطالب القوميّة الكرديّة، في كلّ ما هو متاح أو مشرّع لغيرهم، بما فيه حقّ «الانفصال» (=الدولة المستقلة) بالطبع؛ حيث لا تنهض الدول بالضرورة على «حضارات عظيمة» وموغلة في القدم، متوهَّمة في الغالب، كما يطالب الشوفينيّون من القوميّات المتاخمة للكرد. وهذا دافع رئيسيّ في نزعة البحث عن جذور سحيقة لـ «الأمة الكرديّة» عند القومييّن الكرد.
على أيّة حال، تبدو هذه العملية التخيّليّة من أعراض القوميّة عموماً، وكنّا نظنّها متوطّنة في منطقتنا وحسب. فالقوميّة «مرض التاريخ التطوريّ الحديث»، حيث «يبدو القِدَم الذاتي للأمّة في أعين القوميّين مقابلاً للحداثة الموضوعيّة التي تبدو عليها في عين المؤرّخ»، على حد قول بندكت أندرسن في كتابه المثير «الجماعات المُتخيَّلة»، والذي عرّف الأمّة أنثروبولوجيّاً على أنها «جماعة سياسية مُتَخيَّلَة، حيث يشمل التخيّل أنها محدَّدة وسيّدة أصلاً» كما نوّه بـ «القدرة «السياسية» التي تتمتّع بها القوميّات مقابل فقرها الفلسفيّ، بل عدم تماسكها».
على رغم التحفّظات الموصوفة أعلاه في شأن التصوّر الماضويّ للقوميّة، ومنها الكرديّة، في الخطاب أو السياسة، يُخطئ بدوره من يظنّ أنّ المسألة الكرديّة في المنطقة وليدة اليوم أو البارحة، في تركيا أو سواها، وكذلك من يساوي بينها وبين المشكلات الطائفيّة الملتهبة في العالم الإسلاميّ، والعربيّ خصوصاً. فالمسألة الكرديّة لم تغِب عن السياسة الإقليمية والدوليّة طيلة القرن المنصرم وقبيله، حتّى نقول إنّها عادت إلى البروز بفعل قوى ما، طارئة أو متآمرة، في حين أن العكس هو الصحيح. فالتآمر، الواقعيّ تماماً لا المفترض، والتواطؤ الحقيقيّ بين دول «العالم الحرّ»، وغيره، على الحركة الكردية وحقوق الشعب الكرديّ، كان هو السبب في إخفاء المأساة الكردية إنسانيّاً وفي تمديد سياسات الصهر والإفناء، في تركيا تحديداً. ومن جهة أخرى، كانت المسألة الكردية حاضرة بكثافة، في حدود مجالها الجغرافيّ - السياسيّ، في حسابات الأوروبيّين الذين رسموا صورة المنطقة في شكلها السياسيّ الرّاهن، وفي الوقت نفسه كانت بارزة الحضور في الحركات الشعبيّة الاستقلاليّة التي نشأت في الإقليم إبان تداعي الإمبراطورية العثمانيّة وترنّحها، وكان هذا قبل سقوطها النهائيّ بكثير. بل إنّ السلطنة ذاتها ما ترسّخت في المنطقة الكرديّة إلاّ بعد الاعتراف بصيغة من الاستقلاليّة والسلطة الذاتيّة للإمارات الكرديّة تحت إمرة حكّامها الكرد. أبعد من ذلك، يمكن الجزم بأنّ «القوم الكرديّ» كان أكثر تجذّراً من الأتراك تاريخيّاً، آخر الشعوب الكبرى استقراراً في المنطقة، إذ لا يزيد تاريخ وجودهم عن بضعة قرون وفق جميع المصادر التاريخيّة المتاحة. وعلى رغم كلّ هذا، فإنّ منظّري القوميّة التركيّة استعملوا سلاح «التاريخ» بكثافة وحدّة ومبالغة، مع أنه لا يصبّ في مصلحة دعواهم الإيديولوجيّة التي كان تجسيدها العمليّ في صورة مشروع الدولة - الأمّة (الجمهورية التركيّة المعاصرة) نتاجاً لسياسات القوّة لا استجابة لمزاعم الأقدمية التاريخيّة وأوهام العظمة. وهو الداء الوبيل الذي أصاب القوميّات كلّها تقريباً، لا سيما التي حظيت بسلطة قوميّة متمادية، إمبراطورية الطابع...
* كاتب سوري
#بدرخان_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحؤول دون انفجار النزاع حول كردستان في منظار المصالح الأمير
...
-
حَذارِ من هذه اللغة الماضويّة
-
التسلطية الإيرانية (الثيوقراطيّة) في مرآة التسلطية العربية (
...
-
حوار مع ياسين الحاج صالح .....في ما خص الليبراليّة والنخبويّ
...
-
«حظر النّقاب» وضرورة نزع كلّ الحُجُب
-
إيران: دور الصراع الاجتماعيّ في بناء الديموقراطيّة
-
العلمانيّة والطائفيّة: محاولة تأطير «الحداثة الرثّة»
-
عن أميركا والعراق و تركيا و الأكراد أو تجلّيات ما قبل الحداث
...
-
عن الاعتياد على الاعتقال وعن صديقنا الخطِر على -الثورة-
-
تركيا بين دورها الإقليميّ المُتعاظم ومشكلتها الكرديّة المُست
...
-
المسألة الكرديّة.. أيّة مواطنة؟
-
إلى محمود درويش:لا تَحْزن فقد هَزَمْتَ المَوتَ مراراً
-
أيُّ دورٍ للمثقّف في الشّأن العام؟-هوامشٌ وإضافات-
-
أيُّ دورٍ للمثقّف في الشّأن العام؟ -هوامشٌ وإضافات- حلقة ثان
...
-
أيُّ دورٍ للمثقّف في الشّأن العام؟-هوامش وإضافات-
-
أفكارٌ أوليّة في المسألة الكرديّة في سوريا وأزمة الحركة السي
...
-
أوقفوا هذه الحقيقة(إلى -مهاباد- سليم بركات)
-
العرب والعلمانية:عنوانٌ كبير لكتابٍ فقير
-
عودة إلى النوروز الدامي:في العنف غير المشروع أو الانتقام من
...
-
عن دمشق المدينة والعاصمة والثقافة
المزيد.....
-
الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة
...
-
الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد
...
-
الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي
...
-
الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
-
صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي
...
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
-
-الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|