|
الفساد في العراق (الحلقة الأولى)*
محمد علي زيني
الحوار المتمدن-العدد: 3124 - 2010 / 9 / 14 - 22:13
المحور:
الادارة و الاقتصاد
«أنا أريد فساداً أقل، أو فرصة أكبر لكي أساهم بذلك الفساد» «أشلي بريليانت»
الفساد آفة مُهلكة للدولة. وما لم تُجتث هذه الآفة من جذورها فإنها تستمر بالنمو والأنتشار. الفساد يهلك الدولة لأن الفساد عندما ينتشر تتباطئ كافة عجلات الدولة، وتتوقف بالنهاية ما لم يكن هناك من يدفع المال لسائقي العجلات حتى تتحرك بقدر ما يسمح به المال المدفوع - ثم تتوقف مرة أخرى! الفساد يهلك الدولة لأن مع الفساد تُهدر ثروات البلاد ويُسرق المال العام وتنخفض المعنويات في العمل ويضيع حق من لا يقوى على دفع الرشوة، ومع التباطئ الذي يلازم الفساد ينخفض الأنتاج ويعم الفقر. الفاسد يطرد النزيه هناك قانون في الأقتصاد يقول بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، ويبدو أن هذا القانون ينطبق بصورة أو بأخرى على المجتمع الفاسد أيضاً وذلك بمجرد تبديل العملة الرديئة بالشخص الفاسد والعملة الجيدة بالشخص النزيه. على أن قانون "الفاسد يطرد النزيه" لا يصح إلاّ في ظل حكومة فاسدة أو حكومة ضعيفة حيث يغيب مع أي منهما القانون. فالذي يحدث أن النزيه لايقوى على الأستمرار طويلاً في البيئة الفاسدة، فهو إما أن يُطرد من قبل الفاسدين المحيطين به؛ أو إن هو أصر على البقاء قد يُقتل أو يُتخلص منه بطريقة ما؛ أو أن يصبح هو فاسدٌ أيضاً بأن يشترك مع الآخرين في الفساد فيستمرئ ما يقيئه ذلك الفساد من مال السحت الحرام. إن الفساد مرض معدي، وهو أشد عدوى من الطاعون. لذلك نرى في البيئة الفاسدة وفي غياب الرادع أن قليلاً من الناس من يبقى على نزاهته، والكثير منهم سرعان ما ينضم إلى قطيع الفاسدين ليستولي على أكبر قدر ممكن من كعكة الفساد. ويلٌ لامةٍ ترى الفساد ينخر في أعضائها ولا تشهر سيفها لقطع أيادي الفاسدين!!! مراحل الفساد في العراق يمارس بعض المسؤولين سرقة المال العام في بعض بلدان المعمورة بدرجات متفاوتة تفاوت قوة الخير والشر في النفس الإنسانية، فالله – سبحانه وتعالى – ألهمها فجورها وتقواها. وتصبح السرقة علناً وتذهب أموال الشعب هدراً حينما تتسلط على البلد طغمة عاتية لا ذمة لها ولا ضمير، وهذا ما بدأ يحدث في العراق منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر. يمكن تقسيم فترات الفساد داخل العراق إلى ثلاث مراحل، وكما يلي: المرحلة الأولى: بدأت المرحلة الأولى بعد تأميم النفط العراقي سنة 1972 حين قرر مجلس قيادة الثورة آنذاك وضع خمسة في المائة من الواردات النفطية جانباً في حسابات أجنبية. وقد نقل صدام حسين بنفسه ذلك القرار إلى الخزينة والبنك المركزي ووزارة التخطيط للعمل به وتنفيذه، مبرراً ذلك القرار بقوله ان تلك الأموال ستستعمل لتمويل الحزب وإعادته إلى السلطة في حال إخراجه منها. لقد بلغ مجموع الواردات العراقية من النفط منذ سنة 1972 حتى آب (أغسطس) 1990 حين فُرض الحصار الاقتصادي على العراق وانتهت موجة السرقة الأولى نحو 180.3 مليار دولار بحسب نشرات الإحصاء السنوية لمنظمة أوبك، وبذلك تكون الأموال التي وُضعت جانباً بموجب قرار الخمسة في المائة نحو 9.4 مليار دولار. وإذا كانت تلك الأموال قد استُثمرت بعائد سنوي قدره سبعة في المائة، وهو رقم متواضع قياساً بمستوى الفائدة للفترة 1972–1990، فإن تلك الأموال ستصبح نحو 17.4 مليار دولار حين ضُرب الحصار الأقتصادي والمالي على العراق ومُنع من تصدير نفطه إلى الخارج. المرحلة الثانية: بدأت الموجة الثانية من السرقات بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق في آب 1990، وانتهت بسقوط النظام في نيسان (ابريل) 2003، وتمت بأشكال عدة أهمها تهريب النفط العراقي (خام ومنتجات) إلى الأردن وتركيا وسورية ودول الخليج، وحتى إلى مصر. وقد بلغت كميات النفط المهربة في السنوات الأخيرة من الحصار والتي لم تودع وارداتها المالية في حساب العراق مع الأمم المتحدة نحو 400 ألف برميل يومياً كانت تدر على النظام نحو ملياري دولار سنوياً. وقُدّرت واردات النظام من التهريب بنحو 9 مليارات دولار، كما قُدّرت حصيلة الإضافات السعرية التي فرضها النظام على مبيعات النفط منذ نهاية سنة 2000 وحتى أيلول (سبتمبر) 2002 بنحو 1.50 مليار دولار. وإذا اعتمدنا الأرقام الواردة أعلاه يمكن القول ان صدام حسين وجماعته قد استولوا على ما لا يقل عن 28 مليار دولار من أموال الشعب العراقي، فضلاً عن الرشاوى والعمولات التي كان يستوفيها النظام والتي لا يمكن حصرها. وقد بُددت تلك الأموال في نواح عدة، منها بناء القصور واستيراد مواد الترف وشراء الذمم ورشوة الأنصار والصرف على أجهزة القمع وأنشطة الدعاية. ولقد ادعى الدكتور جواد هاشم، وكان وزيراُ ومستشاراُ في سبعينات القرن الماضي كما ذكرنا في الفصل السابق، إنّ صدام كان يحتفظ بنحو 4 مليارات دولار نقداً في أقبية القصر الجمهوري وفي أمكنة أخرى تحت سيطرته. لقد أصبح واضحاً للعالم أجمع أن جزءاً كبيراً من تلك الأموال المسروقة تكدست لدى بطانة صدام وأعوانه ومريديه، وقد استُعملت منذ سقوط النظام في 2003 لأرهاب الشعب العراقي من أجل إجهاض طموحاته في إعادة البناء واتخاذ الديموقراطية وسيلة له للحكم والعيش بحرية وسلام. كما أصبح بادياً لكل ذي بصيرة أن طائفة مهمة ممن يمارسون الأرهاب ويشنون الحرب الشعواء على الشعب إنما يريدون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة حزب البعث بصيغته وقناعاته الصدامية إلى السلطة – وفي هذا على الأقل يبدو أن صدام قد صدق بوعده لجهة استغلال موارد الشعب! المرحلة الثالثة: أما المرحلة الثالثة فقد بدأت بعد سقوط النظام، وهي مرحلة خطيرة بل هي كارثية لكونها جاءت مع العراق الجديد، حيث انعقدت الآمال على وطنٍ خالٍ من الفساد. ولكن، ويا لهول الكارثة، جاء الفساد كطوفان يحدث بعد انكسار السد. جاء وكأن الغاية من غزو العراق كانت لنشر الفساد بصورة أوسع، أي وكأن الفساد في ظل صدام لم يكن كافياً وليس بالمستوى المطلوب، كما لم يكن عادلاً إذ اقتصر على فئة قليلة: حصة الأسد لصدام ورهطه، والقليل الباقي لطبقة الموظفين، كلٌ حسب إمكانه وموقعه. لقد تسرب الفساد في زمن صدام رويداً إلى طبقة الموظفين بهيئة "بخشيش"، وذلك بعد فرض الحصار على العراق وانهيار قيمة الدينار العراقي وهبوط الراتب إلى ما يعادل دولارين شهرياً. وتحول ذلك الفساد بمر الزمن إلى نوع من الأتاوة تفرض على المواطن حين مراجعته الدوائر الحكومية لتمشية أعماله. ثم انهارت القيم وسقطت الأخلاق بسقوط النظام وتحولت دوائر الدولة إلى مافيات تجبي الأموال من المواطنين ما وسعها ذلك. وتخلى الموظفون عن إداء الواجبات المناطة بهم وامتنعوا عن إنجاز أي عمل إلاّ بعد قيام المواطن بدفع الرشوة المفروضة، التي أصبحت أضعاف "البخشيش". ولم يمنع أولئك الفاسدين من ارتكاب تلك الجرائم اليومية بحقوق أبناء الشعب تعديل رواتبهم بعد سقوط النظام إلى مستويات معقولة تتيح لهم أسباب العيش الكريم نسبياً. ومثال واحد على معاناة المواطن العراقي في هذا الزمن الرديئ ما جرى في بداية سنة 2009 لشقيق كاتب هذه السطور. فقد رجع هذا المواطن إلى العراق – وهو طبيب إستشاري – بعد غياب 30 سنة خارج العراق. وعند مراجعته الدائرة المختصة للحصول على هوية أحوال مدنية له ولزوجته، جوبه بمطاليب يمكن أن تكون تعجيزية – وهو الوافد إلى البلد حديثاً – رغم كونه يحمل جواز سفر عراقي ودفتر نفوس. وعندما أُسقط بيده ذهب ليبحث عن "واسطة" كعادة العراقيين في مثل تلك الأحوال. وعند اتصال "الواسطة" بالدائرة المعنية قيل لها – ببساطة – عليه أن يدفع ست أوراق (أي 600 دولار) وسيجد الهويتين جاهزتين في صباح اليوم التالي وبدون الحاجة إلى الأوراق الثبوتية المطلوبة! هذا فيما يتعلق بفساد وإفساد الشعب. أما الطبقة الحاكمة التي احتلت مكان صدام ورهطه بعد الغزو ففسادها لا يندى له الجبين فقط وإنما يخجل منه ويترفع عنه حتى اللص المحترف. ذلك أن أموال السحت الحرام التي أصبحت تدخل خزائن هذه الطبقة لم تقتصر فقط على ما تخصصه لها حكومات دول الجوار وغير دول الجوار ومخابرات هذه الدولة وتلك من أجل شراء الذمم والولاء، بل تجاوزتها إلى ما أصبحت تستولي عليه مافياتها من أموال النفط العراقي المهرب والمسروق وأموال الأبتزاز والرشى التي يحصل عليها كبار رجال الدولة من المقاولين والشركات وكذلك من سرقة المال العام. كل ذلك يحدث وربع الشعب العراقي أصبح يعيش تحت خط الفقر، والألوف من أطفال العراق المشردين واليتامى وأمهاتهم الأرامل يبحثون كل يوم في أكداس النفايات والقمامة عن غذاء لسد غائلة الجوع، بل وأصبحوا نهباً لعصابات الجريمة في بيع الأطفال من أجل الخدمة والجنس والأتجار بالأعضاء، ناهيك عن بنات العراق القاصرات اللاتي غادر أهلوهن العراق هرباً من العنف فأصبحن ضحايا العوز في بعض دول الجوار، يشي بمصير بعضهن ازدهار ملاهي دمشق الليلية بعد وصول موجات العراقيين اللاجئين إلى سورية. ____________________________________________ * هذه المقالات مستلة من كتاب الدكتور محمد علي زيني "الأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل"، الطبعة الرابعة، 2010.
#محمد_علي_زيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صفقة الغاز مع شل مُدمّرة للصناعات العراقيية
-
نعم جولتي التراخيص النفطية هي تبديد لثروة الشعب العراقي، بل
...
-
الغاز الطبيعي العراقي: هدرٌ أم استغلال لمصلحة الوطن ؟
-
وزارة النفط وغاز العراق ومحنة الشعب العراقي
-
الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل
-
دولة القانون تبدد 75 مليار دولار من أموال الشعب العراقي وتعر
...
المزيد.....
-
السعودية: إنتاج المملكة من المياه يعادل إنتاج العالم من البت
...
-
وول ستريت جورنال: قوة الدولار تزيد الضغوط على الصين واقتصادا
...
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
-
أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
-
أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
-
قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
-
السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب
...
-
نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات
...
-
اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ
...
-
تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|