|
العرب يحتاجون إلى هذا -التَّتريك الديمقراطي-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3124 - 2010 / 9 / 14 - 11:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس في العراق؛ وإنَّما في تركيا، يمكن أن يرى العرب، إذا ما نظروا إلى أنفسهم وغيرهم بعيون يقظة لا تغشاها أوهام، "المَثَل الديمقراطي الأعلى"، والذي لا تنال من قوَّته، ويجب ألاَّ تنال، "الخصوصية" التي تَسْتَذْرِع بها أنظمة الحكم العربية كافة في مناصبتها العداء، الصريح تارةً والمستتر طوراً، للحياة الديمقراطية بأوجهها ومبادئها وقيمها المختلفة.
الديمقراطية الحقيقية الأصيلة، التي تُظْهِر، ولا تُزوِّر، إرادة الشعب، تنمو وتزدهر في تركيا، ليس بالانتخابات العامة فحسب، وإنَّما بـ "الاستفتاء الشعبي (الحقيقي)"، والذي هو الأداة الديمقراطية الفضلى، والتي باستعمالها لحسم أمور وقضايا سياسية ـ تاريخية، يغدو مبدأ "العودة إلى الشعب" حقيقة لا ريب فيها؛ ولقد أدلى الشعب في تركيا برأيه الذي لا يعلوه رأي، ولا قرار، ولا سلطة، إذ وافقت غالبية المُصوِّتين، في الاستفتاء الشعبي، على التعديلات الدستورية المقترَحة، والتي فيها قال الشعب لمغتصبي سلطته باسم "العلمانية"، وهم ثالوث الجيش والمحكمة الدستورية والأحزاب التي هي كناية عن المؤسَّسة العسكرية في ثياب مدنية، إنَّ عهدكم مع اغتصابكم للسلطة قد ولَّى إلى غير رجعة، وإنَّ تجربتكم في الحُكْم قد تمخَّضت بما جعل سقوطكم ضرورياً وحتمياً، فسقطتم، وإنَّ هذا السقوط سيعطى ثماره الطيِّبة في الانتخابات العامة المُزْمَع إجراؤها عام 2011.
تركيا الآن، وعلى نحو أوضح من ذي قبل، دولة مؤلَّفة من ثلاث أضلاع: "الديمقراطية"، بمعيارها العالمي، أي الغربي في المقام الأوَّل، و"العلمانية"، و"الإسلامية" المُفَرِّطة في كل ما يمكن أن يؤول إلى "أسْلَمة السياسة (وغيرها من الشؤون العامة)". وهذا "المُثلَّث" يمكن أن يغدو "مُربَّعا" إذا ما أضَفْنا إليه ضلعا آخر هو "القومية"، فمنسوب "الروح القومية" لدى الأتراك ظلَّ مرتفعا، ولم ينخفض بسبب ارتفاع منسوب "الروح الإسلامية" لدى غالبية الشعب، وغالبية الناخبين؛ ولقد جنحت الروح القومية التركية، بعد وبفضل الجريمة التي ارتكبها الإسرائيليون في حقِّ المتضامنين الأتراك (مع غزة) على متن "أسطول الحرية"، على وجه الخصوص، لمزيدٍ من العداء لإسرائيل.
تركيا هي تجربة في "الإفراط والتفريط"، ينبغي لنا نحن العرب أن نُمْعِن النظر فيها، ونتمثَّل أهم معانيها ودروسها.
إذا أردنا "الديمقراطية" نمط عيش سياسي (وغير سياسي) وناظِما للعلاقة بين الحاكم والمحكوم فعلينا، بحسب ما تُعلِّمنا إيَّاه التجربة التركية التي لم تنتهِ بعد، أن نفهم "التفريط في الديمقراطية" على أنَّه نتيجة يتمخَّض عنها حتما "الإفراط في العلمانية"، أو "الإفراط في الأسْلَمة".. "أسْلَمة السياسة" على وجه الخصوص، فالديمقراطية في تركيا ما كان لها أن تستمر وتزدهر لو لم تنشأ (وتتطوَّر) لدى "التيَّار الإسلامي" مصالح تَحْمِله على مصالحة ما يسمِّيه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي قاد حزبه (حزب العدالة والتنمية) إلى هذا الانتصار الديمقراطي الكبير، والذي يُعدُّ أكثر الساسة شعبية في تركيا، "القيم والمبادئ الأساسية للجمهورية وفي مقدَّمها العلمانية".
والديمقراطية في تركيا يمكن أن تغدو عُرْضة لمخاطر جمَّة إذا لم يَعْمَل "معسكر المهزومين (الجيش وحزب الشعب الجمهوري في المقام الأوَّل)"، المتطرِّفين في علمانيتهم، بما يؤكِّد أنَّهم قد فهموا نتائج الاستفتاء الشعبي على أنَّها دعوة شعبية لهم للتخفيف من غلوائهم العلماني.
إذا نجحت الديمقراطية في تركيا، بعد وبفضل هذا الاستفتاء التاريخي، في أن تدرأ عنها مخاطر التطرُّف "العلماني ـ القومي" للمؤسَّسة العسكرية وحلفائها من الأحزاب السياسية، فإنَّ نجاحها هذا قد يؤسِّس، في تركيا وفي غيرها من البلدان الإسلامية، لحلٍّ للتناقض (التاريخي) بين الإسلام والعلمانية، والذي إنْ ظلَّ على اشتداده وحِدَّته لن نَعْرِف من الديمقراطية إلا ظلالها، والمسيخ منها، وما أكثره في عالمنا العربي.
غالبية الشعب والناخبين في تركيا، وهُم مسلمون، انحازوا إلى "خيار أردوغان" الذي أوضحه أردوغان نفسه إذ قال إنَّه يتعهَّد باحترام العلمانية، وإنَّه لا يسعى، سِرَّاً، إلى "أسْلَمة مؤسَّسات الدولة"، ولا يُضْمِر في سياسته "أهدافا إسلامية".
لقد أكَّد أردوغان، غير مرَّة، أن حزبه ليس بالحزب الإسلامي، موضحا أن الحزب سيثبت، في الممارسة، أنه "لا يستند إلى الدين".
ثم أدلى أردوغان بتصريحات في شأن "العلمانية" أظهرته على أنه راغب في انتزاع "راية العلمانية" من "العسكر" إذ قال:" سندع الشعب يمارس العلمانية حتى نؤكد من خلال ذلك أننا أوفياء للمبادئ العلمانية كما حددها الدستور".
وهذا الخيار ما كان له أن يملك تلك الجاذبية الشعبية (والانتخابية) لو لم يَضْرِب جذوره في الاقتصاد، فالنمو الاقتصادي القوي، وانخفاض نسبة التضخم، بفضل الإصلاحات الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، هما ما جعلا لـ "خيار أردوغان" هذا الثقل الشعبي الكبير، فـ "الاقتصاد" هو دائما المقياس الأهم لأي خيار سياسي، جودةً وجدوى.
وأحسبُ أنَّ الثقل الشعبي لـ "خيار أردوغان"، والذي يقوم على نَبْذ التطرُّف في وجهيه الإسلامي والعلماني توصُّلا إلى حلٍّ للتناقض بين الإسلام والعلمانية، يمكن ويجب أن يُقَوِّض كثيرا من حُجَج "التكفير" للمنادين بالعلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، فإنَّ من الحماقة بمكان أن "يُكفَّر" عشرات الملايين من الأتراك لكونهم أيَّدوا وتَبَنُّوا "خيار أردوغان"، الذي يمكن ويجب "تعريبه"، على أن يُفْهَم هذا الخيار، عربياً، على أنَّه "تحرير للطرفين معاً".. تحرير للدولة من قبضة الدين، أي إنهاء "تديين السياسة"، وتحرير للدين من قبضة الدولة، أي إنهاء "تسييس الدين"، فنحن لم نَعْرَف، حتى الآن، من أنظمة الحكم إلا الذي يُحْكِم قبضة الدين على الدولة، أو يُحْكِم قبضة الدولة على الدين؛ وقد حان لكلا الطرفين أن يتحرَّر من الآخر، فبقاء أحدهما مهيمنا على الآخر لا يبقي لمجتمعاتنا من الديمقراطية إلا ظلالها.
التجربة التركية، وعلى ما يعتريها من عيوب ونقائص وخِلال، إنَّما تُعَلِّمنا الفَرْق بين الأشياء التي لم نُمَيِّز بعد بعضها من بعض.. الفَرْق، مثلا، بين "الدين" و"الدولة"، بين "الجامع" و"الجامعة". وإنَّها، بكلام جامع مانع، تُعَلِّمنا أنَّ "الدولة للمجتمع" و"الدين للأفراد"، فـ "الخلاص الجماعي" بـ "الدولة"، و"الخلاص الفردي" بـ "الدين".
تركيا ظَهَرَت الآن في وضوح أشد من ذي قبل على حقيقتها الداخلية المتناقضة.. إنَّها "تركيتان"، "شرقية" و"غربية"، فإنْ لم يستقر ويَثْبُت توازنها الداخلي ـ الخارجي سَتُرينا فصولاً من اشتداد الصراع بين مَيْليها الذاتيين المتضادين: المَيْل إلى العودة (الضرورية والممكنة واقعياً) إلى ما كانت عليه، هويةً وثقافةً وانتماءً، قبل عهد مصطفى كمال أتاتورك الذي يوصف بأنَّه مؤسِّس تركيا الحديثة، والمَيْل إلى المحافظة على "الأتاتوركية"، والمضي فيها قُدُما، بَعْد تحويل "جَزْرِها" إلى "مدٍّ" جديد.
بحسب المعايير والموازين الغربية، تُعَدُّ تركيا الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم الإسلامي؛ ويُنْظَر إلى تجربة "حزب العدالة والتنمية" بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، في حُكم تركيا، عَبْر البرلمان والحكومة، على أنَّها خير تجربة في المزاوجة بين الإسلام "المعتدل" والديمقراطية "الغربية".
وقد بدت إدارة الرئيس بوش، في "ربيعها العراقي"، راغبةً في التأسيس لدولة عراقية جديدة، تحاكي، في نظامها السياسي، قدر الإمكان، "ديمقراطية"، و"علمانية"، النظام السياسي في تركيا، وفي علاقتها الإستراتيجية بالولايات المتحدة، ألمانيا واليابان؛ ولكنَّ الرياح العراقية جرت بما لا تشتهي سفينتها، فتحوَّل العراق من "قوَّة جذب"، على ما أرادت وتوقَّعت، إلى "قوَّة نَبْذ (وطرد)"، فجواره العربي، من شعبي وحكومي، تطيَّر، وازداد تطيُّرا، من "المثال العراقي"، حتى غدا هذا "المثال" رادعا يردع كل من تسوِّل له نفسه تصديق، أو مصادقة، "الإصلاح السياسي والديمقراطي.."، المتدفِّق من "منابع خارجية".
إنَّ تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي يمكن أن يَخْرُج أكثر من مليون من مواطنيها في تظاهرة، تأييدا لـ "العلمانية"، ويهتف المتظاهرون فيها بشعارات من قبيل "تركيا علمانية وستظل علمانية"، و"لا للشريعة"، و"لا لأسْلَمة الدولة (التي تُتَّهَم حكومة أردوغان بأنَّها تسعى إليها)". وهي الوحيدة في العالم الإسلامي التي للمَيْل إلى الغرب فيها هذا الوزن الشعبي.
تركيا كانت، وستظل، مجتمعا لصراعٍ حاد بين ميول متضادة.. بين "المَيْل القومي" و"المَيْل الديني (الإسلامي)"؛ بين "المَيْل إلى ديمقراطية يعتدل فيها، وبها، التطرُّف العلماني (الذي تمثِّله المؤسَّسة العسكرية على وجه الخصوص)" و"المَيْل إلى علمانية تؤكِّد وجودها ولو عَبْر نفي الديمقراطية، أو بعضها".
لقد اعتدل "الإسلام السياسي" في تركيا، عن اضطرار أو عن اقتناع، بَعْد، وبسبب، تجربة أربكان؛ وجاء اعتداله بما يلبِّي، على ما توقَّع "حزب العدالة والتنمية" وزعيمه أردوغان، شروطا ومطالب كثيرة لممثِّلي "النظام العلماني" من حزبيين وعسكريين، وللاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ أمَّا أردوغان فقد خَرَج، أو كاد أن يَخْرُج، من جلده إذ أعلن، في غمرة سعيه لطمأنة ممثِّلي "النظام العلماني"، وحارسه الأوَّل الجنرال كنعان إيفرين، والذي يمكن بعد الاستفتاء الشعبي أن يُحاكم في طريقة ما، أنَّ حزبه ليس إسلامياً، وإنَّما علماني.
على أنَّ كل هذا الاعتدال لم ينجح في جَعْل "العلمانيين" يجنحون لإظهار شيء من الاعتدال في تطرُّفهم العلماني، وكأنَّهم لا يريدون التخلِّي عن فَهْم هذا الاعتدال بما يتَّفِق مع مبدأ "العِرْق دسَّاس"، أو مبدأ "التَمَسْكُن حتى التَمَكُّن".
"الإسلام المعتدل" في تركيا، ممثَّلا بأردوغان وحزبه، ما زال يتمتَّع بوزن شعبي وبرلماني يفوق كثيراً الوزن ذاته الذي يتمتَّع به "العلمانيون الأقحاح" من عسكر، وأحزاب، ومنظمات غير حكومية؛ ويتمتَّع، أيضا، وعلى ما يبدو، بوزن دولي وإقليمي كبير، يَسْتَمِدُّ بعضا منه من خوف (دولي وإقليمي) من أن يتمخَّض انتصار المؤسَّسة العسكرية لـ "العلمانية" عن "فوضى" في تركيا، تمتزج فيها عناصر وخواص وملامح من التجربتين الجزائرية والعراقية.
في أوروبا، جاء التزاوج بين "الديمقراطية" و"العلمانية" خيارا يحظى بتأييد وقبول الغالبية الشعبية العظمى؛ أمَّا في تركيا فجاءت "التجربة الأتاتوركية" بما يُظْهِر ويؤكِّد التنافر والتضاد بين "الديمقراطية" و"العلمانية"، فـ "الإسلام السياسي" يمكن أن يعتدل بما يؤسِّس لأحزابه مصلحة في التصالح مع الديمقراطية "الغربية"؛ ولكن الجيش، مع الأحزاب العلمانية، لم يصبح لديه بَعْد من المصلحة ما يَحْمِله على الاعتدال في تطرُّفه العلماني، وعلى تذليل العقبات، بالتالي، من طريق "تقويم" هذا "التناقض التركي" بين الديمقراطية التي اتَّسَعت لـ "الإسلام السياسي"، واتَّسَع لها، إذ اعتدل، وبين العلمانية التي "تعسكرت" في تركيا فحسب.
الغالبية العظمى من الأتراك تفهم العلمانية "المُعَسْكَرة" على أنها نفيٌ للديمقراطية؛ أمَّا الجيش (والأحزاب العلمانية) فيفهم المزاوجة بين الديمقراطية و"الإسلام السياسي المعتدل" على أنها نفيٌ متدرِّج لـ "العلمانية"، و"الأتاتوركية" على وجه العموم.
ولقد حان، على ما أحسب، لتركيا، الشعب والمجتمع المدني، أن "يقوِّم" التناقض التركي بين الديمقراطية والعلمانية بمنأى عن تأثير وضغوط المؤسَّسة العسكرية، وبما يُظْهِر ويؤكِّد أنَّ برزخا قد أقيم بين العسكر والسياسة، فـ "النموذج" لن يكون مستوفيا لمعناه الحقيقي إذا لم يبدأ بما يجب أن يبدأ به، وهو الفصل النهائي والتام بين العسكر والدولة.
وفق التشخيص الطبي الغربي لداء "الإرهاب الإسلامي"، تكمن "العلة" في العقيدة الإسلامية ذاتها، فلا بد، بالتالي، من "المعالجة الثقافية"، التي تبدأ بإصلاح المناهج التعليمية والتربوية، فهذه المناهج تخلق أجيالا تكره "الآخر" (غير المسلم) وتقف حائلا دون تدفق "القيم الديمقراطية والعلمانية" في شرايين المجتمعات الإسلامية.
والآن، تهيأت، في تركيا "الديمقراطية" و"العلمانية"، فرصة تاريخية لاختبار "حقيقة" الفكر الإسلامي، وللإجابة العملية عن السؤال الغربي الكبير الآتي: هل يمكن عقد القران بين "الإسلام" و"الديمقراطية"؟
ما حدث في جمهورية أتاتورك إنما هو إقامة واعداد لمختبر (تاريخي) يختبر، في آن، "الإسلام" و"الديمقراطية".. يختبر ما إذا كان ممكنا، واقعيا، أن يتسع "الإسلام"، في بعده السياسي على وجه الخصوص، للقيم الديمقراطية الغربية، وأن تتسع "الديمقرطية" الغربية للخيارات الإسلامية الحرة للأكثرية الشعبية المسلمة، في تركيا، وفي غيرها من الدول الإسلامية.
"ظاهرة أردوغان"، أو "تركيا الجديدة"، أي التي يقودها أردوغان، ويقود من خلالها، وفي المقام الأوَّل، أُمَّة (هي العرب) تتضوَّر جوعاً إلى قيادة جديدة، لم تُدْرَس وتُحلَّل وتُفْهَم وتُفسَّر بعد بما يكفي للقول بصدق زَعْم زاعم أنَّه أحاط بها عِلْماً؛ وثمَّة سبب موضوعي لهذا "النقص المعرفي" هو أنَّ "الظاهرة نفسها" ما زالت قَيْد النشوء، ولم تبلغ بعد من النموِّ والتطوُّر ما يجعل ملامحها وخواصِّها وأبعادها المختلفة واضحةً مضيئةً بما يكفي لجعلها في متناول الأبصار والبصائر.
وليس أدل على ذلك من أنَّ كثيراً من الإعلاميين والصحافيين والكتَّاب السياسيين العرب المولعين بوصف وتسمية الظواهر السياسية (والتاريخية) الجديدة، ولو بما يتعارض مع جوهرها الحقيقي الذي لَمَّا يظهر لهم في وضوح كافٍ، قد أكثروا من استعمال عبارات تفيد جميعاً في إظهار وتأكيد أنَّهم يفهمون "ظاهرة أردوغان" على أنَّها عودة بتركيا، وبالعرب أيضاً، إلى "العهد العثماني" الذي خلناه أصبح أثراً بعد عين، فعهد أردوغان، على ما يتصوَّرون، إنَّما هو عهد "العثمانيين الجُدُد"؛ والنفوذ الواسع المتَّسِع والمتنامي لأردوغان، ولتركيا في عهده، في العالم العربي، وفي عقول وقلوب العامَّة من العرب على وجه الخصوص، إنَّما هو "دليل" على أنَّ "الأتراك قادمون" إلى بلاد "اليتامى"، و"الميتَّمين"، أي العرب الذين قَلَّما نجحوا، وبشهادة التاريخ، في أنْ يخلقوا بأنفسهم، ولأنفسهم، قيادة حقيقية لهم؛ فما أكثر "حكَّامهم"، وما أقل "قادتهم"، مع أنَّ لديهم من "الحاجات" و"الضرورات"، التي هي دائماً "المعلِّم الأوَّل" للبشر، ما ينبغي له أن يجعلهم أُمَّة تَلِد قادة، أقلهم وزناً يَزِن أكثر من نابليون!
"الكمالية" نفت "العهد العثماني" إذ قضت قضاءً مبرماً على ظاهرة "الدولة الدينية (الإسلامية)"، أو "دولة الخلافة (العثمانية)"، وغذَّت وأجَّجت "الروح القومية" التركية، التي اتَّخَذَت من العداء للعرب ("الخونة") وقوداً لانطلاقها إلى فضاء "الشوفينية"، التي مع اقترانها بـ "العلمانية" أسَّست لظاهرة العسكر الذين يُحْكِمون قبضتهم على الحياة السياسية (والثقافية) بصفة كونهم الحرَّاس الأبديين لـ "الكمالية" و"الديمقراطية" و"العلمانية"، والذين توفَّروا، مع الأحزاب السياسية، التي تشبههم، فكراً وسياسةً، على إنهاء وتمزيق كل صلة (عثمانية) لتركيا بـ "الفضاء الإسلامي (والشرقي عموماً)"، وعلى إنشاء وتطوير كل صلة بالغرب على وجه العموم، وبأوروبا على وجه الخصوص، فـ "الفضاء الأوروبي"، بكل خواصِّه وأبعاده، أصبح هو وحده الفضاء الخارجي لتركيا. حتى إسرائيل، وبصفة كونها عدوُّاً قومياً أوَّل للعرب، أصبح لها مكانة مرموقة في قلب "تركيا الكمالية".
وهذا الطور، أي تركيا في طور النفي الواسع والشامل والعميق لعهدها العثماني القديم، ما كان له أن يشذ عن قوانين التطوُّر التاريخي، فالعسكر (الكماليون، القوميون، الشوفينيون، العلمانيون بما يمسخ العلمانية، الديمقراطيون بما يمسخ الديمقراطية، الأطلسيون، والغربيون ـ الأوروبيون في هواهم) ما كان لهم أن يحكموا، ويديروا، ويُغيِّروا، إلاَّ بما يشدِّد الحاجة التاريخية إلى التأسيس لـ "تركيا ثالثة جديدة"، تقوم على الجمع والتركيب والتأليف بين كل ما هو إيجابي وضروري ومفيد في العهدين المتناقضين (تركيا العثمانية وتركيا الكمالية).
إنَّ "ظاهرة أردوغان"، وهي ظاهرة تتخطَّى "السياسي" إلى "التاريخي"، لا يمكن فهمها إلاَّ بصفة كونها التقويم التاريخي والجدلي للتناقض بين "تركيا العثمانية" و"تركيا الكمالية"، والذي فيه نرى تركيا "تعود إلى الماضي"؛ ولكن عودة مختلفة من حيث النوع والجوهر، فـ "تركيا أردوغان"، أو "تركيا الثالثة"، تعود إلى "الفضاء العربي ـ الإسلامي"، محتفظةً، في الوقت نفسه، بكل ما هو جدير بالبقاء من "عهدها الكمالي"، كالديمقراطية والعلمانية والروح القومية.
كل "الأضداد"، التي عرفتها تركيا في عهديها السابقين المتناقضين، أي في "عهدها العثماني" و"عهدها الكمالي"، تبدو الآن، أي في عهد أردوغان، متصالحة.
لقد عَرَفَ أردوغان (وهنا مكمن عبقريته السياسية بوجهيها الإستراتيجي والتكتيكي) كيف ينتزع "الرايات"، و"الأسلحة"، من أيدي "العسكر"، وأشباههم من الأحزاب والقوى السياسية، مؤسِّساً لحكمه وقياته قاعدة شعبية، كلَّما نمت واتَّسَعت اضمحلت وتضاءلت، في الوقت نفسه، وفي القدر نفسه، القاعدة الشعبية لـ "الكمالية"، بوجهيها العسكري والمدني.
أردوغان الآن هو "القومية التركية" التي تتَّخِذ من "الكراهية لإسرائيل"، وليس من "الكراهية للعرب"، وقوداً لها وغذاءً؛ وهو الآن "مثلَّث التصالح التاريخي" بين "الإسلام" و"القومية" و"العلمانية"، فالعداء لـ "أردوغان ـ الظاهرة" هو عداء للإسلام، بمعنى ما، وللقومية التركية، بمعنى ما، وللعلمانية والديمقراطية، بمعنى ما.
حتى التناقض بين "المبادئ" و"المصالح"، في السياسة، عَرَف أردوغان كيف يحله، فـ "المبادئ" تفوح منها رائحة "مصالح"، و"المصالح" تفوح منها رائحة "مبادئ".
إنَّ "الروح القومية التركية"، التي يخالطها كثير من "الروح الإسلامية"، ومن "روح التصالح مع العرب"، والتي تضرب جذورها عميقاً في "التضامن مع الفلسطينيين"، وفي "الكراهية لإسرائيل"، هي الآن في منزلة السيف والترس لتركيا في عهد أردوغان؛ وهذا ما جعل منسوب النفوذ القديم للعسكر، وأشباههم من القوى الحزبية والسياسية، في تراجع مستمر ومتزايد.
حزب أردوغان الإسلامي الهوى لا الهوية، والذي أظهر وأكَّد، غير مرَّة، التزامه "الديمقراطي ـ العلماني"، أصبح (أو يكاد أنْ يصبح) حزباً مارقاً عن القيم والمبادئ الديمقراطية، يعيث فيها فساداً، يُضْمِر لها الشرَّ، ويتربَّص بها الدوائر؛ ذلك لأنَّه انتهج سياسة لا تروق إسرائيل، التي أرغمت إدارة الرئيس أوباما على استنكار واستقباح هذه السياسة، وعلى أن تقول، ضِمْناً، بـ "مقياس جديد" تُقاس به ديمقراطية (وعلمانية) القيادات المنتخَبة (وفي العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص) ألا وهو "الموقف من إسرائيل"، وكأنَّ هذا الموقف، لجهة إيجابيته، وضرورة أن يكون إيجابياً، هو من أهم، إنْ لم يكن أهم، القيم والمبادئ الديمقراطية!
لقد خصَّها الرئيس أوباما، الذي لمَّا يَخُضْ تجربة استفزاز نتنياهو وأحبَّاء إسرائيل في الكونغرس، بزيارته الإسلامية الأولى، فتركيا التي يقودها أردوغان وحزبه هي (على ما كانت صورتها في ذهن سيِّد البيت الأبيض الجديد) النموذج الذي يحتذى به (أي يمكن ويجب أن يحتذى به) إسلامياً.
إنَّها، حتى في عهد أردوغان، تركيا الغربية (والأوروبية) بديمقراطيتها وعلمانيتها، "الأطلسية" التي خدمت إستراتيجاً الغرب زمناً طويلاً، والحليف الإقليمي الإستراتيجي لإسرائيل، وذات الأهمية الإستراتيجية للولايات المتحدة في صراعها الإقليمي والدولي، والتي عَرَفَت، في عهدها السياسي الجديد، كيف تنشئ وتطوُّر "إسلاماً سياسياً" تأتلف فيه وتتَّحِد كل تلك "المزايا" وغيرها، وكيف تؤسِّس لنموذج سياسي (تاريخي) تُثْبِت من خلاله أنَّ الحيوية السياسية (التاريخية) للدول تُسْتَمَد، ويجب أن تُسْتَمَد، من "تَصالُح" الأضداد في ميولها ونزعاتها.
وإنَّها لتجربة ما كان لها أنْ تعطي الولايات المتحدة ما رغبت في الحصول عليه من غير أنْ تعطي، في الوقت نفسه، ما رغبت وترغب عنه، ألا وهو تلك "السلبية" في الموقف العام لتركيا الجديدة من إسرائيل، والتي أرادت إدارة الرئيس أوباما أن تُفسِّرها (قبل تعرُّضها للضغوط الإسرائيلية) على أنَّها الثمرة المرَّة لإحباط بعض الدول والقوى الأوروبية سعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إدارة الرئيس أوباما تخلَّت عن هذا التفسير (الأوَّلي) لتأخذ بالتفسير الإسرائيلي والذي فيه تُفسَّر "السلبية" في الموقف التركي من إسرائيل على أنَّها إظهارٌ لبعضٍ مِمَّا يُضْمِره أردوغان وحزبه من عداء إسلامي (سرمدي) للديمقراطية (والعلمانية).
على أنَّ هذا الذي أغضب إسرائيل (ثمَّ الولايات المتحدة) من (وعلى) تركيا الجديدة، والذي تسبَّب به، في المقام الأوَّل، التحدِّي التركي للحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، أغضب، أيضاً، "السلفية السياسية العربية"، أي أنظمة الحكم العربية التي لا تحكم، ولا تستطيع الاستمرار في الحكم، إلاَّ في طرائق وأساليب، يكفي أن تظل متشبِّثة بها حتى تكون، أو تصبح، في عداء، بعضه ظاهر وبعضه مستتر، لتركيا الجديدة.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نتنياهو إذ تحدَّث عن -الشراكة- و-الشعب الآخر-!
-
سنةٌ للاتِّفاقية وعشرة أمثالها للتنفيذ!
-
أسئلة 26 أيلول المقبل!
-
في انتظار التراجع الثاني والأخطر لإدارة أوباما!
-
لا تُفْرِطوا في -التفاؤل- ب -فشلها-!
-
حرب سعودية على -فوضى الإفتاء-!
-
في الطريق من -العربية- إلى -الرباعية الدولية-!
-
حُصَّة العرب من الضغوط التي يتعرَّض لها عباس!
-
حرارة الغلاء وحرارة الانتخابات ترتفعان في رمضان!
-
عُذْرٌ عربي أقبح من ذنب!
-
ظاهرة -بافيت وجيتس..- في معناها الحقيقي!
-
في القرآن.. لا وجود لفكرة -الخَلْق من العدم-!
-
-السلبيون- انتخابياً!
-
عباس.. هل يرتدي كوفية عرفات؟!
-
صورة -المادة- في الدِّين!
-
هل أصبحت -المفاوضات بلا سلام- خياراً إستراتيجياً؟!
-
الأزمة الاقتصادية العالمية تنتصر ل -قانون القيمة-!
-
هرطقة تُدْعى -الملكية الفكرية-!
-
الآلة
-
معنى -التقريب-.. في مهمة ميتشل!
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|