رشدي علي
الحوار المتمدن-العدد: 3120 - 2010 / 9 / 9 - 22:13
المحور:
سيرة ذاتية
في بداية الثمانينيات عندما كنت صغيرا كان المعلمون في المدرسة يصفونا مثل الأغنام ويجعلونا نصيح وبأصوات عالية جدا. ففي بداية الاصطفاف كانوا يصرخون بنا:استعد, ونصرخ نحن ب: يحيا البعث, وعندما يصرخون: استرح كان علينا أن نضرب الأرض بقوة. ثم يبدأ النعيق الأصلي: يسقط معمر ألقذافي خائن الأمة العربية, اللة ومحمد وعلي والسادات مو عربي, الموت لإسرائيل, صدام اسمك هز أمريكا, ثم يأخذ الميكرفون معلم الدين (والذي كان يعاني من كآبة حادة قبل الحرب) ليصرخ لنا آخر انتصارات الجيش في جبهة القتال الملتهبة.
ثم وبعد ساعة من الشعارات النارية نذهب إلى الصفوف, وبخطوط سير تشبه عمليات التدريب في الجيش, ونجلس بانتظار المعلم القاسي القلب, ولحظة يدخل يزعق المراقب مرة ثانية: قيام... لنصرخ نحن : قادسية صدام, وبعدها جلوس, فنصرخ: يسقط الفرس المجوس.
وعلى طول الطريق من المدرسة إلى البيت كنت أقرأ اللافتات المعلقة على جدران المدارس ومنظمات الحزب, لكن تلك الكلمات كانت تجعلني اصرخ وانأ اقرأها صامتا؟ وكنت أقول في نفسي أن الذي كتبها كان يصرخ بها للآخرين, فمثلا كيف لأحد أن يقرأ: الخزي والعار لزمرة الخميني الدجال, دون صراخ؟
أما العراك فكان يملا الطريق, بين الجيران بعضهم البعض, وبين الطلاب, وأحيانا بين أصحاب الدكاكين, والعراك كله صراخ.
وعندما دخلت البيت وجدت أبي يصرخ في أمي:منين أجيب؟ ثم تنبهت أمي إلى أخي الصغير يعبث بشيء ما في الأرض, سحبت حذائها صارخة: لا, حمار. في الغرفة المجاورة كانت أختي الكبيرة تسحل أختي الأصغر وهي تصرخ. كان أخي الصغير قد هرب إلى الحديقة وراح يعبث بدراجتي الوحيدة, فركضت أليه ورفسته في جانبه الأيسر وانأ اصرخ بغضب. وفي حوالي الثامنة إلا خمس دقائق صرخ أبي:وين العشا؟ ثم ضغط زر التلفزيون ليظهر لنا المذيع (مقداد!) ولو كان للصراخ زعيم (كحكايات سندباد) لكان مقداد زعيم الصراخ! ثم بدأ كالعادة بكلمة الله اكبر ولمرات عديدة, وبعد بيان الانتصار قال أن القائد سيلقي كلمة (ليدرك الشعب أن الحلقة القادمة من المسلسل العربي اصبحت في خبر كان!) وبدأ القائد (حفظه الله) في الصراخ...
كان اليوم يبدأ بالمدرسة وينتهي بالتلفزيون, فبعد الخطاب العظيم, ظهرت مجموعة كبيرة من المطربين, حتى إن من بينهم مطربي ريف... وكانوا يصرخون: أحنة مشينة للحرب...ويستمر إعادة الأغاني أحيانا إلى أن ننام.
في صباح آخر حيث جلس معلم إحدى المواد (والتي لا اذكرها ألان!) على أعلى المصطبة, ليحدثنا ولفترات طويلة عن كيف أن الجيش العراقي هزم خامس جيش في العالم...ثم يطلب منا أن نتمرن على صراخ عبارة نموت ويحيا الوطن لنكون جاهزين حين يأتي يوم الخميس.
إنما صورت هذه اللقطة من حياتنا في يوم من الأيام فقط لأثبت لنفسي بأننا ليس إلا أحزان نائمة وموتورة تنتظر من
يوقظها!
هل يحق لحياة كهذه أن تدعي بان عدوا ما يحاول أن يلحق الشر بها؟
*****
في العام 1990 كنت شابا في مقتبل الحلم, وكأي شاب آخر كنت أحب بنت الجيران, وأحلم بان أمزق نهديها بأسناني... ثم احتل العراق الكويت, ليصبح ذلك الاحتلال رمزا لكل ما هو سريع, فإذا طلب منك احد أن لا تتأخر كل ما عليك قوله: طكت الكويت.
وحدثت الحرب, بعدها الانتفاضة والتي اشتركت فيها بقوة, ولما قمعت صار لزاما علي أن اهرب من العراق مثل القط, وهو ما حدث, لتبدأ أسوأ مرحلة في حياتي: صحراء السعودية!
ملأنا الصحراء بالصراخ والأشياء المقززة, لقد تبين لي إننا همج رعاع, كلنا عواطف فارغة, ونحن اشد الناس انبهارا بالقوة, حتى الخاوية منها, لم يعد لصدام وجود, الصحراء وسلطتها الجديدة: الشيعة! أسخف دين أنتجته الكرة الأرضية.وهناك ولأول مرة في حياتي شاهت بأم عيني رجالا يلطمون:
إحنا مو مثل أهالي الكوفة حسين بايعنا وتالي نعوفة.
وعندما تذهب إلى الحارس السعودي لتسأله شيئا ما تكون المحاورة على النحو التالي:
السائل (عراقي) _ يالاخو ؟
المجيب (سعودي)_ وش تبغى يالجلب؟(بثلاث نقط تحت الجيم)
وهنا بات أمثالي بين ناريين. وكان العراك حول الطعام كل خمسة دقائق, أما حر الصحراء فقد وصل حدا لا يوصف! كانت شريحة صغيرة من جنوب العراق وبضعة آلاف من بغداد, في تلك الصحراء المقفرة تبعث في النفس شعورا قويا بان مستقبل العراق ليس إلا وهم...وتوقف الزمن عن الحراك, وأصبحت الأيام مثل خرزات المسبحة, وصار العراق حلما لا يتوقف, وكثر اللطم, ولان الدين أسهل طريقة ابتكرها الإنسان للتفكير, فقد وجد فيه حمقى الصحراء ضالتهم, ووجدت الكل يصلي ويتحدث عن منكر ونكير, وكيف إن الله في الآخرة سيضع أسياخا من النار في مؤخرات الكفرة, والنجاسة والطهارة, والوضوء الصحيح, والخرطات التسعة, والجنابة, وكيف إن محمد استطاع أن يقنع السعوديين بالإسلام, والتطبير, واللطم الشديد, وكل موضوع تافه في الأرض كان يلاك وبطريقة جادة تماما في جلسات الصحراء الموقوتة.
حيث إن الجميع كان بانتظار كلمة لينفجر!
هل يحق لأناس بهذا الكم الهائل من الغضب والخنوع في آن أن يتهموا الآخرين؟
******
لماذا نحن في صراخ دائم؟
يقولون بان الأعداء هم من يأتي بالصراخ.
ولكن لماذا ومنذ الأزل لدينا أعداء؟؟
******
يقول بعض المحللين بان أمريكا أتت بنوري السعيد, ثم صنعت ثورة 58 , ثم خلقت انقلاب 63 , بعده قامت بانقلاب 68, ولم يعجبها الوضع فقامت بثورة الخميني, ثم شنت الحرب بين العراق وإيران. وأمرت العراق باحتلال الكويت, ثم حاربته واحتلته.
أما إسرائيل فقد جاءت بعبد الناصر, ثم أزاحته بسكتة قلبية ,وكذلك فعلت مع ياسر عرفات, وجاءت بالسادات, ثم جاءت بحسني مبارك, ولا ننسى أنها أتت بالبعث إلى سوريا, وصالح إلى اليمن.واحتلت فلسطين ولبنان وسوريا.
لأبقى في هم العراق, ليس لأني عراقي أصيل لا! ولكني تعلمت إن العراق إذا سعد سعدنا وإذا تعس تعسنا! أما أذا سعدت اليمن (وهو أمر مستبعد أيضا!) فهنيئا لليمني, ولكنه بحث آخر.
فلولا أمريكا التي حركت إيران لضرب العراق, لكان العراق اليوم في عالم آخر من التطور والعلم. ولكان الجيش العراقي قد حرر فلسطين في ساعة واحدة ( وهنا تلاقت مصالح أمريكا مع إسرائيل). لماذا يتربصون بنا, حتى جعلوا من حناجرنا أبواقا أزلية؟
الم اقل بأننا غضب مركون؟ صراخا يخفي خلفه ما لا نهاية له من الموت.
إلى هؤلاء المحللين: اصمتوا!
المسالة ليست كذلك أبدا, وإذا كان الواقع بأدواته العديدة قد فشل في تفسير مسألة الصراخ الدائم, والشعور الأزلي بان عدوا يتربص بنا, فقد آن الأوان للخيال أن يدخل هذه المتاهة الغامضة.
هناك قصة لكاتب أرجنتيني اسمه بورخس! تدعى (اللقاء) فحوى تلك القصة كالأتي: رجل يهوى جمع السكاكين القديمة أقام مأدبة شواء في بيته الريفي المنعزل, وكانت تلك السكاكين نائمة في خزانة قديمة وهي تترقب اليوم الذي تخرج فيه لتتصارع من جديد. حدثت مشاجرة بين رجلين فقررا التقاتل بالسلاح, فسحب الرجلان سكينين كانتا قد تقاتلتا من قبل! وهنا بدأت المعركة بين السكينين من جديد, مستخدمة الرجلين في قتالهما. المغزى من القصة هي أن سطوة السلاح حول البشر إلى آلات. وهناك من يقول إن أرواح البشر الذين تقاتلوا قبلا سكنت السكاكين إلى الأبد. ويعمق بورخس الفكرة حين يقول أن يدي المتقاتلين ارتعشت لحظة إمساكهما بالسكينين, بسبب استيقاظهما من السبات الطويل.
جاءت بريطانيا وفرنسا لتزيحا العثمانيين, ثم تصارعتا مع بعضهما البعض, ودخلت أمريكا لتزيح الروس, وتصارع الجميع في منطقة كلها خزائن للسكاكين! ألا تفسر أوهام بورخس خروج الدول العظيمة مهزومة دائما أمام حشود بسيطة من البشر؟ الم ترتعش يد بريطانيا حين أمسكت بالعراق؟ كذلك أمريكا اليوم؟
حولنا الدول العظمى إلى العاب وأيادي, نبث سمومنا فيها وفينا, نخرج لعنة لا مناص من خروجها, ولكن بشروط الألعاب السحرية...ومن يختار أن يصبح عدونا فان هذه اللعنة ستطارده إلى الأبد! ويهرب كمن يهرب من بيت مسكون بالأشباح, أما هروبهم فلن يغير منه في شيء, لأنه سيبقى بيتا مسكونا بالأشباح...
#رشدي_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟