عشرات الحقوقيين بينهم 72 محامياً من فرنسا يدافعون عنه
في مكتبها وسط مدينة رام الله, تعكف المحامية فدوى البرغوثي, عقيلة القائد السياسي مروان البرغوثي المعتقل منذ أكثر من مئة يوم في السجون الاسرائيلية, على وضع اللمسات الاخيرة مع عدد كبير من الحقوقيين من فلسطينيين وعرب وأوروبيين على (استراتيجية الدفاع) التي اعتمدتها (لجنة الدفاع عن مروان البرغوثي) استعداداً للجلسة الاولى لمحاكمته نهاية الشهر الجاري.
في المكتب كما في البيت لا تنفك أجهزة الاتصال المختلفة عن الرنين, فهذا اتصال من فرنسا وآخر من بلجيكا وثالث من مصر ورابع من الحملة الشعبية لاطلاق مروان, فهذه المحاكمة كما قالت فدوى (لم يشهد القضاء الاسرائيلي لها مثيلاً في تاريخ محاكم الاحتلال لآلاف الفلسطينيين منذ قيام الدولة العبرية قبل 54 عامًا). وأوضحت أن النيابة العامة الاسرائيلية ستحاكم في شخص القائد السياسي مروان البرغوثي نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال أمام محكمة جنائية في محاولة لوصم هذا النضال بـ(الجريمة) التي ستتولى الدولة المحتلة ذاتها تحديد (العقاب) لها في حق شعب يرفض الرضوخ لهذا الاحتلال. غير أن طاقم الدفاع الضخم المدعوم بلجان سياسية وقضائية يستعد في المقابل لتحويل هذه المحاكمة الى محاكمة سياسية ومرآة تعكس الصورة الحقيقية للاحتلال الاسرائيلي وتضعه في منصة الاتهام أمام العالم أجمع.
وأشارت فدوى الى أن مروان (43 عامًا) سيقف أمام المحكمة الاسرائيلية بصفته عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي والمجلس التشريعي وأمانة سر حركة (فتح) في الضفة الغربية خطفته قوات الاحتلال الاسرائيلي من مناطق خاضعة لسيادة السلطة الفلسطينية. وبمعنى آخر, بصفته قائداً سياسياً منتخباً من الشعب الفلسطيني أخفق جهاز التحقيق الاسرائيلي في انتزاع أي اعتراف أو تجاوب منه في شأن (التهم) الموجهة إليه, كما فشل في الحصول على توقيعه حتى على (وثيقة كشف طبي) رفض أن يمهرها بتوقيعه بعدما اقسم (بينه وبين نفسه) ألا يمد الاحتلال بأي حجة يستخدمها لاضفاء الشرعية على اعتقاله.
ورفضت فدوى في مقابلة أجرتها معها (الحياة) الخوض في تفاصيل استراتيجية الدفاع عن البرغوثي, لكنها أوضحت أن زوجها الحائز على إجازة الماجستير في العلاقات الدولية هو الذي (أرشد) المحامين على (خط الدفاع) الواجب اتباعه والذي اتبعه شخصياً في مواجهة محققيه ويرتكز على نقطتين أساسيتين رسخهما خلال صموده في زنزانات التحقيق والتعذيب على مدى 81 يوماً.
(استراتيجية الدفاع)
رفض مروان منذ اللحظة الاولى التجاوب مع المحققين مكرراً أنه قائد سياسي وأن مقاومة الاحتلال حق طبيعي وشرعي كفلته المواثيق كافة, وثانياً أن قوات الاحتلال (خطفته) من مناطق خاضعة لسيادة السلطة الفلسطينية, وهي بذلك ارتكبت جريمة يعاقب عليها القانون وتبطل شرعية الاعتقال.
واستناداً إلى هذا, باشرت فدوى ومعها عدد كبير من المحامين الفلسطينيين بتجنيد هيئة دفاع دولية شملت عشرات الحقوقيين الدوليين سابقوا الزمن في الاشهر الاخيرة لوضع استراتيجية دفاع (تعيد المفاهيم الانسانية والاخلاقية إلى وضعها الطبيعي وتحاكم الاحتلال بدل أن يحاكم الاخير نضال شعب بأكمله), كما قالت فدوى التي كشفت أيضاً أن لجاناً سياسية - قضائية عربية تعمل من القاهرة ستشكل رافداً لطاقم الدفاع الفلسطيني - الاوروبي الذي سيحضر الجلسة الاولى للمحكمة والتي ستقتصر على تقديم (لائحة الاتهام). وفي الوقت ذاته سيتناوب الحقوقيون الدوليون الكثر (72 محامياً من فرنسا لوحدها) على حضور الجلسات المتعاقبة. وأعد هؤلاء جميعاً الوثائق السياسية اللازمة للخروج بإدانة وتجريم مدعم بالوثائق والوقائع للاحتلال وتوضيح الصورة الحقيقية للواقع الفلسطيني المعاش الذي عكفت اسرائيل على تضليل الرأي العام في شأنه. وأشارت فدوى إلى أن طاقم الدفاع عن مروان سيتبع استراتيجية ممنهجة في إدارة المحكمة في ما يتعلق بالاوقات التي سيحدد فيها الدفاع متى يتكلم وماذا سيقول وما الى ذلك لتجاوز قرار النيابة العامة الاسرائيلية تقديم البرغوثي أمام محكمة (جنائية).
وأشارت فدوى إلى (خطورة) الاجراء الاسرائيلي الذي إن مُرّر فإنه يفتح الابواب أمام اسرائيل لمحاكمة (الرئيس ياسر عرفات نفسه), وهذا ما تسعى إليه إسرائيل طبعاً. وكشفت فدوى التي التقت الرئيس الفلسطيني مراراً واجتمعت مع المسؤولين الفلسطينيين وأعضاء الوفد المفاوض وطالبتهم بأن يكون الافراج عن البرغوثي (شرطاً) لاي انفراج سياسي ليس فقط من أجل شخص مروان وحده بل لما يمثله الاستمرار في اعتقاله ومحاكمته (وتجريمه بتهمة النضال والمقاومة) من عواقب كارثية على طبيعة العلاقة بين إسرائيل كدولة محتلة وبين الفلسطينيين قيادة وشعباً.
ثمانون يوماً من (الشبح) والاذلال
لم ينقطع التواصل بين فدوى ومروان على مدى أكثر من 100 يوم من الاعتقال, حتى قبل أن تزوره للمرة الاولى (والوحيدة) في اليوم الـ95 من اعتقاله, وذلك من خلال الرسائل المتبادلة التي تولى أحد محامي مروان نقلها بين فدوى (الزوجة والام والمحامية) ومروان نفسه. في هذه الرسائل, كتب مروان أن أساليب التحقيق التي اتبعها المحققون من جهاز الامن العام (شين بيت) ضده استهدفت (إذلال وقهر ليس شخصه فقط بل الشعب الفلسطيني بأكمله) لانهم يريدون انتزاع شرعية مقاومة الاحتلال منا وتحويلنا الى مجرد (خارجين عن القانون).
وأوكل جهاز الاستخبارات الاسرائيلي إلى محققين صغار في السن (وتحت التدريب) مهمة التحقيق مع مروان التي اقتصرت على التفنن في توجيه المسبات والشتائم للشعب الفلسطيني ونضاله وتضحياته. وخضع مروان على مدى 81 يوماً إلى (الشبح), وهو أحد أشهر أساليب التعذيب الاسرائيلية حيث يجبر المعتقل على الجلوس على كرسي أو مقعد صغير (للاطفال) مكبل اليدين الى الخلف وكذلك الرجلين. وفي حال البرغوثي, أجبر على الجلوس في هذا الوضع لمدة 21 يوماً متتالية من دون أن يسمح له بالتحرك كان يستغل خلالها الدقائق التي يغير فيها المحقق وتبادل المناوبة للنوم, تلاها بعد ذلك 60 يوماً البقاء في الوضع ذاته لفترة تجاوزت الـ18 ساعة في اليوم الواحد.
ومن أبرز التهم التي وجهها المحققون إلى مروان, أنه (مهندس) انتفاضة الاقصى والمقاومة المسلحة ومؤسس (كتائب شهداء الاقصى) الجناح العسكري لحركة (فتح). وعندما فشلت هذه الاساليب في كسر إرادته, قال مروان لزوجته إن المحققين هددوه بالمس بأسرته خصوصاً نجله الاكبر قسام ابن الستة عشر ربيعاً الذي كان اعتقل في وقت سابق في محاولة للضغط على مروان مطلع السنة الجارية. وكرر المحققون أمام مروان الاب كيف أنهم (سيضعون قنبلة في السيارة التي يستقلها قسام ويفجرونها عن بعد, ثم يقولون إن أحد الركاب الذين في داخلها كان في طريقه لتنفيذ عملية وأن القنبلة انفجرت قبل موعدها المقرر).
وعما إذا ترك الاعتقال وظروفه أثرًا في أفكار مروان السياسية وجعلها أكثر (تطرفاً), قالت فدوى إن مروان قال لها مراراً إنه إذا قبل الشعب الفلسطيني بسلام يحافظ على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني فهو سيرضى به حتى من داخل زنزانته. وأضافت أن مروان يشكك في إمكان التوصل الى سلام مع شارون الذي لا يرى في الفلسطينيين شعباً له حقوق وطنية. وأضافت: (ما زال مروان يرى أن السلام الحقيقي مع إسرائيل يمكن أن يكون إذا انتهى الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وأعيدت حقوق الشعب الفلسطيني وهو على هذا الاساس طاف العواصم الاوروبية بحثاً عن السلام مع إسرائيليين, لكن الحقيقة كما قال مروان عندما يدرك الإسرائيليون أن الفلسطيني الذي يحادثهم يصر على ضرورة إنهاء الاحتلال كشرط للسلام يتحول في نظرهم الى عدو و(إرهابي).
في اليوم التالي للزيارة اليتيمة التي قامت بها فدوى لزوجها قبل أيام, شاهد مروان من على صفحات الجرائد اليومية دموع زوجته التي حبستها طوال ساعة ونصف ساعة هي مدة الزيارة عند خروجها من لقائه في معتقل (المسكوبية) في القدس الغربية, وقال لمحاميه: (أحسست بأنها تبكي في داخلها). وعن هذه اللحظات, قالت فدوى: (كان المشهد فظيعاً وأسوأ مما توقعت, لكنني تمالكت نفسي وحاولت أن أظهر قوية وأحسست أيضاً أنه كان يفعل الشيء ذاته. لم أعرف أن الكاميرات كانت في انتظاري في الخارجô لو سمحوا لي في البقاء معه في السجن لبقيت).
لكن أشد ما أثر في نفس فدوى أنه كتب لها بعد ذلك: (آسف على ما تسببته من ألم لك, لكن هذا ليس في يدي وهذا ما نتوقعه من الاحتلال وكله من أجل حرية شعبي ... شعبنا عظيم عظيم يا فدوى). وقالت فدوى إن مروان علي رغم قصر فترة الزيارة كان مروان يكرر عبـارة (الشعـب الفلسطيني عظيم).
في شوارع رام الله, يتحدث الشبان خصوصاً خلال المسيرات والتظاهرات عن (الفراغ) الذي خلفه غياب مروان في الساحة حيث لم يتخلف يوماً عن المشاركة في أي مسيرة ضد الاحتلال. لكن في البيت, يتجلى (الفراغ) بشكل مروع في نظر أطفاله الاربعة قسام (16 عاماً) وربى (15 عاماً) وشرف ( 13 عاماً) وعرب (12 عاماً). وتقول فدوى: (أشعر بأنني ضائعة من دون مروان. تداخلت الادوار في حياتي واختلطت. خلال اللقاءات والاجتماعات مع طاقم الدفاع واللجان المختلفة أقوم بدوري كمحامية مروان فقط وليس زوجته. ثم في البيت مع الاولاد لا أملك دقيقة تأمل واحدة. عندما يواجهني الاطفال, خصوصاً عرب الصغير بأسئلة يحاولون من خلالها الاطمئنان إلى والدهم أبذل قصارى جهدي لحملهم على الصبر وأقول لهم ما يقوله لي مروان: هذا هو الاحتلال وانظروا إلى رفاقكم كيف أن بعضهم فقد والده بسبب الاحتلال وفلسطين تستحق التضحية).
سائدة حمد (27/7/2002 )