كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 943 - 2004 / 9 / 1 - 12:16
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
خلال سنوات العقد الأخير من القرن العشرين شهدت الجزائر عمليات قتل وتخريب وتدمير شريرة واسعة على امتداد التراب الوطني راح ضحيتها ما يقرب من مئة ألف إنسان, عدا الجرحى والمعوقين, إضافة إلى الخسائر المادية والمالية والحضارية والهجرة الواسعة للكوادر العلمية والفنية والإبداعيين إلى خارج البلاد. وإذ استهدفت تلك العمليات الناس البسطاء في القرى والأرياف والمناطق الجبلية والسهلية, سواء أكانوا رجالاً أم نساءً, ومنهن حوامل, أم أطفالاً, ومنهم رضعاً, فإنها استهدفت بشكل خاص المثقفين, وفي مقدمتهم أساتذة الجامعة والصحفيين الديمقراطيين والنقابيين والفنانين الإبداعيين, ومنهم من عمل في مجالات الغناء والموسيقى والأدب وغيرهم. ,وكان نحر الإنسان هي طريقتهم السادية المفضلة. إلا أن هذه الجماعات الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية من أتباع العديد من المنظمات الإسلامية المتطرفة, وخاصة الجناح العسكري لفيس, وكذلك القاعدة لم تستطع تحقيق غاياتها الشريرة في تحويل الجزائر إلى دولة ظلامية قاهرة, رغم أن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعب الأمازيغي (القبائلي) كانت وما تزال مهضومة وبعيدة عن المنشود في ظل النظام السياسي القائم. وأدت هذه العمليات الإجرامية إلى خسارة الشعب الجزائري لعشرات الآلاف من المثقفين والمبدعين والاختصاصيين في العلوم المختلفة موتاً أو هجرةً, إضافة إلى تعطيل عملية التنمية والتقدم الاقتصادي.
وتعرضت مصر هي الأخرى إلى موجة من قتل المصريين والأجانب السياح. وتوجهت الهجمة بشكل خاص نحو مجموعة من أبرز المثقفين الديمقراطيين والتقدميين البارزين, كما شملت محاولات اتهام البعض الآخر بالكفر والإلحاد أو الزندقة والخروج عن الشريعة الإسلامية وما إلى ذلك من التهم الباطلة التي توجه عادة من قبل قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية والظلامية التي لا تجد لغة للحوار غير لغة الاتهام والقتل والتخريب والتدمير. ومن بين ضحاياها الذين استشهدوا الأستاذ الراحل فوده, ومن بين من لا يزال يعاني من حقدهم ودنسهم الأستاذ الدكتور الفاضل نصر حامد أبو زيد والسيدة الفاضلة والمدافعة بلا هوادة وبجرأة نادرة عن حقوق المرأة الدكتورة نوال السعداوي, علماً بأن هذه القوى تسعى إلى تسميم الأجواء السياسية والثقافية في مصر. ومن المؤسف أنها تمكنت من دفع الحكومة وأجهزة الدولة أن تتنافس أحياناً وتساير أخرى هذا النشاط الظلامي وتتخذ إجراءات غير مقبولة وغير منسجمة مع التحولات الديمقراطية الجارية في العالم, حتى أن المجتمع المصري تقهقهر عشرات السنين إلى الوراء في عدد غير قليل من الجوانب الاجتماعية, وارتد حتى على ما تحقق له في النصف الأول والربع الثالث من القرن العشرين.
وهكذا كان الأمر في إيران التي عمدت إلى خنق الثقافة الديمقراطية وأغلقت الأبواب أمام كل الكتب والمجلات الثقافية الأجنبية والعربية الحرة وتركت الباب مفتوحاً أمام كتب رجال الدين الظلاميين وغيرهم ممن ابتعدوا عن أمور الدنيا الفعلية وغاصوا في أمور لا تعني الناس إلا قليلاً, وزجوا بالمئات والآلاف من المثقفين والمدعين والمغنين والموسيقيين والتشكيليين بالسجون أو طاردوهم حتى في المنفى وأحرقوا أو دمروا أعمالهم الفنية الإبداعية. وأبعدوا كل أساتذة الجامعات المتنورين والعقلانيين منها وأحلوا محلهم أهل العمائم فقط.
وهكذا حصل في اليمن حيث تطارد المرأة وتتهم بمختلف التهم حال ظهورها على المسرح الاجتماعي والسياسي. وليس وراء ذلك سوى القوى الظلامية من الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية.
أما العراق الذي ابتلى بنظام صدام حسين الاستبدادي الظالم فكانت مشاكله قبل سقوطه من نمط آخر, إذ كان الموت فيه يلاحق الناس يومياً, سواء تحت التعذيب أم قطع الرؤوس أم الدهس .. والقبور الجماعية شاهد على ذلك. وكانت أسباب ذلك كثيرة لا حصر لها.
أما اليوم, وبعد ذهاب غمة النظام الدموي, فالعراق يعيش الظاهرة الإرهابية ذاتها, ولكن بوحشية أكبر وقسوة ودموية لا متناهية. وهذه الظاهرة الغريبة التي لا تنطلق من مواقع الحكومة, كما في السابق, ستنحسر دون أدنى ريب شريطة أن تتفاعل القوى الديمقراطية والتقدمية مع الشعب في كل مكان وتحول القضية الجارية إلى قضية الشعب كله, ورفض جعلها قضية حزب أو فئة من الناس. رغم إن الشعب سيفقد الكثير من أبنائه البررة.
تشير المعلومات المتوفرة إلى أن قوى الإرهاب قتلت حتى الآن 251 أستاذاً جامعياً بين رجل وامرأة من مختلف أنحاء العراق. ويمكن أن يستمر هذا الوضع لفترة أخرى بسبب ضعف القدرة على المواجهة وكشف أوكار المجرمين القتلة. كما تم اغتيال الكثير من الناس المثقفين الذين يمارسون شتى الفنون الإبداعية أو العاملين في الترجمة والصحافة العراقية والأجنبية . وها هي عملية الاختطاف تطال صحفياً إيطالياً وأثنين من الصحفيين الفرنسيين, وإذ قتل الأول, فأن الآخرين ما زالا ينتظران مصيرهما المجهول وهما في أيدي حفنة من المجرمين الذين لا ذمة لهم ولا ضمير ولا رادع ديني أو وازع أخلاقي. ومع ذلك نأمل ان الضغط العالمي يستطيع إنقاذهم من الطريقة الفاشية التي تمارسها هذه العصابات في قتل الناس الأبرياء.
إن المشاركين في هذه العمليات الجارية يومياً ينتمون إلى جماعات مختلفة وذات أهداف مختلفة أيضاً, رغم اتفاقهم المشترك على القيام بتلك العمليات لإشاعة الفوضى والقلق في نفوس الناس وخشيتهم من مصير مماثل أيضاً.
لقد أصبحت الفلوجة والرمادي والأنبار, وكذا مدينة الثورة في بغداد والبصرة أو الناصرية, أوكاراً آمنة لهذه الجماعات الإجرامية, ومن المؤسف أن نشير بأنها تجد الحماية والغطاء لدى بعض الأوساط الشعبية والدينية لعملياتها, بحيث أصبحت مقفلة لهم كما تشير إلى ذلك الكثير من الصحف الأجنبية والعراقية.
إن الأهداف التي تحرك هذه الجماعات تتلخص لا في إشاعة الفوضى فحسب, بل الوصول إلى ما يلي:
• إشاعة عدم الاستقرار والقلق الدائم من احتمالات تعرض الأفراد والعائلات إلى عمليات اختطاف وقتل, كما حصل لمئات العوائل والأفراد حتى الآن. وهي تسعى إلى تعطيل الحياة العامة وحرمان الإنسان من حركته الحرة والآمنة بسبب الانفلات الأمني.
• إجبار المزيد من أساتذة الجامعات العراقية والمثقفين والمبدعين على مغادرة العراق قبل أن يلتحقوا بركب المغدورين منهم. وتشير المعلومات الواردة إلى أن 1250 أستاذاً جامعياً من النساء والرجال قد تركوا العراق صوب الخارج خشية الاختطاف والابتزاز والموت ..الخ. وهي محاولة جادة لتعطيل الدراسة الجامعية والتسبب في هبوط المستوى العلمي للجامعات, خاصة وأن هذه الجماعات تقف ضد العلم والعلماء والفكر والمفكرين أصلاً.
• تهديد الشركات الأجنبية عبر عمليات الاختطاف والابتزاز والقتل والطلب منها بمغادرة العراق بهدف تعطيل عملية التنمية والبناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العراق, وبالتالي رفع حجم البطالة إلى مستويات جديدة.
• الحصول على المال الحرام من خلال عمليات الابتزاز, خاصة وأن البعض قد خضع لذلك وبدأ, كما يقال, بدفع ما يطلب منه, سواء أكان عراقياً أم أجنبياً, وسواء أكانت شركات تجارية أم بعض الحكومات.
• السيطرة على بعض المدن والتحكم فيها كما يشاءون وفرض رؤيتهم الظلامية على المجتمع, وهم بذلك ينشئون دويلات مدن داخل الحكم المركزي العراقي, كما في الفلوجة والرمادي والأنبار, مما يعرض وحدة المجتمع إلى مزيد من التمزق والمصاعب والإخفاقات. وهي عملية تهيئة للسيطرة على الحكم المركزي وفق تصوراتهم المريضة وغير المتوازنة والفاقدة لعملية تشخيص سليمة لموازين القوى في العراق والعالم.
• إجبار المرأة العراقية على الاختباء في البيت ووراء عباءتها السوداء ومنعها عملياً من ممارسة حياتها الطبيعية وحقوقها المشروعة. إضافة إلى أن قسماً من هؤلاء الأشرار يقومون بممارسة شتى الأعمال غير الأخلاقية مع المختطفات والمختطفين من النساء والبنات والأولاد.
إن هذه الجرائم البشعة ليست من أخلاقيات الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية السليمة والعقلانية, كما إنها ليست من أخلاقيات العرب أو المسلمين المؤمنين حقا من البلدان الأخرىً. ولكنها تشكل, كما نلاحظ, جزء عضوياً من أخلاقيات العصابات العاملة حالياً في العراق. ولم تكن ممارسات النظام صدام حسين بعيدة عن ذلك, ولا يمكن أن تكون ممارسات فلوله تختلف عن ذلك. وهي جزء من أخلاقيات عصابات الجريمة المنظمة التي تعمل جاهدة على اختطاف الناس وابتزاز العائلات أو القيام بالقتل مقابل مبالغ مدفوعة سلفاً أو اختطاف لغرض انتزاع أجزاء معينة من جسم الإنسان وبيعها في العراق أو خارجه. كما إنها من أخلاقيات تلك القوى الظلامية التي تدعي الإيمان بالإسلام ولكنها بعيدة كل البعد عن الإسلام الحنيف.
إن اكتشاف 25 جثة متعفنة في إحدى محاكم مقتدى الصدر تجسد هذه الحقيقة. ويبدو لي أن هذه ليست سوى واحدة من مجازر يمكن أن تكتشف في النجف أو في مدنٍ أخرى قام بها من ادعى الدفاع عن الشعب العراقي. لا علم لي بمن يكون هؤلاء, ولكن لا بد من التحري عن الناس المفقودين خلال الأشهر العشرة المنصرمة, بغض النظر عن الأشخاص الذي قاموا بقتلهم, إذ أن هذا القتل ليس فقط خارج القانون, بل وخارج الأعراف والتقاليد والخلق الإنساني الحضاري, وأن السكوت عنه يعتبر خروجاً على التزامات الحكومة وفق قانون الإدارة المؤقت.
أشير مجدداً على وجود احتمال بأن يفقد مقتدى الصدر سيطرته على أتباعه, لأن أتباعه لم يكونوا متجانسين, بل كانوا خليطاً عجيباً من الناس, فمنهم من هو بعثي من فلول النظام والراغبين في الانتقام, ومنهم من هو من الحرس الثوري الإيراني, ومنهم من هو مجرم وقاتل وسارق ونهاب, ومنهم من هو مندس لقوى إرهابية مختلفة من القاعدة وغيرها, ومنهم من هو مؤمن حقاً بوالد مقتدى الصدر الراحل ويعتقد بأن الابن لا يختلف عن الأب, ..الخ.
إن الشعب العراقي برئ من هؤلاء جميعاً. ولكن هذا لا يكفي, بل يفترض أن ينتفض الشعب سلمياً ضد هذه الجماعات, أن يسند الحكومة في مكافحتها للإرهاب والإرهابيين أياً كان الستار الذي يتسترون به والشعار الذي يرفعونه. إن المجتمع العراقي هو المسئول عن مواجهة هذه القوى والتعاون الكامل مع الحكومة المؤقتة للتصدي للإعمال الشريرة الموجهة ضد المجتمع بالأساس.
إن على الشعب إخراج هؤلاء الأوباش من جحورهم ووضعهم في السجن ومحاكمتهم على أعمالهم الإجرامية, وفي الوقت نفسه التسامح مع المغرر بهم أو الذين انساقوا وراء هذه الجماعات لأسباب مختلفة ولكنهم لم يرتكبوا الجرائم البشعة, كما في مجزرة أل 25 شخصاً في المحكمة الشرعية أو ما يماثلها أو في مجازر قتل الشرطة العراقية والحرس الوطني العراقي.
إن الشعب هو المسئول عن الدفاع عن نفسه, والحكومة هي التي يفترض فيها تنظيم وتعبئة الشعب وزجه ضد هذه العصابات الخائبة. إن من العار أن نسكت على ذلك ونتحمل كل هذه الجرائم البشعة.
برلين في 30/08/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟