|
في الخصوصية والإصلاح
محمد فاضل فطوم
الحوار المتمدن-العدد: 943 - 2004 / 9 / 1 - 12:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تريد الولايات المتحدة وأوروبا إطلاق عملية إصلاح في المنطقة بطرائق متباينة وبأهداف متقاربة.. فأوروبا تطلب التنسيق والعقلانية والولايات المتحدة تتبع أسلوباً تقريرياً وأوامرياً. إن الإصلاح الشامل والجذري مصلحة ملحة ومزمنة لشعوب المنطقة لإطلاق قوى التطور والتحضير لحل جملة مسائل أساسية لعيش كريم ودور مناسب يسهم في بناء الحضارة العالمية لكنه عطّل وأجّل وأهمل عقود طويلة لأنه كان حاجة داخلية لا تتطلبها المصالح الخارجية, وهذه المرة وضع على عجل لاصطدام المصالح الأمريكية والأوروبية بالآليات السياسية والاقتصادية المقيتة التي تعيق التوسع الضروري للسوق الرأسمالية في عصر العولمة والقطب الواحد. 1. فمن الصحيح أن الإصلاح هذه المرة المطلوب من الغرب أكثر عمقاً وشمولاً وفيه فوائد لا تنكر حيث أصبح تدخل الرأي العام الغربي الذي بدأ يطّلع أكثر فأكثر على ما تعانيه المنطقة من عسف وجور لا إنساني يشكّل لطخة عار للإنسانية برمتها للتجاوزات المريعة الثابتة لكل حقوق البشر وبما يشكّل صدمة هائلة وإهانة كبرى للإنسان خليقة الله على الأرض الذي يعامل في هذه البلاد كما تعامل الحشرات الضارة من قبل حكوماته ويعطى درجة أدنى بكثير من حيث الأهمية من الحيوانات حسب سلّم القيم الغربي. ولذا فإن أول ما يجب أن يطاله الإصلاح هي السياسة الغربية المزمنة في دعمها لحكومات أقامتها ودعمتها عقود طويلة غاضة النظر عما تفعله بشعوبها مكتفية بقيامها بالوظائف الخارجية المنسجمة مع السياسات الغربية عامة والآن الأمريكية خاصة. وهكذا فإن مجمل السياسات التي أدت إلى تأييد هذه الأنظمة وإلى المساعدات الجلّى المقدمة لها والتي أدت إلى إبادة معارضيها وطحن آليات التغيير وإرادة الشعوب هي التي تحتاج إلى المراجعة والإصلاح وقبل كل شيء. كذلك المنطلق الغربي في النظر إلى المنطقة المؤسس على إعطائها أهمية كبرى أساسها ثرواتها وميزاتها الاستراتيجية وعلى الخوف من أن تصبح هذه الثروات وتلك الميزات قوة فعالة وهامة وذات دور مرموق على نطاق العالم فيما لو ملكها أصحابها. ووظفوها لخدمتهم ولخدمة البشرية قاطبة. من هنا كانت أهمية الثروة والموقع تقتضي إلغاء أو تهميش دور الشعوب وإطلاق يد النواطير والحراس "أي الحكومة المحلية" لتحرسها من شعوبها مقابل الخدمات التي وردت سابقاً. إن الخوف الغربي من العرب يؤسس على تاريخ أصبح الآن بحاجة إلى مراجعة موضوعية وإنسانية تحكمها الرغبة المطلقة في أن تعيش جميع الشعوب متمتعة بحقوقها في ظل السلام والديمقراطية والعدالة. فمن العجيب أن تكون الرغبة الغربية في توحيد ألمانيا وتهديم جدار برلين وهي رغبة منسجمة مع ما هو طبيعي "أمة واحدة بدولة واحدة" هي نفشها الرغبة المحمومة والشرسة في سياساتها الممعنة في التقسيم والشرذمة في المنطقة. وإذا كانت هذه السياسات الغربية والأمريكية بحاجة إلى إصلاح ومراجعة بالمنطلقات أولاً وبنتائج هذه السياسات المرتكزة على أيديولوجيا صليبية مبطنة في أوروبا ومعلنة في أمريكا فإن الحكومات المحلية وممارساتها التي لم يكشف منها للرأي العام العالمي حتى في عراق صدّام وما بعده إلا القليل يجب أن تتعرض للإصلاح الجذري. إن شعوب المنطقة تعتبر أن موضوع الحكومات الحالية هو موضوع غربي بحت تتحمل الولايات المتحدة بالتحديد مسؤولية إقامة وديمومة حكومات مجرمة ومهينة كهذه وحتى تتكشف الأوراق السرية والوثائق الوقائعية التي تؤكد تلك المسؤولية, حتى ذلك الحين نريد كجزء من الإصلاح رفع الغطاء والحماية عنها ورفع الحظر الإعلامي والقانوني والذي يمنع كشف جرائمها السابقة واللاحقة وتشكيل محكمة إنسانية بتصرف الأمم المتحدة ومستقلة عن جميع الحكومات ومستندة إلى شرعة حقوق الإنسان يستطيع فيها مواطنو هذه الدول إقامة الدعاوى ضد كل أعمال خرق الحقوق الإنسانية وأن تستطيع هذه المحاكم مقاضاة ومطاردة المجرمين من الحكام الحاليين والسابقين بحيث يكون هناك جهاز قضاء سياسي وجنائي عالمي. 2. أما الخصوصية التي تتذرع بها الحكومات المحلية لتجنب الإصلاح وإعاقته فأساسها مصلحة هذه الحكومات في البقاء والاستمرار وهي فريدة في ممارساتها وأساس وجودها الذي يعتمد على عتلتين تشكلان مزدوجة الفعل الضار بالحضارة والمعادي للإنسان. العتلة الأولى هي القمع الوحشي غير المبرر وغير المشروع وهو مطلق الحدود حيث لا قيد على الطغمة الحاكمة التي تخترع قوانينها لتتلاءم مع جرائمها وتجدد تلك القوانين بتطور أنواع الجرائم المرتكبة. وبذلك يستطيع الحاكم قتل وسجن واعتقال معارضيه وغيرهم وأحياناً خدمه وأعوانه ومما يدعو للعجب الشديد صدور أحكام تعسفية وبمحاكم ميدانية أو عسكرية أو عرفية خاصة وبدون أي أصول للتقاضي وحتى بدون دلائل تخمينية أو وقائعية على التهم الموجهة للضحايا وبعد صدور تلك الأحكام يعدم من حكم بالإعدام فوراً ويبقى إلى الأبد من حكم بالبراءة قابعاً في السجون. إلى جانب وجود الأحداث ومعاملتهم كمجرمين سياسيين حيث يقبعون في السجون عقوداً من السنين بعد صدور حكم ببراءتهم من المحاكم الخاصة, إن ذلك القمع في مساحته وأبعاده ونوعيته يأخذ شكلاً خاصاً من المرض السياسي يمكن إطلاق صفة السادية السياسية عليه. كذلك تفتقد تلك الحكومات للحس العلمي في السياسة نتيجة استنادها إلى الدعم الخارجي فتسقط كل أهمية واعتبار للقوى الداخلية فنجدها عند تعرضها لأعمال دينية متطرفة تقوم باعتقال واسع لليمين واليسار والوسط وعلى البيعة قطاعات واسعة من المواطنين الذين ليس لهم علاقة بالسياسة أصلاً. إن هذا القمع هو أول هدف للإصلاح.. وأول إجراء لإصلاحه هو تحريمه دولياً وملاحقة مرتكبيه وإفساح المجال مع التسهيلات اللازمة لضحاياه لتمكينهم من إقامة الدعاوى على جلاديهم. إن ذلك يتطلب سحب اعتراف الدول بالحكومات التي تمارس القمع واعتماد مبادئ تشكل أساساً أولياً لمشروعية أي حكومة وأن يكون الالتزام ببنود اللائحة العالمية لحقوق الإنسان هو الحد الأدنى لمشروعية أي حكومة. وكمتمم لذلك أن تنص القوانين المحلية صراحةً على اعتبار الحاكم وطغمته مواطنين خاضعين للقانون وان الآليات القانونية تطاله فيما إذا تعدى حدود المهمات التي تكلفه مؤسسات الحكم بها, إنه مع الأسف الشديد وجود حلقة مفرغة يرتكز عليها تأييد القمع هذه الحلقة مركزها أن الحاكم لا ينتخب من قبل المؤسسات بل هو يختارها ولا يكون مسؤولاً أمامها بل هي التي تجهد نفسها لإرضائه, إن كسر هذه الحلقة يستلزم عدم الاعتراف بمؤسسات يختارها الحاكم لتمثل الشعب وهي فعلاً تمثل رغبته. وإن شعوب المنطقة بحاجة ماسة إلى مؤسسات يكون الحاكم مسؤولاً أمامها وأن تخضع سياساته للمساءلة والمحاسبة والتقييم وأن يكون مصيره مرتبطاً بقراراتها لا العكس. 3.الركيزة الأخرى لخصوصيات الحكومات المحلية هي الفساد. وهو فساد خاص وفريد فعلاً وقد استشرى بطريقة مريعة منذ السبعينات في القرن الماضي وحتى الآن.. وهو مصلحة الأنظمة وقانونها العملي وعامل ديمومتها واستقرارها. إن المنطلق الفعلي للفساد يرتكز على اعتبار السلطة أداة للسطو على الثروة الاجتماعية ولنهبها وأنها جزء من الملكية المطلقة لحق الحاكم بالتصرف بالناس وثروتهم وأنه هو الذي ينعم على شعبه بالعطاء كلٌّ حسب ولائه ودرجة نفاقه.. وهكذا فإن السلطة الحاكمة التي تعتمد على الخارج لاغتصاب الحكم قامت بتعطيل أي محاولة لصيرورة ديمقراطية أو قانونية وأخضعت ميزانية الدولة والثروة الوطنية لما سمي بالمصلحة العليا للبلاد ومتطلبات الدفاع التي ترتكز إلى الحسابات السرية وشيئاً فشيئاً أصبحت جميع القطاعات الاقتصادية خاضعة لنفس الطريقة وبذلك تحولت ثروة الشعب إلى أرصدة شخصية وأصبحت المراكز والمسؤوليات السياسية وجزئياً الإدارية مصدراً للثراء الفاحش ومن النادر أن تجد مسؤولاً في السلطة السياسية لا يمتلك ثروات طائلة يخفيها بالتوزيع الخادع على أفراد عائلته ومحظياته أو تحت حسابات سرية مختلفة. إن هذا الفساد وهذا السطو على الثروة الاجتماعية يؤدي بداهةً إلى أن تكون الوسيلة الوحيدة للتخاطب والتعامل مع الشعب وحتى مع المؤسسات الواهية.. وهي القمع.. وتحريم التساؤل والمساءلة.. وخلق هالة من القدسية بالإرهاب على مغتصبي السلطات. لقد حاول بعض الحكام لعدة مرات تحديد الشطط في نهب بعض المتسلطين فرفعت شعارات "المحاسبة" ومن أين لك هذا؟ وشكلت أيضاً محاكم طوارئ اقتصادية.. وكانت النتائج مذهلة.. شيء كاريكاتيري من الميكيافلية المبتذلة حيث قدم بعض المسؤولين كضحايا لإشفاء غليل الشعب وللتدليل على نظافة الغارقين في الفساد. وكنتيجة طبيعية لما تقدم أصبح الفساد أسلوباً مشروعاً لتحقيق الثروة وحتى للعيش العادي. إن الإصلاح يقتضي اجتثاث مولدي الفساد, فهم النبع الذي يعيد إنتاج جميع الطرائق غير المشروعة لتكوين الثروات. ومن المهم التنويه إلى أن الطرائق غير المشروعة لجمع الثروة أدت إلى تدمير الأخلاق العامة والعلاقات الإنسانية بسبب طرائق صرفها على الملذات غير المشروعة والمرضية وعلى مظاهر الأبهة والفخفخة وأدى إلى تسخير آلة الدولة الخدمية لإرضاء متطلبات المتسلطين وزبانيتهم وإلى إهمال خدمة الصناعة الوطنية ووضعها في ظروف صعبة جداً بحيث لا تتمكن من الوجود والاستمرار إلا بدفع الخوات المجحفة أو بالقبول الإجباري بالتشارك مع المتنفذين والمتسلطين. وفي إصلاح الفساد هذا فإن العدل يقتضي إدراج تلك الثروات مع بنود عمليات غسل الأموال.. ولكن هذه المرة بغاية إعادتها إلى أصحابها ومنتجيها ومن الممكن أيضاً تمكين الهيئات الدولية من الكشف عن الحسابات السرية الخيالية للمسؤولين الأثرياء والذين ليس لديهم مصدر للثروة سوى السلطة. إن أي برنامج للإصلاح يجب أن يحدد موضوع الإصلاح ومداه ومساحته وكذلك قوى الإصلاح ويؤسس لبرنامج محكوم بمدة زمنية هدفه اجتثاث أسس القمع والفساد. ولكي لا نكون حالمين يجب موائمة الخصوصية الوطنية مع العتلة الدولية للإصلاح بشكل يصبح العالمي رافعة للوطني بما يضمن أن تكون الخصوصية تعني الحقوق المشروعة لكل شعب بالتصرف بثرواته وأن يقرر سياساته ونظامه مراعياً التآخي بين الخاص والعام والموائمة بينهما. إن الديمقراطية الشرط المحدد لأي إصلاح وبدونها سيظل الإصلاح رغبة خارجية كما هو القمع والاحتلال.
#محمد_فاضل_فطوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المافيا الإيطالية تثير رعبا برسالة رأس حصان مقطوع وبقرة حامل
...
-
مفاوضات -كوب 29- للمناخ في باكو تتواصل وسط احتجاجات لزيادة ت
...
-
إيران ـ -عيادة تجميل اجتماعية- لترهيب الرافضات لقواعد اللباس
...
-
-فص ملح وذاب-.. ازدياد ضحايا الاختفاء المفاجئ في العلاقات
-
موسكو تستنكر تجاهل -اليونيسكو- مقتل الصحفيين الروس والتضييق
...
-
وسائل إعلام أوكرانية: انفجارات في كييف ومقاطعة سومي
-
مباشر: قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في
...
-
كوب 29: اتفاق على تقديم 300 مليار دولار سنويا لتمويل العمل ا
...
-
مئات آلاف الإسرائيليين بالملاجئ والاحتلال ينذر بلدات لبنانية
...
-
انفجارات في كييف وفرنسا تتخذ قرارا يستفز روسيا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|