أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فرات المحسن - في انتظار دكتاتورية ولاية الفقيه















المزيد.....


في انتظار دكتاتورية ولاية الفقيه


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 942 - 2004 / 8 / 31 - 11:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المشروع الديني
في انتظار دكتاتورية ولاية الفقيه

فرات المحسن

يقول أبو حامد الغزالي:
(( من لم تكن بصيرة عقله نافذة ، فلا تعلق به من الدين إلا قشوره ، بل خيارته وأمثلته ، دون لبابه وحقيقته.فلا تدرك العلوم الشرعية ،إلا بالعلوم العقلية ))

ليس من المتوقع أن تحل مشكلة المليشيات المسلحة بالسهولة التي ترتجيها حكومة السيد أياد علاوي المسنودة من قبل قوات الاحتلال ولن تكون معضلة النجف بعد انفراجها نهاية المطاف ويبدوا أن أوار المعارك في بدايته ولم تقترب بعد ساعة حسم المعركة الفاصلة .
الأصوليون في العربية السعودية وحلفائهم من القوميين العرب ،كذلك الشيعة الصفويون في إيران وأذرعهم العراقية يمشون وئيدا ولكن وقع خطاهم المتخبطة لئيمة وقاسية ومشبعة بالدم والقسوة، والأمريكيون بثقل أحذية عساكرهم وسرفات دباباتهم ودهائهم ومكرهم وقوتهم الغاشمة يمسكون بخناق العراق وأهله ويخضعونه والمنطقة لاختباراتهم ونظرياتهم وتجاربهم القاتلة في انتظار النهاية المرتقبة التي خططوا لها طويلا .سوف تفصح الأيام أو الشهور القادمة حقيقة الصراع وملامحه الخفية البشعة والتي أغرقت العراق لحد الآن ببحور من دم .المشروع الأمريكي بكافة تجلياته وأهدافه المضمرة والظاهرة في مواجهة مشروع الدولة الثيوقراطية (الدينية ) الذي تنادي به القوى السياسية الإسلامية العراقية وحلفائها من الأصوليين السنة والشيعة في البلدان المجاورة للعراق.ويبدوا أن المشاريع الوطنية ورجالاتها قد همشت رؤاهم وبرامجهم، أو انزوت مشاريعهم بعيدا مشتتة مرتبكة وهم اليوم يرقبون المشهد بتوجس وحذر شديدين دون المقدرة على بلورة برنامج موحد يخرج العراق من جحيمه ويقارب هموم الناس وعذاباتهم اليومية. والبعض بذل شيء من الجهود في محاولات بائسة يائسة لا تمتلك القناعة بقدراتها أو تأثيرها وتهشمت جهوده وتمنياته بالتهدئة والهدنة فوق صخرة عناد وتصميم المشروعين على تصعيد الموقف وحسمه بلغة السلاح. وبين كفتي الصراع هذه يفقد الكثير من العراقيين بوصلة الخيار وتصنع لهم مقدراتهم في دورة خراب جديدة وكأنما قدرهم وسلبيتهم تضعهم دائما بين قطبي رحى لئيمة لا خيار ثالث بينهما .

لا تقتصر ثنائية هذه المواجهة بين جماعة مقتدى الصدر والمشروع الأمريكي ولن تنتهي عند حدودهما .وإنما تمتد داخل تكوينات وأحزاب سياسية متأسلمة عراقية من مختلف المذاهب والمشارب. ولكن مجموعة الصدر تعتبر اليوم أكثر القوى والفعاليات إفصاحا وعلانية لمنهجها ورؤيتها لما ترغب به من مآل لمشهد الدولة العراقية، وهي لا تخفي مشروعها المنشود ، وإنما تعلن دائما وبشكل لا لبس فيه عن رغبتها الجامحة واليقينية في تكوين الدولة الدينية ذات الأغلبية الشيعية وفق مناهج وتشريعات المرجع الديني المرحوم محمد صادق الصدر وخليفته السيد الحائري وهو رجل دين أيراني من المحافظين المتشددين.وتنفذ تلك التوجيهات من خلال حشود جماهير تتبع تعليمات مقتدى الصدر ورجال يرتبطون به ينتشرون في المدن العراقية .وتقوم تلك المجاميع ومنذ سقوط حكم حزب البعث الفاشي بالعديد من الفعاليات لتعميم مفهومها عن مستقبل العملية السياسية في العراق .وهناك فعل يومي تمارسه بين الأوساط الاجتماعية وداخل مؤسسات الدولة وفي مؤسسات أكاديمية وعلمية ، يفرض من خلاله على العراقيين الانخراط في هذا المشروع عبر الإقناع والإعانات والترغيب أو الترويع والترهيب ويصل في بعض الأحيان الى التصفيات الجسدية في حالة الممانعة، ويظهر ذلك جليا داخل مؤسسات الدولة وصفوف الدراسة في المدارس والجامعات على مختلف مراحلها حيث تحولت أكثر المؤسسات التربوية والأكاديمية لحقول صراع يومي لتنفيذ تلك الإرادة وتأسيس تمهيدي لقبول أولي بمرحلة الدولة الدينية المقبلة في حالة فشل المشروع الأمريكي وخروج الاحتلال. ولم تخف حركة مقتدى الصدر طموحاتها واستعداداتها في مواجهة المشروع الأمريكي ،حيث أعلنت عن تشكيل ميليشياتها (جيش المهدي ) وكذلك أعلنت حلفها الستراتيجي مع منظمة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني وهما العدوان اللدودان للولايات المتحدة وشكلت قيادات لإدارة بعض المؤسسات الحكومية أو تكوين بدائل عنها.

تشارك قوى سياسية دينية شيعية أخرى بما يشبه تلك الإجراءات بفاعلية واضحة، و تسير في ذات الاتجاه بالرغم من وجود بعض الاختلافات في الرؤية لطبيعة وشكل الدولة الدينية التي يراد تشكيلها . وتتوافق تلك الإجراءات مع رغبة حقيقية تتقدم باقي الأهداف داخل تلك القوى لتنضج آليات العمل الباحثة عن طريق لبناء نموذج تلك الدولة وصيرورتها، وتتكئ في فعلها هذا على حلف ستراتيجي غير معلن وغائم الملامح مع رجالات الدولة الدينية الإيرانية. ولذا يمكن القول أن جميع القوى السياسية (الدينية) العراقية تلتقي في ذات الستراتيجية الداعية للدولة الدينية ولكنها تختلف في التكتيك ويمكن التأكيد على أن أحد أهم أسباب الاختلاف في الأداء والفعل يأتي وفق خلفية الخلاف الشخصي والتنافس السياسي.
قوى وفعاليات الإسلام السياسي تراقب وتدقق بوعي كامل خطورة المشروع الأمريكي وتعتبر نجاحه ضربة قاصمة لمشاريعها وتوجهاتها السياسية .ولذا فهي تعمل على محورين متجاورين. الأول مشاركة بعضها في العملية السياسية الجارية اليوم من أجل الاستفادة القصوى من الأجواء السياسية المفتوحة ليتسنى لها بناء قواعد مؤثرة في الساحة السياسية العراقية ومن ثم تهيئة المناخ لنماذج إدارية تستوعب هامش الأعداد للدولة القادمة إما المحور الثاني فيتمثل بالعمل في الخفاء وبأناة لوضع المحتل في المأزق الخانق الذي يفضل معه الرحيل وتسليم مؤسسات الدولة بعد إعادة تكوينها لإداريي تلك الأحزاب وأنصارهم وفي هذا فهي تستفيد قدر الإمكان من علاقاتها المتشعبة والسرية بدول الجوار وقوى خارجية أخرى لمدها بالعون لإنجاح مساعيها .
((حذر عضو المكتب السياسي لحزب الدعوة الإسلامية جواد المالكي من انه في حال نجاح المشروع الأميركي في العراق فإنه سيتمدد الى باقي دول الجوار، داعيا الى إجهاض هذا التوجه "لئلا تنجح الخطوة الأولى في العراق لهذا المشروع الكبير للهيمنة".
وقال المالكي في حديث لـجريدة "المستقبل" إن "احتلال العراق الذي يشكل جزءا حيويا من المنطقة، ونجاح المشروع الأميركي فيه، يعني بداية تمدد لهذا المشروع الى باقي الدول المجاورة"، معتبرا ان "عملية إجهاض هذا المشروع أو استنزافه في العراق أصبحت مطلبا لكل الدول الإقليمية لئلا تنجح الخطوة الأولي لهذا المشروع الكبير للهيمنة".))

يشكل نموذج التصريح السالف حقيقة الرؤية السياسية للقوى الإسلامية الشيعية ودورها في ما يجري من صراعات وتبادل أدوار بين كتلها وقواها وعمليات الشد والإرخاء التي تقوم بها لمقارعة وإفشال المشروع الأمريكي والتمهيد للدولة الدينية المزمع بنائها والتي تتوافق مع شروط البناء الفكري لرجالات القيادة والتوجيه المسيطرة على الرعية ويعمم ذك وفق منهج ثابت يتم عبره تفكيك الفعل الثقافي والاجتماعي والسياسي واختزال مؤسسات الدولة والمجتمع المدني ومفهوم المواطنة بحصر الصراع بين أشخاص (مراجع وأئمة ووكلاء ) مدججين بأيدلوجية سياسية توصف قسرا (بالدينية) ومشروع أمريكي لا ينفك معدوه في إبرازه وبلورته على أرض الواقع .لذا يتم اليوم تحجيم أي صراعات سياسية أخرى تؤشر للخلاف والتقاطع بين طبيعة الاحتلال ومشروعه الاستعماري وبين مشروع وطني لدولة مستقلة ذات سيادة وبنموذج ديمقراطي تعددي دستوري علماني .وفي مسعاها هذا تحاول كسب الصراع بإحالته لمفهوم ديني مبسط يستند لجماهير تفتقر الحصافة السياسية والوعي الوطني.
تنزع باقي الأحزاب والكتل السياسية الدينية السنية أيضا نحو تفضيل تلك الثنائية وحصر الصراع بين تشكيل الدولة الدينية ـ العشائرية والمشروع الأمريكي، لاغية من برامجها أي مفهوم للوطن الجامع أو انبعاث المجتمع على أسس المواطنة والتعددية السياسية والإنسانية والحداثة والانفتاح والحوار الحضاري.ويتجسد ذلك في الصراع اليومي المترافق بلغة السلاح الذي تفضله مجاميع مرتبطة بنظريات بن تيمية وبن لادن وغيره من منظري و أمراء وشيوخ الحرب الأصوليين، وتتمثل قوتهم اليوم بالسلفيين القادمين من خارج الحدود و مؤسسات وتشكيلات أهل السنة في الداخل والتي ظهرت بعد انهيار الدكتاتورية كرد فعل على إجراءات صدرت عن قوة الاحتلال أو الفعاليات الشيعية، وهي لا تخفي حنينها للعهد البائد أو إعلان تحالفاتها مع فلول حزب البعث الداعية لعودة الدكتاتورية .ويمكن القول كذلك أن ظهور ذلك الحلف جاء وفق خيار مواجهة وقائع استجدت في الساحة السياسية العراقية أبعدت شرائح كثيرة من أهل السنة وشيوخهم عن مواقع القيادة والوجاهة ،ممن كانوا يمثلون الحاضنة التي تشرع لحكم صدام وتبرر له مواقفه الطائفية والقومية الخاطئة وتعدياته ضد الأخريين من الطوائف والقوميات غير العربية وغير السنية. وهذه الأحزاب والكتل السنية تناضل مثل باقي القوى السياسية الدينية من أجل تعميم نظرية الإقتداء (بالسلف ) في نمط الحياة والسلوك الشخصي. وتلاقي هذه النظرية أجواء مشجعة وأرضيات جاهزة في المجتمعات الفقيرة المتخلفة (التي لا تزال تحتفظ بطباع بداوتها) والتي تشيع بين أوساطها فكرة (الدين هو الحل والحكم لله) أي بمعنى الاكتفاء والاطمئنان والرضا بما يقسمه ويمنحه الخالق ووكلاءه .وتحت يافطة تلك الشعارات تخفى الكثير من المشاريع السياسية الشمولية والقسرية.
من السهولة تفسير تحشد أعداد كبيرة من عامة الناس وراء تلك العصبيات. فالعقل الديني الشعبي عقل متحيز دوغمائي محافظ وتقليدي يتمسك بالتقاليد والعادات لتصبح جزء من محاور عقله العقائدي المتحيز، وهو يفضل الفعل التسلطي الشمولي باعتبار مصادره نصوص ربانية ومفاهيم مجتمعية وتقاليد مشتركة وكل خروج عن تلك النصوص والمشتركات يعد كفرا أو جريمة توجب العقوبة .وهذه المفاهيم تجد لها صدا فاعلا بين الأوساط الفلاحية والبدوية الفقيرة غير المتعلمة وكذلك داخل أوساط العاطلين عن العمل ممن تعرضوا للتهميش والإقصاء والتغريب تحت سلطة منعت عنهم مصادر المعرفة وجعلتهم عبيد في مؤسساتها لفترات زمنية طويلة.
السياسي الديني (الشعبي ) لا يريد أن يكون هناك دورا للعلم والمعرفة والحوار بقدر ما تساعده تلك الأدوات في السيطرة الروحية على المشايعين والتابعين وتسييرهم لخدمة الطائفة ومشروع دولتها .وانطفاء الثقافة والتجهيل واجتثاث الموروث الوطني لصالح الديني والطائفي. وتغيب العقل والنقد والمقارنة سمات تشترك فيها عموم المشاريع السياسية الدينية وغيرها من المشاريع المتشظية .
رغم أن جميع الأديان تدعوا بمثالية مفرطة على توكيد التآخي والتراحم والتواصل والتحاور والتعقل والتفكير والبحث والمعرفة وعدم الإكراه في الدين فأن (الدين الشعبي و المسيس) الذي نتج عن مزاوجة منحرفة بين النصوص الدينية والعادات والتقاليد والأمزجة الشخصية النفعية للمفسرين وأصحاب السلطة والجاه، قد سبب الكثير من النكبات وعمم انحرافات خطيرة وأوجد مرتكزات ترسخ مناهج وأوضاع لإدامة الجهل والفقر والخرافة باعتبارها الحاويات الطبيعية والمنطقية لنمو وازدهار معادلات الأيمان في مواجهة ما تسميه القوى السياسية الدينية باطل العلم والمعرفة الذي يخرج المؤمن عن طور الأيمان والعلاقة الروحية بالدين والرب.وساعدت كل تلك التراكمات الناتجة عن ذلك الزواج النفعي والقسري على ظهور ونمو عدة أشكال من الديانات (الطوائف الدينية ) داخل الديانة الواحدة .وكل تلك الديانات الطائفية تتناسب وحاضناتها الطبيعية اجتماعيا واقتصاديا وحسب قربها وبعدها عن المدينة والمناطق الحضرية والعلاقة بالسلطة والمال والقوة لتبدوا شكلا مقبولا لمشايعيها والمنتفعين منها.وتحاول تلك الطوائف وواجهاتها من أحزاب سياسية إسناد مشروعيتها الى أسس من الدين، حيث تتقدم رؤيتها الدينية كغطاء لرؤيتها السياسية ( الحاكمية لله ، كتاب الله ، الشريعة والسنة، المروي من الحديث والقص عن السلف والأئمة ) في عملية تمويه بارعة وبانتقائية فائقة الدقة لنصوص تتوافق ووجهات النظر السياسية للطائفة وحزبها مما يحتم على الآخرين تلمس الحذر في مناقشة أسسها واستراتيجياتها النظرية تحاشيا من الوقوع في المحظور والمحذور وخوفا من أن يحال الجدل الى الخالق والأيمان والحلال والحرام ثم يسحب نحو التكفير والإقصاء .وتلك الطوائف في تحيزها وانغلاقها الفكري تؤكد فكرها الشمولي ورغبتها في بناء نموذجها الدكتاتوري الاقصائي ولذا فأنها تبدأ بالعمل على تخطئة ومن ثم تكفير غيرها من الطوائف والملل. وحين ننظر لهذه الإشكالية أو الالتباس بعين فاحصة فأننا نبحث عن صدقية شعارات تلك الأحزاب والفعاليات السياسية الدينية وحقيقة علاقتها بالوطن بعدما أفصحت عن دعواتها لانفصال الجنوب وقبلها تشكيل الوزارة (المقتدية) وإنشاء محاكمها الخاصة وتعدياتها على العراقيين من أصحاب الديانات الأخرى ودعواتها لدفع التعويضات الى إيران وتفجير أنابيب النفط وسرقة أموال الدولة واعتبار رجال السلطة في إيران (المرجعية) في تنفيذ العمل وإعطاء الحلول وتفسير الارتباط بالوطن والدفاع عن تدخلهم في الشأن العراقي.نحاول أيضا أن نتلمس حقيقة مفاهيمها عن الوطنية والمواطن وحقه في الديمقراطية وبناء مؤسسات المجتمع المدني دون وصاية وضغوط وهذا بدوره يستدعي النظر في أهمية ومشروعية التعددية في المواقف والآراء والمنابر الفكرية وحرية القول والضمير ولذا يحق القول أن مشروعية تلك الأسئلة تجعلنا ندقق في حالة الفصام أو التطابق التي تقترب أو تبتعد فيها الأحزاب السياسية الدينية عن تلك المفاهيم .ويمكن طرح السؤال بالشكل المباشر:
هل الأحزاب السياسية ذات الصبغة الدينية.. ديمقراطية؟ ـ ما هي مديات ديمقراطيتها أن وجدت ؟؟.
بشكل قاطع يمكن القول أن لا علاقة لنظم الأحزاب الدينية الداخلية وهيئاتها القيادية والقاعدية بأية أعراف ديمقراطية أو تعددية فكرية وهذا ما يؤشره انغلاق فسحة الحوار الداخلي وتقديس الشخصيات وانعدام عقد المؤتمرات الحزبية ،ولذا من المهم ترك هذا الجانب والبحث في الإشكاليات النظرية والفلسفية التي تربط تلك الأحزاب بالمحيط.
تتبنى أغلب القوى السياسية الدينية موقفا متشددا من القوى العلمانية وترفض بقوة مفاهيم وقيم الحداثة والعلمنة دون تدقيق حول حقيقتهما وصيرورتهما كضرورات حيوية ووقائع موضوعية توظف التطور العلمي والتقنيات الحديثة وأشكال البحث المنهجي الأكاديمي لصالح خدمة البشرية وتطور المجتمعات .وتنظر تلك القوى لهذين الشكلين بمفاهيم متصلبة وشكوك وريبة كبيرين وتعدهما نمطين يحاول مروجوها زعزعة الكتل المجتمعية المتراصة وتهشيم المجتمعات الدينية المتماسكة وجلب الكفر والفساد والطعون بالخالق والسلوك الديني.ولذا فأن أولى مهام الحركات السياسية الدينية هو حصر مفهوم العلمانية بمرادف الكفر والزندقة ومحاولة غلق مفهوم مؤسسات المجتمع المدني وحصره بمجتمع النخبة أو الطائفة لتضيق الخيارات و الوقوف في وجه من يخرج عن القانون والسنن التي شرعتها تلك الطوائف والنخب.ولا يقصر الأمر في النظرة القاصرة لمفهوم العلمنة والمجتمع المدني والحريات الشخصية وحقوق المرأة وإنما تلجأ القوى الدينية الى استخدام عبارات مضللة حول خيار الديمقراطية حيث يلوح كثير من أقطاب تلك الأحزاب والقوى بضرورة أجراء الانتخابات الديمقراطية وأن الديمقراطية هي خيار الأمة، في ذات الوقت الذي يختزل المفهوم بالمعنى المبيت الذي يعد الديمقراطية وسيلة بحد ذاتها وليس غاية. وهذه المناورة في القبول بالديمقراطية تكون جزأ من رفع المسؤولية في الوقت الحاضر والتمويه على محاولات صناعة الدكتاتورية الدينية مستقبلا، عبر القبول بصناديق الاقتراع كحل مقبول مبدئيا للوصول لسدة الحكم في مجتمع غابت عنه ملامح أي متنفس ديمقراطي عبر عقود طويلة وتحت ظرف خراب اقتصادي وسياسي وترويع وحشي يومي.وتلك القوى في دعواتها تلك تستند الى جماهير كبيرة محبطة مخربة التفكير فاقدة الاتزان متضاربة الميول تنحوا للتطرف والعنف وتتبنى خيار القوة في حل المنازعات والخصومات .وهي نتاج منطقي لسنوات القسوة والعنف التي عاشها العراق في ظل حكم حزب البعث الفاشي .وبالنظر لرغبة تلك القوى السياسية الدينية في استغلال مثل هذه الظروف، يحتم القول أن مسعاها يجهد لابتلاع الدولة العراقية وإنشاء دولة دينية على أنقاضها قبل أن تستجد ظروف أخرى تؤجج الاعتراضات والتساؤلات .
كذلك يمكن القول بأن القوى السياسية الدينية لديها الاستعداد الكامل للتخلي عما تطرحه اليوم من مشاريع معتدلة ومفاهيم حديثة عن الديمقراطية وتداول السلطة وما يلهج به يوميا لسان قادتها من مفردات الخطاب اللبرالي. ويمكنها بحجج فقهية أن تشرع تلك التبدلات والتحولات في المواقف. وهذا ما أظهره تحشدها وراء القرار 137 المغرق بالرجعية وكذلك مواقفها الأخرى التي تخلت بها عما اتفقت عليه سابقا مع القوى السياسية في المعارضة العراقية (سابقا) وأخرها الموقف من الفدرالية، وأيضا ما تقوم به من أعمال يومية بعيدة كل البعد عن الأخلاق ومعايير حقوق الإنسان المتعارف عليها والتي تضمنها قانون إدارة الدولة المؤقت التي وقع عليه بعض منها .هذا التناقض في المواقف درجت القوى الدينية على التمويه عليه بخطاب مشبع بالتضليل وفق مبدأ التقية، ويستند على (حجة) التعارض ونفي أيدلوجية سلطة البعث المندثرة ،ولذا تحشر في الخطاب المعلن مفردات تختلف عن مضامين التوجيهات والرؤى السياسية الأيدلوجية التي تعج بها المناظرات داخل الروابط والاجتماعات والتحشدات الحزبية حيث يدار خطاب أخر تحريضي متطرف يؤكد على إثارة العداء والخصومة ضد الآخرين والتفرد والتميز والتعالي وتبرير الأفعال المشينة مهما كان نوعها وقسوتها وتعديها ،باسم الحق والشريعة والتعاليم الدينية.
هنالك أيضا في المقابل نماذج لمشاريع علمانية مطروحة في الساحة السياسية العراقية تتراوح بين التحالف مع المحتل وأقصى الخصومة معه وجميعها يترقب وينظر بحذر لمشروع الدولة الدينية وتسعى جاهدة لأعاقته وإفشاله رغم الكثير من المخاطر والمجازفة والتهديد. وبالرغم من عدم نضوج تلك المشاريع وتطورها نحو بلورة نموذج مكافئ ومؤهل لخوض غمار معركة ثقيلة الوزن ملتبسة ومتشعبة الأهداف، فأن تيارات الإسلام السياسي تضمر لتلك المشاريع والقوى العلمانية العداء المبطن والعلني وتحاول على مضض إهمالها والتغاضي عنها مؤقتا . ولكن وفي الكثير من خطاب قوى الإسلام السياسي يوجد تهديد ووعيد مبطنين بحساب لن يكون يومه ببعيد لتلك القوى العلمانية. في ذات الوقت الذي تؤكد على أن المشروع الأمريكي يأتي في مقدمة تلك المشاريع التي من الموجب الوقوف بالضد منها وهزيمتها كي يتعبد الطريق لظهور الدولة الدينية، حيث يخضع الجميع فيها لشروط ومناهج الحياة (الإسلامية) حسب اجتهاد ورغبات الأئمة أو المرجعيات .
دورة الخراب السياسي التي يتم الترويج لها اليوم وتمارس أيضا على أسس وقواعد التقية الدينية يجعلنا نستحضر تداعيات الثورة الشعبية الإيرانية وكيف تسنى لرجال الدين وعلى رأسهم السيد الخميني خطفها كمنجز تم بلورته من قبل قوى الشعب الإيراني الوطنية مجتمعة، وكيف قيض بعد ذلك لرجال الدين تشكيل المحاكم للقضاء على مخالفي الرأي من الديمقراطيين اللبراليين واليساريين الوطنين وغيرهم وهذا ما ينتظر العراقيين مع نجاح مشروع الدولة الدينية وتشكيل مجلس صيانة الدستور ومحاكم التفتيش ومجالس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن السؤال الكبير الحائر يستمر دون جواب يقيني ويثير الكثير من الشكوك حول موقف وقدرة القوى الوطنية الأخرى في مواجهة المشروعين ومدى جديتها وعزمها على بلورة مشروعها الوطني ووضعه قيد التنفيذ بعيدا عن مشروعي الاحتلال الأمريكي و الدولة الدينية الذي تدعوا أليه القوى السياسية الإسلامية.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيد أحمد الجلبي ولعبة التوازنات
- مشروع الشرق أوسط الكبير هل من طريق لحل الطلاسم
- أما كان للحكمة مكان
- سفالة وطنية
- ضبط الحواسم!!!
- الشرقية …الشرقية
- عام بعثي أخر مضى
- ألغاز الموت المجاني
- تقية المكاشفة. السيد فاروق سلوم نموذجا
- لنتذكر دائما عار المقابر الجماعية
- من أصدر القرار 137 ومن سمح بتمريره
- عن موت المؤسسة العسكرية العراقية
- بانتظار أن يغرد الفأر مثل البلبل
- صديقي الذي ودعته دون أن أدري
- فأر من هذا الزمان
- لن تعود الخطوات الى الوراء
- لعنة المومياء الرامبوسفيلدية
- رمضانكم أسود أيها البعثيون
- العلم والنشيد الوطني العراقي
- مأزق العراق الحاضر


المزيد.....




- عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي ...
- أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع ...
- الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى ...
- الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي- ...
- استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو ...
- في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف ...
- ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا ...
- فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فرات المحسن - في انتظار دكتاتورية ولاية الفقيه